إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 29 سبتمبر 2013

حديث الرؤيا البرزخية

حديث الرؤيا البرزخية
20/11/1434
الحمد لله المتفرد بالعظمة والجلال، المتفضل على خلقه بجزيل النوال. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وهو الكبير المتعال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى الحق، والمنقذ بإذن ربه من الضلال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآلٍ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل. أما بعد:
 فاتقوا الله تعالى يا عباد الله, واعلموا أنكم إليه راجعون, فاحتملوا معكم من خير الزاد ما تطيقون واعلموا أن خير الزاد التقوى. وتأملوا ما قاله نبينا صلى الله عليه وسلم في وصفه لبعض عذاب أهل القبور, ثم استعيذوا بالله منها ومن أسبابها.
 خرّج البخاري رحمه الله في صحيحه بسنده عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - قَالَ : كَانَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ لأَصْحَابِهِ : (( هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا ؟ )) فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللهُ أنْ يَقُصَّ، وإنَّهُ قَالَ لنا ذَات غَدَاةٍ : (( إنَّهُ أَتَانِيَ اللَّيْلَةَ آتِيَانِ ، وإنَّهُمَا قَالا لِي : انْطَلِقْ ، وإنِّي انْطَلَقتُ مَعَهُمَا ، وإنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ ، وَإِذَا آخَرُ قائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ ، فَيَثْلَغُ رَأسَهُ ، فَيَتَدَهْدَهُ الحَجَرُ هَا هُنَا ، ((أي يضرب رأسه بالحجر فيشق رأسه ويشدخه فيَتَدَحْرجُ الحجر من قوة الضربة عياذا بالله))  فَيَتْبَعُ الحَجَرَ فَيَأخُذُهُ فَلاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأسُهُ كَما كَانَ ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ المَرَّةَ الأوْلَى ! )) قَالَ: (( قُلْتُ لهما : سُبْحانَ اللهِ ! مَا هَذَان ؟ قَالا لي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ ، فَانْطَلَقْنَا ، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ ((والكلوب: حديدة معوجة الرأس)) مِنْ حَديدٍ ، وَإِذَا هُوَ يَأتِي أحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ ((أي يقطعهُ)) إِلَى قَفَاهُ ، ومِنْخَرَهُ إِلَى قَفَاهُ ، وعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الجانبِ الآخَرِ ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بالجَانِبِ الأوَّلِ ، فَمَا يَفْرَغُ مِنْ ذَلِكَ الجانبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الجانبُ كما كَانَ ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي المرَّةِ الأُوْلَى )) قَالَ : (( قُلْتُ : سُبْحَانَ اللهِ ! مَا هذانِ ؟ قالا لي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ ، فَانْطَلَقْنَا ، فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ )) فَأَحْسِبُ أنَّهُ قَالَ : (( فإذا فِيهِ لَغَطٌ ، وأصْواتٌ ، فَاطَّلَعْنَا فِيهِ فإذا فِيهِ رِجَالٌ وَنِساءٌ عُرَاةٌ ، وَإِذَا هُمْ يَأتِيِهمْ لَهَبٌ مِنْ أسْفَلَ مِنْهُمْ ، فإذا أتاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا . قُلْتُ : مَا هَؤلاءِ ؟ قَالا لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ ، فَانْطَلَقْنَا ، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ أَحْمَرُ مِثْلُ الدَّمِ ، وَإِذَا في النَّهْرِ رَجُلٌ سابحٌ يَسْبَحُ ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كثيرةً ، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابحُ يَسْبَحُ ، مَا يَسْبَحُ ، ثُمَّ يَأتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الحِجَارَةَ ، فَيَفْغَرُ لَهُ فاهُ، ((أي يفتحْهُ)) فَيُلْقِمُهُ حَجَراً، فَينْطَلِقُ فَيَسْبَحُ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ ، فَغَرَ لَهُ فَاهُ ، فَألْقَمَهُ حَجَراً ، قُلْتُ لهُما : مَا هذانِ ؟ قالاَ لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ ، فَانْطَلَقْنَا ، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَريهِ المرْآةِ ، ((أي المنظر)) أَوْ كَأكْرَهِ مَا أنتَ رَاءٍ رجُلاً مَرْأىً ،  (( قال الحافظ في الفتح : إنما كان كريه الرؤية؛ لأن في ذلك زيادة في عذاب أهل النار )) فإذا هُوَ عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا (( أيْ : يوقِدُها )) وَيَسْعَى حَوْلَهَا . قُلْتُ لَهُمَا : مَا هَذَا ؟ قالاَ لي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ ، فَانْطَلَقْنَا ، فَأتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ نَوْرِ الرَّبيعِ ، (( والرَوْضَةٍ المُعْتَمَّةٍ هي وافيةُ النَّباتِ طَويلَته )) وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَي الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَويلٌ لا أَكادُ أَرَى رَأسَهُ طُولاً في السَّماءِ ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلدانٍ رَأيْتُهُمْ قَطُّ ، قُلْتُ : مَا هَذَا ؟ وَمَا هؤلاءِ ؟ قالا لي : انْطَلقِ انْطَلقْ ، فَانْطَلَقْنَا ، فَأَتَيْنَا إِلَى دَوْحَةٍ عَظيمةٍ لَمْ أَرَ دَوْحَةً قَطُّ أعْظمَ مِنْهَا ، وَلاَ أحْسَنَ !  (( والدَوْحَةٌ هي الشَّجَرَةُ الكبيرة)) قالا لي : ارْقَ فِيهَا ، فارْتَقَيْنَا فِيهَا إِلَى مَدينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبنٍ ذَهَبٍ وَلَبنٍ فِضَّةٍ ، فَأَتَيْنَا بَابَ المَدِينَةِ فَاسْتَفْتَحْنَا ، فَفُتِحَ لَنَا فَدَخَلْنَاها ، فَتَلَقَّانَا رِجالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كأَحْسَنِ مَا أنت راءٍ ! وَشَطْرٌ مِنْهُمْ كأقْبَحِ مَا أنتَ راءٍ ! قالا لَهُمْ : اذْهَبُوا فَقَعُوا في ذَلِكَ النَّهْرِ ، وَإِذَا هُوَ نَهْرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِي كأنَّ ماءهُ المَحْضُ في البَيَاضِ ، (( والمَحْضُ هُوَ : اللَّبَنُ )) فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ . ثُمَّ رَجَعُوا إلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ ، فَصَارُوا في أحْسَنِ صُورَةٍ )) قَالَ : (( قالا لِي : هذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ ، وهذاك مَنْزِلُكَ ، فسَمَا بَصَري صُعُداً (( أي ارْتَفَعَ نظري للأعلى )) فإذا قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ البَيضاءِ ((أي السحابة البيضاء )) قالا لي : هذاكَ مَنْزلكَ ؟ قلتُ لهما : باركَ اللهُ فيكُما ، فذَراني فأدخُلَه . قالا لي : أمَّا الآنَ فَلاَ ، وأنتَ دَاخِلُهُ ، قُلْتُ لَهُمَا : فَإنِّي رَأيتُ مُنْذُ اللَّيْلَة عَجَباً ؟ فما هَذَا الَّذِي رأيتُ ؟ قالا لي : أمَا إنَّا سَنُخْبِرُكَ : أَمَّا الرَّجُلُ الأوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأسُهُ بالحَجَرِ ، فإنَّهُ الرَّجُلُ يَأخُذُ القُرآنَ فَيَرفُضُهُ ((قال الحافظ ابن حجر في الفتح : رفض القرآن بعد حفظه جناية عظيمة ؛ لأنه يوهم أنه رأى فيه ما يوجب رفضه فلما رفض أشرف الأشياء وهو القرآن عوقب في أشرف أعضائه وهو الرأس )) ، ويَنَامُ عَنِ الصَّلاةِ المَكتُوبَةِ. ((فاحذر تلك الصخرة يا من تنام عن الصلاة المكتوبة)) وأمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ ، ومِنْخَرُهُ إِلَى قَفَاهُ ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ ، فإنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الكِذْبَةَ تَبْلُغُ الآفاقَ ((وتأملوا حال الناس مع وسائل الاتصال الآن وكيف تبلغ الكِذبة أطراف الأرض في وقت وجيز فاستحق منشؤها وناشرها ذلك العذاب المروِّع في القبر )) وأمَّا الرِّجَالُ والنِّسَاءُ العُراةُ الَّذِينَ هُمْ في مثْلِ بناءِ التَّنُّورِ ، فَإنَّهُمُ الزُّنَاةُ والزَّواني ((أي صاحوا من لهيب النار وعذاب الإحراق فأُحرقت تلك الجلود التي كُشفت بغير أمر الله)) ، وأما الرجلُ الذي أتيتَ عَليهِ يَسْبَحُ في النهرِ ، ويلقم الحجارةَ ، فإنَّهُ آكلُ الربا ، وأمَّا الرَّجُلُ الكَريهُ المرآةِ الَّذِي عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا ، فإنَّهُ مالكٌ خازِنُ جَهَنَّمَ ، وأمَّا الرَّجُلُ الطَّويلُ الَّذِي في الرَّوْضَةِ ، فإنَّهُ إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ، وأمَّا الولدان الَّذِينَ حَوْلَهُ ، فكلُّ مَوْلُودٍ ماتَ عَلَى الفِطْرَةِ. فَقَالَ بعض المُسلمينَ : يَا رسولَ الله ، وأولادُ المُشركينَ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( وأولادُ المشركينَ ، وأما القومُ الذينَ كانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ ، وشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبيحٌ ، فإنَّهُمْ قَومٌ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً ، تَجاوَزَ الله عنهم )) . رواه البخاري وفي روايةٍ لَهُ : (( رَأيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أتيَانِي فأخْرَجَانِي إِلَى أرْضٍ مُقَدَّسَةٍ )) ثُمَّ ذَكَرَهُ وقال : (( فَانْطَلَقْنَا إِلَى نَقْبٍ مثلِ التَّنُّورِ ، أعْلاهُ ضَيِّقٌ وَأسْفَلُهُ واسِعٌ ؛ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ ناراً ، فإذا ارْتَفَعَتِ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادُوا أنْ يَخْرُجُوا ، وَإِذَا خَمَدَتْ ! رَجَعُوا فِيهَا ، وفيها رِجالٌ ونِساءٌ عراةٌ)) . وفيها : (( حَتَّى أتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهْرِ وعلى شطِّ النَّهرِ رجلٌ ، وبينَ يديهِ حِجارةٌ ، فأقبلَ الرجلُ الذي في النَّهرِ ، فَإذَا أرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ في فِيهِ ، فَرَدَّهُ حَيثُ كَانَ ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ جَعَلَ يَرْمِي في فِيهِ بِحَجَرٍ ، فَيْرَجِعْ كما كَانَ )) . وفيها : (( فَصَعِدَا بي الشَّجَرَةَ ، فَأدْخَلاَنِي دَاراً لَمْ أرَ قَطُّ أحْسَنَ مِنْهَا ، فيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ )) . وفيها : (( الَّذِي رَأيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ ، يُحَدِّثُ بِالكِذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ ، فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ )) ، وَفِيهَا : (( الَّذِي رَأيْتَهُ يُشْدَخُ رَأسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللهُ القُرْآنَ ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بالنَّهارِ ، فَيُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ، والدَّارُ الأولَى الَّتي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ المُؤمِنِينَ ، وأمَّا هذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَداءِ ، وأنا جِبْرِيلُ ، وهذا مِيكائيلُ ، فَارْفَعْ رَأْسَكَ ، فَرَفَعْتُ رَأسِي ، فإذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحابِ ، قالا : ذاكَ مَنْزِلُكَ ، قُلْتُ : دَعَانِي أدْخُلُ مَنْزِلي ، قالا : إنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ ، فَلَو اسْتَكْمَلْتَهُ أتَيْتَ مَنْزِلَكَ )) . رواه البخاري.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
..................

الخطبة الثانية
...أما بعد:
قال ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان: أصلُ كلِّ خير وسعادة للعبد بل لكل حي ناطق : كمالُ حياته ونورِه, فالحياة والنور مادة الخير كله قال الله تعالى : "أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها [ الأنعام : 122 ] فجمع بين الأصلين : الحياة والنور فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته وشجاعته وصبره وسائر أخلاقه الفاضلة ومحبتُه للحُسْنِ وبغضه للقبيح, فكلما قويت حياتُه قويت فيه هذه الصفات, وإذا ضعفت حياته ضعفت فيه هذه الصفات. وحياؤه من القبائح هو بحسب حياته في نفسه فالقلب الصحيح الحى إذا عرضت عليه القبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها, بخلاف القلب الميت فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح كما قال عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف وينكر به المنكر. وكذلك القلب المريض بالشهوة, فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسَبِ قوة المرض وضعفه.
 وكذلك إذا قوى نورُه وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقُها على ما هي عليه, فاستبان حُسْنَ الحَسَن بنوره, وآثرَهُ بحياته, وكذلك قبح القبيح. وقد ذكر سبحانه وتعالى هذين الأصلين في مواضع من كتابه فقال تعالى : "وكذلك أو حينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم" [ الشورى : 52 ] فجمع بين الرُّوح الذي يحصل به الحياة والنور الذي يحصل به الإضاءة والإشراق, وأخبر أن كتابه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم متضمن للأمرين, فهو روح تحيا به القلوب ونور تستضيء وتشرق به كما قال تعالى : "أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها" [ الأنعام : 122 ]
 ولهذا يضرب الله سبحانه وتعالى المثلين المائي والناري لوحيه ولعباده أما الأول فكما قال في سورة الرعد : "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حليه أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال" فضرب لوحيه المثل بالماء لما يحصل به من الحياة وبالنار لما يحصل بها من الاضاءة والإشراق, وأخبر سبحانه أن الأودية تسيل بقدرها فوادٍ كبير يسع ماء كثيرا وواد صغير يسع ماء قليلا, كذلك القلوبُ مشبَّهة بالأودية فقلب كبير يسع علما كثيرا وقلبٌ صغير إنما يسع بقدره, وشبَّه ما تحمله القلوب من الشبهات والشهوات بسبب مخالطة الوحي لها وإمازته لما فيها من ذلك بما يحتمله السيل من الزبد, وشبه بطلان تلك الشبهات باستقرار العلم النافع فيها بذهاب ذلك الزبد وإلقاء الوادي له, وإنما يستقر فيه الماء الذي به النفع. وكذلك في المثل الذي بعده : يُذهب الخبث الذي في ذلك الجوهر ويستقر صفوُه.
 وأما ضرب هذين المثلين للعباد فكما قال في سورة البقرة : "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمى فهم لا يرجعون" فهذا المثل الناري ثم قال : "أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت" فهذا المثل المائي .
 والمقصود : أن صلاحَ القلب وسعادتَهُ وفلاحُه موقوفٌ على هذين الأصلين حياة القلب ونوره بالوحي, قال تعالى: "إن هو إلا ذكر وقرآن مبين . لتنذر من كان حيا" فأخبر أن الانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن هو حي القلب كما قال: "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب" وقال تعالى: "يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هي باستجابتنا لما يدعونا إليه اللهُ والرسولُ من العلم والإيمان, فعُلمَ أن موتَ القلبِ وهلاكَهُ بفقد ذلك.
 وشبه سبحانه من لا يستجيب لرسوله بأصحاب القبور, وهذا من أحسن التشبيه فإن أبدانهم قبورٌ لقلوبهم, فقد ماتت قلوبهم وقُبرت في أبدانهم فقال الله تعالى: "إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور"
وبالجملة: فأهل الهدى والإيمان لهم شرح الصدر واتساعه وانفساحه, وأهل الضلال لهم ضيق الصدر والحرج. وقال تعالى : "أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه" فأهل الإيمان في النور وانشراح الصدور, وأهل الضلال في الظلمة وضيق الصدور والقبور. والمقصود : أن حياة القلب وإضاءته مادة كل خير فيه وموته وظلمته مادة كل شر فيه, والله المستعان.

الجمعة، 13 سبتمبر 2013

تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة


تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة
 30/10/1434

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الغر الميامين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بكرمك يا أكرم الأكرمين, أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أن خير الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن شر الأمور محدثاتها, وكل بدعة ضلالة.
أيها المؤمنون: روى الترمذي في سننه بسند صحيح عن أبي العباس عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال لي: "يا غلام إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك, إذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله, واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, إن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك, رفعت الأقلام وجفت الصحف" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وفي رواية غير الترمذي: "احفظ الله تجده أمامك, تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة, واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك, وما أصابك لم يكن ليخطئك, واعلم أن النصر مع الصبر, وأن الفرج مع الكرب, وأن مع العسر يسرًا"
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة, وقواعد كلية من أهم أمور الدين, حتى قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش, فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث, وقلّة التفهّم لمعناه!
فقولُهُ صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله" يعني احفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه, وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال, وعند نواهيه بالاجتناب, وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلى ما نهى عنه, فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه, وقال عز وجل: "هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ . من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب" وفُسِّرَ الحفيظ هنا بالحافظ لأوامر الله وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها, ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله الصلاة, وقد أمر الله بالمحافظة عليها فقال: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" ومدح المحافظين عليها بقوله: "والذين هم على صلاتهم يحافظون" وكذلك الطهارة فإنها مفتاح الصلاة. ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله عز وجل اللسان والفرج, وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة" خرجه الحاكم. وأمر الله عز وجل بحفظ الفرج ومدح الحافظين لفروجهم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "يحفظك" يعني أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله, فإن الجزاء من جنس العمل, كما قال تعالى: "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم" وقال: "اذكروني أذكركم" وقال: "إن تنصروا الله ينصركم" وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان: أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله, قال الله عز وجل: "له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله" قال ابن عباس: هم الملائكة, يحفظونه بأمر الله فإذا جاء القدر خلوا عنه. وقال علي رضي الله عنه: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر, فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه, وإن الأجل جُنَّةٌ حصينة. ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله, وكان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله فوثب يومًا وثبة شديدة فعوتب في ذلك فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر. وعكس هذا أن بعض السلف رأى شيخًا يسأل الناس فقال: إن هذا ضعيف ضيّع الله في صغره فضيعه الله في كبره. وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته كما قيل في قوله تعالى: "وكان أبوهما صالحًا" أنهما حُفظا بصلاح أبيهما. قال سعيد بن المسيب لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أُحفظ فيك, ثم تلا هذه الآية. وقال عمر بن عبدالعزيز: ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه. وقال ابن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله, فما يزالون في حفظ من الله وستر. ومتى كان العبد مشتغلًا بطاعة الله فإن الله يحفظه في تلك الحال.
ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى, كما جرى لسفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كُسر به المركب, وخرج إلى جزيرة فرأى الأسد, فجعل يمشي معه حتى دلّه على الطريق, فلما أوقفه عليها جعل يهمهم كأنه يودعه ثم رجع عنه. ورؤي إبراهيم بن أدهم نائمًا في بستان وعنده حية في فمها طاقة نرجس فما زالت تذب عنه حتى استيقظ!
وعكسُ هذا أن من ضيّع الله ضيّعه الله فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم, كما قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي.
 النوع الثاني من الحفظ _ وهو أشرف النوعين _:حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه, فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة, ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان. قال بعض السلف: إذا حضر الرجل الموت يقال للملك: شُمَّ رأسه, قال: أجد في رأسه القرآن, قال: شم قلبه, قال: أجد في قلبه الصيام, قال: شم قدميه, قال: أجد في قدميه القيام. قال: حفظ نفسه فحفظه الله. وفي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أَمَرَهُ أن يقول عند منامه: "إن قبضت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين"
وبالجملة فإن الله عز وجل يحفظ المؤمن الحافظ لحدود دينه ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ وقد لا يشعر العبد ببعضها, وقد يكون كارهًا له كما قال في حقّ يوسف عليه السلام: "كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين" قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: "إن الله يحول بين المرء وقلبه" قال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجرّه إلى النار. وقال الحسن وذكر أهل المعاصي: هانوا عليه فعصوه, ولو عزوا عليه لعصمهم. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له, فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه فإنه إن يسرته له أدخلته النار, فيصرفه الله عنه, فيظل يتطيّر بقوله سبّني فلانٌ وأهانني فلانٌ وما هو إلا فضل الله عز جل! وخرّج الطبراني من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله عز و جل: "إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر, وإن بسط عليه أفسده ذلك. وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى, ولو أفقرته لأفسده ذلك. وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة, ولو أسقمته لأفسده ذلك. وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم, ولو أصححته لأفسده ذلك. وإن من عبادي من يطلب بابًا من العبادة فأكفّه عنه لكيلا يدخله العجب. إني أُدبّر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم, إني عليم خبير"
 وقال صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله تجده تُجاهك" وفي رواية: "أمامك" معناه: أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث توجّه يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويسدده, "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" قال قتادة: من يتق الله يكن معه, ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تُغلب, والحارس الذي لا ينام, والهادي الذي لا يضل. بل كتب بعض السلف إلى أخ له: أما بعد, فإن كان الله معك فمن تخاف, وإن كان عليك فمن ترجو. وهذه المعية الخاصة هي المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون: "لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى" وقول موسى: "كلا إن معي ربي سيهدين" وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وهما في الغار: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما, لا تحزن إن الله معنا" فهذه المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة, بخلاف المعية المذكورة في قوله تعالى: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا" فإن هذه المعية تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم, فهي مقتضية لتخويف العباد منه, والمعية الأولى تقتضي حفظه وحياطته ونصره, فمن حفظ الله وراعى حقوقه وجده أمامه وتجاهه على كل حال, فاستأنس به واستغنى عن خلقه.
وقيل لأحد الصالحين كيف لا تستوحش وأنت وحدك؟ فقال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟! وقيل لآخر: نراك وحدك! فقال: من يكن الله معه كيف يكون وحده؟! وقيل لآخر: أما معك مؤنس؟ قال: بلى, قيل: أين هو؟ قال: أمامي ومعي وخلفي وعن يميني وعن شمالي وفوقه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


الخطبة الثانية:
 الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان, أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله, وأطيعوه ولا تعصوه, واعلموا أن لكل أجل كتاب.
عباد الله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة" يعني أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه, فقد تعرف بذلك إلى الله, وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة, فعرفه ربه في الشدة, ورعى له تعرّفه إليه في الرخاء فنجاه من الشدائد بهذه المعرفة, وهذه معرفة خاصة تقتضي قرب العبد من ربه ومحبته له وإجابته لدعائه, فمعرفة العبد لربه نوعان:
 أحدهما: المعرفة العامة, وهي معرفة الإقرار به والتصديق والإيمان, وهي عامة للمؤمنين. والثاني: معرفة خاصة, تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية والانقطاع إليه والأنس به والطمأنينة بذكره والحياء منه والهيبة له, وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون, كما قال بعضهم: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها, قيل له: وما هو؟ قال: معرفة الله عز وجل.
 ومعرفة الله أيضًا لعبده نوعان:
 الأول: معرفة عامة: وهي علمه تعالى بعباده واطلاعه على ما أسروه وما أعلنوه, كما قال: "ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه" وقال: "هو أعلم بكم إذا أنشأكم من الأرض وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم"
 والثاني: معرفة خاصة, وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبه إليه وإجابة دعائه وإنجائه من الشدائد, وهي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه: "ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه" وفي رواية: "ولئن دعاني لأجيبنه"رواه البخاري.
ولما هرب الحسن من الحجاج دخل إلى بيت حبيب بن محمد فقال له حبيب: يا أبا سعيد أليس بينك وبين ربك ما تدعوه به فيسترك من هؤلاء, ادخل البيت فدخل, ودخل الشُرَطُ على أثره فلم يروه, فذُكر ذلك للحجاج فقال: بل كان في البيت إلا أن الله طمس أعينهم فلم يروه! وقيل لمعروف وما الذي هيجك إلى الانقطاع والعبادة وذكرت الموت والبرزخ والجنة والنار؟ فقال معروف: إن مَلِكًا هذا كله بيده, إن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا.
 وفي الجملة فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه؛ عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته. وخرج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء" رواه الترمذي وحسنه الألباني.
 وخرّج ابن أبي حاتم وغيره من رواية أبي يزيد الرقاشي عن أنس يرفعه أن يونس عليه الصلاة و السلام لما دعا في بطن الحوت قالت الملائكة: يا رب هذا صوت معروف من بلاد غريبة! فقال الله عز وجل: "أما تعرفون ذلك؟" قالوا: ومن هو؟ قال: "عبدي يونس" قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة؟ قال: "نعم" قالوا: يا رب أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ قال: "بلى" قال: فأمر الله الحوت فطرحه بالعراء. وفي الحديث المرفوع: "دعْوةُ ذِي النُّونِ، إذ دعا في بطنِ الحوتِ، قال: لا إِله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين. ما دعا بها أَحَدٌ قَطُّ إِلا استُجيبَ له" أخرجه رواه أحمد.
وقال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة, إن يونس عليه الصلاة و السلام كان يذكر الله تعالى فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: "فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون" وإن فرعون كان طاغيًا ناسيًا لذكر الله, فلما أدركه الغرق قال: "آمنت" فقال الله تعالى: "آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين"
 وقال سلمان الفارسي: إذا كان الرجلُ دعَّاءً في السراء, فنزلت به ضراء فدعا الله تعالى قالت الملائكة: صوت معروف, فشفعوا له, وإذا كان ليس بدعّاء في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله تعالى قالت الملائكة: صوت ليس بمعروف, فلا يشفعون له. وقال رجل لأبي الدرداء: أوصني, فقال: اذكر الله في السراء يذكرك الله عز وجل في الضراء. وعنه أنه قال: ادع الله في يوم سرائك لعله أن يستجيب لك في يوم ضرائك.
 وأعظم الشدائد التي تنزل بالعبد في الدنيا الموت, وما بعده أشد منه إن لم يكن مصير العبد إلى خير. فالواجب على المؤمن الاستعداد للموت وما بعده في حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة, قال الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون . ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون" فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه واستعد حينئذ للقاء الله عز وجل بالموت وما بعده؛ ذكره الله عند هذه الشدائد, فكان معه فيها ولطف به وأعانه وتولاه وثبته على التوحيد, فلقيه وهو عنه راض. ومن نسي الله في حال صحته ورخائه ولم يستعد حينئذ للقائه؛ نسيه الله في هذه الشدائد. بمعنى أنه أعرض عنه فأهمله, فإذا نزل الموت بالمؤمن المستعد له أحسن الظن بربه وجاءته البشرى من الله, فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه, والفاجر بعكس ذلك. وحينئذ يفرح المؤمن ويستبشر بما قدمه مما هو قادم عليه, ويندم المفرط ويقول: "يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله"
قال أبو عبدالرحمن السلمي قبل موته: كيف لا أرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضان؟! وقال أبو بكر بن عياش لابنه عند موته: أترى الله يضيع لأبيك أربعين سنة يختم القرآن كل ليلة؟!
وقال قتادة في قول الله عز وجل: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا" قال: من الكرب عند الموت. وقال على بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: "ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة" وقال زيد بن أسلم في قوله عز وجل: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا" قال: يبشر بذلك عند موته, وفي قبره, وحين يبعث, فإنه لفي الجنة وما ذهبت فرحة البشارة من قلبه. وقال ثابت البناني في هذه الآية: بلغنا أن المؤمن حيث يبعثه الله من قبره يتلقاه ملكاه اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له: لا تخف ولا تحزن, فيؤمِّنُ اللهُ خوفَه, ويقر الله عينه, فما من عظيمة تغشى الناس يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين لمِاَ هداه الله ولما كان يعمل في الدنيا.
اللهم صل على محمد...

الثقة بالله تعالى


الثقة بالله تعالى


الحمد لله مستحقِّ الحمد بلا انقطاع، ومستوجبِ الشكر بأقصى ما يستطاع، الوهابُ المنان، الرحيم الرحمن، المدعوُّ بكل لسان، المرجوُ للعفو والإحسان، الذي لا خيرَ إلا منه، ولا فضلَ إلا من لدنه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الجميلُ العوائدِ، الجزيلُ الفوائدِ، أكرمُ مسؤول، وأعظم مأمول، علّامُ الغيوب مفرّج الكروب، مجيبُ دعوةِ المضطر المكروب، وأشهد أن نبينا محمداً عبدُه ورسوله، وحبيبُه وخليله، الوافي بعهده، الصادقُ في وعده، الواثقُ بربه, ذو الأخلاق الطاهرة، المؤيّدُ بالمعجزات الظاهرة، والبراهينِ الباهرة. صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وتابعيه بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد:
 فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى كما أمر, واتركوا الفواحش ما بطن منها وما ظهر, وأعلموا ان الدنيا دارُ ممر وأن الاخرة هي دار المقر.
عباد الله: أمرٌ من أمور الدين ينتظم كلَّ أعمالِ القلوب وأقوالِها, ولا تخلو سورةٌ من سور القرآن المجيد بدون بنائه في قلب المؤمن التالي للقرآن.
عبادةٌ قلبية هي حصن السابقين, ومنتجعُ العابدين, ومهيع السالكين, وهي مزيجٌ من قول القلب وعملِه, ولها علاقة بأقوال وأعمال القلب الأخرى، فهي ثمرة العلم بالله, ومن ثمارها حسن الظن والتوكل وبردُهَا باليقين, أتدرون ماهي؟ إنها الثقة بالله تعالى وبصدق وعده ولقائه. (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت).
الثقة بالله هي عمودُ التوكّلِ, فلا توكّلَ بدون ثقة, وعلى قدر الثقة تكون قوّةُ التوكّل, فلهذا العملِ القلبي العظيم علاقةٌ مطردة طردًا وعكسًا بالتوكل وبحسن الظن بل بالتوحيد والعبودية ذاتها, فهي لُبَابُ السكينة وبلسمُ الانشراح ودواءُ القلق.
    ومعنى الثقةِ بالله هو: اليقينُ الثابت بكمال الله بصفات الجلال والجمال, وبصدق وعده, وعظيمِ قدرته, وإحاطةِ علمه بكل شيء. فإذا استقر هذا اليقينُ بهذه الصفة في قلب عبدٍ فلا تسل عن كبير الثقة وتمامها في هذا القلب المؤمن الواثق بربه سبحانه وبحمده.
   اعلم يا عبد الله: أن الثقة بالله هي السلك الناظم لأمور التديّن بعامّة, وهي الجدارُ الحافظ بإذن الله لقلب المؤمن من قواصف الشبهات وعواصف الشهوات, فهي الميدان الذي يجري فيه فؤاد المؤمن ويستن بطِوَلِه في أنحائه, ويستظلّ متنعمًا في أفيائه. إن الثقة بالله هي سفينةُ نجاة المتقين, وحبلُ وصولِ المقربين, وسلاحُ الصابرين في دار الابتلاء والامتحان المبين.
ومَنْ تدبرَ آيات القرآن وجد منها آيات هي مثلُ قُلَلِ الجبال للمسافر في تخوم السهول والحزون! إنها آياتٌ لها قرعُها الشديد لانتباه التالي والسامع, ففيها إيقاظٌ وتنبيه وإرشاد لقِبلة التوجّه القلبي, مع بلسم سكينة لا يصفُهُ الواصفون, ووقودٌ تام لمحرّك مركبة المهاجر لربه, وزادٌ وافٍ لمن حَمَلَ همّ إصلاح نفسه وأمته, فهي شاطئ أمان العُبّاد والدّعاة والعلماء والمربين.. وليس لمؤمن ولا مؤمنة غُنيةٌ عن فقهها علمًا وعملًا, وكم من عامِّيٍّ لا يُؤبهُ له مدفوعٍ بالأبواب يقف أمامَ فتنِ الدنيا بثبات يبُزُّ به الجبالَ الرواسي! بينما يقعُ حاملُ أسفارِ العلوم تحت جناح أهونِ فتنة! ذلك لأنّ العلمَ النافعَ هو العلمُ بالله قبلَ العلم بشرعه, وإن اجتمعا في قلب فواهًا! لذا فلم يكن الحبر الحكيم ابن مسعود رضي الله عنه مبالغًا حينما قال فيما رواه أحمد في الزهد: ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم الخشية. وأولى بنا قول ربنا: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"
فإن مررت على تلك الآيات فردِّدْها وتدبرها وتفكّر فيها, ففيها نداء لروحك, وخطابٌ لفؤادك, وطَوْقُ نجاةٍ لمصيرك, ومنشورُ فلاحٍ لنشرك ومعادك.
كثيرٌ من الناس يبدأ صلاحه فتيًّا, وتنبت أزاهير قلبه, ويفوح أرجُ ربيعِ فؤادِه.. ولكن ما إن تَهُبَّ رياحُ القيظِ بابتلاءٍ لا بد منه في نفسه أو أهله أو ولده أو ماله أو ما يحب من علائق الفانية؛ ذَبَلتْ زهورُ الهمة, وتساقطت أوراق العزيمة, وخبا نور المحبة وضياء اليقين, أتدري لماذا؟ إنه ضعف الثقة بالله. "ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين"  "ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين" بلى وعزةِ ربي. إنه الابتلاء الذي لا مفر منه لمؤمن، وعلى قدر براءتِه من أوضاره في الدنيا تكونُ براءتُه عند عبور الصراط يوم الدين "وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيًا . ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا"
قد يعطى الإنسان بسطةً في العلم, لكنَّ سوسَ حبِّ الدنيا يأكلُ ثمار علمه حتى تكونَ معرفتُه جهلًا وعلمُه وبالًا "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه اخلد إلى الأرض واتبه هواه فمثله كمثل الكلب" عائذا بربي من حاله, أما أهلُ العلمِ النافع فتستغفرُ لهم الملائكة في سماواتها والحيتانُ في بحورها والنملُ في جحوره, ويحشرُ يوم القيامة مع الصديقين.. وهذا البائسُ كالكلب! عياذا بالله.
فراجِعْ عِلمَكَ لا يكن مدخولًا, وحاسب خطراتِك لا تكن شِراكًا لسرقة كنز قلبك وهو العلم النافع, وأعني به العلمَ بالله أولًا ثم العلمَ بشريعته ثانيًا.
قف عند الآيات التي تبني في قلبك حصنَ الثقة بربك, وكلُّ القرآن كذلك لمن وفقه الله لتلاوته حق التلاوة, ولكنَّ هذا القرآن شفاءٌ لعلل القلوب وأغراض النفوس, فيقرأُ الجماعةُ الموضعَ الواحدَ أو يستمعوا له؛ فتداوي مرض شهوةِ هذا وتهتكُ شبهةَ ذاك وتقوّي عزم ثالث, وتزهِّدُ قلبَ رابع, وتعظّمَ رجاءَ خامس.. والآيات هي الآيات، وهذا من أسرار القرآن العزيز, ولا عجب, فالقرآن من كلام الله, وكلامُ الله من صفاته, وفضلُه على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه.
 ولئن كان تأثير القرآن على الجبال الصم الصلاب بالخشوع والتصدّع؛ فأولى لقلبِ الإنسان أن يخشعَ ويحيا ويوقنَ.. ويثقَ الثقةَ المطلقةَ بوعد ربه. إن القرآن مليء بوعود الكريم الوهاب سبحانه, وبعضها مشروط بالإيمان والعمل الصالح.
بل إن الدينَ كلَّه مبنيُّ على وعدِ غيبٍ لم نره حسًّا, وهنا يكون محكُّ الإيمانِ وبرهانُ التصديق ودليل التسليم, وعلى قدر الثقة بالله تعالى, بوجوده وبربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وأفعاله؛ تكون الثقةُ به وبوعده, ومِن هنا افترقت الخليقة, فمنهم من يثق الثقة المطلقة التي لم تتزعزع ولم تضطرب مهما عصفت بها زلازلُ الخطوب وبلايا الفتنِ والكروب، وهذا مقامُ المرسلين, وتدبّر كلّ قَصص الأنبياء بلا مثنوية تجدْ أن عنوانَ الثقة بالله وبوعده موجودٌ باضطراد في تضاعيف أحداث القصص, ولو تأملت السلك الناظم والخيطَ الجامع لقصص الصالحين من المرسلين فمن دونهم لرأيت أن الذي ينتظم ذلك هو الثقةُ بوعد الله ولقائه.
فآدمُ عليه السلام تاب من فوره لثقته بكمال ربه وعظيمِ حسن ظنه به وكبيرِ خشيته منه وجليلِ حيائه منه فقال مباشرة كلماتِه التي تلقاها من فضل ربه: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" ونوحٌ عليه السلام قال رافضًا دعوة الكفرة طردَ ضعفاءِ المؤمنين عنه: "وما انا بطارد المؤمنين" فرزقِي وكفايتي وإياهم ليست عليكم بل على الله, وبنى السفينة في الصحراء! حتى كان مدعاةً للسخرية _ وما أشدَّ وقعها على الدعاة! _ "ويصنعُ الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه" لكنَّ الواثقَ بربه ليس كغيره ممن ينظرون إلى ظواهر الأمور دون النفاذِ لبواطنها، ولم يكن يلهيهم بهرُجها عن حقائقِها فقال: " إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون . فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم".
وخطيبُ الأنبياء شعيبُ عليه السلام قال لقومه بعدما استهزأوا به واتهموه بالسحر وتحدّوه أن يسقط عليهم السماء إن كان صادقًا, ووصموه بالضعف وتهدّدوه بالرجم وغيره فقال وقد ملأ الله قلبه ثقة ويقينًا: "ربي أعلم بما تعملون" فكان عذابهم أسرعُ وأشدُّ مما تصوّروه "فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم"
عباد الرحمن: لقد ذكر الله عز وجل في سورة الشعراء آيةً كافية لملء القلب ثقةً بالله دون سواه, مهما أجلبت على الخطوب وادلهمت الحتوف, وقد قدّم الله تعالى قصة موسى في هذه السورة على غيرها من القصص, وقد اشتملت على تلك الآية الفاذّة الجامعة المانعة, إنها قول موسى عليه السلام فيما ذكره عنه ربه سبحانه, حينما خرج بقومه من فرعون وجيشه اللجب الكثيف, "فأتبعوهم مشرقين . فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون . قال كلا إن معي ربي سيهدين" لقد نظر أصحابه للحسابات المادية الأرضية, فالبحر أمامهم قد حجزهم لعدوهم الغاضب الباطشُ الحاذرُ من خلفهم, ولكن لأنبياء الله تعالى كلمة أخرى, ولأرواحهم موردٌ لا كموارد البشر, ولقلوبهم تعلّق وثقةٌ مطلقةٌ تامةٌ وافية بحفظ الله أوليائه ونصره دينه "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز" فصرخ بها الكليم عليه السلام فيهم: "كلا" أي ليس الأمر كما ظننتم بخذلان الله لكم, وتحدثتم بكسرةِ حمَلةِ دينِ الله وفنائهم, "إن معي ربي سيهدين" وفي هذا المعنى الإيماني والشعور الوجداني قمةُ مرتقى الواصلين لتمام الثقة برب العالمين سبحانه وبحمده, "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
  وفي هذا السورةِ العظيمةِ المبيّنة لمصارع الأمم المكذبة وحفظِ الله ونصره لأوليائه ورسله وأتباعهم بإحسان ذكر الله تعالى خبر خليلِه إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام، وقد تضمّنت قصتُه معنًى شريفًا وعَلَمًا مُنيفًا في الثقة بالله تبارك وتعالى حينما قال مادحًا ربّه وحامدًا إلهه الحق, ومتبرئًا من الثقة بغيره: "قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون . أنتم وآباؤكم الأقدمون . فإنهم عدو لي إلا رب العالمين . الذي خلقني فهو يهدين . والذي هو يطعمني ويسقين . وإذا مرضت فهو يشفين . والذي يميتني ثم يحيين . والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين" وتأمل لحظة إلقائه في النار وتسليمه أمره لله تعالى ثقة به, فقد أخرج البخاري في صحيحيه عن بن عباس رضي الله عنهما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم حين ألقي في النار, وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا:"إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".
أما هودُ عليه السلام فقد تحدى جمع الكفرة فقال بكل ثقة وتوحيد لربه القوي ذي الركن الشديد: "فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون" لماذا هذا التحدي وما هو اللطف الذي ينتظره؟ قال: "إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها عن ربي على صراط مستقيم . فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ".
   أما رسول الهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه فلا تكاد تمر على صفحة من سيرته الجليلة حتى ترى براهينَ الثقة برب العالمين في حاله ومقاله, قف مع قوله لصَدِيقه وصِدِّيقه: "لا تحزن إن الله معنا" "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" متفق عليه, وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه: أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نجدٍ, فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه, فأدركتهم القافلة في وادٍ كثير العِضاةِ _أي الشجرِ الكبير _ فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر, فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة ٍ فعلق بها سيفه, ونمنا نومة, فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا وإذا عنده أعرابيٌّ فقال: "إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائمٌ, فاستيقظت وهو في يده صلتاً فقال: من يمنعك مني فقلت: الله ثلاثاً" ولم يعاقبه وجلس. متفق عليه.
وفي تبليغه لقريش لحين نزل قول ربه تعالى: "فاصدع بما تؤمر" وفي بدر حين قابل المشركين بجيش بلا عدد ولا عتاد حسّي, وفي أحد حين ثبت ثباتَ أحدٍ, وفي الأحزاب حين كانت يديه تعملُ وقلبُه معلق بربه واثقٌ بنصره ووعده, وهو يبشر أمته بكنوزِ فارسَ والشامِّ واليمن, وفي حنينٍ حين صاح في الناس بكل ثقة: "أنا النبي لا كذب" صاح بها مع علمه بأنها ستدلُّ سهام وسيوفَ المشركين عليه وقد أدبرُ عنه جيشُه وكاد أن يُحاطَ به, ولكن من كان مع الله كان الله معه. ومن كان الله معه فمعه القوةُ التي لا تُغلب والحارسُ الذي لا ينام والهادي الذي لا يضل، ومن آوى إلى الله فقد آوى إلى ركن شديد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
..................
الخطبة الثانية
   الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان, أما بعد:
   فاتقوا الله عباد الله, وعليكم بالثقة التامة بالله تعالى, وبوعده ولقائه, فلا دين ولا إيمان ولا فلاح لمن لا يثقُ ثقةً مطلقة برب العالمين سبحانه.
   أيها المؤمنون: ذكر البخاري في صحيحه في سياق قصةِ الحديبية، وفيه: إذ جاء بديلُ بنُ ورقاءِ الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبةَ نصحٍ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من أهل تِهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل،(أي الإبلُ معها صغارُها) وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نجِئْ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإنّ قريشًا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، ويُخلُوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جمّوا، (أي استراحوا وأخذوا وقتًا كافيًا لاستعدادهم للحرب) وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده ، لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، وليُنْفِذَنَّ اللهُ أمره ». فتأمّل يا عبد الله هذه الثقة بالله, فإنها من ناصع الأمثلة بمكان. وانظر كيف أخذها صاحبُه الأولُ عنه, فقال في حروب المرتدين وقد خُوِّف بهم: لأقاتلنّهم حتى تنفرد سالفتي. وتأمّل ثقتَهُ بالله في إنفاذ جيش أسامة وقد أقبلت جموع الأعراب على المدينة تريد نهبها وقد أكثر عليه كبار الصحابة أن يحبس جيش أسامة حتى يكون حاميةً لبيضة المسلمين في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى الواثق بربه إلا إنفاذَه, وكان الخير كله في ذلك.
وتأمل حال أبي بكر أيضًا حينما أتى بكل ماله صدقةً لله, فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟" فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. رواه أبو داود وحسنه الألباني.
وتأمل حروب الردة وثقة الصحابة بربهم وموعودِه. كذلك تأمل حال عمر منذ إسلامِه, وتدبّر دعوته العجيبة لربِّه فعن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم. البخاري. وفي رواية عن حفصة رضي الله عنها قالت: فقلت: أنى يكون هذا؟ فقال: يأتيني به الله إذا شاء. فاستجاب الله له، وتذكّر مواقف عليَّ وشجاعته, وعثمانَ وإنفاقه, والحسنَ السبطَ وزهده في الرئاسة, والصحابةٍ في نشرهم الدين وبلائهم العظيم..
تأمل حال الصحابة رضوان الله عليهم في بدر وأحد والأحزاب ومؤتة والردة وغيرَها, وثباتَهم العظيمَ في تلك المواقفِ المزلزلة, حتى استحقوا أن يُخلّد ذكرُ ثنائِهم في سفر الخالدين, قال سبحانه: "ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا" نعم, هذا وعد الله ورسوله لهم حينما قال الله في سورة البقرة: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا عن نصر الله قريب" إنّ هذه الثقةَ الشامخة هي التي أهّلتهم بتوفيق الله تعالى إلى أن يكونوا كما قال الله فيهم: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا".
معاشر الموحدين: إن موردَ عيشِ أرواح الصالحين في كل زمن هو الثقة بالحافظِ المدبر المتصرف الصادقِ وعدَه, فثق بالله أيها الموحدُ الحنيف, وأبشر بألطافه التي لا يحيطها فكر ولا يقترب منها خيال!
   لقد كان إمامُ الواثقين بربهم رسولُ الهدى صلوات الله وسلامه عليه يحيي زرعَ الثقةِ في قلوب أصحابه حتى إذا زلزلتهم الخطوبُ وجدوها أحوجَ ما كانوا إليها, فعن خباب بن الأرَتِّ رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسدٌ بردةً له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصرُ لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجلُ فيحفرُ له في الأرض فيجعلُ فيها, ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعلَ نصفين, ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه, ما يصدُّه ذلك عن دينه, والله ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللهَ، ولكنكم تستعجلون" متفق عليه.
فهل عرفتَ الآن معنى قولِ الله جل وعز: "فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون" نعم فالله حق ووعدُه حق, فلا يستخفنك أيها المؤمنُ ويزعزعُ ثقتَكَ في مولاك أقوامٌ لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا, ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا.
   وتأمل قول العلي الكبير سبحانه حينما قال: "ذلك بأن الله هو الحق" فكل ما سواه مما يُتعلّق به باطل, وكل ما يوثق به دونه ضعيف زائل.
وتدبر قوله سبحانه: "من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت" فلا إله إلا الله! كم في هذا الوعد الصادق الكريم من تثبيت لعزائم المؤمنين. فيا ذا الجلال والإكرام املأ قلوبنا ثقة بك وإيمانًا وبرّا وإحسانًا, يا حي يا قيوم يا رب العالمين... اللهم صل على محمد..