إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 26 مايو 2016

فضل الاعتصام بالله تعالى

فضل الاعتصام بالله تعالى
19/8/1437
الحمد لله الملك الجليل، المنزَّه عن النظير والعديل، المنعِم بقبول القليل، المتكرِّم بإعطاء الجزيل، تقدَّس عمَّا يقول أهل التعطيل، وتعالى عمَّا يعتقد أهل التمثيل. نصب للعقل على وجوده أوضح دليل، وهدى إلى وجوده أَبْيَن سبيل.
أحمده كلما نُطق بحمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأصلي على نبيه محمد النبي النبيل وعلى آله وصحبه والتابعين. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعتصموا به تفلحوا وتسعدوا، واعلموا أن الاعتصام بالله عصمة من الهلكة، ووقاية من الخلل، وأمان من الخذلان، وسلامة من عثرات الطريق.
وجوهر الاعتصام: صدق الاعتماد وتجريد التعلق وتمام الثقة ورسوخ اليقين. فمن اعتصم بماله قلّ، ومن اعتصم بعقله ضلّ، ومن اعتصم بجاهه ذلّ، ومن اعتصم بالله عز وجل لا قلّ ولا ضل ولا ذل، بل إلى ذرى المُنى يقينًا قد وصل.
ذلك أن الاعتصام بالله هو ركن التوفيق، فالمرء في كل أطواره وأزمانه متردد بين جلب الخير وثباته ونمائه، أو دفع الضر أو رفعه، ليس له حول وطول على الحقيقة البتة، إنما غاية جهده اتخاذ الأسباب المأمور بها من لدن المسبِّب الخالق البارئ، فهو لا شيء إلا بمعونة إلهه وسيده ومولاه.
وهذه الأسباب لا تستقل بحدوث تأثيراتها بل لا بد من صرف الموانع، ولا يكون شيء من ذلك إلا بمشيئة رب العالمين، فعاد الأمر طرًّا لمن بيده مقاليد الأمور وتصاريف الأشياء، فمن رام التوفيق فليلذ بذلك الركن، وليعتصم بمن لا يأتي بالخير ولا يدفع الشر سواه.
والمعتصم بالله حقًّا في تحصيل إيمانه فغايته الجليلة ليس وراءها مرمى، كيف لا، وهو بالله يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي؟ فلا يقوم لقوته قوة، ولا يتخلف عن معيته توفيق.
ومتى أحسن العبد الاعتصام بربه انتظمت له سائر أعماله وتيسرت له وانشرح صدره بها فإن الله شكور حميد. "فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبدًا، وفيه شعث لا يلمّه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده، فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خُلق الخلق، ولأجله خلقت الجنة والنار، وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب، ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء، وكفى بفوته حسرة وعقوبة".
قال الله جل ذكره موصيًا عباده بالاعتصام بحبله المتين الواصل إليه: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) فالاعتصام وصيته سبحانه للمؤمنين به.
 وقال مشترطًا الاعتصام به للتائب من أعظم جرم: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما (146)
وقال جل وعلا في بيان ألا معصوم من كل كريهةٍ إلا من عصمه برحمته: (قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم).
وأوصى الحريصُ الشفيق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه بتحقيق الاعتصام بالله، وبيّن طرق تحصيله فعن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله: حدثني بأمر أعتصم به، قال: «قل ربي الله ثم استقم». قلت: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: «هذا». رواه الترمذي وصححه. فبيّن أن ملاك التقوى الاعتصام بالله في لزوم الاستقامة، ومن ذلك حفظ اللسان.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن صِمَامَ أمانِ المؤمن اعتصامه بكتاب ربه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال – في حديث الحج الطويل -: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به. كتاب الله» رواه مسلم.
   قال ابن القيم رحمه الله: "ثم ينزل القلبُ منزل الاعتصام، وهو نوعان: اعتصام بالله واعتصام بحبل الله، قال الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وقال: (واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير).
والاعتصام: من العصمة، وهو التمسك بما يعصمك ويمنعك من المحذور والمخوف. ومدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام بالله والاعتصام بحبله، ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين.
 فأما الاعتصام بحبله: فإنه يعصم من الضلالة، والاعتصام به: يعصم من الهلكة، فإن السائر الى الله كالسائر على طريق نحو مقصده، فهو محتاج إلى هداية الطريق والسلامة فيها، فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له، فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة وأن يهديه إلى الطريق، والعدة والقوة والسلاح التي بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها.
عباد الرحمن: المعتصم بالله حقًّا هو المؤمن الموحّد، فهو رابط الجأش ناعم البال، أما ضعيف العقيدة فهو مشتت الفكر موزع النفس، فمن المشاهد أن الإنسان إذا تعلق قلبه بشيء واستحوذ عليه، أو ألمت به ملمة فلم تنفرج، تشتت فكره، وذهب في طلب الغوث كل مذهب، وهام في كل واد، وقد تسول له نفسه الأمارة - إن كان جاهلًا - أن يستصرخ النبي الفلاني، وقد تزين له أن ينادي فلانًا من المشايخ، أو يخضع لجنية أو منجم أو رمال إلى آخر تلك المهالك الموبقة.
وأما من توكل على اللَّه، ولم تتشعب به المذاهب وفقه اللَّه، وفتح اللَّه عليه طريق الهداية، وهدى قلبه، فأذاقه حلاوة الإيمان، وغشيته غاشية من السكينة، ورزق من اجتماع الخاطر ورباطة الجأش، وبرد اليقين، وهدوء النفس ما لا يحوط به وصف.
ومن فضائل الاعتصام يا عبد الله: اختصارُ الطريق على نفسك، فلا تتشعبُ بك السبل، ومردك إلى الله بكل أحوالك، قال سبحانه:{ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ } فالخلق إذا ماتوا أو قتلوا بأي حالة كانت، فإنما مرجعهم إلى الله، ومآلهم إليه، فيجازي كلا بعمله، فأين الفرار إلا إلى الله، وما للخلق عاصم إلا الاعتصام بحبل الله؟
ومنها: تكفيرُ الخطايا مهما بلغت. فحتى المنافق إذا تاب واعتصم بالله حُطت عنه ذنوبه برحمة الله قال تعالى:{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا }.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة2
الحمد لله وحده...
عباد الرحمن: من تأمل أحوال الناس وسرعة تقلبهم في محن الدنيا وفتنها ومسارعتهم لركوب ما مآله هلكتهم أيقن أن الأمر في غاية الخطر، وأنه لا عاصم من أمر الله إلا من رحم، فموج الفتن بشبهاتها وشهواتها يحول بين المرء وعقله، فيصبح الحليم حيرانًا ويضحي العالم على خطر فما بال الجاهل، فاللهم رحماك رحماك!
قال الإمام الزهري رحمه الله: كان علماؤنا يقولون: الاعتصام بالسنة هو النجاة. وقال الإمام مالك رحمه الله: السنة سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. قال تقي الدين: "وذلك أن السنة والشريعة والمنهاج: هو الصراط المستقيم الذي يوصل العباد إلى الله. والرسول: هو الدليل الهادي الخريت في هذا الصراط كما قال تعالى: { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } { وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } وقال تعالى: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } { صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور }.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا وخط خطوطًا عن يمينه وشماله ثم قال: هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثم قرأ : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } رواه أحمد.
وإذا تأمل العاقل - الذي يرجو لقاء الله - هذا المثال وتأمل سائر الطوائف وأن كلًّا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث ويدعي أن سبيله هو الصواب - وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم الذي لا يتكلم عن الهوى. (إن هو إلا وحي يوحى)".
إذا عُرف هذا فمعلوم أنما يهدي الله به الضالين ويرشد به الغاوين ويتوب به على العاصين لا بد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفي في ذلك لكان دين الرسول ناقصًا محتاجًا تتمة!
إذا تبين ذلك فالسعيد من اعتصم بموارد العصمة الحقيقية الباقية دون الزائفة الفانية، فمن رام الثبات والهدى فليعتصم برسالة سيد الثقلين صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، "فالسعادة والهدى في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والضلال والشقاء في مخالفته، وكل خير في الوجود إما عام وإما خاص فمنشأه من جهة الرسول، وكل شر في العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به، وسعادة العباد في معاشهم ومعادهم مقرون باتباع الرسالة.
 والرسالة ضرورية للعباد لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟!

والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله تعالى: ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) فهذا وصف المؤمن كان ميتًا في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورًا يمشي به في الناس. وأما الكافر فميت القلب في الظلمات.
اللهم صل على محمد.. 

الثلاثاء، 10 مايو 2016

وسائل سلامة الصدر

وسائل سلامة الصدر
5/8/1437
الحمد لله أحقُّ مَنْ شُكِر وأوْلى مَنْ حُمِد، وأكرم مَنْ تفضَّل وأرحم مَنْ قُصِد، الأول فلم يُولَد ولم يَلِد.
أحاط علمًا بالمعلومات وحواها، وأنشأ المخلوقات وبناها، وأظهر الحِكَم في الموجودات إذ براها، تعرّف إلى خلقه بالبراهين الظاهرة، وأظهر في مصنوعاته العجائب الباهرة، وتفرَّد في مُلْكِه بالقدرة القاهرة، ووعد المتقين بالفوز في الآخرة، فالبشرى للموعود بما وعد. والصلاة والسلام والبركة على رسوله محمد خيرِ من وُلِد وعلى آله وصحبه ومن لموعود ربه استعد. أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي رسول الله وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة.
عباد الرحمن: اتقوا الله تعالى واخشوا يومًا ترجعون فيه إليه ثم توفى كل نفسٍ بما كسبت، واعلموا أن من أحسن أعمالكم وأفضل قربكم بين يديه سلامة صدوركم وطهارة قلوبكم.
ومن رام الرضى فليُرض ربه، ومن ابتغى الجنة فليسلك سبيلها، واعلم أن لسلامة الصدر وسائلَ منها:
الإخلاص لله تعالى. فمن أسلم وجهه لربه وأخلص له عمله فليس لعدوه الشيطاني فرصةٌ عليه ولا مدخل إليه، فللمخلصين شأن وللمخلّطين شأن.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغلّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" رواه الترمذي وصححه الألباني.
ومنها: الرضى بالله. فهو المَعينُ النقي الذي لا ينضب، والغيث النمير الذي لا يكفّ، وقل ما شئت من لأواءِ الدنيا وعناها فستجدُ البلسم في الرضى.
ومن اكتفى باللهِ رضيَ به، فلم تهزه إحن النفوس وسوءات رغائبها، بل جارٍ بقلبه مجاري التسليم والسكينة والسلام.
ومنها: قراءة القرآن بتدبر. وهنيئًا لمن كان من أهلِ القرآن وتدبرِه والتفكرِ في عظاته. إن الدنيا بحذافيرها لتتصاغر في قلب متدبر القرآن، فمن ذاق حلاوته زهد فيما دونه، ومن زهد فيما دونه لم يحمل على أحد لدنيا، بل سيتسع قلبه للمؤمنين محبة ونصحًا وشفقة.
 وتأمل معي نداء الله لنا من فوق سابع سماء حينما قال: (يا أيها النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ . قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ﴾ فلئن فرح الناس بالمال والحطام فلنفرح بالله وبفضل الله ورحمته وهو القرآن والإسلام، وكفى بذلك غُنية وفضلًا.
ويا أخي: إن دغلَ الصدر ووحرَه مرض خطير يسري على قلب المؤمن فيحرمه معالي الزلفى ومراقي الفلاح، والحازم من استدرك مرضه فعالجه بتدبر كلام ربه، وتمكّن من سخيمته فسلّها لأجل الله واليوم الآخر. قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82 ]
"والصحيح: أنَّ "من" هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِى الصُّدُورِ}[يونس: 57].
فالقرآنُ هو الشِّفاء التام مِن جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواءِ الدنيا والآخرة، وما كُلُّ أحدٍ يُؤهَّل ولا يُوفَّق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعَه على دائه بصدقٍ وإيمان، وقبولٍ تام، واعتقادٍ جازم، واستيفاءِ شروطه، لم يُقاوِمْهُ الداءُ أبداً.
وكيف تُقاوِمُ الأدواءُ كلامَ ربِّ الأرض والسماءِ الذي لو نزل على الجبال، لصَدَعَهَا، أو على الأرض، لقطعها، فما مِن مرضٍ من أمراض القُلُوبِ والأبدان إلا وفى القُرآن سبيلُ الدلالة على دوائه وسببه، والحِمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه. قال الله: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} فمَن لم يَشْفِه القرآنُ، فلا شفاه الله، ومَن لم يَكفِه، فلا كفاه الله.
ومنها: الصدقة. قال تعالى لرسوله ومن قام مقامه، آمرًا له بما يطهر المؤمنين، ويتممُ إيمانهم: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } أي: تطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة. فالصدقة تزكي القلب وتطهره من دغائل الأحقاد، وتزيل شيئًا من حظ الشيطان الذي علق به وأمرضه، ولها تأثير عجيب في شرح الصدر وفسحه.
واليد التي تمتد بالصدقة هي في الحقيقة تمتد بغسل القلب من الدرن.
ومنها: الدعاء. وهو حبل المؤمن لرفع حاجته لربه ونيل مطلوبه من كرمه، هو سلاح المؤمن ضد الشيطان ووسيلةُ لياذه بربه الرحمن.
ومن سأل الله صلاح قلبه وسلامته وطهارته وألح على ربه بذلك أعطاه سؤله وطهّر له قلبه وسلّم قلبه. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "واسلل سخيمة قلبي" رواه أحمد. ومن دعاء الصالحين: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم).
ومنها: صيام ثلاثة أيام من كل شهر. فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ألا أُخْبِرُكم بما يُذْهِبُ وَحرَ الصَّدْر؟ صوم ثلاثة أيام من كلِّ شهر" رواه النسائي وصححه الألباني. ووحرُ الصدر هو الحقد والغيظ.
والمقصود أن الله تعالى تفضل بأن جعل لصيام ثلاثة أيام من كل شهر خاصية تطهير الصدر من دغله وحقده وغشه.
ومنها: النصيحة. قال الفضيل: "المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعيّر" ومن دأب على بذل النصيحة للمؤمنين بعمله وقوله ودعائه سلم صدره لهم لما يرى من ألطاف الله به حين يفعل ذلك، فيشفق عليهم ويحبهم ويتمنى صادقًا الخير لهم، والله شكور حميد يعطيه المزيد من ألطاف أنوار الإيمان من حيث لم يحتسب، وبالله الاستعانة.
والناصح يريد الخير للمنصوح، فهمه (معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون) إي إقامة للحجة إليهم براءة لساحته أمام مساءلة الجليل غدًا، ثم شفقة عليهم ومحبة للخير لهم لعلهم أن يستفيدوا من نصحه ما يوصلهم لمراضي ربهم تعالى.
ومنها: الهدية. قال رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" تهادوا تحابوا" أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وقال صلى الله عليه وسلم: «تَهَادَوْا، فإن الهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ، ولا تحْقِرَنَّ جَارَة لجارتها ولو شِقّ فِرْسِن شاة" رواه أحمد.
إن الهدايا لها حفظٌ إذا وردت ... أحظى من الابن عند الوالد الحدبِ
فالهدية وإن كانت يسيرة فلها الأثر البالغ على صدر المهدى له، ومن شأنها أن تزيل وغر صدره أو تخففه حرّه على أخيه.
عباد الله: ومن وسائل تحصيل سلامة الصدر: إفشاء السلام. والمتأمل في السلام يرى أنه محض فضل لله عظيم على هذه الأمة، فاسم الله السلام، والجنة دار السلام، وديننا الإسلام، وتحيتنا السلام، وفي السلام إيذان للمسلم عليه بسلامة جانبه من المسلِّم، وفيه الدعاء له بالسلامة، وفيه تحصيل أجور كثيرة على مر الزمان في ابتدائه وردّه، فبركات السلام لا تحصى. فإن اجتمع للسلام بشاشة وابتسامة وسلامة صدر فهي من نعيم الأنفس.
 وتأمل أول أمرٍ أَمَرَ الله به آدم عليه السلام إنه السلام! فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لما خلق الله آدم صلى الله عليه وسلم، قال: اذهب فسلم على أولئك -نفرٌ من الملائكة جلوس- فاستمع ما يحيونك؛ فإنها تحيتك وتحية ذريتك. فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله" متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" رواه مسلم.
ومنها: البشارة بالخير للمؤمنين وتهنئتهم بفضل الله عليهم. وتأمل قصة كعب بن مالك رضي الله عنه وتسابق الصحابة على بشارته فمنهم من ركض فرسه ومنهم من ركض برجله حتى إذا رأى الفارس قد سبقه أوفى على جبل سلْعٍ فصاح: يا كعب بن مالك أبشر بتوبة الله عليك، قال كعب: وانْطَلَقْتُ أَتَأمَّمُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يَتَلَقَّاني النَّاسُ فَوْجا فَوْجا، يُهَنِّؤوني بالتَّوْبةِ، ويقولون: لِتَهْنِئْكَ توبةُ الله عليك، حتَّى دخلتُ المسجْد، فإِذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حَوْلَهُ النَّاسُ، فقام طَلْحَةُ بنُ عُبيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ، حتى صافَحَني وهَنَّأَنِي، والله ما قام رجلٌ من المهاجرين غيرُهُ، قال: فكان كعبٌ لا يَنْسَاها لِطَلْحةَ.
ومنها: حسن الظن بالمسلمين. فحسن الظن هو سابلة عباد الله الصالحين التي يسيرون فيها بين عباد الله، فيحملونهم على أحسن محامل الظن، كما قال عمر رضي الله عنه فيما رواه سعيد بن المسيب، قال: كتب إلي بعض إخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنّن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًّا وأنت تجد له في الخير محملًا، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه..
فتأمل وصيته واعلم أن العمل بها ليس عن ضعف ولا غفلة ولكن عن ديانة ورجاحة وورع.
ومنها: الرحمة والشفقة بالناس. فالموفق هو من نظر لمن أساءوا إليه نظرة شفقة لا كراهية فهو يفوز بعاجل راحته في الدنيا وذخيرة كنز أجره في الأخرى.
فهو على يقين أنهم بأذاهم له لا ينالون شفاء لصدورهم ولا سعادة لقلوبهم لكنما يحشون مراجل صدورهم بسهام حقدهم المصميّة التي تؤذي صاحبها قبل غيره وتهدم صروح عافيته في عاجلته وآخرته. وبالجملة فمن رُزق الشفقة على من آذوه فقد سلم صدره لهم.
واعلم أن من فروع ذلك الاستغفار لنفسه ولمن عادوه، فلا يستغفر لهم ويدعو لهم بالخير إلا من ذاق لذة سلامة الصدر وحلاوة طهارة القلب، وكلما استغفر لهم ازداد سلامة وطُهرًا.
ومنها: التلذذُ بالبلاء في ذات الله تعالى. فالدنيا قد خلقت على الكدر فلا ترُمها صافية، وأقيمت على المشقة فلا تأملها ميسرة، وسُنّت على الفناء فلا تنخدع بسرابها.
ولا بد للمؤمن من أن يؤذى، خاصة كلما اقترب من جادّة المرسلين ووظيفتهم الدعوة إلى الله تعالى، ففي النفوس ميل إلى العاجلة ومن حال بينهم وبين تحصيلها آذوه واتّهموه وشقوا عليه وحاربوه، لذا فإن لم يتلذذ بالبلاء في ذات الله خيف عليه أن يتلوّث بحمل ضغينة عليهم لأجل أذيتهم له، لكن أن تذكّر سبيل البلاء بالمرسلين وأتباعهم فقد وطّن نفسه أوطانهم وهيأ قلبه بحرًا تغرق فيه هنات البشر، فأصبح سليمًا عليهم مشفقًا حادبًا.
ومنها: انتظار الأجر. (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره) فمن كانت بين عينيه هانت عليه نفسه ولو تلفت في مهاوي الردى، ذلك أنه موعود بالأجر موقف بلقاء الرحمن.
ومنها: التوبة الصادقة. فالتوبة غسيل للصدر من وحر الخطيئة وكدر العصيان، فلا عجب إذن من كونها سبيلًا لتحصيل سلامة الصدر، فالقلوب بين يدي علام الغيوب يصرفها كيف يشاء، وهو يحب التوابين، ومن آثار محبته تنزيل ألطافه عليهم، ومن أجملها تسليم صدورهم وتطهير قلوبهم بمنة وكرمه وحمده.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده....
عباد الرحمن: ومن وسائل تحصيل سلامة الصدر للمؤمنين: صدقُ التوكلِ على الله. فالله وحده حسيب المتوكل، (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) أي كافيه في كل أموره عمن سواه، فلكل عبادة نصيب لصاحبها من الأجر والإجابة أما التوكل فنصيبه الكفاية، وبالله التوفيق. 
ومنها: مطالعة أسماء الله وصفاته. ولهذا أثر جميل جدًّا على العبد، فإذا طالع اسم الله الرحيم واللطيف والغفور والعفو والكريم والوهاب ونحوها أورثه ذلك سعة في صدره وراحة في قلبه وضياء في وجهه وبصيرة وهداية في مسيره إليه.
ومهما اختلفت عليه وفيه سهام الظالمين من الإنس والجن، فهو ساكن الطبع، مطمئن البال، مرتاح الحال، يستشعر معية ذي الجلال والإكرام، فهو معه وبه ومنه وإليه، فهل تُخش ضيعة على مثل هذا القلب العامر بكل خير؟! كلا وربي.
ومنها: تدبر شؤم العواقب وحسنها. فمن حكمة المرء سعة أفقه وتدبره لعواقب أفعاله ومآلات أعماله فيرى بنفوذ بصيرته وحدّة فراسته ما لا يراه من عد تمام الحكمة، (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب).
ومن الناس من بصيرته تنفذ في عاقبته في الدنيا ومنهم من تتجاوزها لعاقبته في أخراه، وهذا هو الموفق حقّا والمغبوط صدقًا، والله ولي التوفيق.
ومنها: الاستعاذة بالله تعالى. فالشيطان يريد شحن صدور المؤمنين على بعضهم، ويجتهد في إدخال الحزن عليهم (ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئًا إلا بإذن الله) (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) والنجاة من عداوته مفتقر لمعونة خالقه المتصرف فيه المالك لناصيته، الذي إن شاء أخنسه وأعاذ عبده منه، فمن استعاذ بربه من عدوه أعاذه ولم يسلطه عليه. 
ومنها: العدل والإحسان. (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) فالعدل فرض والإحسان مندوب، وعلى قدر تحقيق العبد لكل منهما ينال مرتبته، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، وأهل الجنة في خير فضيل وحبور كثير، مع ذلك فليسوا سواء، فالمقربون السابقون ليسوا كالأبرار أصحاب اليمين، وكلًّا وعد الله الحسنى وزيادة.
وصاحب العدل قليلة طرق السوء لقلبه إذ لم يلوثه بمظالم وتقصير وبغي، وصاحب الإحسان كبير القدر عند الموافق والمخالف، فالنفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
ومن أحسن للناس ملك قلوبهم، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، وليس من شرط الإحسان إن يكون ببسط مال، بل يكون بطلاقة الوجه وبداءة السلام وتوسيع المجلس والشفاعة والسؤال عن الحال ونحو ذلك من طرق جلب السرور لنفوس العباد.  
والعفو عن المخالف المعادي محتاج لسعة صدر، أما الإحسان فمحتاج مع ذلك لجرعات كظم الغيظ مع عقل كبير يقدّر حجم الآخرة ويرى أن الدنيا ليست بشيء. قال الكندي:
وإنّ الذي بَيْنِي وبَيْنَ بَنِي أَبِي ... وبَيْنَ بَنِي عَمِّي لُمَخْتَلِفٌ جِدّا
فإنْ أَكَلُوا لَحْمِي وَفَرْتُ لُحُومَهُمُ ... وإنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْداً
ولا أَحْمِلُ الحِقْدَ القَدِيمَ عليهمُ ... ولَيْس رَئَيسُ القَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الحِقْدا
ومنها: الإيمان. وهذا السبب هو الرحى الذي تدور عليه بقية الأسباب، فمبدؤها منه ورجوعها إليه، وعلى قدره يكون شعاعها وضياؤها ونفعها.
ومن أراد ألا تتشعب به الطرق وتكثر عليه السبل فليوحّد سبيله من هنا، وليغذِ إيمانه بشعب الإيمان علمًا وعملًا، وليحرّك قلبه به، وليسق روحه بحدائه، وليُطعم نفسه نفحات اللطيف، فإن له نفحات من ذاقها لم يلتفت لما سواها.

اللهم صل على محمد..