إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 22 يونيو 2016

الغضب.. ركضة الشيطان

الغضب.. ركضة الشيطان
الحمد لله عالم السر والجهر، وقاصم الجبابرة بالعز والقهر، مُحْصي قطرات الماء وهو يجري في النهر، فضَّل بعض المخلوقات على بعض حتى أوقات الدهر: ﴿ لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 3]، فهو المتفرِّد بإيجاد خَلْقِه، المتوحِّد بإدرار رزقه.
أحْمده على الهدى وتسهيل طرقِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأنَّ مُحمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله والضلالُ عامٌّ فمحاه بمَحْقِه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وإياكم وركضةُ الشيطان وأزّة إبليس وذئب قلب المؤمن ألا وهي الغضب إلا ما كان لله فنعمّا هو.
قال جعفر بن محمد: الغضب مفتاح كل شر. وصدق رحمه الله فالغضب شعبة من الجنون، وأنقص ما يكون عقل المرء إذا غضب، ويوشك عدوه الرجيم أن يظفر به في ساعة غضب ما يهدم سنوات خير كان يعمرها!
ولو عزَب عن المرء الحلم حتى انقاد لغضبه ضل عنه وجه الصواب فيه، وضعف رأيه عن خيرة أسبابه ودواعيه، حتى يصير بليد الرأي، مغمور الروية، مقطوع الحجة، مسلوب العزاء، قليل الحيلة، مع ما يناله من أثر ذلك في نفسه وجسده حتى يصير أضر عليه مما غضب له.
وقد قال بعض الحكماء: من كثر شططه كثر غلطه. وروي أن سلمان قال لعلي رضي الله عنهما: ما الذي يباعدني عن غضب الله عز وجل؟ قال: لا تغضب.
وقال بعض السلف: أقرب ما يكون العبد من غضب الله عز وجل إذا غضب.
وقال بعض البلغاء: من رد غضبه هدّ من أغضبه. وقال بعض الأدباء: ما هيّج جأشك كغيظ أجاشك.
فينبغي لذي اللب السوي والحزم القوي أن يتلقى قوة الغضب بحلمه فيصدها، ويقابل دواعي شرّته بحزمه فيردها، ليحظى بأجلّ الخيرة ويسعد بحميد العاقبة.
واعلم أن لتسكين الغضب إذا هجم أسبابًا يستعان بها على الحلم منها:
 أن يذكر الله عز وجل فيدعوه ذلك إلى الخوف منه، ويبعثه الخوف منه على الطاعة له، فيرجع إلى أدبه ويأخذ بندبه. فعند ذلك يزول الغضب. قال الله تعالى: { واذكر ربك إذا نسيت } قال عكرمة: يعني إذا غضبت. وقال الله تعالى: { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله } ومعنى قوله (ينزغنك) أي يغضبنك، (فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) فهو سميع بجهل من جهل، عليم بما يذهب عنك الغضب.
وحكي أن بعض ملوك الفرس كتب كتابًا ودفعه إلى وزير له وقال: إذا غضبت فناولنيه. وكان فيه: ما لك والغضب إنما أنت بشر، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء.
وقال بعض الحكماء: من ذكر قدرة الله لم يستعمل قدرته في ظلم عباد الله.
وقال عبد الله بن مسلم بن محارب لهارون الرشيد: يا أمير المؤمنين أسألك بالذي أنت بين يديه أذل مني بين يديك، وبالذي هو أقدر على عقابك منك على عقابي لما عفوت عني. فعفا عنه لما ذكره قدرة الله تعالى.
وأسمع رجل عمر بن عبد العزيز كلامًا فقال عمر: أردت أن يستفزني الشيطان لعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غدًا انصرف رحمك الله.
وقال بعض البلغاء: ليس من عادة الكرام سرعة الانتقام، ولا من شروط الكرم إزالة النعم.
وقد وصى صلى الله عليه وسلم باجتناب موجبات الغضب وبكظم الغيظ عند استفحاله، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: "لا تغضب" فردّد مرارًا، قال: "لا تغضب" رواه البخاري
وخرّج الترمذي هذا الحديث ولفظه: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علمني شيئًا ولا تكثر عليّ لعلي أعيه، قال: "لا تغضب" فردد ذلك مرارًا كل ذلك يقول: "لا تغضب" وفي رواية أخرى لغير الترمذي قال: قلت: يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ولا تكثر علي قال: "لا تغضب".
 فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه وصية وجيزة جامعة لخصال الخير ليحفظها عنه خشية ألا يحفظها لكثرتها، ووصاه النبي ألا يغضب، ثم ردد هذه المسألة عليه مرارًا والنبي صلى الله عليه وسلم يردد عليه هذا الجواب فهذا يدل على أن الغضب جماع الشر وأن التحرز منه جماع الخير، ولعل هذا الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه هو أبو الدرداء كما عند الطبراني.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من غضب بتعاطي أسباب تدفع عنه الغضب وتسكنه، ويمدح من ملك نفسه عند غضبه، ففي الصحيحين عن سليمان بن صُرَدٍ رضي الله عنه قال: كنت جالسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ورجلان يستبّان، وأحدهما قد احمر وجهه، وانتفخت أوداجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ذهب منه ما يجد". فقالوا له: إن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "تعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
ومن غضب فليسكت، وما أحسن قول مورق العجلي رحمه الله: ما امتلأت غضبًا قط، ولا تكلمت في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت.
 وغضب يومًا عمر بن عبد العزيز فقال له ابنه عبد الملك رحمهما الله: أنت يا أمير المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضّلك به تغضب هذا الغضب! فقال له: أو ما تغضب يا عبد الملك؟ فقال له عبد الملك: وما يغني عني سعة جوفي إذا لم أردد فيه الغضب حتى لا يظهر.
 وعن أبي وائل القاص: قال دخلنا على عروة بن محمد السعدي، فكلَّمه رجل، فأَغضبه، فقام فتوضأ، فقال: حدَّثني أبي عن جدي عطية، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِن الغضبَ مِن الشيطان، وإِن الشيطان خُلق من النار، وإِنما تُطفأ النارُ بالماء، فإِذا غَضِبَ أحدُكم فليتوضأ".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الشديد بالصُّرَعَة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما تعدون الصُّرَعَةَ فيكم؟ قلنا الذي لا تصرعه الرجال قال: "ليس ذلك ولكنه الذي يملك نفسه عن الغضب".
 وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كظم غيظًا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء".
 وقال ميمون بن مهران: جاء رجل إلى سلمان فقال: يا أبا عبد الله أوصني، قال: لا تغضب. قال: أمرتني ألا أغضب وإنه ليغشاني ما لا أملك! قال: فإن غضبت فاملك لسانك ويدك. وملك لسانه ويده هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأمره لمن غضب أن يجلس ويضطجع وبأمره له أن يسكت.
 قال عمر بن عبد العزيز: قد أفلح من عصم عن الهوى والغضب والطمع.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه... أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، وتعوذوا بالله من غضب ينتهي بكم إلى غضب ربكم جل وعلا!
 قال الحسن رحمه الله: أربع من كن فيه عصمه الله من الشيطان وحرمه على النار: من ملك نفسه عند الرغبة والرهبة والشهوة والغضب.
فهذه الأربع التي ذكرها الحسن هي مبدأ الشر كله، فإن الرغبة في الشيء هي ميل النفس إليه لاعتقاد نفعه، فمن حصل له رغبة في شيء حملته تلك الرغبة على طلب ذلك الشيء من كل وجه يظنه موصلًا إليه، وقد يكون كثير منها محرمًا، وقد يكون ذلك الشيء المرغوب فيه محرمًا. والرهبة هي الخوف من الشيء، وإذا خاف الإنسان من شيء تسبب في دفعه عنه بكل طريق يظنه دافعًا له وقد يكون كثير منها محرمًا. والشهوة هي ميل النفس إلى ما يلائمها وتلتذ به، وقد تميل كثيرًا إلى ما هو محرم كالزنا والسرقة وشرب الخمر وإلى الكفر والسحر والنفاق والبدع. والغضب هو غليان دم القلب طلبًا لدفع المؤذي عنه خشية وقوعه أو طلبًا للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعد وقوعه، وينشأ من ذلك كثير من الأفعال المحرمة كالقتل والضرب وأنواع الظلم والعدوان وكثير من الأقوال المحرمة كالقذف والسب والفحش، وربما ارتقى إلى درجة الكفر كما جرى لجبلة بن الأيهم، وكالأيمان التي لا يجوز التزامها شرعًا، وكطلاق الزوجة الذي يعقب الندم.
 والواجب على المؤمن أن تكون شهوته مقصورة على طلب ما أباحه الله له وربما تناولها بنية صالحة فأثيب عليها، وأن يكون غضبه دفعا للأذى في الدين له أو لغيره مما يباح".
وقال العثيمين رحمه الله في تعليقه على حديث: "ليس الشديد بالصرعة": بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن القوي الشديد ليس بالصرعة، بل القوي في الحقيقة هو الذي يصرع نفسه إذا صارعته وغضب ملكها وتحكم فيها؛ لأن هذه هي القوة الحقيقية. ففي الحديث الحث على أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب، فإذا غضب، عليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وإن كان قائمًا فليقعد، وإن كان قاعدًا فليضطجع، وإن خاف خرج من المكان الذي هو فيه حتى لا ينفذ غضبه فيندم".
اللهم صل وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه..