إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 3 يناير 2018

الرزق ومفاتحه

الرزق ومفاتحه
(منقولة ومهذبة ومزيدة)

الحمد لله الغني الوهاب، الكريم التواب، لا تغيظه نفقة بإعطاء، ولا تلحقه فاقة بإسداء؛ فلله خزائن السماوات والأرض، ويد الله ملأى، لا تغيظها نفقة، سحاءُ الليلَ والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يده.
ولو أن العباد أولهم وآخرهم، وإنسهم وجنهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكه إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر. وأشهد ألا إله إلا الله الغني عن عباده وجميعهم إليه مفتقرون: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله؛ فإنها العروة الوثقى، والعون الأقوى، قال الله تعالى: ﴿ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴾
عباد الله، إن الله خلق الخلق، وأسكنهم هذه الأرض وهم عاجزون عن كفاية أنفسهم، وإصلاح معايشهم، وبهم حاجة ملحّة إلى بارئهم اختياراً واضطراراً، لا يسدها أحد سواه.
فالفقر والحاجة، والعوز والفاقة أوصافهم الذاتية السرمدية، والغنى والوسع، والملك والعز أوصاف خالقهم الذاتية الأبدية، فلما خلقهم تكفل برزقهم وحده قبل وجودهم على هذه الأرض، ودخولهم بالحياة إليها، كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم تكون علقة مثل ذلك، ثم تكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر بأربع كلمات: كتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقي هو أم سعيد) متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: (الرِّزقُ أشدُّ طلبًا للعبدِ من أجَلِه) صححه الألباني.
ولن يخرجوا عن الحياة بالموت حتى يستكملوا ما كتب لهم من ذلك الرزق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في رُوعي –أي قلبي-: أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب –أي اطلبوا الرزق بطرق جميلة مشروعة-، ولا يحملن أحدَكم استبطاءُ الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته) رواه الحاكم.
وحينما حث ديننا الحنيف على طلب الرزق فإنه قد حرم كل طريق مشبوه لأخذ الرزق وتحصيله، مهما كان إغراؤه، فالنار قد حفت بالمكاره.
ومن استعجل الرزقَ بالحرام مُنِع الحلالَ؛ وبئس المطية إلى النار المالُ الحرام، وأي جسد نبت من السحت فالنار أولى به.
إن من نعم الله الخفيةعلى بعض الناس: العيش في ظل الفقر؛ لأن الغنى خطر عليه؛ إذ هو بوابة البغي والطغيان، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، فمن الناس من لا يصلحه إلا الفقر ولو اغتنى لكفر، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾
فعلى المسلم أن يرضى بقدر الله وقضائه، ويعلم أن اختيار الله له خير مما يتشوف إليه ويريده، وعليه أن يعلم كذلك أن قضية الرزق من قضايا الإيمان بالقدر، وأن الغنى غير آتٍ بذكاء الأذكياء، أو سعة عقول العقلاء؛ فكم من صاحب ذكاء كبير يرافقه الفقر والحاجة، وكم من جاهل غير فطن يتقلب بين أحضان الغنى والترف.
عباد الله، إن الله هيأ لعباده في هذا الكون أسباب الرزق ووسائله، وأمر الإنسان أن يسعى في طلب الرزق، وتحصيل ما يصلح العيش؛ فالرزق لا ينزل على متكاسل أو متواكل، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ قالت عائشة رضي الله عنها: "كان أصحاب رسول الله عمالَ أنفسهم" رواه البخاري.
لقد أمر الله تعالى بالعمل وطلب الرزق وبذل الأسباب مع كمال التوكل على الرزاق الكريم، ونهى عن تكفف الناس وسؤالهم والذل لهم، قال عليه الصلاة والسلام: (لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه) رواه البخاري.
عباد الله، إن الله تبارك وتعالى قد يبسط الرزق لبعض العصاة ابتلاء واستدراجاً، لا محبة ولا مكافأة، وإن كان لهم في الدنيا المال الكثير فإنه مال لا خير فيه، و يغدو نقمة عليهم لا نعمة، وعذاباً لا نعيماً، ولكن أكثر الناس لا يفقهون، قال تعالى عن قوم قارون: ﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ وقال النبي صلى الله عليه و سلم قال: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ رواه أحمد.
وأما الطائع لربه، المتحري الحلالَ في كسبه فإن لطاعاته أثراً كبيراً في جلب الرزق وبركته؛ ونعم المال الصالح في يد الرجل الصالح.
واعلموا رحمكم الله أن الإيمان والعمل الصالح سبب كبير من أسباب الرزق، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ﴾ وقال: ﴿.. وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ﴾
فإقامة شرع الله والاستقامة على دينه سبب كبير لجلب الرزق، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ﴾
أيها الفضلاء، من أسباب جلب الرزق: استغفار الله تعالى استغفاراً صادقاً كثيرًا، قال تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً﴾
 عباد الرحمن: البر وصلة الأرحام من أسباب زيادة الرزق، ففي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ).
والتبكير في طلب الرزق يزيد الرزق، فعن صخر الغامدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها )، قال: وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم في أول النهار. قال: وكان صخر رجلاً تاجراً. فكان يبعث تجارته في أول النهار فأثرى وكثر ماله) رواه أبوداود.
هذا، والتوكل على الله -مع الأخذ بالأسباب الممكنة- يجلب الرزق بإذن الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطانا ) رواه أحمد.
أيها المسلمون، ومن أسباب جلب الرزق: الجهاد في سبيل الله تعالى، روى الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي). وقال تعالى: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
 ومن مفاتيح الرزق: الصدقة والإنفاق في وجوه الخير. قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم، أنفق أنفق عليك). وقال صلى الله عليه وسلم لبلال: (أنفق بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا) رواه البيهقي. ومن دعاء الملكين كلَّ يوم: اللهم أعط منفقًا خلفًا.
وشكر النعم هو قيد النعم الموجودة وصيد النعم المفقودة، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾
ومن الأسباب الجالبة للرزق: الزواج من أجل العفاف، قال عمر رضي الله عنه: "عجبي ممن لا يطلب الغنى في النكاح! وقد قال الله تعالى: ﴿ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾!"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف) رواه الترمذي.
عباد الله، إذا أردتم الرزق الحسن المبارك فاطرقوا باب السماء بالدعاء واللجوء الصادق إلى الرزاق الكريم، الذي لا يخيب من رفع يديه إليه واثقاً به متفائلاً بجوده وفضله.
فالدعاء من الأسباب العظيمة، فأينكم عن أدعية نبيكم في طلب الرزق وقضاء الدين، فمما أثر عنه صلى الله عليه وسلم واحفظوها ورددوها وألحوا على الله تعالى بها وأنتم موقنون بالإجابة واضرعوا إلى الغني الكريم الوهاب بها:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك.
اللهم اقض عنا الدين وأغننا من الفقر.
اللهم أنا نعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال.
اللهم إنا سألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
يا حي يا قيوم بك نستغيث، فأصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، لا إله إلا أنت.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
....................
الخطبة الثانية
الحمد لله العلى الأعلى، الذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى، الحمد لله الذي أضحك وأبكى وأمات وأحيا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام والبركة على خير خلق الله النبي الهادي البشير صلى الله عليه وسلم. 
أما بعد فأوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل فإنه من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب. وإنه من يتق الله يجعل له من أمره يسرا. وإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا.
عباد الله، ثمة أموراً تذهب الرزق وتمحقه، وتحول بين العبد وبين التنعم برزقه، وهذه الأمور على كثرتها ترجع إلى أصل واحد هو: معصية الله تعالى، وإن العبد ليُحرم الرزق بالذنب يصيبُه، وتأملوا أحوال الناس الآن لما طغوا بالمعاصي وكفران النعم كيف ابتلاهم الله بالغلاء ونقص الأرزاق، فلا إله إلا الله. قال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾.
ومن الأمور التي تمحق الرزق: أكل الربا؛ لأن الربا معصية كبيرة للخالق سبحانه، وظلم شنيع للمخلوق، وقطع للمعروف بين الناس، وإفساد للمجتمعات، قال تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ قال ابن عباس: يقال لآكل الربا يوم القيامة: خذ سلاحك فبارز رب العالمين. يقال له هذا تبكيتًا لأنه حاربه في الدنيا بالربا.
معشر التجار، إن كثرة الحلف في البيع تمحق الأرباح، وتذهب بركة الرزق، حتى وإن كان صادقًا، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( الحلف مَنفَقة للسلعة مَمَحقة للبركة) وفي لفظ:( للربح)، وعند مسلم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إياكم وكثرة الحلف في البيع؛ فإنه يُنَفِّق ثم يمحق).
 ومما يغلق باب الرزق الطيب المبارك على صاحبه: الانشغال بطلب الرزق عن فرائض الله، وعن الصلاة. قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
فيا من رزقك الله، ومد عليك بساط رزقه الواسع، أنفق فيما يرضي من رزقك وأعطاك فيما يجب عليك من زكوات، ونفقات على نفسك وأهلك وأولادك ومن ولاك الله الإنفاق عليه، وتناول منه على وجه الاقتصاد بلا إسراف في وجوه الكرم والمباحات ولا تبذر؛ فإن المبذرين كانوا إخوان الشياطين.
ولا تبخل وتشح عن إخراجه في أوجهه المشروعة من حقوق الله وحقوق الخلق؛ فإن البخيل غني اليد فقير الحال، يكد ويتعب لغيره، عليه الغرم ولسواه الغنم.
ومن قُدِر عليه رزقُه، فليطمئن إلى قدر الله، ويرض بقسمة الله؛ فإنه تعالى أرحم به من نفسه، وليلزم القناعة شعاراً والصبر دثاراً، فما أحسنه من لباس على العبد! قال بكر المزني: يكفيك من الدنيا ما قنعت به، ولو كفَّ تمرٍ، وشربة ماءٍ، وظلَّ خباءٍ، وكلما انفتح عليك من الدنيا شيءٌ ازدادت نفسك به تعبًا.
وليعلم أن الرزق ليس باباً واحداً هو المال؛ فالصحة والعافية رزق قد يرزقها الفقير ويحرمها الغني، وكذلك الستر رزق، ومحبة الناس رزق، والزوجة الصالحة رزق، والأبناء البررة رزق، والجار الصالح رزق، والتوفيق من الله رزق، والعلم والعقل رزق، وأعظم الأرزاق على الإطلاق هو رزقُ الإيمانِ والاستقامة والعلمِ النافع والعمل الصالح، وسل الراحلين عن الدنيا هل تساوي كنوز الأرض طاعة لله واحدة؟!
قيل لحاتم: على ما بنيت أمرك في التوكل على الله؟ قال: على خصال أربعة: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحي منه. ورحم الله الشافعي إذ قال:
توكلتُ فِي رزقي على الله خالقـي       وأيقنتُ أن الله لا شـك رازقـي
ومـا يكُ من رزقـي فليس يفوتني      ولو كان في قاع البحـار العوامق
سيـأتي بـه الله العظيـم بفضلـه        ولو لم يكن مني اللسـانُ بنـاطق
ففي أي شيء تذهب النفس حسرة      وقد قسم الرحمـن رزق الخلائق؟
عباد الرحمن: توكلوا على الله وثقوا به وأحبوه من كل قلوبكم، واعبده حق عبادته، وكونوا لما في يده أوثق منكم لما في أيديكم، فعن ابن مسعود قال: "إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا ليس في البيت دقيق".
ولطالما عرفت أن الآجال والأرزاق مكتوبة ومحسوبة فادفع همهما عن نفسك.
سهرت أعين ونامت عـيون       في شؤون تكون أو لا تكون
فدع الهم ما استطعت              فحمـلانك الهمـــوم جنـون
إن ربا كفاك ما كان بالأمـس       سيكفيك في غد ما يكون

اللهم صل على محمد..