إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (8) (فقه الأسماء الحسنى)

 

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (8) (فقه الأسماء الحسنى)

 

الحمد لله المحمود على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل الضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله جبله ربه على جميل الفعال وكريم الخصال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل  والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من أعظم التوفيق للمؤمن أن يتّفقُّه في معاني الأسماء الحسنى، ويدعو الله تعالى بها، ويقوم بما تقتضيه من مقامات العبودية والإجلال والإكرام.

عباد الرحمن: إنّ علم أسماء الرحمن جل وعلا وصفاته هو أشرف العلوم بإطلاق، فهو متعلق بالمحبوب الأعظم والخالق الأوحد والملك الفرد والإله الحق، فله سبحانه كل صفات الجمال ونعوت الجلال، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

ومتى ما تفكر المؤمن في معاني الأسماء والصفات لرب العالمين قرعت قلبه ــ ولا بد ــ أنوار الهيبة والمحبة والإجلال والتعظيم، فخرج من ذلك بافتقار حقيقي واضطرار لازب ومسكنة تامّة وخشية راسخة مع حب تامّ ورجاء لا ينقضي وثناء سابغ وفرح غير محدود وسرور يكاد يظن معه أنه قد خُصَّ برقيقة من الجنة ووقت من أوقات أهلها، نسأل الله الكريم الرحيم من واسع فضله وجزيل عطائه وإحسانه.

ودعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى له شأن عظيم عند المرسلين، وهو صريح أمر رب العالمين، قال سبحانه وبحمده: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) [الأعراف: ١٨٠].

قال الخطابي: «معنى الدعاء: استدعاء العبدِ ربَّه عزَّ وجل العناية، واستمدادُه منه المعونة، وحقيقته إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتبرّؤ من الحول والقوة. وهو سمة العبودية، واستشعارُ الذلة البشريَّة، وفيه معنى الثناء على الله عزَّ وجل، وإضافة الجود والكرم إليه»([1]).

«ومن أسماء الله تعالى المتعلقة بافتقار عبده إليه: الرزاق. وهو مبالغة من رازق للدلالة على الكثرة.

والرزاق من أسمائه سبحانه، قال تعالى: ﴿{إن الله هو الرزاق}، {وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها}  [هود: ٦] وقال ﷺ: «إن الله هو المسعِّر القابض الباسط الرازق»([2]).

ورزقه لعباده نوعان: عام وخاص.

فالعام: إيصاله لجميع الخليقة جميع ما تحتاجه في معاشها وقيامها. فسهّل لها الأرزاق، ودبرها في أجسامها، وساق إلى كل عضو صغير وكبير ما يحتاجه من القوت، وهذا عام للبر والفاجر والمسلم والكافر، بل للآدميين والجن والملائكة والحيوانات كلها. وعام أيضًا من وجه آخر في حق المكلّفين، فإنه قد يكون من الحلال الذي لا تبعة على العبد فيه، وقد يكون من الحرام ويسمى رزقًا ونعمة بهذا الاعتبار، ويقال: رزقه الله، سواء ارتزق من حلال أو حرام، وهو مطلق الرزق.

وأما الرزق المطلق: فهو النوع الثاني، وهو الرزق الخاص، وهو الرزق النافع المستمر نفعه في الدنيا والآخرة، وهو الذي على يد رسول الله ﷺ، وهو نوعان:

رزق القلوب بالعلم والإيمان وحقائق ذلك، فإن القلوب مفتقرة غاية الافتقار إلى أن تكون عالمة بالحق مريدة له متألهة لله متعبدة، وبذلك يحصل غناها ويزول فقرها.

ورزق البدن بالرزق الحلال الذي لا تبعة فيه، فإن الرزق الذي خص به المؤمنين والذي يسألونه منه شامل للأمرين، فينبغي للعبد إذا دعا ربه في حصول الرزق أن يستحضر بقلبه هذين الأمرين، فمعنى (اللهم ارزقني) أي ما يصلح به قلبي من العلم والهدى والمعرفة ومن الإيمان الشامل لكل عمل صالح وخلق حسن، وما به يصلح بدني من الرزق الحلال الهنيّ الذي لا صعوبة فيه ولا تبعة تعتريه.

ومن أسمائه سبحانه المتعلقة بافتقار عبده إليه: الحي، القيوم. قال الله تعالى: {الله لا إله هو الحي القيوم} وقال سبحانه: {آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وقال عز وجل: {وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً} [طه: ١١١].

وهما من أسماء الله الحسنى. و(الحي القيوم) جمعها في غاية المناسبة كما جمعها الله في عدة مواضع في كتابه، وذلك أنهما محتويان على جميع صفات الكمال، فالحي هو كامل الحياة، وذلك يتضمن جميع الصفات الذاتية لله كالعلم، والعزة، والقدرة والإرادة، والعظمة، والكبرياء، وغيرها من صفات الذات المقدسة. والقيوم هو كامل القيّوميّة، وله معنيان:

هو الذي قام بنفسه، وعظمت صفاته، واستغنى عن جميع مخلوقاته. وقامت به الأرض والسماوات وما فيهما من المخلوقات، فهو الذي أوجدها وأمدّها وأعدها لكل ما فيه بقاؤها وصلاحها وقيامها، فهو الغني عنها من كل وجه، وهي التي افتقرت إليه من كل وجه.

فالحي والقيوم هو من له كل صفة كمال، وهو الفعال لما يريد»([3]).

«وليعلم المؤمن المفتقر إلى ربه أنه لا حجاب بينه وبين ربه، فمتى أراد ربه دعاه وسأله، والله يحب أن يُسأل ويدعى.

واعلم أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة. فالإنسان إذا سأل شيئًا فإنه يخضع ويذل ويستكين، وهذه هي العبادة، فيكون في ضمن السؤال عبادة.

ومن هنا حرمت المسألة، أي: أن يسأل الإنسان أحدًا من الخلق؛ لأنه يذل له قلبه، ويستكين له، ويخضع له، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا؛ لأنه عبادة، فيكون تحريم المسألة صيانة للإنسان، وإكرامًا له من الله جل وعلا، أكرمه الله بأن لا يخضع لمخلوق مثله، ويكون خضوعه لله وحده، ويكون استغناؤه بالله وحده، ويكون افتقاره إلى الله وحده، والافتقار إلى الله عبادة، أما الافتقار إلى المخلوق فهو شرك.

فهذا معنى كون دعاء المسألة يتضمن العبادة، أما دعاء العبادة فإنه يستلزم دعاء المسألة، وذلك أن المصلي والمزكي والمتصدق والذاكر والتالي يطلب بفعله هذا الثواب، فيطلب من الله أن يثيبه على ذلك، وهذا هو دعاء المسألة؛ لكونه يطلب الثواب أو يطلب الالتجاء والاستعاذة من العذاب.

ومن المعلوم أن المخلوق لا بد له من طلب النفع الذي ينفعه، ومن الهرب مما يضره، يضطر إلى هذا اضطرارًا، ولا بد له من ذلك. وكذلك الأسباب التي تجلب له النفع هو بحاجة إليها، وكذلك الأسباب التي بها يدفع الضر والعذاب والألم وغيرها، فالعبد مضطر إلى ما ينفعه، ومضطر إلى دفع ما يضره، ومضطر إلى تحصيل السبب الذي به جلب النافع، وإلى تحصيل السبب الذي به دفع المضر، فهو بأمس الحاجة إلى هذه الأمور، وهذه كلها يجب أن تطلب من الله وحده، ولا تطلب من المخلوق.

فيتبين لنا أن الأمر كله بيد الله، وأن الإنسان يجب أن يكون خاضعًا لله، وأن يكون عبدًا لله من جميع الوجوه، والدعاء داخل في هذا، سواء كان دعاء مسألة أو دعاء عبادة.

قال الشارح([4]): فتبين بهذا قول شيخ الإسلام: إن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، وقد قال الله تعالى عن خليله: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا } [مريم:48-49] ].

يعني: أن هذه الآية بينت أن الدعاء عبادة بأنواعه؛ لأنه -أولاً- قال: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ } ، ثم بعد ذلك قال تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ ) فبين أن الدعاء عبادة، وأنهم إذا دعوا شيئًا فقد عبدوه، وهذا كثير في القرآن»([5]).

والدعاء الذي يلامس الشغاف هو الدعاء الحقيق بالإجابة، فهو متضمن لتمام الافتقار، إذ هو عبد فقير قليل ضعيف عاجز يدعو ويسأل ربه وإلهه الغني القادر البر الرحيم.

«وأصل الشرك والكفر والجهل والجاهلية عند النَّاس هو شعورهم بأن لهم حولًا أو طولًا أو قوة ليست لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليست تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى، فلو شعر النَّاس أو علموا حقيقة حالهم، وأنهم فقراء إِلَى الله تبارك وتعالى في كل نَفَس يتنفسونه، وفي كل لحظة، وأنه لا يمكن في أية حال من الأحوال أن يستقلوا بأنفسهم طرفة عين، لكانت عبوديتهم لله تَبارك وتعالَى غير ما نشاهد وغير ما نرى، ولهذا كَانَ من دعاء النبي ﷺ استعاذته أن لا يكله إِلَى نفسه طرفة عين، وهكذا المؤمنون، فلو وكلنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى أنفسنا طرفة عين لهلكنا.

ولكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يدبرنا ويسيرنا بفضله، المؤمن والكافر، لكن المؤمن يستشعر فقره: إِلَى الله تبارك وتعالى في كل شيء، فيكون مقتضى ذلك الشعور أن يعبد الله تبارك وتعالى وحده، ولهذا فالمؤمن رغم أنه يأخذ بالأسباب، لكن لا يجوز له أن يعلق قلبه بالأسباب، أو أن يخاف من بعض ما يخيفه، وهو من الأسباب أيضًا، لكن لا يعلق خوفه بالأسباب، فمنتهى الرجاء ومنتهى الخوف يكون إِلَى الله، ولهذا نقول: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك»([6]).

بارك الله لي ولكم..

............

الخطبة الثانية

الحمد لله...

معشر الحنفاء: إن أصل معرفة العبودية أن تكون مبنية عَلَى الافتقار إِلَى الله تبارك وتعالى، ومن الافتقار إِلَى الله: أن القلوب لا تطمئن ولا تهدأ ولا تسكن ولا ترتاح إلا بأن تعرفه وأن تعبده عَزَّ وَجَلَّ، فإن من لم يعرف الله عَزَّ وَجَلَّ حق المعرفة، ويعبده حق العبادة كَانَ فيه من الشقاء والألم، والنكد والنغص بقدر جهله بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا نجد عصاة المؤمنين أحسن حالًا من الكفار، والكفار شر من ذلك.

فكلما نقصت من القلب هذا المعرفة نقصت السعادة والراحة والطمأنينة، وأكثر النَّاس سعادة وطمأنينةً في هذه الدنيا هم أكثرهم إيمانًا بالله، ومعرفةً به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو جاءتهم مصائب الدنيا جميعًا ما أقلقتهم لحظةً واحدة.

والمؤمن قد يحزن أو يغتم، ولكن ذلك لا يفقده سعادته وطمأنينته ورضاه بأن كل هذا من الله وإلى الله، وأن له في ذلك الأجر مهما عظمت المصيبة أو الفتنة، فإنه يرى أن ذلك لم يخرج عن كونه دافعًا وجالبًا للطمأنينة، وللراحة التي يجدها.

وأما الكافر فإن قلبه لا يحتمل ذرة من البلاء الذي يصيب المؤمن إلا ويقنط ويجزع ويسخط ويشكو ربه إِلَى النَّاس ويكفر بنعم الله جميعًا من أجل بليّة اُبتِلَي بها، لا تعدل ولا تزن شيئًا قليلًا من نعم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي أنعمها عليه، فيجب عَلَى الإِنسَان استشعار أنه فقير إِلَى الله، وأن يكون شعوره ومعرفته بأن قلبه لا يطمئن ولا يسكن ولا يرتاح إلا إذا عرف ربه وعبده واتبع مرضاته، واجتنب مساخطه، هذا هو الذي به تتحقق العبودية الكاملة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

والمؤمن لا يستغني عن عصمة الله تعالى وحفظه طرفة عين، فقد كان من دعائه ﷺ: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين»([7])([8]).

«فالأنبياء وأتباعهم قالوا هذا لعلمهم شدة فقرهم إلى الله وحاجتهم إليه، أمَّا أولئك فقد استغنوا عن الله تبارك وتعالى، فلا يذكرون الله إلا قليلًا، ولا يدعونه ولا يلجأون إليه.

ولهذا كان السلف الصالح يدعون الله في كل وقت، ويحثون أبناءهم وتلاميذهم والمسلمين على دعاء الله حتى قال قائلهم: «إني لأدعو الله ولو كان في شراك نعلي» فلو انقطع شراك نعله لدعا الله سبحانه وتعالى. فادعُ الله أيها العبد فأنت فقير إليه في كل لحظة، وفي كل حين وفي كل وقت، لكن أولئك يظنون أنهم في غنى عن الله، ولهذا تمر بهم الأيام ذوات العدد ولا يدعون الله سبحانه وتعالى فيها، حتى وإن عبدوه.

ومن الناس من يصلي ويصوم ويؤدي الفرائض، ولكنه لا يدعو الله، لأن الشيطان قد أغفل قلبه وأشعره بأنه في غنىً عن دعاء الله تبارك وتعالى.

والمقصود أن العبد المؤمن إذا شهد هذا الحال من الافتقار ومراقبة الله له ارتفع إيمانه، وما من قلب يرقى في درجات الإيمان وقطعيات اليقين إلا ويشهد ذلك بمقدار رقيّه ورسوخ إيمانه ويقينه»([9]).

اللهم صل على محمد..

 



([1])  شأن الدعاء (4).

([2])  أبو داود (3451) والترمذي (1361) وقال: حسن صحيح. فهو الرازق والرزاق.

([3])  شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة، سعيد القحطاني (1/79، 81).

([4])  إذا أطلق الشارح فالمراد أول من تصدى لشرح ذلك المتن المراد، والمراد بالشارح لكتاب التوحيد هو الشيخ سليمان آل الشيخ أول شارح لكتاب التوحيد عبر سفره النفيس تيسير العزيز الحميد لشرح كتاب التوحيد.

([5])  شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، للغنيمان (3/46).

([6])  مسلم (590).

([7])  الترمذي (3524) وحسنه الألباني في السلسلة (7/557).

([8])  الفوائد الشهير بالغيلانيات لأبي بكر الشافعي (1/ 479) (590).

([9])  شرح العقيدة الطحاوية للحوالي (1/ 1490).

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (7) (الدعاء)

 

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (7) (الدعاء)

 

الحمد لله ولي من اتقاه، من اعتمد عليه كفاه، ومن لاذ به وقاه. أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله ومصطفاه، صلى الله وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، وأحبوه بكل قلوبكم، وارجوه حق الرجاء، واستغنوا به وافتقروا إليه (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد).

عباد الرحمن: اعلموا أن أعظم طريق لتحصيل عبودية الافتقار هو تحقيق العبودية لله والاستعانة به. .كما قال سبحانه: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة: ٥] وقال رسول الله ﷺ: «ما قال عبد قط إذا أصابه هَمُّ وحَزَنٌ: اللهمِ إني عبدُك وابنُ عبدك وابنُ أَمَتك، ناصيتي بيدكِ، ماضٍ فيَّ حُكْمُك، عدْلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سمَّيْتِ به نفسَك، أو أنزلتَه فيِ كتابك، أو عَلّمته أحدًا من خَلْقك، أو استأثرت به في علم الغيبِ عندك، أن تجعل القرآنَ ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاءَ حزني، وذَهَاب هَمِّي، إلاَّ أذهب الله عز وجل هَمَّه، وأبدله مكان حُزْنه فَرَحًا» قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟ قال: «أجَلْ، ينبغي لمن سمعهنَّ أن يتعلمهنّ»([1]).

«فتضمن هذا الحديث العظيم أمورًا من المعرفة والتوحيد والعبودية، منها أن الداعي به صدّر سؤاله بقوله: إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، وهذا يتناول من فوقه من آبائه وأمهاته الى أبويه آدم وحواء، وفي ذلك تملّق له، واستخذاء بين يديه، واعتراف بانه مملوكه، وآباؤه مماليكه، وأن العبد ليس له غير باب سيده وفضله وإحسانه، وأن سيده إن أهمله وتخلى عنه هلك، ولم يؤوه أحد ولم يعطف عليه، بل يضيع أعظم ضيعة.

فتحت هذا الاعتراف أني لا غنى بي عنك طرفة عين، وليس لي من أعوذ به وألوذ به غير سيدي الذي أنا عبده. وفي ضمن ذلك: الاعتراف بأنه مربوب مدبَّر مأمور منهي، إنما يتصرف بحكم العبودية، لا بحكم الاختيار لنفسه، فليس هذا شأن العبد، بل شأن الملوك والأحرار، وأما العبيد فتعرفهم على محض العبودية. فهؤلاء عبيد الطاعة المضافون إليه سبحانه في قوله: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) وقوله: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا) ومن عداهم عبيد القهر والربوبية، فإضافتهم إليه كإضافة سائر البيوت إلى ملكه، وإضافة أولئك كإضافة البيت الحرام إليه، وإضافة ناقته إليه، وداره التي هي الجنة إليه.

 وإضافة عبودية رسوله إليه بقوله: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا)، (سبحان الذي أسرى بعبده)، (وأنه لما قام عبد الله يدعوه) [الجن: ١٩] وفي التحقق بمعنى قوله: «إني عبدك» التزام عبوديته من الذل والخضوع والإنابة، وامتثال أمر سيده، واجتناب نهيه، ودوام الافتقار إليه، واللجأ إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وعياذ العبد به ولياذه به.

وفيه أيضًا: أني عبد من جميع الوجوه صغيرًا وكبيرًا، حيًّا وميتًا، ومطيعًا وعاصيًا، معافى ومبتلى، بالروح والقلب واللسان والجوارح.

وفيه أيضًا: أن مالي ونفسي ملك لك، فإن العبد وما يملك لسيده. وفيه أيضًا: أنك أنت الذي مننت عليّ بكل ما أنا فيه من نعمة، فذلك كله من إنعامك على عبدك.

وفيه أيضًا: أني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إلا بأمرك، كما لا يتصرف العبد إلا بإذن سيده. وأني لا أملك لنفسي ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.

فان صح له شهود ذلك([2])؛ فقد قال: إني عبدك حقيقة.

ثم قال: «ناصيتي بيدك» أي أنت المتصرف في تصرفي كيف تشاء، لست أنا المتصرف في نفسي. وكيف يكون له في نفسه تصرف مَنْ نفسُه بيد ربه وسيده، وناصيته بيده، وقلبه بين أصبعين من أصابعه، وموته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كله إليه سبحانه، ليس إلى العبد منه شيء، بل هو في قبضة سيده أضعف من مملوك ضعيف حقير ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له تحت تصرفه وقهره، بل الأمر فوق ذلك.

ومتى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء؛ لم يخفهم بعد ذلك، ولم يرجُهم، ولم يُنزلهم منزلة المالِكين، بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرفُ فيهم سواهُم، والمدبرُ لهم غيرهم. فمن شهدت نفسه هذا المشهد صار فقره وضرورته إلى ربه وصفًا لازمًا له، ومتى شهد الناسَ كذلك؛ لم يفتقر إليهم، ولم يعلّق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته.

ولذا قال هود عليه السلام لقومه: (اني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها ان ربي على صراط مستقيم)

وقوله: "ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك" تضمّن هذا الكلام أمرين: أحدهما مضاء حكمه في عبده. والثاني: يتضمن حمده وعدله. وهو سبحانه له الملك وله الحمد، وهذا معنى قول نبيه هود عليه السلام: (ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها) ثم قال: (ان ربي على صراط مستقيم) أي مع كونه مالكًا قاهرًا متصرفًا في عباده، نواصيهم بيده، فهو على صراط مستقيم، وهو العدل الذي يتصرّف به فيهم. فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وقضائه وقدره وأمره ونهيه وثوابه وعقابه، فخبره كله صدق، وقضاؤه كله عدل، وأمره كله مصلحة، والذي نهى عنه كله مفسدة، وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ورحمته، وعقابه لمن يستحق العقاب بعدله وحكمته.

وفرّق بين الحكم والقضاء، وجعل المضاء للحكم، والعدل لقضاء. فإن حكمه سبحانه يتناول حكمه الديني الشرعي وحكمه الكوني القدري، والنوعان نافذان في العبد، ماضيان فيه، وهو مقهور تحت الحكمين قد مضيا فيه ونفذا فيه، شاء أم أبى. لكن الحكم الكوني لا يمكنه مخالفته، وأما الديني الشرعي فقد يخالفه.

ولما كان القضاء هو الإتمام والإكمال، وذلك إنما يكون بعد مضيّه ونفوذه؛ قال: «عدل فيّ قضاؤك» أي الحكم الذي أكملته وأتممته ونفذته في عبدك عدل منك فيه. وأما الحكم فهو ما يحكم به سبحانه، وقد يشاء تنفيذه وقد لا ينفذه، فان كان حكمًا دينيًّا فهو ماض في العبد، وإن كان كونيًّا فإن نفذه سبحانه مضي فيه، وإن لم ينفذه اندفع عنه. فهو سبحانه يقضي ما يقضى به، وغيرُه قد يقضي بقضاء ويقدّر أمرًا ولا يستطيع تنفيذه. وهو سبحانه يقضي ويمضي، فله القضاء والإمضاء.

وقوله: «عدل فيّ قضاؤك» يتضمن جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه، من صحة وسقم، وغنىً وفقر، ولذة وألم، وحياة وموت، وعقوبة وتجاوز وغير ذلك، قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم) وقال: (وان تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فان الانسان كفور) [الشورى: ٤٨] فكل ما يقضي به على العبد فهو عدل فيه.

وقوله: «أسألك بكل اسم هو لك..» إلى آخره. توسّل إليه بأسمائه كلها ما علم العبد منها وما لم يعلم. وهذه أحب الوسائل إليه، فإنها وسيلة بصفاته وأفعاله التي هي مدلول أسمائه.

بارك الله لي ولكم في القرآن..

............

الخطبة الثانية

الحمد لله..

عباد الله: أما قوله صلى الله عليه وسلم: «أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري» الربيع هو المطر الذي يحيى الأرض، شبّه القرآن به لحياة القلوب به، وكذلك شبهه الله بالمطر، وجمع بين الماء الذى تحصل به الحياة والنور الذى تحصل به الاضاءة والاشراق، كما جمع بينهما سبحانه في قوله: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما توقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله) وفى قوله: (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم) ثم قال: (أو كصيب من السماء) وفي قوله: (الله نور السموات والارض مثل نوره) ..الآية. ثم قال: (ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه).. الآية.

 فتضمن الدعاءُ أن يحييَ قلبه بربيع القرآن، وأن ينوّر به صدره، فتجتمع له الحياة والنور، قال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) [الأنعام: ١٢٢].

ولما كان الصدر أوسعُ من القلب كان النور الحاصل له يسري منه إلى القلب، لأنه قد حصل لما هو أوسع منه. ولمّا كانت حياة البدن والجوارح كلها بحياة القلب تسري الحياة منه إلى الصدر ثم إلى الجوارح سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادتها. ولمّا كان الحزن والهمّ والغمّ يضاد حياة القلب واستنارته سأل أن يكون ذهابها بالقرآن، فإنها أحرى أن لا تعود. وأما إذا ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد فإنها تعود بذهاب ذلك.

والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماض أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل أحدث الهم، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم»([3]).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «من رغب في السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية»([4]) فالسعادة الأبدية الدائمة التي لا تنقطع في الدنيا والآخرة هي في لزوم عتبة العبودية، ولزوم عتبة العبودية تحصل للعبد بكمال الذل لله جل وعلا، وغاية الحب له سبحانه وتعالى.

ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، لا في ليل ولا في نهار، ولا في يقظة ولا في منام، ولا في صحة ولا في مرض واعتلال، ولا في غنى ولا في افتقار، فالعبد مفتقر إلى الله جل وعلا فقرًا ذاتيًا لا يمكن أن ينفك عنه، لكن الناس يغفلون ويظنون أنهم أغنياء عن الله عز وجل بما مكنهم، والإنسان إذا بُلي بداء الاغتناء وشعر أنه غني عن الله عز وجل حصل منه شر عظيم، كما قال تعالى: { كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } [العلق: ٦، ٧]، يعني: إذا رأى غنى نفسه عن الله، لكن مادام يرى فقر نفسه إلى ربه جل وعلا فإنه لا يمكن أن يصيبه الطغيان والخروج عن مقتضى العبودية. قال الطحاوي رحمه الله: «ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين» والحين: الهلاك»([5]).

اللهم صل على محمد...

 



([1])  أحمد (3712) وصححه أحمد شاكر.

([2])  أي استحضرها بقلبه، واستشعرته نفسه، وقوي فيه تفكّره وتذكّره.

([3])  الفوائد لابن القيم (1/22 - 97) بانتقاء وتصرف.

([4])  الفتاوى (1/39).

([5])  شرح العقيدة الطحاوية. المصلح (20/ 4).