إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (7) (الدعاء)

 

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (7) (الدعاء)

 

الحمد لله ولي من اتقاه، من اعتمد عليه كفاه، ومن لاذ به وقاه. أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله ومصطفاه، صلى الله وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، وأحبوه بكل قلوبكم، وارجوه حق الرجاء، واستغنوا به وافتقروا إليه (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد).

عباد الرحمن: اعلموا أن أعظم طريق لتحصيل عبودية الافتقار هو تحقيق العبودية لله والاستعانة به. .كما قال سبحانه: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة: ٥] وقال رسول الله ﷺ: «ما قال عبد قط إذا أصابه هَمُّ وحَزَنٌ: اللهمِ إني عبدُك وابنُ عبدك وابنُ أَمَتك، ناصيتي بيدكِ، ماضٍ فيَّ حُكْمُك، عدْلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سمَّيْتِ به نفسَك، أو أنزلتَه فيِ كتابك، أو عَلّمته أحدًا من خَلْقك، أو استأثرت به في علم الغيبِ عندك، أن تجعل القرآنَ ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاءَ حزني، وذَهَاب هَمِّي، إلاَّ أذهب الله عز وجل هَمَّه، وأبدله مكان حُزْنه فَرَحًا» قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟ قال: «أجَلْ، ينبغي لمن سمعهنَّ أن يتعلمهنّ»([1]).

«فتضمن هذا الحديث العظيم أمورًا من المعرفة والتوحيد والعبودية، منها أن الداعي به صدّر سؤاله بقوله: إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، وهذا يتناول من فوقه من آبائه وأمهاته الى أبويه آدم وحواء، وفي ذلك تملّق له، واستخذاء بين يديه، واعتراف بانه مملوكه، وآباؤه مماليكه، وأن العبد ليس له غير باب سيده وفضله وإحسانه، وأن سيده إن أهمله وتخلى عنه هلك، ولم يؤوه أحد ولم يعطف عليه، بل يضيع أعظم ضيعة.

فتحت هذا الاعتراف أني لا غنى بي عنك طرفة عين، وليس لي من أعوذ به وألوذ به غير سيدي الذي أنا عبده. وفي ضمن ذلك: الاعتراف بأنه مربوب مدبَّر مأمور منهي، إنما يتصرف بحكم العبودية، لا بحكم الاختيار لنفسه، فليس هذا شأن العبد، بل شأن الملوك والأحرار، وأما العبيد فتعرفهم على محض العبودية. فهؤلاء عبيد الطاعة المضافون إليه سبحانه في قوله: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) وقوله: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا) ومن عداهم عبيد القهر والربوبية، فإضافتهم إليه كإضافة سائر البيوت إلى ملكه، وإضافة أولئك كإضافة البيت الحرام إليه، وإضافة ناقته إليه، وداره التي هي الجنة إليه.

 وإضافة عبودية رسوله إليه بقوله: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا)، (سبحان الذي أسرى بعبده)، (وأنه لما قام عبد الله يدعوه) [الجن: ١٩] وفي التحقق بمعنى قوله: «إني عبدك» التزام عبوديته من الذل والخضوع والإنابة، وامتثال أمر سيده، واجتناب نهيه، ودوام الافتقار إليه، واللجأ إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وعياذ العبد به ولياذه به.

وفيه أيضًا: أني عبد من جميع الوجوه صغيرًا وكبيرًا، حيًّا وميتًا، ومطيعًا وعاصيًا، معافى ومبتلى، بالروح والقلب واللسان والجوارح.

وفيه أيضًا: أن مالي ونفسي ملك لك، فإن العبد وما يملك لسيده. وفيه أيضًا: أنك أنت الذي مننت عليّ بكل ما أنا فيه من نعمة، فذلك كله من إنعامك على عبدك.

وفيه أيضًا: أني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إلا بأمرك، كما لا يتصرف العبد إلا بإذن سيده. وأني لا أملك لنفسي ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.

فان صح له شهود ذلك([2])؛ فقد قال: إني عبدك حقيقة.

ثم قال: «ناصيتي بيدك» أي أنت المتصرف في تصرفي كيف تشاء، لست أنا المتصرف في نفسي. وكيف يكون له في نفسه تصرف مَنْ نفسُه بيد ربه وسيده، وناصيته بيده، وقلبه بين أصبعين من أصابعه، وموته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كله إليه سبحانه، ليس إلى العبد منه شيء، بل هو في قبضة سيده أضعف من مملوك ضعيف حقير ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له تحت تصرفه وقهره، بل الأمر فوق ذلك.

ومتى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء؛ لم يخفهم بعد ذلك، ولم يرجُهم، ولم يُنزلهم منزلة المالِكين، بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرفُ فيهم سواهُم، والمدبرُ لهم غيرهم. فمن شهدت نفسه هذا المشهد صار فقره وضرورته إلى ربه وصفًا لازمًا له، ومتى شهد الناسَ كذلك؛ لم يفتقر إليهم، ولم يعلّق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته.

ولذا قال هود عليه السلام لقومه: (اني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها ان ربي على صراط مستقيم)

وقوله: "ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك" تضمّن هذا الكلام أمرين: أحدهما مضاء حكمه في عبده. والثاني: يتضمن حمده وعدله. وهو سبحانه له الملك وله الحمد، وهذا معنى قول نبيه هود عليه السلام: (ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها) ثم قال: (ان ربي على صراط مستقيم) أي مع كونه مالكًا قاهرًا متصرفًا في عباده، نواصيهم بيده، فهو على صراط مستقيم، وهو العدل الذي يتصرّف به فيهم. فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وقضائه وقدره وأمره ونهيه وثوابه وعقابه، فخبره كله صدق، وقضاؤه كله عدل، وأمره كله مصلحة، والذي نهى عنه كله مفسدة، وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ورحمته، وعقابه لمن يستحق العقاب بعدله وحكمته.

وفرّق بين الحكم والقضاء، وجعل المضاء للحكم، والعدل لقضاء. فإن حكمه سبحانه يتناول حكمه الديني الشرعي وحكمه الكوني القدري، والنوعان نافذان في العبد، ماضيان فيه، وهو مقهور تحت الحكمين قد مضيا فيه ونفذا فيه، شاء أم أبى. لكن الحكم الكوني لا يمكنه مخالفته، وأما الديني الشرعي فقد يخالفه.

ولما كان القضاء هو الإتمام والإكمال، وذلك إنما يكون بعد مضيّه ونفوذه؛ قال: «عدل فيّ قضاؤك» أي الحكم الذي أكملته وأتممته ونفذته في عبدك عدل منك فيه. وأما الحكم فهو ما يحكم به سبحانه، وقد يشاء تنفيذه وقد لا ينفذه، فان كان حكمًا دينيًّا فهو ماض في العبد، وإن كان كونيًّا فإن نفذه سبحانه مضي فيه، وإن لم ينفذه اندفع عنه. فهو سبحانه يقضي ما يقضى به، وغيرُه قد يقضي بقضاء ويقدّر أمرًا ولا يستطيع تنفيذه. وهو سبحانه يقضي ويمضي، فله القضاء والإمضاء.

وقوله: «عدل فيّ قضاؤك» يتضمن جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه، من صحة وسقم، وغنىً وفقر، ولذة وألم، وحياة وموت، وعقوبة وتجاوز وغير ذلك، قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم) وقال: (وان تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فان الانسان كفور) [الشورى: ٤٨] فكل ما يقضي به على العبد فهو عدل فيه.

وقوله: «أسألك بكل اسم هو لك..» إلى آخره. توسّل إليه بأسمائه كلها ما علم العبد منها وما لم يعلم. وهذه أحب الوسائل إليه، فإنها وسيلة بصفاته وأفعاله التي هي مدلول أسمائه.

بارك الله لي ولكم في القرآن..

............

الخطبة الثانية

الحمد لله..

عباد الله: أما قوله صلى الله عليه وسلم: «أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري» الربيع هو المطر الذي يحيى الأرض، شبّه القرآن به لحياة القلوب به، وكذلك شبهه الله بالمطر، وجمع بين الماء الذى تحصل به الحياة والنور الذى تحصل به الاضاءة والاشراق، كما جمع بينهما سبحانه في قوله: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما توقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله) وفى قوله: (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم) ثم قال: (أو كصيب من السماء) وفي قوله: (الله نور السموات والارض مثل نوره) ..الآية. ثم قال: (ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه).. الآية.

 فتضمن الدعاءُ أن يحييَ قلبه بربيع القرآن، وأن ينوّر به صدره، فتجتمع له الحياة والنور، قال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) [الأنعام: ١٢٢].

ولما كان الصدر أوسعُ من القلب كان النور الحاصل له يسري منه إلى القلب، لأنه قد حصل لما هو أوسع منه. ولمّا كانت حياة البدن والجوارح كلها بحياة القلب تسري الحياة منه إلى الصدر ثم إلى الجوارح سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادتها. ولمّا كان الحزن والهمّ والغمّ يضاد حياة القلب واستنارته سأل أن يكون ذهابها بالقرآن، فإنها أحرى أن لا تعود. وأما إذا ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد فإنها تعود بذهاب ذلك.

والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماض أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل أحدث الهم، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم»([3]).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «من رغب في السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية»([4]) فالسعادة الأبدية الدائمة التي لا تنقطع في الدنيا والآخرة هي في لزوم عتبة العبودية، ولزوم عتبة العبودية تحصل للعبد بكمال الذل لله جل وعلا، وغاية الحب له سبحانه وتعالى.

ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، لا في ليل ولا في نهار، ولا في يقظة ولا في منام، ولا في صحة ولا في مرض واعتلال، ولا في غنى ولا في افتقار، فالعبد مفتقر إلى الله جل وعلا فقرًا ذاتيًا لا يمكن أن ينفك عنه، لكن الناس يغفلون ويظنون أنهم أغنياء عن الله عز وجل بما مكنهم، والإنسان إذا بُلي بداء الاغتناء وشعر أنه غني عن الله عز وجل حصل منه شر عظيم، كما قال تعالى: { كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } [العلق: ٦، ٧]، يعني: إذا رأى غنى نفسه عن الله، لكن مادام يرى فقر نفسه إلى ربه جل وعلا فإنه لا يمكن أن يصيبه الطغيان والخروج عن مقتضى العبودية. قال الطحاوي رحمه الله: «ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين» والحين: الهلاك»([5]).

اللهم صل على محمد...

 



([1])  أحمد (3712) وصححه أحمد شاكر.

([2])  أي استحضرها بقلبه، واستشعرته نفسه، وقوي فيه تفكّره وتذكّره.

([3])  الفوائد لابن القيم (1/22 - 97) بانتقاء وتصرف.

([4])  الفتاوى (1/39).

([5])  شرح العقيدة الطحاوية. المصلح (20/ 4).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق