إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (5) (تدبر القرآن العظيم)

 

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (5) (تدبر القرآن العظيم)

الحمد لله شرح صدور المؤمنين فانقادوا لطاعته، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم.. فلم يجدوا حرجا في الاحتكام إلى شريعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد عباد الرحمن: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أن من أعظم وسائل تحصيل الخير والظفر بتحقيق الافتقار إلى الغني البر الكريم وغنيمة رضوانه تدبر القرآن العظيم.

لقد رحم الله هذه الأمة فأنزل لها كلامه يتلى في صدورها وعلى ألسنها هدى ونورًا، وأمرهم أن يتلوه ويتدبروه ويقيموا حدوده، فالخير والهدى بحذافيره في القرآن، ومن رام بركة عمره وخالص علمه ومتين فقهه وحياة قلبه فليعمر وقته بالقرآن. وعلى قدر أخذه بحظه من القرآن تلاوة وتدبًّرا وعملًا يكون حظ روحه وقلبه وزكاء نفسه ورفعته.

وتدبرِ القرآن إن رمت الهدى

 

فالعلم تحت تدبر القرآنِ

«واعلم أن قوة الدين وكمال الإيمان واليقين لا يحصلان إلا بكثرة قراءة القرآن واستماعه، مع التدبر بنيّة الاهتداء به والعمل بأمره ونهيه. فالإيمان الإذعاني الصحيح يزداد ويقوى وتترتب عليه آثاره من الأعمال الصالحة وترك المعاصي والفساد بقدر تدبر القرآن، وينقص ويضعف على هذه النسبة من ترك تدبره. وما آمن أكثر العرب إلا بسماعه وفهمه، ولا فتحوا الأقطار، ومصروا الأمصار، واتسع عمرانهم، وعظم سلطانهم، إلا بتأثير هدايته. وما كان الجاحدون المعاندون من زعماء مكة يجاهدون النبي ﷺ ويصدونه عن تبليغ دعوة ربه إلا بمنعه من قراءة القرآن على الناس: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) [فصلت: ٢٦] وما ضعف الإسلام منذ القرون الوسطى حتى زال أكثر ملكه إلا بهجر تدبر القرآن وجعله كالرقى والتعاويذ التي تتخذ للتبرك أو لشفاء أمراض الأبدان، وجلّ فائدة الصلاة ــ وهي عماد الدين ــ بتلاوة القرآن مع التدبر والتخشع»([1]).

عباد الرحمن: من وسائل الافتقار: الاعتراف بظلم النفس.

ذلك أن الإنسان بطبيعة خلقه ظلوم جهول، فلا بد له من المكابدة والمكافحة لاستنقاذ نفسه من استلاب الطبع الظالم والغريزة الجهول. «والمحرمات في الشريعة ترجع إلى الظلم إما في حق الله تعالى، وإما في حق العبد، وإما في حقوق العباد. وكلما كان ظلمًا في حق العباد فهو ظلم العبد لنفسه ولا ينعكس، فجميع الذنوب تدخل في ظلم العبد نفسه.

وأول من اعترف بهذا أبو البشر لما تلقى من ربه الكلمات فقال: : ( ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) فكان في هذه الكلمات اعترافه بذنبه، وطلبه ربه على وجه الافتقار المغفرة والرحمة. فالمغفرة إزالة السيئات، والرحمة إنزال الخيرات. فهذا ظلم لنفسه، ليس فيه ظلم لغيره.

 وقال موسى عليه السلام لما ذكر الذي هو من عدوه: ( فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب انى ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له) فاعترف بظلمه نفسه فيما كان من جناية على غيره لم يؤمر بها. وقال يونس عليه السلام: { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) [الأنبياء: ٨٧].

وفي الصحيح الدعاء الذي علمه النبي ﷺ أبا بكر أن يدعو به في صلاته: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم»([2]) فهذا الدعاء مطابق لدعاء آدم في الاعتراف بظلم النفس ومسألة المغفرة والرحمة.

وكان النبي ﷺ إذا استوى على الدابة فحمد وسبح وكبر قال: «لا إله الا أنت سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي. ثم يضحك» وهو محفوظ من حديث على بن أبى طالب([3]).

وإذا كان كذلك؛ فالظلم نوعان: تفريط في الحق، وتعدٍّ للحد، فان ترك الواجب ظلم، كما أن فعل المحرم ظلم، قال النبي ﷺ: «مطل الغني ظلم» متفق عليه([4]) فأخبر أن المطل وهو تأخير الوفاء ظلم فكيف بتركه، هذا وإن أداء الواجب أعظم من ترك المحرم، والطاعات الوجودية أعظم من الطاعات العدمية([5])، فيكون جنس الظلم بترك الحقوق الواجبة أعظم من جنس الظلم بتعدي الحدود.

أيضًا فإن الورع المشروع هو أداء الواجب وترك المحرم، ليس هو ترك المحرم فقط. وكذلك التقوى اسم لأداء الواجبات وترك المحرمات، كما بين الله حدّها في قوله: { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } إلى قوله: { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } [البقرة: ١٧٧]»([6]).

معاشر الحنفاء: ومن طرق تحصيل الافتقار: التوبة النصوح المتكررة.

سواءً وافقت نقصًا في واجب أو ارتكاسًا في خطيئة، فالعبد يعلم أنه مهما قرّب وتعبّد فعبادته ليست لائقة بحق ربه ولا كافية في نجاته، فهو يجدّ ويستغفر، ويذنب ويستغفر، فلا ينفك في حركاته وسكناته من لبوس التوبة ودثار الاستغفار.

وقلبُ المؤمن كالنعجة السليمة ترعى الربيع المختلط بأنواع الزهور، وتتغذى بما يصحّ جسمها ويغذوه وينبته، والعقل معها كالراعي القوي الأمين، فهو يحرسها من نفسها بأن ينصح لها المرعى الطيب والغذاء النافع، ويداويها عند اعتلالها، ومن غيرها بأن يحميها من غوائل المفترسات، وفي المرعى ثلاثة ذئاب يرومون صيدها وافتراسها، أصغرهم هو ذئب القوة الشهوانية، يليه ذئب القوة الغضبية، وفوقهما ذئب الشبهات. فلربما غفل الراعي هنيهة فاكتنفها أحدهم فجرحها وأدماها فاحتاجت لعلاج على قدر جرحها، ولربما افترسها وأهلكها! والعاقل يعتبر بما يرى ويسمع ويبصر.

وتوبة المؤمن من ذنوبه هي ساق قوّته التي لا قيام له بدونها، فرسول الهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه كان يتوب إلى الله ويستغفره في اليوم أكثر من مئة مرّة، وقد أنزل الله عليه خِلعة البشارة والرضى بقوله العزيز (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) فإن كان هذا حال العبد التائب الشكور صلى الله عليه وسلم فما بال من سواه؟! فما ثمّ إلا تائب أو ظالم فربنا جل وعز يقول: (ومن لم يتب فؤلئك هم الظالمون) ومرقاة فلاح المؤمن توبته النصوح ويقول: (وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) [النور: ٣١].

ومن أسرف على نفسه بالعصيان ثم أقبل تائبًا منيبًا فليحرص على حراسة جذوة إيمان التوبة في قلبه، فهي كالزرع الصغير الضعيف المحتاج إلى غذاء وحراسة، فذئب الإنسان ــ وهو الشيطان ــ حريص على اقتلاع تلك النبتة حال ضعفها وصغرها قبل أن تستتم شجرة عظمى، ليخلو له القلب فيأكله حتى يختلط بدمه وعصبه فيحل عليه الفساد لخلوّه من مادة الصلاح وهي الإيمان.

وهذا الشيطان الرجيم شديد المكر طويل العُمْرِ طويل البال في الإفتان، فيلقي للمرء طُعمًا من حطام الفانية ليسد به رمق شهوته الخاطئة، كالحبة في الفخ والطُّعم في السنّارة، حتى إذا ابتلعها أفسدت قلبه، فإن وُفِّق لتوبة لعلاجه وإلا خيف عليه ازدياد الفساد والظلمة وانحسار الصلاح والنور، حتى يوافي ربه بقلب قاسٍ مثقل بأوزاره، فهو بين عفو الله أو صلوّ النار التي تخرج مادة الفساد وتليّن القسوة، فإن كان فيه بصيص نور توحيد وصلاة فمآله للجنة بعد حين لا يعلمه إلا الله، وإلا فخلود الأبد، عياذًا بوجه الرحمن من موجبات سخطه، فالجنة هي دار القلوب السليمة اللينة لا الفاسدة القاسية، وهي ملتقى المقربين والأبرار لا الفسقة الفجار.

بارك الله لي ولكم...

..............

الخطبة الثانية

الحمد لله...

عباد الله: ومن طرق تحصيل الافتقار: الاعتراف بالذنب، وأن لا يخرج من بيته وهو يظن إن مسلمًا دونه منزلة.

فلعل هناك خبيئة صلاح في ذلك المسلم، أو سريرة سوء في ذلك المتعالي، أو خاتمةٌ بخلاف الظاهر الآن! فالإزراء بالنفس سبيل علوّها عند ربها، وتعظيمها طريق خفضها، واعتبر ذينك الأمرين بحال الأبوين وإبليس. والله المستعان.

قال ابن القيم في شأن من يظن صلاحه أجود من غيره، فيشمت بالمذنب: «وأيضا ففي التعيير ضرب خفىّ من الشماتة بالمعيَّر، وفي الأثر: «لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك»([7]).

ويحتمل أن يريد: أن تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثمًا من ذنبه وأشد من معصيته، لما فيه من صولة الطاعة، وتزكية النفس، وشكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب، وأن أخاك باء به.

ولعل كسرته بذنبه، وما أحدث له من الذلة والخضوع والإزراء على نفسه، والتخلص من مرض الدعوى والكبر والعجب، ووقوفه بين يدي الله ناكس الرأس خاشع الطرف منكسر القلب؛ أنفعُ له وخيرٌ من صولة طاعتك، وتكثّرك بها، والاعتداد بها، والمنّة على الله وخلقه بها.

فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله، وما أقرب هذا المدلّ من مقت الله. فذنب تَذِلُّ به لديه أحب إليه من طاعة تُدِلُّ بها عليه، وإنك أن تبيت نائمًا وتصبح نادمًا، خير من أن تبيت قائمًا وتصبح معجبًا، فإن المعجب لا يصعد له عمل. وإنك أن تضحك وأنت معترف، خير من أن تبكي وأنت مدلّ. وأنينُ المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المدلّين. ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داء قاتلا هو فيك ولا تشعر!

فلله في أهل طاعته ومعصيته أسرارٌ لا يعلمها إلا هو، ولا يطالعها إلا أهل البصائر، فيعرفون منها بقدر ما تناله معارف البشر، ووراء ذلك مالا يطلع عليه الكرام الكاتبون. وقد قال النبي ﷺ: «إذا زنت أمة أحدكم فليقم عليها الحد ولا يثرّب»([8]) أي: لا يُعيّر. من قول يوسف عليه السلام لإخوته: ﴿لا تثريب عليكم اليوم [يوسف: ٩٢] فإن الميزان بيد الله، والحكم لله. فالسوط الذي ضرب به هذا العاصي بيد مقلب القلوب، والقصد إقامة الحد لا التعيير والتثريب.

ولا يأمن كرّات القدر وسطوته إلا أهل الجهل بالله، وقد قال الله تعالى لأعلمِ الخلق به، وأقربهم إليه وسيلة: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) وقال يوسف الصديق: (وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) [يوسف: ٣٣] وكانت عامة يمين رسول الله: «لا ومقلب القلوب»([9]) وقال: «ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه» ثم قال: «اللهم مقلب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك، اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك»([10])([11]).

عباد الرحمن: «لقد ضاقت ايام الموسم فأسرعوا بالإبل لا تفتكم الوقفة. لا تحد وما لك بعير، ولا تمد القوس وما لها وتر.

كم بذل نفسه مراء ليمدحه الخلق؛ فذهبت نفسه فانقلب المدح ذمًّا، ولو بذلها لله لبقيت ما بقي الدهر. وعمل المرائي بصلَةٌ كلها قشور، والمرائي يحشو جراب الزوادة رملًا يثقله في الطريق وما ينفعه.

ولما أخذ دود القز ينسج، أقبلت العنكبوت تتشبه به، وقالت: لك نسج ولي نسج. فقالت دودة القز: ولكن نسيجي أردية الملوك، ونسجك شبكة الذباب، وعند مسّ النسج يتبين الفرق.

إذا اشتبكت دموع في خدود

 

تبين من بكا ممن تباكا

شجرة الصنوبر تثمر في ثلاثين سنه، وشجرة الدباء تصعد في أسبوعين، فتقول للصنوبرة: إن الطريق التي قطعتها في ثلاثين سنة؛ قطعتها في أسبوعين، ويقال لي: شجرة، ولك: شجرة. فقالت لها الصنوبرة: مهلًا، حتى تهب رياح الخريف، فإن ثبتِّ لها تَمَّ فخرُك.

فغير زيّك أيها المرائي، فإنه يصبح بك: خذوني!»([12]).

اللهم صل على محمد...

 



([1])  تفسير المنار (9/ 463).

([2])  البخاري (1/211) ومسلم (8/74).

([3])  بنحوه عند أبي داود (3/34) والترمذي (3/156) والمسند (2/183) وصححه أحمد شاكر.

([4])  البخاري (2287) ومسلم (1564).

([5])  أي من حيث الجنس، وهي مسألة خلافية ولها ذيول.

([6])  كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه (29/ 279- 280) بتصرف يسير.

([7])  الترمذي (2506) وقال: حديث حسن غريب. وحسنه السيوطي في الجامع الصغير (119) والزرقاني في مختصر المقاصد (1184) ووثق رجاله الأرناؤوط في تخريج رياض الصالحين (1577) وحكم بوضعه ابن الجوزي في الموضوعات (3/528) وضعفه الألباني في الضعيفة (5426).

([8])  البخاري (2152)، ومسلم (1703) بلفظ: «إذا زنت أمة أحدكم، فتبين زناها، فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة، فتبين زناها، فليبعها ولو بحبل من شعر».

([9])  البخاري (6628).

([10]) مسلم (8/51) (2654) خلا جملة: «اللهم مقلب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك» فهي عند أحمد (17630) بسند صحيح.

([11]) مدارج السالكين (1/177 - 178).

([12]) بدائع الفوائد (3/ 756).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق