إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 8 نوفمبر 2013

"وإنك لعلى خلق عظيم" (2)

"وإنك لعلى خلق عظيم" (2)
4/1/1435
اللهم لك الحمد, وإليك المشتكى, وأنت المستعان, وبك المستغاث, وعليك التكلان, ولا حول ولا قوة إلا بك. اللهم لك الحمد كلّه, أوله وآخره, علانيته وسره, حق أنت أن تحمد, وأنت للحمد أهل, حق أنت أن تُعبد, لا إله إلا أنت, وأنت على كل شيء قدير. هديتنا للإسلام, ووفقتنا للسنة, وأنزلت إلينا خير كتبك, وأرسلت إلينا خير رسلك, وجعلتنا من خير أمة أخرجت للناس. فلك الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً, ولك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وخليله وكليمه ومصطفاه وخيرته من خلقه, صاحب الجبين الأنور والوجه الأزهر, خيرُ من وطء الثرى, وركب الذّرى, وتسنّم المراتب العُلى. خيرُ المرسلين, وسيدُ ولد آدم أجمعين, وقائدُ الغرّ المحجلين, كلّ بني الإنسان تحت لواء حمده يوم القيامة, آدم ومن دونه, صاحبُ الحوضِ المورود, والمقامِ المحمود, والشفاعةِ العظمى التي يغبطه عليها الأنبياء. بلّغ وبشّر وأنذر, ووعد وأوعد من ربه وحذّر, ترك أمته على الصراط المستقيم, الذي لا يضل عنه إلا المخذول, ولا يتنكب محجّته سوى المحروم, ولا يوفق لهدايته إلا المرحوم. جعلني الله ووالدينا والمسلمين من حزبه المفلحين, وأتباعه المسددين, وآمن فزعنا يوم الدين, وآتانا صحفنا غداً باليمين, آمين يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا رب العالمين. اللهم صلّ وسلم, وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فإن الله ابتعث محمداً صلى الله عليه وسلم بدين كامل, وشريعة تامة, فكان أعلم الخلق, وأفصح الخلق, وأنصح الخلق للخلق, صلى الله عليه وسلم, ثم لم يقبضه إليه حتى رضي عن بلاغه الوافي, وبيانه الشافي, فكانت الأمة بعده على الصراط المستقيم, والمهيع القويم, لا تضل هداتها عن سنته, ولا تزيغ بصائرهم عن شرعته, أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله..
...أما رحمته صلى الله عليه وسلم فقد أودعها الله قلبه حتى فاضت على الناس والحيوان، فقد وسعهم قلبه الرحيم، ويكفيه وصف الله تعالى له: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" [الأنبياء: 107]، فهي رحمة عامة بجميع الخلق، ثم وهبه الله رحمة أخرى خاصة بالمؤمنين "بالمؤمنين رؤوف رحيم" [التوبة: 128] فمن ذلك أن ملك الجبال لما استأذنه في إطباق جبلي مكة على أهلها الذين كذبوه وشتموه وآذوه فكانت رحمته بهم هي جزاؤه لهم فقال للملك: «لا، بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا»
وقال لعائشة رضي الله عنها لما أتعبت جملها لتروّضه: «يا عائشة عليك بالرفق» ورقّ قلبه لطائر الحمّرة حين جاءت ترفرف على رأسه وعلى رؤوس أصحابه فقال بكل رحمة: «أيكم فجع هذه؟» فقال رجل من القوم: أنا أخذت بيضها. فقال: «ردّه رحمة لها» وقال للمرأة التي نذرت أن تنحر الناقة التي نجت عليها من أسرها: «بئس ما جزيتيها بعد أن نجاك الله بها» ونهاها عن نحرها.
وقد علمت البهائم واستشعرت رحمته بها, فشكت إليه شدة أهلها عليها كما في البعير الذي شكى إليه فقال: «إنه يشتكي إلي كثرة العمل وقلة العلف فأحسنوا إليه»، ولما اشتكى له بعير آخر اشتراه وسيّبه في الشجر حتى نبت له سنام، وأوصى بالرفق بالحيوان فقال: «اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة واتركوها صالحة»
ولما هاج جمل لأحد الأنصار ودخل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أقبل إليه الجمل وحنّ وذرفت عيناه، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم رأسه وذفريه, فسكن، ثم نادى صاحب الجمل وقال: «ألا تتقي الله ف يهذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنما شكى إلي أنك تجيعه وتدئبه» ولما تعجب الناس من خضوع البهائم له وشكواها إليه قال: «إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله، إلا عاصي الجن والإنس»
وكان يقول: «دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض» وقال: «في كل ذات كبد رطبة أجر» وأخبر أن بغيًّا غفر الله لها بسبب رحمتها بكلب سقته كان يأكل الثرى من العطش. وحتى في ذبح الحيوان أوصى بالرفق فقال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» ونهر الذي يري الشاة السكين قبل ذبحها وقال: «أتريد أن تميتها موتات»، ونهى أن تذبح البهيمة وأختها تنظر إليها.
وقال له رجل: يا رسول الله، إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها. فقال صلى الله عليه وسلم: «والشاة إن رحمتها رحمك الله» ونهى عن التحريش بين البهائم. بل حتى النبات كان ينهى عن إفساده وقطعه وتحريقه، ويؤكد على جيوشه بالامتناع عن ذلك.
كلُّ هذا قبل وجود جمعيات الخضر والرفق بالحيوان وحقوق الإنسان والمرأة والطفل واليتيم والأقليات ونحوها، فصلى الله وسلم وبارك على من امتلأ قلبه بالرحمة والرأفة والمحبة، وكان ينهى عن قتل الشيوخ وكبار السن والنساء والأطفال والمنعزلين في الصوامع للعبادة، وإنما يقتل من قاتل أو حال بين دين الله وإبلاغه من خلفه من الناس، ولما رأى امرأة من أعدائه مقتولة بعد إحدى المعارك غضب وأنكر ذلك وقال: «ألم أنهكم عن قتل النساء؟!» ولما اغتال وحشي بن حرب عمه حمزة بن عبد المطلب وتسبب في التمثيل به وقطع جثته وبتر بعض أعضائه، فما كان منه بعد إسلام وحشي إلا أن اكتفى بقوله: «ويحك يا وحشي غيّب عني وجهك فلا أرينك بعد اليوم» لقد كانت رحمته متميزة كمًّا وكيفًا، وكان يخشى على الكفار عذاب الله ويرحمهم لذا كان حريصًا على هدايتهم أقصى طاقته.
وقد أثرت عنه كثير من الوصايا في الدعوة إلى الله باللين والإحسان والصبر على الأذى في ذلك، وكان يقول: «والله لئن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم». وقد بكى ليلة حتى الصباح وهو يردد قول المسيح ابن مريم عليه السلام الذي ذكره الله في القرآن الكريم أنه سيقول يوم القيامة لرب العالمين: "إن تعذبهم فهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" [المائدة: 118]، فكان يبكي ويقول: «اللهم أمتي، اللهم أمتي»
ولما أعطاه الله تعالى دعوة مستجابة كسائر الأنبياء لم يستعجلها في الدنيا بل ادخرها ليوم القيامة شفاعة لمن لم يشرك بالله من أمته، وقد وصفه الله تعالى بأرق وصف وأجمل نعت حين قال: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم"[التوبة: 128]، وكان عظيم الرحمة والرأفة بالأطفال، ولما مات ابنه الصغير إبراهيم حمله وعيناه تدمعان وهو يقول: «إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون» ولما احتضر ابن إحدى بناته حمله في حجره ونفسه تقعقع وتتحشرج، فدمعت عينا نبي الله صلى الله عليه وسلم رحمة بالصغير من سكرات الموت. ولما قعد على شفير قبر إحدى بناته وهي تُدفن كانت عيناه تدمعان.
ولما ماتت ابنته زينب، وكان لها بنت صغيرة ــ اسمها أمامة ــ رقّ لها جدًا, وكان يحملها على عاتقه ويلاطفها، بل كان يصلي بالناس في المسجد وهو يحملها، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها على عاتقه. وكان يخفف الصلاة إذا سمع بكاء الصبي رحمة به وبأمه. وكان يقول: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». «من لا يرحم لا يُرحم» «الراحمون يرحمهم الرحمن»، «لا تنزع الرحمة إلا من شقي» وكان رحيمًا بالبشرية كلها خائفًا عليها عذاب الله وعذابه يوم القيامة، فلم يترك وسيلة إلا طرقها لهدايتهم وإنقاذهم من الهلكات, حتى شبه نفسه معهم بمن يحجز الفَرَاشَ عن النار وهي تقتحم فيها وتعجزه.
أما وفاؤه فله المنتهى وهو بحق سيد الأوفياء، فكان يفي بالوعد، ولا ينسى حسن العهد، وقد وعد رجلاً في مكان قبل أن يُبعث فوقف ينتظره ثلاثة أيام، فلما حضر لم يعنفه إنما اكتفى بقوله: «يا فتى لقد شققت علي أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك»
وكان يلقب بالصادق الأمين قبل البعثة، وكان الناس يودعون عنده نفائس أموالهم وودائعهم ليقينهم بوفائه وأمانته، ولما ماتت زوجه خديجة رضي الله عنها كان يتعاهد صديقاتها بالهدايا وفاءً لحسن عهدها وطيب ذكراها، فكان إذا أُتي بهدية قال: «اذهبوا بها إلى بيت فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحب خديجة» وهذا مثال معدوم تقريبًا في واقع الناس، لكنه الوفاء العميق النبيل. وكانت عائشة تقول: ما غرت من خديجة لما كنت أسمعه يذكرها، وإن كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها. واستأذنت علي أختها هالة فارتاح إليها وسألها عن حالها وحال أهلها، ويقول: «كيف أنتم بعدنا؟». وكان صوتها يشبه صوت أختها الراحلة، ودخلت عليه امرأة فهش لها وبش وأحسن السؤال عنها، فلما خرجت قال: «إنها كانت تأتينا أيام خديجة وإن حسن العهد من الإيمان»، وهذه رسالة عمليّة منه إلى كل امرأة ظنت أن الإسلام يحتقر المرأة أو يهضم حقها، فهذا نبي الأمة بقوله وبفعله يكرمها ويرفع قدرها صلى الله عليه وسلم.
ولم ينس هذا النبي الوفي قدماء أصحابه فحينما أغضب الناس أبا بكر رضي الله عنه زجرهم بقوله: «هل أنتم تاركون لي صاحبي» ولما سبّ بعضهم صاحبه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: «لا تسبوا أصحابي» فصلى الله وسلم وبارك على صاحب هذا القلب الكبير والروح النبيلة والوفاء العزيز.
أما صلته رحمه وقرابته؛ فكان واصلاً لهم تمام الصلة حتى وإن قابلوا ذلك بالقطيعة والعداوة، ولا يمنع من ذلك كون قرابتهم بعيدة، كما قال في بعض أرحامه حال شركهم وعداوتهم وحربهم له: «إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي غير أن لهم رحمًا سأبلها ببلالها»، أي سأصلها. ولما قدمت عليه أمه من الرضاعة هش لها وأحسن استقبالها وبسط رداءه في الأرض لها، وكان يبعث إلى ثويبة مرضعته بصلة وكسوة فلما ماتت سأل: «من بقي من قرابتها؟» حتى يصلهم بعدها، فقيل له: لا أحد. بل لم ينس أهل مصر حين أوصى المسلمين بهم خيرًا إذا فتحوها لأن لهم رحمًا، وهي هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام حتى قال أهل مصر: والله ما وصل هذه الرحم البعيدة إلا نبي صلوات الله وسلامه عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

الخطبة الثانية:
....أما كمال خَلْقِ وجمال صورته وتناسق خلقته صلوات الله وسلامه عليه؛ فقد صوّره الله تعالى في صورة الجمال والبهاء والجلال، قال البراء بن عازب رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم خَلْقًا، ليس بالطويل الذاهب ولا بالقصير» وقال: «كان بعيد ما بين المنكبين، عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه، عليه حلّة حمراء، ما رأيت شيئًا قط أحسن منه»، ولما سئل: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: «لا، بل مثل القمر» وقال كعب بن مالك رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه فلقة قمر»، وقال أنس رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم الرأس والقدمين، لم أر مثله ولا بعده مثله، وكان بَسِطَ الكفين، ضخم اليدين» ومعنى بَسِطَ الكفين: ليّنهما. وقال جابر بن سمرة رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم, أشكل العينين، منهوس العقبين» أي واسع الفم، طويل شق العين، قليل لحم العقب.
وقال أنس رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم، ولا بالجعد القطِط ولا بالسَّبط» أي ليس لون جلده شديد البياض الذي لا تـخالطه حمرة ولا بالأسمر، وليس شعره شديد الجعودة ولا شديد الانبساط، وقال أنس كذلك: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون (أي أبيض مستنير، وهو أحسن الألوان.)، كأن عرقه اللؤلؤ (أي من الصفاء)
إذا مشى تكفّأ (أي يتمايل قليلاً إلى الأمام وليس في مشيته تبختر كمشية المتكبرين ولا بارتـخاء وتمطي كمشية الكسالى) وما مسست ديباجة ولا حريرًا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شَممت مسكًا ولا عنبرًا أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم»
وقد وصفته أم معبد الخزاعية رض الله عنها وصفًا مفصلاً كما قيل: أحسن من يصف الرجل هن النساء، فقالت: «إنه رجل ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه (أي أبيض واضح ما بين الحاجبين كأنه يضيء من صفائه)، حسن الخِلقة، لم تُزْرِ به صِعلة(أي لم يُعيّبه صغر في رأس، ولا نحول في بدن.)، ولم تعبه ثجلة ( والثجلة هي ضخامة البطن.)، وسيمًا قسيمًا (أي واضح الملامح غير متداخل الأعضاء، ظاهر الجمال) ، في عينيه دَعَج (أي شديد سواد العين وشديد بياضها)، وفي أشفاره عطف (أي طويل أهداب العينين.)، وفي عنقه سَطَع ( أي طويل العنق.)، وفي صوته صَحَل ( أي بحَّة خفيفة وهي من جمال الصوت.)، وفي لحيته كثافة، أحور ( أي واسع العينين.)، أزجّ ( أي متقوس الحواجب مع طول وامتداد.)، أقرن (أي متصل الحواجب)، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلّم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأجمله من قريب، حلو المنطق، فصل لا نَزَرَ ولا هَذَرَ ( أي تام البلاغة بلا إيجاز مخل ولا إطناب ممل) وكأن منطقه خرزات نظم تنحدر، رَبْعةٌ لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه العين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظرًا...»
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته، وأمته من آياته، وعلم أمته ودينهم من آياته، وكرامات صالح أمته من آياته، وذلك يظهر بتدبر سيرته من حين ولد إلى أن بعث، ومن حين بعث إلى أن مات، وتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله، فإنه كان أشرف أهل الأرض نسبًا، من صميم سلالة إبراهيم، الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، فلم يأت نبي بعد إبراهيم إلا من ذريته، وجعل له ابنيه إسماعيل وإسحاق وذكرهما في التوراة، وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل، ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهر فيما بشرت به النبوات غيره، ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولاً منهم، ثم من قريش صفوة بني إسماعيل ثم من بني هاشم صفوة قريش، ومن مكة أم القرى، وبلد البيت الذي بناه إبراهيم، ودعا الناس لحجه، ولم يزل محجوجًا من عهد إبراهيم مذكورًا في كتب الأنبياء بأحسن وصف.
وكان محمد صلى الله عليه وسلم أكمل الناس تربية ونشأة، لم يزل معروفًا بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق، وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم، شهودًا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة، وممن آمن به وممن كفر به بعد النبوة، لا يُعرف له شيء يُعاب به، لا في أقواله ولا في أفعاله ولا في أخلاقه، ولا جُرّب عليه كذب قط، ولا ظلم ولا فاحشة.
وكان خَلْقُه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله، وكان أميًا من قوم أميين، لا يعرف لا هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب: التوراة والإنجيل، ولم يقرأ شيئًا من علوم الناس، ولا جالس أهلها، ولم يدّع نبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة، فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها، وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره، وأخبرنا بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثله.
ثم اتبعه أتباع الأنبياء، وهم ضعفاء الناس، وكذّبه أهل الرياسة وعادوه وسعوا في هلاكه وهلاك من اتبعه بكل طريق، كما كان الكفار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم، والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة في الدنيا ولا لرهبة، فإن لم يكن عنده مال يعطيهم، ولا جهات يوليهم إياها، ولا كان له سيف، بل كان السيف والمال والجاه مع أعدائه، وقد آذوا أتباعه بأنواع الأذى وهم صابرون محتسبون، لا يرتدون عن دينهم لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة.
وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم، فتجتمع في الموسم قبائل العرب، فيخرج إليهم فيبلغهم الرسالة، ويدعوهم إلى الله صابرًا على ما يلقاه من تكذيب المكذب، وجفاء الجافي، وإعراض المعرض، إلى أن اجتمع بأهل يثرب، وكانوا جيران اليهود، وقد سمعوا أخبارهم منهم، وعرفوه، فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الذي تـخبرهم به اليهود، وكانوا قد سمعوا من أخباره ما عرفوا به مكانته، فإن أمره قد انتشر وظهر في بضع عشرة سنة، فآمنوا به وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم، وعلى الجهاد معه، فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة، وبها المهاجرون والأنصار، ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية ولا برهبة إلا قليلاً من الأنصار أسلموا في الظاهر ثم حسن إسلام بعضهم، ثم أُذن له في الجهاد ثم أُمر به، ولم يزل قائمًا بأمر الله على أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء، لا يحفظ له كذبة واحدة، ولا ظلم لأحد، ولا غدر بأحد، بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأوفاهم بالعهد، مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم، وأمن وخوف، وغنى وفقر، وقلة وكثرة، وظهور على العدو تارة، وظهور العدو عليه تارة، وهو على ذلك لازم لأكمل الطرق وأتمها، حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة بعبادة الأوثان، ومن أخبار الكهان، ومن طاعة المخلوق في الكفر بالخالق، وسفك الدماء المحرمة، وقطيعة الأرحام، لا يعرفون آخرة ولا معادًا، فصاروا أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم، حتى أن النصارى لما رأوهم حين قدموا الشام قالوا: ما كان الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء. وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض وآثار غيرهم، يعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين.
وهو صلى الله عليه وسلم مع ظهوره وطاعة الخلق له وتقديمهم له على الأنفس والأموال، مات صلوات الله وسلامه عليه ولم يخلّف درهمًا ولا دينارًا، ولا شاة ولا بعيرًا له، إلا بغلته وسلاحه، ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير ابتاعها لأهله، وكان بيده عقار ينفق منه على أهله والباقي يصرفه في مصالح المسلمين، فحكمَ بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته شيئًا من ذلك»
اللهم صل على محمد...

"وإنك لعلى خلق عظيم" (1)

"وإنك لعلى خلق عظيم" (1)
27/12/1434
الحمد لله رب العالمين, ولا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإنا إليه راجعون, وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على خير رُوحٍ وأزكى نفْسٍ, خاتم الأنبياء والمرسلين, وقائد الغر المحجلين, يكفيه أنه أحب الناس إلى الله, وكفى بها فخراً وعزّاً وشرفاً.
ورضي الله عن أبي الوليد إذ قال:
وَأَحْسَنُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِيِ ... وَأَجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ
خُلِقْتَ مُبَرَّأً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ ... كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ
لَنَبِيُنا _معاشر الموحِّدين_ دُرَّةُ التاج الإنساني, وفَصُّ الخاتم البشري, صلى الله وسلم وبارك عليه وجزاه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.
فلا حب بعد الله كحب هذا الإنسان الكامل التام الجميل الجليل صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والذي نفسي بيده, لو سُطِرت جلود المؤمنين صحائفاً ورقمت بدمائهم تحبيراً؛ ما وفوا معشار ما في قلوبهم من محبته, فقد بعثه الله بالنور الذي ملأ الخافقين ضياءً وسناءً وهدىً ورشاداً, وهو السبب في نجاتهم وفلاحهم وفوزهم, وعتق رقابهم من نار الجبار وغضبه. أما بعد معشر الموحدين:
فاتقوا الله حق تقاته, واستمسكوا بالعروة الوثقى من الدين, وأخلصوا ولا تخلّطوا, واتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
عباد الله: يكفي نبيّنا صلى الله عليه وسلم مدح الله تعالى له وتزكيته بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم" [القلم: 4]؛ فالأخلاق الجميلة بحذافيرها قد استوعبها وتـخلق بها بشكل عفوي وبدون تكلّف، وحيثما تأملت في خلق نبيل وجدت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيه أعلى المنازل، لذلك أوصى الله تعالى عباده بالتأسي به: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر" [الأحزاب: 21]، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» والكمال المحمدي ضربان:
الأول: خاص به ولن يكون لغيره من بعده, كاصطفائه بالنبوة والرسالة وتلقي الوحي الإلهي.
الثاني: أُمِرَ الناسُ بالاقتداء به فيه, لأنه الأنموذج الكامل للاقتداء والتأسي.
لقد كان يحث على حسن الخلق ويعد عليه أعظم الأجور «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا» وسئل عن البرّ فقال: «حسن الخلق» وقال: «وخالق الناس بخلق حسن» صلى الله عليه وسلم وبارك.
هذا ومن نماذج حسن خلقه وكريم سجاياه وحميد خصاله الكرم، فقد كان فيه مضرب الأمثال فكان لا يرد سائلاً، وقد سأله رجل حلّة كان يلبسها فأعطاه إياها مع حاجته إليها.
وقال عنه جابر رضي الله عنه: «ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا، وقد أعطى رجلاً غنمًا بين جبلين، فأتى الرجل قومه وقال: يا قوم أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة».
وحُملت إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير فقام فقسمها كلها وما أخذ منها لنفسه شيئًا.
وأعطى العباس من الذهب ما لم يطق حمله، وأعطى معوذ بن عفراء ملء كفه ذهبًا وحليًا لما جاءه بهدية من رطب وقثاء، وكان إذا سئل ولم يكن عنده شيء يقول: «ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاءنا شيء قضيناه» أي اشتر ما تحتاجه على حسابي.
أما الصدق والأمانة فكانا ملتصقين باسمه وبحاله حتى قبل مبعثه فقد كان يلقب في مكة قبل أن يوحى إليه بالصادق الأمين.
أما عن حلمه فهو السيّد فيه بحق، فإنه لما شجّ المشركون وجنتيه وكسروا رباعيته ودخلت حلقتا المغفر في رأسه يوم أحد قال: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
ولما جذبه الأعرابي بردائه الخشن جذبة شديدة حتى أثَّرَت على صفحة عنقه الشريف والأعرابي الجلف يقول بصلف: احمل لي على بعيريّ هذين من مال الله الذي عندك فإنك لا تحمل لي من مالك ولا مال أبيك، فحلم عليه السيد الكريم صلى الله عليه وسلم ولم يزد على قوله: «المال مال الله وأنا عبده، ويُقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي» فقال الأعرابي: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: «لم؟» فقال: لأنك لا تكافئ السيئة بالسيئة. فضحك صلى الله عليه وسلم ثم أمر أن يحمل له على بعير شعيرٍ وعلى آخر تمر. ولم ينتصر لنفسه قط، ولا ضرب خادمًا ولا امرأة ولا طفلاً قط، ولما جاءه زيد بن سعنه ــ أحد أحبار يهود المدينة ــ وجذبه بثوبه وأخذ بمجامع ثيابه، وقال مغلظًا القول له ــ اختبارًاــ: إنكم يا بني عبد المطلب مطلٌ، فانتهره عمر وشدّد عليه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم وقال: «أنا وهو كنا إلى غير هذا أحوج منك يا عمر، تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي»، ثم قال: «لقد بقي من أجله ثلاث» ثم أمر عمر أن يقضيه وأن يزيده عشرين صاعًا لما روّعه، فأسلم الحبر لتحقق النبوءة التي عنده في رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه يسبق حلمه جهله؟ وأن شدة الجهل عليه لا تزيده إلا حلمًا.
أما عفوه فيكفيه أنه لم ينتقم لنفسه قط بل يعفو ويصفح مع كمال قدرته وسلطته، ولما أخذ غورث بن الحارث سيفه وسلّه عليه وقال: من يمنعك مني؟ قال: «الله» فسقط السيف من يد غورث وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «من يمنعك؟» فقال غورث: كن خير آخذ، فتركه وعفا عنه.
ولما دخل المسجد الحرام صبيحة الفتح الأعظم وقف على باب الكعبة وتحته رجالات قريش وصناديد المشركين الذين أهانوه وأحزنوه وقتلوا أصحابه وأخرجوه وهمّوا بقتله مرارًا، وهم ينتظرون حكمه النافذ بعد انتصاره عليهم واستسلامهم له، وقال لهم: «يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟» قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
وحينما سحره لبيد بن الأعصم اليهودي عفا عنه ولم يعاقبه مع قدرته على قتله وصلبه واستحقاقه له.
وحينما تآمر عليه المنافقون في طريق عودته من تبوك إلى المدينة وأرادوا قتله بترديته من شاهق فأنجاه الله منهم عفا عنهم ولم يعاقبهم.
أما عن شجاعته فقد كانت في قلبه وصدره ولسانه وجسده، وقد شهد له بالشجاعة مشاهير الشجعان، قال علي رضي الله عنه ــ وكان مضرب المثل في الشجاعة ــ: «كنا إذا حمي البأس واحمرّت الحدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم» أي نتقي الضرب والطعان به عند عظمة كروب الضرب والطعن والجلاد، وحينما انهزم أكثر أصحابه في أُحُدٍ وقف كالجبل الأشم حتى فاءوا إليه ولاذوا به والتفوا حوله، كذلك في حنين حين هرب الأبطال وتراجع البواسل وقف شامخًا مجسدًا كل معاني الجسارة وكمالات الشجاعة وهو يقاتل ويصاول ويقول:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وما زال في أتون المعركة ينادي أصحابه مثبتًا لهم نافضًا عن قلوبهم دهشة الفزع وهو يقول: «إلي عباد الله إلي عباد الله» حتى عاد إليه أصحابه، وعاودوا الكرة على عدوهم حتى هزم الله عدوهم، هذا مع كون أصحابه مضرب المثل بين الأمم بوفائهم له وتضحيته بنفوسهم لدينه واسترخاص أرواحهم بين يديه، ولكن اقتضت حكمة الله تعالى أن يظهر الله شجاعة نبيه صلوات الله وسلامه عليه في مواقف ينفرد فيها بالكمال دون غيره، حتى لا يسبقه أحد في الإقدام والاستبسال والشجاعة والجسارة.
وحينا جاءه أبي بن خلف راكضًا على فرسه وقد تدرع بدرع على جميع جسده، وهو يصيح: أين محمد لا نجوت إن نجا. فأراد بعض المسلمين أن يعترضه فقال صلى الله عليه وسلم: «خلوا طريقه» وتناول الحربة وانتفض انتفاضة فتطاير عنه أصحابه تطاير الوبر من ظهر البعير إذا انتفض، واستقبل عدو الله بطعنة نجلاء في عنقه تدأدأ بها عن فرسه مرارًا وهو يصيح قتلني محمد، حتى هلك.
وفزع أهل المدينة فانطلق ناس قِبلَ الصوت بعد أن اجتمعوا وتأهبوا فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا وقد سبقهم لوحده إلى الصوت وهو يقول مطمئنًا لهم: «لن تراعوا».
وقال عنه عمران بن حصين رضي الله عنهما: «ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب".
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم»
وكان يقول: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» وكان يقول: «أنا نبي الرحمة، أنا نبي الملحمة» وقال ابن عباس رضي الله عنهما عنه: «اسمه في التوراة أحمد، الضحوك القتال، يركب البعير، ويلبس الشملة، ويجترئ بالكسرة، سيفه على عاتقه».
قال ابن القيم: «وأما صفته صلى الله عليه وسلم في بعض الكتب المتقدمة بأنه الضحوك القتال، فالمراد منه أنه لا يمنعه ضحكه وحسن خلقه ــ إذا كان حدًا لله وحقًا له ــ أن يأخذ بذلك، ولا يمنعه عن ذلك تبسمه في موضعه، فيعطي كل حال ما يليق بتلك الحال»
أما عن صبره وتجلده فيكفيه أنه كان لوحده من البشر في كفة وأهل الأرض قاطبة في كفة أخرى لـمّا بعثه الله تعالى فتجلد وصبر وصابر ورابط حتى نصر الله دعوته، وصبر على أذية قريش وهو بلا نصير من البشر في مكة وقد ضربوه وأدموه ووضعوا الشوك في طريقه وألقوا الأذى في بُرمته, وطرحوا السَّلا على ظهره وشتموه وكادوه وقتلوا أصحابه وحاصروه ثلاث سنين مع بني هاشم في شعبهم، وحكموا عليه بالقتل وتمالؤا على ذلك وبعثوا رجالهم لاغتياله، وماتت زوجته وأنسه خديجة ثم مات العم الحنون المدافع عنه أبو طالب، فلم تفتّ هذه الرزايا في عضده ولم توهن عزيمته ولم تقصر من همته، بل قابل ذلك بصبر لم يعرف له في تاريخ الأبطال نظير أو مثيل، وصبر وصابر ــ بأبي هو وأمي ونفسي وولدي ــ في كافة غزواته في بدر وأحد والخندق والفتح وحنين والطائف وتبوك وغيرها فلم يجبن ولم ينهزم ولم تضعف عزيمته ولم يكل ولم يملّ وهو ينتقل من غزوة إلى أخرى طيلة عشر سنوات، وصبر على تآمر اليهود عليه بالمدينة وتحزيبهم الأحزاب لحربه ونقضهم لعهده، وصبر على الجوع الشديد حتى أنه مات ولم يشبع من خبز شعير مرتين في يوم، وكان يربط الحجر والحجرين على بطنه من الجوع بلا شكوى ولا تضجر بل بصبر وسماحة وسمو.
أما عدله فقد شهد له الأعداء والأولياء، ويكفيه قوله لما أمر بقطع يد المخزومية التي سرقت: «والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» وكان تحته تسع نسوة فكان يعدل بينهن ويتحرى العدل التام، وكان لا يأخذ أحدًا بتهمة أحد ولا يصدق أحدًا على أحد حتى يأتي بالبينة، ويكفيه في عدله سمو شريعته واشتمالها على تفاصيل العدل وحذافيره في المعاملات والبيوع والجنايات والعقود وغيرها حتى صارت مضرب المثل عند من يدرسونها ويطبقونها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


الخطبة الثانية:
..... أما عن زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا فقد كان أزهد الناس فيها بلا منازع، وقد عرض عليه ربه أن يجعله ملكًا نبيًا أو عبدًا رسولاً، فاختار العبودية والرسالة، ولو شاء أن يكون أغنى الناس لكان، ويقول: «لو كان لي مثل أحد ذهبًا لما سرّني أن يبيت عندي ثلاثًا إلا قلت فيه هكذا وهكذا, إلا شيئًا أرصده لدين»
ولما رآه عمر ينام على فراش من أَدَمٍ حشوه ليف، وقد أثر السرير على جنبه من خشونته، فدمعت عيناه وقال: يا رسول الله كسرى وقيصر ينامان على كذا وكذا، وأنت رسول الله تنام على هذا! فقال: «ما لي وللدنيا يا عمر، وإنما أنا فيها كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها»، هذا وربه قد عرض عليه أن يحول الأخشبين ذهبًا وفضة فاختار الزهد فيهما.
وقالت عنه زوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفّ لي» وقد قبض صلوات الله وسلامه عليه ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير لأهله، ولما نزل عليه ضيف لم يجد في بيوت أزواجه إلا الماء.
أما عن حسن عشرته للناس صلوات الله وسلامه عليه فقد وصفه علي رضي الله عنه بقوله: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسع الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة»، وقال عنه أبو هالة رضي الله عه: «كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب ولا فحّاش، ولا غيّاب ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهي ولا يؤيس منه، وكان يجيب من دعاه، ويقبل الهدية ممن أهداه ولو كانت كراع شاة ويكافئ عليها».
وقال عنه أنس رضي الله عنه: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات فما قال لي أفّ قط، وما قال لشيء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته».
وقالت عائشة رضي الله عنها: «ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال: «لبيك»، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر، ولم يُر مقدمًا ركبته بين يدي جليس له، وكان يبدأ من لقيه بالسلام والمصافحة، ويؤثر بالوسادة من دخل عليه، ويكنّي أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم، لا يقطع حديث أحد، وكان إذا جلس إليه أحد وهو يصلي خفف صلاته وسأله عن حاجته فإذا فرغ عاد إلى صلاته»، وحسبنا في بيان أدبه وحسن عشرته قول ربه فيه: "وإنك لعلى خلق عظيم" [القلم: 4]، "فبما رحمة من الله لنت لهم"[آل عمران: 159].
أما حياؤه صلى الله عليه وسلم فقد وصفه أصحابه بقولهم: «كان أشد حياء من البكر في خدرها، وكان إذا كره شيئًا عرفناه في وجهه» وكان إذا بلغه شيء عن أحد لم يسمّه بل يقول: «ما بال أقوام يصنعون كذا، أو يقولون كذا» وكان يكنّي مما يضطره الكلام إليه مما يُكره ولا يُصرّح به، وقد ذكر الله تعالى حياءه في محكم التنزيل فقال: "إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق" [الأحزاب: 53].
أما عن خوفه من ربه تعالى وخشيته وحسن عبادته له؛ فقد كان أخشى الناس لله وأعلم الناس بما يتقي، وقد كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء من خشية الله وتعظيمه وإجلاله، وكان يستغفر في اليوم أكثر من مئة مرة، ويُعد له في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة، وكان يطيل الصلاة حتى تورمت قدماه مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولما سئل عن ذلك قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»([21])، وكان عمله ديمة، وإذا عمل عملاً أثبته، وقد جعلت قرة عينه في الصلاة، وكان يذكر الله على كل أحواله. ولما قرأ ابن مسعود عنده آية سورة النساء: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً" [النساء: 41]، قال: «حسبك» قال ابن مسعود: فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان.
أما عن تواضعه فعلى قدر عظمة سيادته وشرفه كانت عظمة تواضعه للخلق، فمع أنه كان سيد الخلق وأشرفهم وأكرمهم على الله إلا أنه كان أشدهم تواضعًا، فقد كان يركب الحمار والبغلة، ويردف خلفه، ويعود المساكين ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبيد، ويجلس بين أصحابه مختلطًا بهم بلا تمييز له بمجلس أو زي أو هيئة، بل كان يجلس حيث ينتهي به المجلس حتى يحار القادم الغريب أيّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان يُدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب، وتأخذ بيده المرأة والعجوز والأمة وتوقفه طويلاً وهو واقف يسمع كلامها ويجيب سؤالها، وكان يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله»
وفي حجة الوداع أهدى مئة بدنة وهو على بعير فوقه رحل عليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، فقد كانت الدنيا في يده لا في قلبه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ولما فتح مكة ظافرًا منصورًا راكبًا ناقته كان مطأطئ الرأس خاضعًا مستكينًا متواضعًا متطامنًا لعظمة ربه تعالى حتى إن لحيته لتكاد تمس قائم رحله، وهذا موقف لم ينقل لبشري سواه ــ فيما نعلم ــ. وكان يقول: «نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي»، قال: «ويرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي»، وكل هذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام.
وكان في بيته في مهنة أهله يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويقم البيت، ويعقل البعير، ويعلف ناقته، ويأكل مع الخادم، ويعجن معه، ويحمل بضاعته من السوق، ولما دخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة قال له: «هوّن عليك فإني لست ملكًا وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد»، صلوات ربي وسلامه عليه.
هذا ومن تمام خلقه وعظيم هيبته أنه كان يمازح أصحابه ويداعبهم ويؤانسهم، ولا يقول إلا حقًا، كما قال لمن طلب منه أن يحمله على بعير: «إنا حاملوك على ولد الناقة» فقال الرجل: يا رسول الله، ما أصنع بولد الناقة؟! ظنّ أنه يقصد صغيرها. فقال: «وهل تلد الإبل إلا النوق».
ويومًا ما رأى أحد أصحابه يبيع متاعًا له في السوق فاحتضنه من خلفه وهو يقول: «من يشتري هذا العبد؟» فقال: يا رسول الله، إذن والله تجدني كاسدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكنك عند الله لست بكاسد». وكان يقول لهذا الرجل واسمه زاهر: «إن زاهرًا باديتنا ونحن حاضره»
وقال يومًا ما لامرأة طلبت منه أن يدعو الله أن يدخلها الجنة، فقال: «يا أم فلان! إن الجنة لا يدخلها عجوز» فولت العجوز تبكي فقال: «أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز فإن الله تعالى يقول: "إنا أنشأناهن إنشاءً . فجعلناهن أبكاراً . عرباً أتراباً" [الواقعة: 35ــ 37] أي أن الله يردها شابة في الجنة بإنشائها إنشاءً آخر.
وقال له أبو هريرة رضي الله عنه: يا رسول الله إنك تداعبنا! قال: «إني لا أقول إلا حقًا»، أي لا يكذب في مزاحه ولا يؤذي بل يؤانس ويتبسط ويتألف.
أما فصاحته فلم تلد النساء أفتق لغة منه، فقد كان أفصح الناس لسانًا، وأبلغهم قولاً، وأوضحهم بيانًا، قد أوتي جوامع الكلم، وبدائع الحكم، تنفجر ينابيع البلاغة والإيجاز من فيه، يقول الكلمة فتصبح حكمة منقولة، ومن أقواله التي صارت حكمًا يتناقلها الناس: «الناس معادن»، «المستشار مؤتمن»، «الناس كأسنان المشط»، «رحم الله عبدًا قال خيرًا فغنم أو سكت فسلم» «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين» "الآن حمي الوطيس" وغيرها كثير.

ولبيان مزيدٍ من خصاله الكاملة وسجاياه التامّة مقامٌ في قابل الأيام إن شاء الله تعالى...

الجمعة، 11 أكتوبر 2013

أسباب تنمية الثقة بالله تعالى في القلب


أسباب تنمية الثقة بالله تعالى في القلب
الحمد لله الذي نشر بقدرته البشر، وصرَّف بحكمته وقدَّر، وابتعث محمدًا إلى كافةِ البشر، فدعا إلى الله، فعاداه من كفر، وتبعه من بالفلاح ظفر. فصلوات الله عليه، وعلى جميع أصحابه الميامين الغرر، وعلى تابعيهم بإحسان على السنة والأثر, صلوات الله عليه ما هطلت الغمائم بهتَّان المطر، وهَدَلت الحمائم على أفنان الشجر، وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله: اتقوا الله تعالى, وأحسنوا به الظن تفلحوا وتسعدوا, وثقوا بربكم كل الثقة تفوزوا وترشُدوا.
 المجاهدُ يُقبل بمهجته في أتون كبد الوغى رابطَ الجأش ثقةً بموعود ربه. "فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون"
والمنفق أمواله في مراضي ربه واثق بموعوده ولا يريد من الخلق جزاء ولا شكورًا, فلا ينتظر منهم حتى كلمة جزاك الله خيرًا, أو شكرًا! لأن صدره مليء بالثقة بما عند ربه وبصدق وعده, دعها فمعها حذاءها وسقاءها. "من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت"
والمريض المدنف ساكن النفس لاهج بحمد ربه بإِنعامه عليه بهذا البلاء! ولكن غير الواثقين لا يعلمون حقائق كنوز الرضى وذخائر الثقة! إنه يقرأ في منشور فلاحه وصفًا للمرضي عنهم: "العابدون الحامدون السائحون" ويتدبر قول ربه: "والله يحب الصابرين" فتهفوا نفسه الواثقة لمزيد من الثقة حتى يكون الخبر كالمعاينة!
 والفقير يكدح بيده قد اكتفى بقوت يومه وليلته له ولمن يعول بلا استشراف قلِقٍ لمستقبل مظلمٍ! ثقة أن مَن خلقهم هو من تكفل برزقهم, وهو يعلم أن مِن أفضل العبادة انتظار الفرج "وفي السماء رزقكم وما توعدون"
والداعي إلى الله المربي يقابل جيوش الهموم وكتائب الصعاب والغموم بابتسام وصبر ورضى, مهما تكالبت عليه العوائق وتحالفت على كبحه المنغصات رغَبًا ورَهَبًا وتعجيزًا لأنه واثق بصدق وعد ربه, أنه لا يضيع أجر من أحسن عملًا, كيف وهذا العمل هو وظيفة المرسلين! "ومن أحسن قولًا ممن دعا إلى الله"
الوالد المشفق يزرع ذريته في أرض أمهم زكية المنبت, ويسقيهم بأدعيته المباركة وإرشاده الصادق وقدوته الحسنة, ويعلم أن أبنائه وبناته هم مشروع حياته الأعظم, فيجعل لتحصيل هدايتهم وصلاحهم واستقامتهم أفضل أوقاته وأثمن ممتلكاته وأوفى جهده, واثقًا بأن المربي الحق والهادي الحق والحافظ الحق هو الله الحق, فجثمانه في إصلاح أجسادهم وروحه معلّقة بالحافظ الهادي استمطارًا لإصلاح فلذات كبده ومهج حياته, بزاد لا ينضب من الثقة بوعد الله وحكمته. فهو لَهِجٌ مُلِظٌّ بدعوة الحي الذي لا يموت والقيوم الذي لا ينام: "ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين"
المظلوم يتلوّى شِلْوُهُ على مرّارة قرع الظالم, وحرارة سياط مقارِعِهِ النفسية والجسدية, لكن قلبه واثق بموعود ربه ونصره للمظلومين, ومهما طالت دولةُ ظالمِهِ وجولةُ قاهرِهِ ففوقه جبارُ السماوات والأرضين الذي يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته, فلا تزال عين المظلوم باردةٌ قرّى إذ موعد المحكمة الإلهية لِظَالمه بالمرصاد, وخير للمظلوم لو أُخّر نكال ظالمه للآخرة! فما أقصر ليل الظالمين! "ولا تحسبن الله غافلًا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار" إله الحق جنبنا ظلم أنفسنا بشرك فما دونه و ظلم عبادك يا ذا الجلال والإكرام.
    إن الثقة بالله هي اتكاء إلى جدار عظيم, واستنادٌ إلى ركن شديد, والسعيد من جاوز بثقته طباق السماوات ووصل بها بين عالمي الغيب والشهادة, فصار يرى بحسن ظنه وعظيم ثقته بوعد ربه ما لا يراه المتزعزعون.
عباد الله: ومن أسباب تنمية  الثقة بالله في القلب:
أوّلًا: صحة المعتقد, وتحقيق التوحيد, وإخلاص النية, واتّباع السنة, وصلاح الظاهر والسريرة.
ثانيًا: الدعاء والضراعة وصدق اللجأ إلى الله سبحانه, والالحاح عليه بصلاح القلب, واستقامة الجوارح. 
ثالثًا: التدبر في الآيات الشرعية, فلا تكاد تخلوا سورة ولا صفحة في كتاب الله من ذكر هذا الأمر العظيم أو الإيماء إليه. لذا فقراءة القرآن بتدبر وإيمان مُنمِّيةٌ له ضرورة. ولم أر مثل تدبر القران وتلاوته مطلقًا في صلاح القلب واستقامته وذوق حلاوة الايمان.
ومن أعظم آيات الثناء على الواثقين بوعد الله تعالى قوله سبحانه في سورة الأحزاب: "ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا" وقد وسّطها الله تعالى بين آية الأمر بتوحيد الائتساء والاتباع وبين الثناء على المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه, وفي ذلك بناء للثقة في القلوب المؤمنة. فقال سبحانه: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا . ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما" قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله؛ ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه، عز وجل، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين؛ ولهذا قال تعالى للذين تقلقوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" أي: هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله؟ ولهذا قال: { لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا }.
ثم قال تعالى مخبرا عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم، وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والآخرة، فقال: { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } قال ابن عباس وقتادة: يعنون قوله تعالى في "سورة البقرة" { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب؛ ولهذا قال: { وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما }
    وقال العلامة المفسر الفقيه الشنقيطي رحمه في أضواء البيان عند تفسيره لقول الله تعالى: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" من سورة الإسراء, باختصار:
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: هديه إلى حل المشاكل العالمية بأقوم الطرق وأعدلها. ونحن دائماً في المناسبات نبين هدي القرآن العظيم إلى حل ثلاث مشكلات، هي من أعظم ما يعانيه العالم في جميع المعمورة ممن ينتمي إلى الإسلام، تنبيهاً بها على غيرها:
المشكلة الأولى: هي ضعف المسلمين في أقطار الدنيا في العدد والعدد عن مقاومة الكفار. وقد هدى القرآن العظيم إلى حل هذه المشكلة بأقوم الطرق وأعدلها, فبيّن أن علاج الضعف عن مقاومة الكفار إنما هو بصدق التوجه إلى الله تعالى، وقوة الإيمان به والتوكل عليه؛ لأن الله قوي عزيز، قاهر لكل شيء. فمن كان من حزبه على الحقيقة لا يمكن أن يغلبه الكفار ولو بلغوا من القوة ما بلغوا.
فمن الأدلة المبينة لذلك: أن الكفار لما ضربوا على المسلمين ذلك الحصار العسكري العظيم في غزوة الأحزاب المذكور في قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}، كان علاج ذلك هو ما ذكرنا؛ فانظر شدة هذا الحصار العسكري وقوة أثره في المسلمين، مع أن جميع أهل الأرض في ذلك الوقت مقاطعوهم سياسة واقتصاداً. فإذا عرفت ذلك فاعلم أن العلاج الذي قابلوا به هذا الأمر العظيم، وحلوا به هذه المشكلة العظمى، هو ما بينه جلَّ وعلا "في سورة الأحزاب" بقوله: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً}
فهذا الإيمان الكامل، وهذا التسليم العظيم لله جلَّ وعلا، ثقةً به، وتوكلاً عليه، هو سبب حل هذه المشكلة العظمَى.
وقد صرح الله تعالى بنتيجة هذا العلاج بقوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً" فدلت الآية على أن الإخلاصَ لله وقوةَ الإيمان به، هو السبب لقدرة الضعيف على القوي وغلبته له {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ"
المشكلة الثانية: هي تسليط الكفار على المؤمنين بالقتل والجراح وأنواع الإيذاء ـ مع أن المسلمين على الحق والكفار على الباطل.
وهذه المشكلة استشكلها أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم. فأفتى الله جل وعلا فيها، وبين السبب في ذلك بفتوى سماوية تتلى في كتابه جلَّ وعلا.
وذلك أنه لما وقع ما وقع بالمسلمين يوم أحد: فقتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، ومثل بهما، وقتل غيرهما من المهاجرين، وقتل سبعون رجلاً من الأنصار، وجرح صلى الله عليه وسلم، وشُقَّت شفته، وكسرت رباعيته، وشج صلى الله عليه وسلم. استشكل المسلمون ذلك وقالوا: كيف يدال منا المشركون؟ ونحن على الحق وهم على الباطل؟ فأنزل الله قوله تعالى: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ"
وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}، فيه إجمال بينه تعالى بقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم لِيَبْتَلِيَكُمْ}
ففي هذه الفتوى السماوية بيان واضح. لأنّ سبب تسليط الكفار على المسلمين هو فشل المسلمين، وتنازعهم في الأمر، وعصيانهم أمره صلى الله عليه وسلم، وإرادة بعضهم الدنيا مقدماً لها على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم, ومن عرف أصل الداء. عرف الدواء. كما لا يخفى.
المشكلةُ الثالثة: هي اختلاف القلوب الذي هو أعظم الأسباب في القضاء على كيان الأمة الإسلامية. لاستلزامه الفشل، وذهاب القوة والدولة. كما قال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} فترى كثيرًا من المسلمين اليوم في أقطار الدنيا يضمر بعضهم لبعض العداوة والبغضاء, وقد بين تعالى في سورة «الحشر» أن سبب هذا الداء الذي عَمّت به البلوى إنما هو ضعف العقل. قال تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} ثم ذكر العلة لكون قلوبهم شتى بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ}ولا شك أن داء ضعف العقل الذي يصيبه فيضعفه عن إدراك الحقائق، وتمييز الحق من الباطل، والنافع من الضار، والحسن من القبيح، لا دواء له إلا إنارته بنور الوحي. لأن نور الوحي يحيا به من كان ميتاً ويضيء الطريق للمتمسِّك به. فيريه الحق حقاً والباطل باطلاً، والنافع نافعاً، والضار ضاراً. قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ}وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ".
أمة الإسلام: ورابعُ الأسباب المقوّية للثقة بالله تعالى: التدبرُ والتأمل في الآيات الكونية في الأنفس والآفاق, ومعرفة سنن الله في خليقته, والنواميسِ التي أقام عليها الكون. وقراءةُ قَصص الأنبياء التي قصها الله تعالى في كتابه وقصها نبيه صلى الله عليه وسلم, كذلك الصالحين والمصلحين على اختلاف أزمانهم وبقاعهم وأعمالهم, وكذا أضدادهم من الكفرة والفجرة ومصارعهم بيد الجبار جل جلاله وانتقامه لأوليائه من الظالمين, ونحو ذلك "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي اللباب ما كان حديثًا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون" وقال سبحانه: "فاقصص القصص لعلهم يتفكرون"
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
.............
الخطبة الثانية:
...أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله, واعمروا قلوبكم بالثقة بموعود ربكم.
فخامسُ الأسباب لعمارة القلب: طولُ القنوت والعبادة, وإنك لتعجب من حال بعض الدعاة إذا رأيته قد أنفق من عمره سنين عددًا, ثم ترى حظَّه من قيام الليل ثلاث ركعات, أما التهجد فلا وجود له إلا في رمضان! ثم تراه يشتكي قسوة قلبه وضعف إرادته وصعوبة كبح نفسه التي لا زالت مراوحة بين الأمارة واللوامة, أما المطمئنة فلا يحس لها بساكن! أين طول القيام حتى يراوح بين قدميه, ويلتذ بصفهما لربه في جوف الليل الأوسط والآخر؟! أين ترديد الآي أثناء التهجد والتدبر فيها والتفكر في مراميها والتسبيح عندها والتحميد والاستغفار والتأثر.. والحياة بها؟! أين طول السجود والبكاء والضراعة والانكسار, وذوق اللحظات اللذيذة لروحه التي هي _لعمر الله_ من أمتع لذائذ الأنفس في هذا الوجود؟! وكما قال الإمام أحمد متأوهًا لمن نام عن تهجده من تلاميذه: يا عجبًا لطالب علم لا يقوم الليل! فنقول كذلك: يا عجبًا لداعية لا يقومه! ثم أين الصدقة العظيمة الخفيّة التي يحس بانفساح صدره لها, وقد أخذها من حِلّها وأنفقها في مرضاة ربه حتى لا تعلم شماله ما أنفقته يمينه؟! ثم أين صيام الهواجر, ومكابدة الجوع والظمأ للشكور سبحانه في يوم بعيدِ ما بين الطرفين, شديد حرّه حتى  تذوب شهوة النفس في ذيّاك الأصيل من آصال الملك العلّام؟! كذلك أين الذكر الطويل المأثور المتدبر في الأوقات الفاضلة بقلب حاضر منتبه لما يجري على لسانه من ذكر ربه بديمومة عمريّة تكون لروحه وجبة غذائية لا غنى لها عنها مهما اختلجت مشاغله واشتبكت قواطعه.
روى الإمام مسلمٌ في صحيحه عن أبي وائل شقيق بن سلمة الأسدي قال: "غَدَوْنا عَلَى عَبدِ الله بن مَسْعود رضي الله عنه يَوْماً بَعْدَ مَا صَلَّينَا الغَدَاةَ، فسلّمنا بالباب، فأُذِن لنا، قال: فَمَكَثْنَا بالباب هُنيَّةً, قال: فخرجت الجاريةُ فقالت: أَلاَ تَدْخُلُونَ فدخلنا، فإذا هو جالسٌ يُسبِّح، فقال: ما منعكم أن تدخلوا وقد أُذِن لكم فقلنا: لا، إلاَّ أنَّا ظنَنَّا أنَّ بعضَ أهل البيت نائمٌ، قال: ظَنَنْتُم بآل ابن أمِّ عَبدٍ غَفْلَةً, قال: ثمَّ أَقبل يُسبِّح حتى إذا ظنَّ أنَّ الشمسَ قد طلعت، قال: يا جارية: انظري هل طلعت قال: فنظرت فإذا هي لَم تَطلُع، فأقبل يُسبِّح، حتى إذا ظنَّ أنَّ الشمسَ قد طلعت قال: يا جارية: انظري هل طلعت قال: فنظرت فإذا هي قد طلعت، قال: الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا، ولم يُهلكنا بذنوبنا"
وقال ابن القيم رحمه الله: حضرتُ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية مرَّةً صلّى الفجرَ، ثم جلس يذكرُ اللهَ تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفتَ إليَّ وقال: هذه غدوتِي، ولو لَم أتغذَّ هذا الغِذاءَ سقطت قوَّتِي، أو كلاماً قريباً من هذا". وقال لي مرة : لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر أو كلاما هذا معناه.
ولقد ثبت في السُّنّة أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دعا اللهَ أن يُبارك لأمَّتِه في بكرة النهار، فقد روى أبو داود عن صخر بن وَداعة الغامديِّ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهمَّ بارِك لأمَّتِي في بكورِها " وكان إذا بعث سريَّةً أو جيشاً بعثهم أوَّلَ النهار. وكان صخرٌ رضي الله عنه تاجراً، فكان يبعثُ تجارتَه من أوَّلِ النهار، فأثرى وكثُر مالُه.
 قلت: هذه بركة في الدنيا فكيف بالبركة في الدين وعمارة القلب بالإيمان والجوارح بالإسلام! وقد قيل: يومُك مثل جملك إن أمسكتَ أوَّلَه تبِعَك آخرُه. وأعظم الذكر هو تلاوة كلام الله تعالى, ومن جعل شِرّةَ ونفاسة وقته للقرآن رأى البركة في سائر أموره, وقد ذكر أهل العلم والدعوة من أمثلة ذلك ما لا يحصيه كتاب, وعلى قدر اشتغاله بالتلاوة والتدبر يكون الأثر المبارك في سائر قوله وعمله ونيّته وأثره في الناس.
سادسُ الأسباب المنمّية للثقة بالله تعالى: المحاسبة الجادة للنفس, ففي الدنيا دخان وغينٌ يحيط بالقلب ولا تكاد النفوس تسلم منه, فتقع في غفلة وركون إلى الخسار وإخلاد إلى الأرض, فإن وفق الله عبده للمحاسبة استيقظ ونفض عن بصيرته وقلبه غبار الغفلة وقتار الظُّلمة. ولقد تكلم أبو محمد ابن حزم الأندلسي رحمه الله في مداواة النفوس عن تغلّبه بعد مجاهدة شديدة على طباعه السيئة من الحقد والشهوة وغيرهما حتى ترقّى بها للطمأنينة والسكينة, وبعض الدعاة لا يزال يجاهد نفسه ضد الموبقات كالزنا والخمر والربا! فضلًا عن بقية الكبائر والذنوب التي اصبحت كالعادات له, كالغيبة والنميمة غير المقصودة والكذب مازحًا وجادًّا, إلى شراسة الخلق والصَّلَفِ وتنفير عباد الله من دين الله, وإدخال الغم والحزن عليهم, وسوء ظنه بالمؤمنين, مع علمه بعيوبه واعترافه إلا أن السنين لم تزده في تيك الأخلاق الرذيلة إلا إيغالًا! فاين الثقة بالله وبوعده وبلقائه؟! ومتى يأتي اليوم الذي تطمئن فيه نفسه فتطبع على أخلاق المؤمنين وتدور بطبعها فيه فتكون من النفوس المطمئنة؟! فإن طال زمانك وأنت تراوح المجاهدة دون تقدّم في مستوى إيمانك؛ فراجع مساقيَ قلبك, فلعل هناك دَغَل شهوةٍ خاطئة في حاجة لعصفٍ وتهذيب, أو شبهةٍ ردّتْ عنك بركة العلم والذكر والإيمان!
 إن المؤمن إذا تدبر قول العظيم سبحانه: "إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد" لتهون في عينه الدنيا وما عليها, فأجلُ المعاد قريب, وهذي الدنيا القريبة الزائلة بمعالمها الفانية لن تلبث إلا أن تكون كسراب بقيعة بل كطيف خيال أو كحلم منام, فتذهب مشقة الطاعة والمجاهدة ويبقى الأجر مبذولًا من خزائن الحميد الشكور.
سابعًا: صحبةُ الواثقين بربهم, وهذا ترياق مجرب سريع التأثير على القلب, فمصاحبة من تعلق قلبه بربه ووثق بوعده ولقائه, ورؤية تقلبه في سائر أحواله مع ذينك الأمرين تلقح في الفؤاد رحيق بَرْدِ الثقة بموعود رب العالمين.