إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 29 يوليو 2022

المغالاةُ في الدِّياتِ

 

 

المغالاةُ في الدِّياتِ

 

الحمد لله تعالى الحكيم في تشريعه، اللطيف في تدبيره، العليم الخبير ببواطن الأمور وظواهرها، شرح صدور المؤمنين فانقادوا لطاعته، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، فلم يجدوا حرجا في الاحتكام إلى شريعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينكم، وخذوا ما آتاكم الله بقوة.

عباد الرحمن؛ إن كبار الأمور وجلائل الأخطار قد تكون نتيجة لصغير الأشياء، كما قال طَرَفَة:

قَدْ يَبْعَثُ الأمْرَ الكَبِيرَ صَغِيرُهُ … حَتّى تَظَلَّ لَهُ الدِّماءُ تَصَبَّبُ

فلرُبَّ كلمة هنا أو عمل هناك ترتب عليهما خير عظيم أو شر جسيم، والأمور بمقاصدها، والحكيم الفقيه هو من عرف خير الخيرين وشرّ الشرين، وحبس نفسه على مقتضى علمه وحكمته، قال سبحانه: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا) وليست العبرة بقول لا يعضده عمل، ولا بعمل لا يقوم على نيّة خالصة، فإن استقامت الثلاث قام الدين ونهضت الشريعة واستقام الحال في العباد. والسعيد حقًّا من قفا أثر الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يبدّل ولم يقصر.

وهذه الأمة مبتلاة في دمائها من عدوها ومن أنفسها، والشيطان حريص على تزيين الشر وإملائه، ولا يزال يوسوس ويملي حتى إذا اندفق الدم الحرام تبرأ منه! والسعيد من وُعظ بغيره، والشقي من وعظته نفسه، ولات حين منزعٍ ورجوع!

وإذا تبع الناس كبراءهم في العلم والحلم والعقل أوشكوا بإذن الله تعالى أن يفلحوا، فعن ذي الرِّمّة قال: شهدت الأحنف بن قيس وقد جاء إلى قوم في دم، فتكلم فيه وقال: احتكموا، قالوا نحتكم ديتين. قال: ذاك لكم. فلما سكتوا قال: «أنا أعطيكم ما سألتم. فاسمعوا: إن الله قضى بدية واحدة، وإن النبي ﷺ قضى بدية واحدة، وإن العرب تَعَاطَى بينها دية واحدة، وأنتم اليوم تطالبون، وأخشى أن تكونوا غدًا مطلوبين؛ فلا ترضى الناس منكم إلا بمثل ما سننتم!» قالوا: رُدَّها إلى دية.

عباد الله؛ إن شرع الله هو الخير بحذافيره، وعين الحكمة بتفاصيلها، وحسن العاقبة في الدارين، وأيّ زيادة أو نقص عنه فهو انحراف عن الحق والهدى والسعادة بقدره. ومن ذلك: التعامل مع القتل العمد، فالحالات فيه تختلف بحسب الأحوال، ولكن يجمعها تخيير أهل الدم بين الثلاث: العفو مجّانًا لوجه الله تعالى، أو القَوَد بالقتل قصاصًا، أو الدية، فلهم العفو أو القوَد أو العقل (1) وهي مقدار مئة من الإبل، وتقوّم من المال بمثلها.

 أما الصلح المسمى الآن بشراء الرقبة، وهو العفو عن القصاص إلى أكثر من الدية ففيه خلاف، فمن أباحه؛ فقد فسّر به الحديث الذي رواه أحمد بسند حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قَتَلَ مُتَعمِّدًا دُفِعَ إلى أوْلِياءِ المقْتُولِ، فَإنْ شاءُوا قَتلوا، وإنْ شاءُوا أخَذُوا الدِّيَةَ، وهِي ثَلاثُونَ حِقَّةً، وثَلاثُونَ جَذَعَةً، وأربعون خَلفةً، وما صُولِحُوا عَلَيهِ فَهُو لَهُمْ». (2) فقوله صلى الله عليه وسلم: "وما صُولِحُوا عَلَيهِ فَهُو لَهُمْ" هو الصلح المستأنف بما زاد أو نقص عن الدية. (3)

وقال الشيخ الشنقيطي حفظه الله تعالى: "ومن أدران الجاهلية والعصبيات الممقوتة عند بعض الناس: أن أولياء المقتول إذا قالوا: لا نريد القصاص ونريد الدية، فإنه يُعتب عليهم، ويأتي أولاد العم والقرابة ويقولون: أنتم لا تقدّرون أباكم، وأبوكم لا يقدر بثمن، وما هذه الدية؟ أترضون بالمال دون دم أبيكم؟ أنتم كذا أنتم كذا ولربما هددوهم بالقطيعة -والعياذ بالله تعالى- وهذا من مضادة شرع الله تعالى، ومن المحادَّة، ومن الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.

فإن الله تعالى يحب العفو ويقول: ﴿وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾. وهؤلاء -نسأل الله تعالى السلامة والعافية- بخلاء على أنفسهم، ويأمرون غيرهم بالبخل، فهؤلاء لا يجوز طاعتهم؛ لأنهم لا يريدون الخير لمن عفا أو أراد أن يعفو، فالذي يريد أن يعفو ويقول: أسامح لوجه الله تعالى، فأجره على الله عز وجل، والأفضل أن لا يأخذ شيئًا". (4)

وبعد؛ فمن تأمل مفاسد المغالاة في الديات ظهر له خطر ما يتجه إليه بعض الناس في هذا الزمن، فمن مفاسد المغالاة في الديات التالي:

أوّلًا: أن العاقلة – وهم العصبة - لا تتحمّل شرعًا دية القتل العمد، إنما تتحمل – ندبًا لا إلزامًا - دية الخطأ وشبه العمد، فكيف يحمّلونهم الآن دية القتل العمد، ثم يضاعفونها عليهم بعد ذلك أضعافًا كثيرة! فإن فعلوا وإلا وقع عليهم لوم الجُهّال.

ثانيًا: أن الدية ليس القصد منها بيع دم القتيل، بل هي تعويضٌ لأهله عن بعض فقدهم له، لذلك روعي قدرها أن تكون مئة من الإبل أو ما يساوي قيمتها، وهي عند أوساط العرب كافية مدى حياة ذويه إن أحسنوا تدبيرها، فهي كفاية العائل وزيادة، أما حقه الخاص فموفور عند الله تعالى. وعليه؛ فإن المبالغة في طلب مبلغ الصلح كأن فيه نوعٌ من بيع دم القتيل، وفي هذا إرخاص له مهما بلغت الأموال التي سعّروا بها دمه! والدنيا بأسرها لا تساوي عند أهله قيمته. وهذا المعنى الرديء غير مراد للشارع البتة، فليس للمؤمن الحرِّ ثمن سوى الجنة.

ثالثًا: أن في المغالاة تعجيزٌ ومشقة وإضرار وتحريج للناس، وقد كانت دية الملوك في الجاهلية ألفًا من الإبل، أي: عشر ديات عاديّة، فأبطل الاسلام ذلك، فجاءنا اليوم من يطلب مئة دية بل تزيد، وصرنا نسمع من يطلب عشرات الملايين كستين مليونًا، بل مئة مليون ريال! وهذا مبلغ يوازي مئتين وخمسين من الديات! فانظر كيف انتقلوا – لما تجاوزوا دية الشرع - من دية ملوك الجاهلية عشر ديات إلى خمسين ومئتي دية، فأين هذا من الإسلام؟! فأمر الجاهلية مذموم مرذول مُطّرَح، قال صلى الله عليه وسلم: "ذهب أمرُ الجاهلية". (5)

رابعًا: أنها سبب لقطع أواصر القربى والأرحام، بيان ذلك؛ أنّ ذوي القاتل يقطعون وجوه أبناء عمومتهم، بل أفراد قبيلتهم وإن تباعدت بطونهم، في السعي لما يُسمّونه إعتاق الرقبة التعجيزي، ويلزمونهم بسيف الحياء بالمساهمة في جمع المبالغ حتى وإن كانوا فقراء مدقعين لا يجدون قوت عيالهم، فيضطرهم دفع معرّة تنقّص الناس لهم إن لم يساهموا إلى إثقال ظهورهم بالاستدانة، أو دفق ماء وجوههم بالاسترفاد!

 وصاروا على علّاتهم يحاولون صيانة وجوههم وستر أعراضهم عن مقاريض الناس، فيستدينون كيما يساهموا بمبالغ لم يكلّفهم الله بها ابتداءً، إنما يفعلون ما يفعلون دفعًا لعادية الشامتين بأن فلانًا – فعل الله به كذا وكذا - لم يقف مع قومه، ولم يساهم معهم في عتق تلك الرقبة القاتلة، ويتهمونه بالبخل والشحّ، والازورار عن مواقف القبيلة، وينتقّصون رجولته، ويزدرون شيمته، ويغمزونه بنقص مقداره، لأنه لم يساهم في تحمّل تلك الملايين التي ما أنزل الله بها من سلطان، أما من عجز عن المشاركة فحسبه اقتلاعهم شيمته وتسويدهم وجهه وإثلامهم عرضه، فينشأ عن ذلك البغي قطيعة وإحِنٌ وشحناء وبغضاء، وهذا الأمر ليس محصورًا في المساهمة في ديات الدماء، بل في غيرها. ولست في ذلك مبالغًا، فقد تأذّى فيه فئامٌ عندي خبرهم، علمًا أن الفقير لا يُطلَب لعقل الدم، والله المستعان.

هذا؛ وقد تأخذ القبيلةَ النخوةُ والحميةُ والعصبيةُ المجردة لإنقاذ ابنهم القاتل عمدًا وعدوانًا من السيف، وقد لا يكون صالحًا، بل ولا عاقلًا رشيدًا، ولا مأمون الغائلة، ويعقدون الاجتماعات والاحتفالات والمخيمات وينشدون ما يسمى بالشيلات، مع الغفلة المطبقة لدى كثير منهم عن محاويج القبيلة وأيتامها وأراملها!

ولا يعني ذلك بحال ذم التعاون، إذ أن التعاون على البر والتقوى قد أمر به الرحمن تبارك وتعالى، ويُشكر كثيرًا من فعله وساهم فيه ودلّ عليه وأعان، وهو باب شريف عزيز من أبواب الجنة وشعائر الشريعة وشعب الإيمان. وأصل المساهمة في جمع الدية – حتى وإن كانت على صلح - هي من شيم الإيمان وأعمال البر والتزكية، فأوصي نفسي وغيري بالمبادرة إليها، والمشاركة في سُهمانِها رأيًا وجاهًا وجهدًا ومالًا في سبيل رفع السيف عمّن استحقّه قضاءً بإرضاء ذوي الدم بما يقدر عليه أوساط الناس، فإن غالوا وعجّزوا الناس وأشبهوا الأمر ببيع الدماء افتخارًا واستطالة وعُلوًّا؛ فهنا يختلف الحال! فينبغي والحال هذه الاحتساب في هذا الأمر بردّه إلى جادة عمل المسلمين عبر القرون بالدية المشروعة أو بالصلح المعروف، أما التزيّد والمغالاة فليست من أعمال البر بسبيل.

وبالجملة؛ فلا بد قبل الهمّ بالمساهمة والتعاون على احتمال الدية من ملاحظة أمرين:

 الأول: أن هذا المأمور به هو من البر والتقوى، لا الفخر والبغي وإرادة العلو في الأرض.

 الثاني: أن يكون بقدر الاستطاعة، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وهي في الأصل مندوبة مستحبة لا فريضة لازمة، وكل امرئ له أولويات، فقوت العيال أولى وألزم، قال صلى الله عليه وسلم: "كَفَى بِالمَرْءِ إثْمَاً أنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ". (6) أما إن زاد ماله عن حاجة عياله وكفايتهم فجاد الله على من جاد، "والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه". (7)

خامسًا: أن الغلواء في قيمة الدية لا يخلو من مفاخرة بقيمة الدماء، لسان حالهم: نحن القوم نفتدي صاحبنا بعشرات الديات، وأنا قد جمعناها في وقت يسير، أو يقول الآخرون: لا يذهب وترنا إلا بها لعلو كعبنا على من سوانا، فيفتخر الطرفان بتلك المغالاة، فانقلب الصلحُ فخرًا، وسبيلُ المعروفِ منكرًا، وشِعَارُ البِرّ شرًّا!

 واعتبر ذلك بما تراه من احتفالات ورقص وأشعار ومفاخرة على غيرهم من الناس بأن قيمة الرجل منهم عن دياتِ كثيرٍ ممن دونهم، وهذا معنًى أبطله الإسلام جملة. وصار حالهم فيه شبه من وجه بمعاقرة الأعراب فخرًا وسمعة وصيتًا، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن مُعَاقَرَةِ الأعراب». (8) ومعاقرة الأعراب: أن يتبارى الرجلان من العرب في الجود والسخاء، فيعقر هذا إبلًا  ويعقر هذا إبلًا، حتى يُعجِز أحدُهما صاحبه. وهذا من فخر الجاهلية، وإنما نهي عنه لأنهما لم يُريدا به وجه الله تعالى، وإنما أرادا إتلاف المال رياءً وسمعة ومفاخرة.

وإنّ مِن علل تحريم النياحة منع الفخر، فكانت العرب اذا مات شريفُهم يعظّمون أمر موته، وينحرون الجزر ويطعمون الطعام وينعونه في القبائل لينتشر ذكره وصِيْتُه في الناس، فرجع بنا الحال للفخر، (والله لا يحب كل مختال فخور) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ، قال: "إنَّ اللَّهَ أذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجاهِلِيَّةِ وفَخْرَها بِالآباءِ، إنَّما هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وفاجِرٌ شَقِيٌّ، النّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ وآدَمُ خُلِقَ مِن تُراب". (9)

سادسًا: أن فيها تسهيلًا لقتل النفس التي حرم الله، لأن القاتل يغلب على ظنه فداء قبيلته له ولو بعديد الديات، فيترتب على ذلك التساهل في سفك الدم الحرام، وقد يقول حمالُ الحطب للغرّ الطائش: اقتل فلانًا وسيسعى الناس في فكاكك.. ونحو ذلك، فيتخوّضُ في الدماء المعصومة بغير حق!

 وقتلُ المؤمن بلا حق هو أعظم الجرائم في الإسلام بعد الشرك بالله تعالى، والله تعالى يقول: (ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا أتاه، فقال: أرأيت رجلًا قتل رجلًا متعمّدًا؟ قال: (جزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما)، قال: لقد أنزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا، ثم اهتدى؟ قال: وأنّى له بالتوبة، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثكلته أمه: رجل قتل رجلًا متعمّدًا، يجيء يوم القيامة آخذًا قاتلَه بيمينه، أو بيساره، وآخذًا رأسه بيمينه، أو بشماله، تشْخبُ أوداجُه دمًا في قبل العرش، يقول: يا رب؛ سل عبدك فيم قتلني؟". (10) وقال صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِنْ دِينهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَماً حَرَامًا". (11)

سابعًا: قال تبارك وتعالى: (ولكم في القصاص حياة)، ففي القصاص حكمة وخير وزجر للناس عن محارم الله تعالى، فالقتل أنفى للقتل، ومن الناس من لا يزَعُهُ عن المحارم إلا سيف السلطان، ومن أعظمها الدم الحرام، فإن رضي أهل الدم بالعفو فيا حسن ما اختاروه إن رأوا في عفوهم إصلاحًا، لأن العفو لا يكون محمودًا إلا إن غلب على الظن إفضاؤه للإصلاح لا ضده، فالله تبارك وتعالى قال: (فمن عفى وأصلح فأجره على الله)، وإن رضوا بالدية فهو خير وأجر وذخر، فإن عزموا القصاص فالواجب من الجميع الرضا بحكم الله تعالى، فهو خير كله، قال سبحانه: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون). ومن محكّات صدق الإيمان التسليم لحكم الرحمن، قال سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليما).

ثامنًا: من مفاسد المبالغة في الديات دخول السماسرة على خط جمعها، وليس كل من بذل جاهه مُتّهم – حاشاهم - بل الأصل في المسلمين السلامة، وهم على باب خير عظيم وبرٍّ شريف، ولكن ثَمَّ فئة لوّثت وكدّرت مشرب القوم هداهم الله تعالى، فقد صارت بأخرةٍ تجارةً رائجةً لدى بعض من يتصيّد في الخفاء لعاعة دنيا من دماء الموتى!

كما أن بعضهم هو من أسباب رفع سقف الديات لانتفاعهم بمقدارها نسبة وتناسبًا، فيجتهد في رفعها ليزيد كسبه، فيأكلون أموال الناس بالباطل، ويوغرون مسارب القلوب ويوقدون مراجل الغضب في صدور أهل القتيل، ثم يطلبون منهم المغالاة والتعجيز في طلب الفداء بما فوق الدية بأضعاف، ثم يلتحفون سربال الليل لذوي القاتل بدعوى الإصلاح، وقد اشترطوا لأنفسهم من أهل القتيل نسبة من دية الصلح!

أظهروا للنّاس زهدًا ... وعلى الدينار داروا

لو سما فوق الثّريّا ... ولهم ريشٌ لطاروا

تاسعًا: أن هذه المبالغات قد تُتّخذ سُنّة بين الناس وعادة، فيقول القائل: ليس ابننا بأقل شأنًا من آل فلان؛ فيشتد الحال بأهل الجاني وتُلحِفَهم المشقة من جهة، وقد يعجزون فيمتنع أهل الدم عن العفو إلا بتلك المبالغ، فيفوت الجاني وأهله فرصة كانت الشريعة قد هيئتها لرفع السيف بالدية المشروعة إن رضي عامة الناس بها.

عاشرًا: أن فيه إشغالًا لمشايخ القبائل وخاصتهم وللناس ولرجال الدولة بأمور لا تكاد تنقطع، فالقتل العمد في هذا الزمان كثير خطير، وقد تساهل الناس في أمره ووسائله ومقدّماته وتوابعه وأوزاره بما لا يجوز السكوت عنه، والصلح خير، ولكن ما زاد عن حده انقلب لضده، ومن ذلكم التساهل في قتل النفس التي حرم الله، فإنا لله وإنا إله راجعون.

وبالجملة؛ فبما أن العمل الآن على جواز هذا النوع من الصلح فلربما يحسن تقييد قدره لمصلحة الناس، ودفع المعرّة والمشقة عنهم، فلو أن ولاة الأمر بالسلطة والقضاء نظّموا ذلك، وشدّدوا على أهل التزيّد وحزموا الأمر، وحجزوا الناس عن المبالغة الشديدة في اشتراط ديات هائلة لكان رشدًا ورفقًا وخيرًا.

ولو أن الناس تعاونوا فيما بينهم في إنكار ذلك والاحتساب فيه؛ لكان خيرًا للناس، وليست هذه الحروف عن قلّة اهتمام بتحرير الرقاب من الاقتصاص، لكنها محاولة لردّ أهل العقل والحلم لسبيل الرشاد، ولو أن الامر كان ابتداء لهم ما وصل الحال بالناس لما نراه، ولكن علت أصوات، وسارت في الناس أبيات، حينها عجز الحليم عن رد السيل الجارف من رؤوس ملأتها حُمّيّا حَميّة الجاهلية.

مَتى تَصِلُ العِطاشُ إلى ارتِواءٍ … إذا استَقَتِ البِحارُ مِن الرَّكايا

ومن يثني الأصاغِرَ عَنْ مُرادٍ … وقَدْ جَلَسَ الأكابِرُ فِي الزَّوايا

إذا اسْتَوَتِ الأسافِلُ والأعالِي … فَقَدْ طابَتْ مُنادَمَةُ المَنايا

وبالله التوفيق، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله.

.............................

1.    القَوَد: القصاص، لأنه يُقاد إلى القصاص اقتيادًا، أما العقل فهو الدية، إما لأن الإبل تجمع ثم تُعقل بفناء أولياء القتيل، أو هي من العاقلة وهم عصبة القاتل، وهم يتحمّلونها في القتل الخطأ وفي شبه العمد، أما قتل العمد فمن مال القاتل، أما الكفارة فهي من ماله بكل حال.

2.    أحمد (٢ / ١٨٣) قال: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا أبو النضر وعبد الصمد قالا: ثنا محمد، ثنا سليمان يعني بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال: «من قتل …» الحديث بألفاظ مقاربة، وعند الترمذي (١٤٠٦) بلفظ: «من قتل مؤمنا متعمدًا...» الحديث بلفظ: "وما صالحوا" وزاد: "وذلك تشديد العقل". قال أبو عيسى: حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن صحيح. وعند ابن ماجه (٢٦٢٦) وزاد بعد قوله: "خلفة" قوله: "وذلك عقلُ العمد"، وزاد في آخره: "وذلك تشديد العقل". وقد حسنه الألباني (٢/‏٨٧٧) وجاء في السنن الكبرى للبيهقي (١٦١٢٩) بنحوه.

3.    قال العثيمين رحمه الله تعالى: "هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء؛ منهم من يقول: إنه لا بأس أن الإنسان يأخذ أكثر من الدية مُصالحةً، ومنهم من يرى أنه لا يجوز أن يأخذ أكثر؛ لأن الشرع جعل للنفس قيمة لا يجوز تعديها، فأخْذ أكثر منها تعدٍّ لحدود الله، فنقول لأولياء المقتول: إما اقتلوا وإلا خذوا الدية، أما أن تأخذوا أكثر لا يحل لكم؛ لأن الشرع عيَّن البدل والمبدل منه؛ المبدل منه القصاص والبدل هو الدية.

وقال بعض العلماء: إنه يجوز أن نصالح بأكثر، واستدلوا بقصة هدبة بن خشرم، حينما أمر معاوية رضي الله عنه بقتله، فدفع الحسن وجماعة دفعوا سبع ديات، ولا يُقتل، ولكن أولياء المقتول صمموا أن يُقتل، قالوا: فهذا فعل فعله الصحابة، وما فعله الصحابة فهو حجة إذا لم يُوجد ما يمنعه.

أما الذين قالوا: إنه لا يجوز، فاستدلوا بقول النبي ﷺ: «مَن قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ». وذكر الدية أو القصاص، وهذا يدل على أنه لا خيار له فيما سوى ذلك، ولا شك أن الاحتياط ألا يأخذ الإنسان أكثر من الدية إذا كان يريد العفو، ولا يحب أن يقتص فنقول: خذ الدية، ولا تقتص". أهـ. الشرح الصوتي لزاد المستقنع (٢/‏٣٥٨١) وقال: "رجح ابن القيم رحمه الله تعالى أنه ليس له إلا الدية فقط؛ لأنه ورد في حديثٍ رواه الإمام أحمد - لكن في سنده محمد ابن إسحاق وقد عنعن - أن الرسول ﷺ حين قال: "القود أو الدية أو العفو"، ثم قال: «فإن اختار الرابعة فخذوا على يديه». أي: لا توافقوه. ولهذا رجح ابن القيم أنه ليس له أن يصالح بأكثر من الدية؛ لأن الشرع ما جعل له إلا هذا أو هذا؛ فإما أن تقتص أو الدية، والغالب في هذا أنه إذا قيل له: ما لك إلا الدية؛ فإنه يختار القود". الشرح الممتع على زاد المستقنع (١٤/‏٦٢)

 قلت: ولفظ الحديث المذكور: «من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث، إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم». أخرجه أحمد (٤/ ٣١)، وأبو داود (٤٤٩٦)، وابن ماجه (٢٦٢٣)، والدارمي (٢٣٥١). وضعفه الألباني في الإرواء (278 / 7) والأرناؤوط في تخريج سنن أبي داود (٦/‏٥٤٧) والخبل: الجرح. وكذلك ضعفه الشيخ عبد المحسن العباد، وقال في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه" أي: إذا طلب شيئًا أكثر مما حُدّد له وقُدِّر، وهو أحد هذه الأمور الثلاثة، أو حصل منه اعتداء أو شيء لا يجوز الإقدام عليه، فيؤخذ على يده ويمنع، وليس إلا أحد هذه الأمور الثلاثة فقط.. وسواءً كانت تلك الدية هي المقدرة أو أكثر منها؛ لأن أخذهم للدية هو مقابل تنازلهم عن حق لهم، وإذا لم يعطوا ما يريدون فلهم أن يقتلوا القاتل قصاصًا، وإذا طلبوا شيئًا وأعطوا إياه فإنه يسقط حقهم في القتل قصاصًا". شرح سنن أبي داود (٥٠٥/‏٩) وانظر: الإحكام شرح أصول الأحكام لابن قاسم (٣/‏٢١٧) وحاشية السندي على سنن ابن ماجه (٢/‏١٣٧).

4.    شرح زاد المستقنع للشنقيطي (6/٣٥٥)

5.    أبو داود (2 / 250) (2276) وصححه الألباني.

6.    أبو داود ( 1692 ) والنسائي ( 9176 ) وحسنه الألباني، ورواه ابن حبان (10 / 51) (4240) وصححه الأرناؤوط.

7.    مسلم (2699)

8.    أبو داود (2822) وصححه الألباني.

9.    الترمذي (٣٩٥٥) وحسنه الألباني.

10.                    أحمد (2142) والترمذي ( 2 / 171 ) والنسائي ( 2 / 164 ) وصححه الألباني والأرناؤوط.

11.                    البخاري 9/2 ( 6862 ). والفسحة: السعة.

 

 

الخميس، 2 يونيو 2022

من أرضى الله بسخط الناس

 

من أرضى الله بسخط الناس

 

الحمد لله شرح صدور المؤمنين فانقادوا لطاعته، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم فلم يجدوا حرجا في الاحتكام إلى شريعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن الخير كله في الرضا بالله تعالى، فأصبحوا وأمسوا يا عباد الله على الرضا بالله تعالى.

 روي عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "أمَّا بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلّا فاصبر".

ومن يجعل الرحمنُ في قلبه الرضا .. يعشْ في غنًى من طيّب العيش واسعُ

عباد الرحمن؛ قد يريد الناس شيئًا يخالف أمر الله تعالى، وهنا محك الإيمان واختبار اليقين ومعيار التقوى، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا، قال سبحانه: { إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا }، فالحزم كلّ الحزم في الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية: "من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا" (1) قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن تأمل أحوال العالم رأى هذا كثيرًا فيمن يعين الرؤساء على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يعين أهل البدع على بدعهم هربًا من عقوبتهم، فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شرّ نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرّم، وصبر على عدوانهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار ومن ابتلي من العلماء والعباد وصالحي الولاة والتجار وغيرهم". (2)

وقال ابن تيمية رحمه الله: "السعادة في معاملة الخلق: أن تعاملهم لله، فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم، وتكفّ عن ظلمهم خوفًا من الله لا منهم. كما جاء في الأثر: "ارجُ الله في الناس، ولا ترج الناس في الله، وخفِ الله في الناس، ولا تخف الناس في الله". أي: لا تفعل شيئًا من أنواع العبادات والقُرَب لأجلهم لا رجاء مدحهم ولا خوفًا من ذمّهم، بل ارجُ الله ولا تخفهم في الله فيما تأتي وما تذر، بل افعل ما أُمرتَ به وإن كرهوه.

وفي الحديث: "إنّ من ضعف اليقين أن تُرضي الناس بسخط الله، أو تذمّهم على ما لم يؤتك الله". (3) فإنّ اليقين يتضمّن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمّن اليقين بقدر الله وخلْقِه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنًا لا بوعده ولا برزقه، فإنّه إنما يحمل الإنسان على ذلك إمّا ميل إلى ما في أيديهم من الدنيا، فيترك القيام فيهم بأمر الله لِما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديق بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أرضيت الله نصرَك ورزقك وكفاك مؤنتهم، فإرضاؤهم بسخطه إنما يكون خوفًا منهم ورجاء لهم، وذلك من ضعف اليقين.

 وإذا لم يُقدّر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم، فإنّه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدّر؛ كان ذلك من ضعف يقينك، فلا تَخفهم ولا ترجهم ولا تذمّهم من جهة نفسك وهواك، لكن من حمده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو المذموم. ولما قال بعض وفد بني تميم: يا محمد، أعطني، فإنّ حمدي زَيْنٌ وإنّ ذمّي شَيْنٌ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك الله عز وجل". (4) وكتبت عائشة إلى معاوية وروي أنها رفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "من أرضى الله بسخط الناس كفاه مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا". (5) هذا لفظ المرفوع، ولفظ الموقوف: "من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذامًّا"، هذا لفظ المأثور عنها، وهذا من أعظم الفقه في الدين. والمرفوع أحقّ وأصدق، فإنّ من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، وهو كاف عبده (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ). فالله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه؛ فقد لا يحصل ذلك، لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض، وإذا تبيّنت لهم العاقبة.

 ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا، كالظالم الذي يعضّ على يده يقول: (يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا }، وأما كون حامده ينقلب ذامًّا: فهذا يقع كثيرًا ويحصل في العاقبة، فإن العاقبة للتقوى، لا يحصل ابتداء عند أهوائهم، وهو سبحانه أعلم". (6)

فَلا تَجزَع وَإِن أَعسَرتَ يَومًا  ...  فَقَد أَيسَرتَ في الزَمَنِ الطَويلِ

وَلا تَيأَس فَإِنَّ اليَأسَ كُفرٌ   ...  لَعَلَّ اللَهَ يُغني عَن قَليلِ

وَلا تَظنُن بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوءٍ  ...  فَإِنَّ اللَهَ أَولى بِالجَميلِ

بارك الله لي ولكم..

.............

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أعجز الناس وأجهلهم هو من أعطى الدنيا أكثر من حقّها وأكبر من حجمها رغبةً واهتمامًا ورضًا وسخطًا، فضع الدنيا – رحمك الله – حيث وضعها الله، وارفعِ الآخرةَ إذْ رفعها الله تعالى.

 قال ابن القيم رحمه الله: "ولما كان الألم لا محيص منه البتّة؛ عزّى الله سبحانه من اختار الألم اليسير المنقطع على الألم العظيم المستمر بقوله: (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ) فضرب لمدة هذا الألم أجلًا لا بدّ أن يأتي، وهو يوم لقائه، فيلتذُّ العبد أعظم اللذة بما تحمّل من أجله وفي مرضاته، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمّل من الألم في الله ولله.

 وأكّدَ هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه، ليحمل العبدَ اشتياقُه إلى لقاء ربه ووليّه على تحمل مشقة الألم العاجل، بل ربما غيّبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به! ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه الشوقَ إلى لقائه فقال في الدعاء الذي رواه أحمد وابن حبان: "اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحقّ في الغضب والرّضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برْدَ العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضرّاء مضرّة، ولا فتنة مضلة (7) اللهم زيّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين". (8) فالشوق يحمل المشتاق على الجدّ في السير إلى محبوبه، ويقرّب عليه الطريق، ويطوي له البعيد، ويهوّن عليه الآلام والمشاق، وهو من أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده، ولكن لهذه النعمة أقوالٌ وأعمال هما السبب الذي تنال به، والله سبحانه سميع لتلك الأقوال عليم بتلك الأفعال، وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة ويشكرها ويعرف قدرها ويحب المنعم عليه، قال تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ) فإذا فاتت العبد نعمة من نعم ربه فليقرأ على نفسه: { أليس الله بأعلم بالشاكرين }.

ثمّ عزّاهم تعالى بعزاء آخر؛ وهو أن جهادهم فيه إنما هو لأنفسهم وثمرته عائدة عليهم، وأنه غنيّ عن العالمين، ومصلحة هذا الجهاد ترجع إليهم لا إليه سبحانه، ثم أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين.

ثم أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له كعذاب الله، وهي أذاهم له ونيلهم إياه بالمكروه والألم الذي لا بد أن يناله الرسل وأتباعهم ممن خالفهم، جعل ذلك في فراره منهم، وتركه السبب الذي ناله، كعذاب الله الذي فرّ منه المؤمنون بالإيمان!

 فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فرّوا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحمّلوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب، وهذا لضعف بصيرته فرّ من ألم عذاب أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففرّ من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله! فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة ألم عذاب الله، وغُبن كلّ الغبن؛ إذ استجار من الرمضاء بالنار، وفرّ من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم، والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق.

 والمقصود؛ أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يَمتحن النفوس ويبتليها، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح، وليمحّص النفوس التي تصلح له ويخلّصها بكَير الامتحان، كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو مِنْ غشّه إلا بالامتحان، إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة، وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية، فإن خرج في هذه الدار وإلا ففي كَيْر جهنم، فإذا هُذّب العبد ونُقّي أذن له في دخول الجنة". (9)

ألا ما أجمل الرضا، وأحلى مذاقه، وأرقّ أوقاته، وأينع ثماره، اللهم رفقةَ الراضين بك، إله الحق. اللهم نسألك الفردوس الأعلى بلا حساب ولا عذاب ووالدينا وأهلينا وأحبابنا والمسلمين، إله الحق آمين.

اللهم صل على محمد...

............

1-                        الترمذي (2/ 67) وصححه الألباني في الصحيحة (2311) بنحوه.

2-                        الزاد (3/ 16-17)

3-                        شعب الإيمان (1/176) والحلية (3/122) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2009)

4-                       الترمذي (3267) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وضعفه أيمن صالح. ورواه أحمد (15991) وقال محققوه: إسناده ضعيف لانقطاعه، أبو سلمة بن عبد الرحمن- وهو ابن عوف القرشي- لم يثبت سماعه من الأقرع بن حابس.

5-                        الترمذي (2/ 67) وصححه الألباني في الصحيحة (2311) بنحوه.

6-                        مجموع الفتاوى (1 / 52)

7-                        أي أنه سأل الله أن يجعل سبب شوقه إلى لقائه هو محض الشوق إليه والإيمان به وحسن الظن به وعظيم الرجاء وصادق المحبة، وهذا هو الشوق الصادق الجميل، لا هربًا من مشقّة الدنيا أو فتنة الدِّين.

8-                       أحمد (18351) والنسائي (1305) وصححه الألباني في الكلم الطيب (106) ولفظ النسائي: "اللهم بعلمك الغيب.. الحديث".

9-                        زاد المعاد (3/ 16-17) باختصار.

 

فضلُ الرِّضا بالله تعالى (3)

 

فضلُ الرِّضا بالله تعالى (3)

 

الحمد لله ذي الجلال والإكرام حي لا يموت قيوم لا ينام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الحليم العظيم الملك العلام، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام والداعي إلى دار السلام صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن السعيد حقًّا هو من رضي الله عنه: (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم)، (ورِضْوانٌ مِّنَ اللّهِ أكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ).

عباد الرحمن؛ لقد أرضى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يصلي عشرًا على من صلى عليه واحدة من أمته المحظوظة باتّباعه، والسلام كذلك، فعن أبي طلحة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشرى في وجهه فقلنا: إنا لنرى البشرى في وجهك. فقال: «إنه أتاني الملك فقال: يا محمد؛ إن ربك يقول: أما يرضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرًا، ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرًا». (1) اللهم صل وسلم وبارك عليه وآله.

عباد الله؛ إن المؤمن يتقلّب في نعيم الرضا مهما تقلبت أحواله، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبت من قضاء الله عز وجل للمؤمن، إن أصابه خير حمد ربه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر. المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيّ امرأته». (2)

وعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له». (3) وتأمل خصوصية المؤمن بذلك. وكل هذا من بركات الرضا بالله تعالى.

والمقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله، والرضا بعده. فمن توكل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستخارة: "اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم". فهذا توكل وتفويض، ثم قال: "فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علّام الغيوب". فهذا تبرؤ إلى الله من العلم والحول والقوة، وتوسل إليه سبحانه بصفاته التي هي أحب ما توسل إليه بها المتوسلون، ثم سأل ربه أن يقضي له ذلك الأمر إن كان فيه مصلحته عاجلًا أو آجلًا، وأن يصرفه عنه إن كان فيه مضرته عاجلًا أو آجلًا، فهذه هي حاجته التي سألها. فلم يبق عليه إلا الرضا بما يقضيه له فقال: "واقدُرْ لي الخير حيث كان، ثم رَضِّنِي به". (4)

فقد اشتمل هذا الدعاء على هذه المعارف الإلهية والحقائق الإيمانية التي من جملتها التوكل والتفويض قبل وقوع المقدور، والرضا بعده، وهو ثمرة التوكل والتفويض وعلامة صحته، فإن لم يرض بما قضى له؛ فتفويضه معلول فاسد!

وهذا معنى قول بشر الحافي: "يقول أحدهم: توكلت على الله. يكذب على الله، لو توكل على الله لرضي بما يفعله الله به".  وقول يحيى بن معاذ وقد سئل: متى يكون الرجل متوكلًا؟ فقال: "إذا رضي بالله وكيلًا". (5)

وقد اشتمل دعاء الاستخارة هذا على خزائن رضًا عميم، وتأمل كيف أبدل الله حال الناس بالإسلام خيرًا، فخيرٌ لهم لو أسلموا دينهم كله لله رب العالمين، "فعوّض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بهذا الدعاء عمّا كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام الذي نظيره هذه القرعة التي كان يفعلها إخوان المشركين يطلبون بها علم ما قُسم لهم في الغيب، ولهذا سُمّي ذلك استقسامًا، وهو استفعال من القَسْم، والسين فيه للطلب، وعوّضهم بهذا الدعاء الذي هو توحيد وافتقار وعبودية وتوكّل وسؤال لمن بيده الخير كله، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، الذي إذا فتح لعبده رحمة لم يستطع أحد حبسها عنه، وإذا أمسكها لم يستطع أحد إرسالها إليه من التطير والتنجيم واختيار الطالع ونحوه. فهذا الدعاء هو السبب الميمون السعيد، أهل السعادة والتوفيق الذين سبقت لهم من الله الحسنى، لا طالع أهل الشرك والشقاء والخذلان الذين يجعلون مع الله إلهًا آخر فسوف يعلمون.

 فتضمن هذا الدعاء الإقرار بوجوده سبحانه، والإقرار بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة، والإقرار بربوبيته، وتفويض الأمر إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، والخروج من عهدة نفسه والتبري من الحول والقوة إلا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كلّه بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحق". (6) "وقال الله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)، قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "إذا توفى العبد المؤمن؛ أرسل الله إليه ملكين، وأرسل إليه بتحفة من الجنة، فيقال: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى رَوح وريحان، ورب عنك راض". وفي وقت هذه المقالة ثلاثة أقوال للسلف:

أحدها: أنه عند الموت. وهو الأشهر، قال الحسن: "إذا أراد قبضها اطمأنت إلى ربها ورضيت عن الله فيرضى الله عنها". وقال آخرون: إنما يقال لها ذلك عند البعث. هذا قول عكرمة وعطاء والضحاك وجماعة. وقال آخرون: الكلمة الأولى وهي: (ارجعي إلى ربك راضية مرضية) تقال لها عند الموت، والكلمة الثانية وهي: (فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) تقال لها عند الخروج من الدنيا ويوم القيامة. (7)

عباد الرحمن؛ إنّ بلوغ مقام الرضا لا يكون بالتحلّي ولا بالتمنّي، وليس بالادعاء والكبرياء، كما في قصة قارون لمّا وعظه قومُه بشأن ماله، فقال لهم: { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْئلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ }. فليس المال وكثرته هو الذي يبلغ به العبد درجة الرضا، فكم ملك قارون؟ وما أغنى عنه شيئًا، وما رضي عن الله، ولا بقضائه. لقد تمنّى من تمنّى ممن رأى قارون في زينته، وماله، وجبروته، أن يحصلوا على ما حصل عليه فقالوا: { يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }. وظنّوا أنّه بلغ مقام الرضا، ولكن الله أخبر أن المال ليس بدليل على رضا الله عن صاحبه، فإنّ الله يعطي ويمنع، ويُضيّق ويُوسّع، ويخفض ويرفع، وله الحكمة التامة سبحانه، والحجة البالغة. ولهذا لما أدرك المتمنّون ما حصل لقارون، وأنه بعيد كل البعد عن رضا الله أولًا، والرضا بما أعطاه قالوا: { لَوْلاَ أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }، فلولا لطفُ الله بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا كما خسف به!

وقد روى أحمد في مسنده (8) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإنّ الله عزّ وجل يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الدِّين إلا من أحبّ، فمن أعطاه الدين فقد أحبَّه، والذي نفسي بيده لا يُسلم عبدٌ حتى يُسلمَ قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جارُه بوائقه". قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: "غَشْمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالًا من حرام فينفق منه فيبارَك له فيه، ولا يتصدّق به فيُقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار. إنّ الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو بالخبيث".

بارك الله لي ولكم..

.............

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الرضا حال من أحوال أهل الجَنَّة، لا يفارق صاحبه المتحلّي به في الدنيا ما دام مع أمر الله، راضيًا بقضائه في الدنيا وفي الآخرة. فالرضا بالقضاء من تمام الإيمان بالقضاء والقد.

والرضا غاية يسعى لها المؤمن الصادق، والرضا من مقامات الإحسان التي هي من أعلى المندوبات، ومرتبة الإحسان هي أعلى مراتب الدين، كما في حديث جبريل عليه السلام المشهور. (9)

ثُمَّ إن الرّضا من المقامات التي توصل للطمأنينة؛ وكم يتمنى العبد الحصول على الطمأنينة، فالرضا من الأمور التي تسبّب في وصول العبد إليها، فهو باب الله الأعظم.

قال ابن القيم رحمه الله: "ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم، وجنّة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبّين، ونعيم العابدين، وقرّة عيون المشتاقين". (10)

هذا، وإنّ مرتبة الرضا فوق الصبر ودون الشكر، - كما مر - علمًا بأن كل مرتبة لا تقوم إلا على ما قبلها، فلا رضا بدون صبر، ولا شكر بدون رضا. قال العثيمين رحمه الله تعالى وقد سئل: عمّن يتسخط إذا نزلت به مصيبة؟ فأجاب: "الناس حال المصيبة على مراتب أربع:

المرتبة الأولى: التسخّط وهو على أنواع:

النوع الأول: أن يكون بالقلب كأن يتسخط على ربه يغتاظ مما قدره الله عليه، فهذا حرام، وقد يؤدي إلى الكفر قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ﴾.

النوع الثاني: أن يكون التسخط باللسان كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وهذا حرام.

النوع الثالث: أن يكون التسخط بالجوارح كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور وما أشبه ذلك وكل هذا حرام منافٍ للصبر الواجب.

المرتبة الثانية: الصبر، وهو كما قال الشاعر:

والصبرُ مثل اسمه مرٌّ مذاقتُه   ...  لكنْ عواقبُه أحلى من العسلِ

فيرى أن هذا الشيء ثقيل عليه لكنه يتحمله، وهو يكره وقوعه ولكن يحميه من السخط، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده، وهذا واجب لأن الله تعالى أمر بالصبر فقال: ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.

المرتبة الثالثة: الرضا، بأن يرضى الإنسان بالمصيبة بحيث يكون وجودها وعدمها سواء، فلا يشق عليه وجودها، ولا يتحمل لها حملًا ثقيلًا، وهذه مستحبة وليست بواجبة على القول الراجح، والفرق بينها وبين المرتبة التي قبلها ظاهر، لأن المصيبة وعدمها سواء في الرضا عند هذا، أما التي قبلها فالمصيبة صعبة عليه لكن صبر عليها.

المرتبة الرابعة: الشكر: وهو أعلى المراتب، وذلك بأن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته، وربما لزيادة حسناته، قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها حتى الشوكة يشاكها". (11)

اللهم نسألك الفردوس الأعلى بلا حساب ولا عذاب ووالدينا وأهلينا وأحبابنا والمسلمين، إله الحق آمين.

اللهم صل على محمد...

......................

1-                        النسائي (3/ 44)، والحاكم في المستدرك (2/ 420) وصححه ووافقه الذهبي. وقال محقق جامع الأصول (4/ 405): وللحديث شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن أو الصحيح.

2-                        أحمد (1/ 173، 177، 178) وشرح السنة (1540) وقال مخرجه: إسناده حسن والبيهقي في السنن (3/ 375، 376) والهيثمي في المجمع (7/ 209) وقال: رواه أحمد بأسانيد ورجالها كلها رجال الصحيح.

3-                        مسلم (2999)

4-                        البخاري 2/70 ( 1162 )

5-                        مدارج السالكين (2 / 124) باختصار.

6-                       زاد المعاد (2/  404)

7-                       مدارج السالكين (2 / 179)

8-                       أحمد في مسنده (3672) والحاكم في المستدرك (2/447)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وضعّفه محققو المسند والألباني، ورجّح الدارقطني في العلل (5/271) وقفه.

9-                        عدة الصابرين (1 / 124)

10-                                       مدارج السالكين (2 / 174)

11-                                        مجموع فتاوى ابن عثيمين ( 2/109) والحديث رواه أحمد (3085) وأصله في الصحيحين كما عند البخاري 7/148 ( 5641 ) ومسلم 8/16 (2573)