إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 31 مايو 2022

وظائفُ اليوم والليلة

 

وظائفُ اليوم والليلة

 

الحمدُ لله العَليمِ الخبيرِ، السَّميع البصِير، أحاطَ بكلِّ شيءٍ عِلمًا، وأَحصَى كلَّ شيءٍ عَددًا، لا إلهَ إلاَّ هو إليه المصير، أحمَدُ ربِّي وأشكرُه، وأتوب إِليه وأستغفِره، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحده لا شَريكَ له العليُّ الكبيرُ، وأشهَد أنَّ نبيَّنا محَمَّدًا عَبدُ الله ورسولُهُ البَشيرُ النَّذيرُ والسراجُ المُنيرُ، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبَارِك على عبدِكَ ورسولِكَ محمَّدٍ، وعلى آلِه وأصحابِه ذَوي الفَضلِ الكَبيرِ. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن المؤمن الموفق دائم العبادة بكل أنواعها وأحوالها المستطاعة له، فهو بين عبادة مقصودة لذاتها كالذكر والتفكر والدعاء والتلاوة والصلاة والصيام والصدقة، وبين عبادة مقصودة لغيرها كالنوم والطعام وإجمام النفس لتنشيطها لعبادات الغايات، ودوام العبادة هو قنوت محبوب لله تعالى، فالقنوت هو دوام القيام بوظائف العمر.

عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة} قال: "يحذر عذاب الآخرة". (1) وقال تعالى: { أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه}، أي: أمّن هو هكذا كمن ليس كذلك؟ (2) ولهذا قال: { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب }. وقيل إنه عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه كان يحي الليل، والصحيح أنها عامة في كل من اتصف بهذه الصفة، وفي هذه الآية تنبيه على فضل قيام الليل. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: من أحبّ أن يهوّن الله عليه الوقوف يوم القيامة؛ فليره الله في سواد الليل ساجدًا وقائمًا". (3)

عباد الرحمن؛ إن للمؤمن وظائف في اليوم والليلة حري به مداومتها حتى يرحل لربه تعالى راضيًا مرضيًا. فللموفق الصالح كلّ يوم وليلة أعمالٌ صالحة ترفع للسماء، بعضها واجب وبعضها مستحب، هي درجاتٌ في مراتب الجنات، فمستقلٌّ ومستكثر من فضل رب البريات، قد جعلها الله وظائفَ لعمر المؤمن، يزيد بها أجره ويُقربُه بها من مرضاته وجنته.

والمومن الموفّق يبدأ يومه بصلاة الفجر جماعة مع المسلمين في بيت الله تعالى، فحينما تسمع الأذان انهض مباشرة واحذر من نزغات الشيطان التي تدعوك للكسل عن الصلاة. فمن صفات المنافقين: (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى). فإن بادرت للمسجد قبل الأذان فأنت من خيرِ مَن أنتَ منهم.

اذكر ربك من حين انتباهِكَ من نومك وأسبغ وضوءك وامش إلى المسجد بسكينة ووقار، ولك بكل خطوةٍ درجةٌ وتكفيرُ خطيئة، كما في الصحيحين.(4)

وعند دخولك المسجد قدّم رجلك اليمنى وقل: "أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك". (5)

وهناك سنّةٌ راتبة بين الأذان والإقامة، وهي ركعتان خفيفتان، ومما ورد في فضلها قوله صلى الله عليه وسلم: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها". (6) وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعها حضرًا ولا سفرًا، وهي الرغيبة، وإذا كان هذا فضل سنة الفجر، فما بالكم بصلاة الفجر؟! ومن السنة أن تقرأ في الركعة الأولى سورةَ الكافرون وفي الثانية قل هو الله أحد، أو في الأولى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا..) الآية. وفي الثانية: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء..) الآية. ومن فاتته سنة الفجر قبل الصلاة فيشرع أن تُقضى بعد ارتفاع الشمس وإن بعد صلاة الفجر فلا بأس.

واعلم أخي المسلم: إن لصلاة الفجر شأنًا عظيمًا كما قال تعالى: (وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودَاً)، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَن صلى البردين دخل الجنة". (7) والبردان هما الفجر والعصر.  ومنها أن "من صلى الفجر فهو في ذمة الله". (8)

ومن أدلة أهمية صلاة الفجر أن الصحابة كانوا يرون أن التخلف عنها من علامات النفاق، كما قال ابن مسعود: "ولقد رأيتُنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق". هذا؛ "ولصلاةِ الفَجر على وجه الخصوص تأثيرٌ عجيب في تصفية القلب وفي تنويره أكثر من تأثير سائر الصلوات.. فإن كل من له ذوق سليم وأدَّى هذه الصلاة في هذا الوقت بالجماعة وجد من قلبه فُسحة ونورًا وراحة".(9)

أخي في الله: يشرعُ لك بعد الفجر أن تبدأ صباحك بأذكار الصباح الواردة عن نبينا صلى الله عليه وسلم التي تجعل قلبك يعيش في رياض الإيمان، (أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) فالذكر للروح كالماء للسمك، وقال صلى الله عليه وسلم: "مثلُ الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحي والميت". (10)

وإذا صليت الفجر فاذكر أذكار الصلاة ثم أتبعها بأذكار الصباح ولا تقم حتى ترتفع الشمس ففيها أجر عظيم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى الفجر في جماعة، ثم قَعَدَ يذكرُ الله حتى تطلُع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حَجّةٍ وعمرة تامّة تامّة تامّة». (11)

ويا عبد الله: لا بد أن يكون لك ورد يومي من القرآن لا يقل عن جزءٍ قدر استطاعتك، فلا تهجر كلام ربك فتدخل في شِكاية الرسول صلى الله عليه وسلم: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا). فليكن لك ورد لا يقطعه إلا الموت، فالأبل ترد الماء لتحيا، وكذلك القلب يردُ القرآن ليحيا، فأحيه بالقرآن ولا تُقسّه بهجره، فأبعدُ القلوب عن الله القلبُ القاسي.

 والموفق يعتني بصلاة الضحى، وروى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أوصانِي خَلِيلِي بثَلَاثٍ لا أدعُهُنَّ حَتَّى أَموتَ: صيامِ ثلاثَةِ أَيَّامٍ مِن كُل شَهرٍ، وصَلاةِ الضُّحى، وأن أوتر قبل أن أنام". (12) ويبدأ وقتها بعد طلوع الشمس بنحو ربع ساعة حتى قبيل الظهر بعشر دقائق، وأقلها ركعتان، ولا حدّ لأكثرها.

فإذا أُذّن لصلاة الظهر فيستحب لك صلاة أربع ركعات بسلامينِ قبلها لأنه وقتٌ تُفتح فيه أبواب السماء، فعن عبد الله بن السائب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربعًا بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال: "إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحبّ أن يصعد لي فيها عمل صالح". (13) ثم صل الفريضة واذكر أورادها، ثم صل ركعتين بعدها، كما جاء في الحديث: "من صلى ثنتي عشرة ركعة بنى له الله بيتاً في الجنة". (14) وهي أربعٌ قبل الظهر، واثنتان بعده. وإن صلى بعدها أربعًا فحسن، فعن أم حبيبة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر، وأربع بعدها، حرّمه الله على النار". (15) وتدبر عبارة "حافظ" المشعرة بالديمومة قدر المستطاع. واثنتان بعد المغرب في البيت واثنتان بعد العشاء في البيت، واثنتان قبل صلاة الفجر.

يا عبد الله، بادر وبكّر للصلاة فإنك لا تزال في صلاة ما كنت في انتظارها، فإذا صليت فإن الملائكة تستغفر لك ما دمت في مصلاك مالم تنصرف أو تُحدِث، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم. فلا تستعجل الخروج من المسجد بعد الصلوات، واعمر وقتك بالذكر فأنت في رياض الجنة.

 فإذا دخل وقت العصر استُحِبَّ لك صلاةُ أربع ركعات بسلامين قبل الفريضة، قال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعًا". (16)

وصلاة العصر جِدُ عظيمة، قال تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) والمراد بالوسطى هي العصر. وقال صلى الله عليه وسلم: "مَن ترك صلاة العصر فقد حبط عمله". (17)

فإذا صليت العصر وذكرت أذكارها فلا تقم حتى تذكر أذكار المساء، فإنك أن قمت أَنْسَتْك مشاغلُ الدنيا غنائمَ الآخرة! والمؤمن حازمٌ فطن، (والآخرة خير وأبقى).

وتحرمُ الصلاة بعد العصر حتى غروب الشمس مما ليس له سبب، وأما الصلوات التي لها سبب فتجوز في أوقات النهي على الراجح، كصلاةِ الجنازة والاستخارة والطواف والوضوء وتحيةِ المسجد ونحو ذلك، فيجوز فعلُ كلِّ ذلك حتى في أوقات النهي؛ لأنها من ذوات الأسباب. ولكن إذا اقترب وقت الغروب أو الشروق أو الزوال فلا تُصلّى حتى ذواتِ الأسبابِ، وذلك لورود التشديد في النهي عن الصلاة فيها، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "ثلاثُ ساعاتٍ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلّي فيهن أو ندفن فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقومُ قائمُ الظهيرة حتى تميلَ، وحين تَضَيَّفُ الشمسُ للغروب حتى تغرب". (18)

فإذا غربت الشمس استُحبّت ركعتان قبل صلاتها، قال صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا قبل المغرب، صلُّوا قبل المغرب" وقال في الثالثة: "لمن شاء". (19) وعن أنس رضي الله عنه قال: "لقد رأيتُ كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواريَ عند المغرب". (20) فإذا صليت المغرب فصل ركعتين والأفضلُ أن تصليَها في بيتك، قال صلى الله عليه وسلم فيها: "هذه صلاة البيوت". (21)

وصلاة العشاء معظّمة في الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: "مَن صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله". (22) وقال صلى الله عليه وسلم: "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيمها لأتوهما ولو حبوًا". (23) وبعد الفراغ من الصلاة يستحب لك صلاة ركعتين، وهي من السنن الرواتب.

 واعلم أن السنن التي تسقط عن المسافر هي راتبة الظهر والمغرب والعشاء فقط، أما ما سوى ذلك كراتبة الفجر أو النوافل المطلقة أو ذوات الأسباب أو صلاة الضحى أو الوضوء أو قيام الليل ونحو ذلك فهي باقية في حق المسافر كالمقيم.

وإن من أحب الأعمال إلى الله – فاعلم - الصلاةُ في جوف الليل، فصلاة الليل هي أفضل الصلواتِ بعد الفريضة، وصلاة الليل هي زاد المؤمن وراحته وجَنته وجُنَته، ومن أسباب الأمن يوم القيامةِ قيامُ الليل، قال تعالى: (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلًا . وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلا . إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يومًا ثقيلًا)، وتدبر رحمك الله قولَ اللهِ عز وجل عن المؤمنين: (تَتَجافى جُنُوبُهُم عن المضاجع يدعون ربَّهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم يُنفقون (فلا تعلم نفسٌ مآ أُخفِيَ لهم من قُرَّة أَعْيُنٍ جزآءً بما كانوا يعملون).

بارك الله لي ولكم..

.............

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ في الجنة نعيمًا ليس من جنس نعيم الدنيا، بل هو جديدٌ بكل تفاصيله وأسمائه، وليس في الدنيا ما يعبَّرُ عنه به حتى ولو على سبيل التقريب والتشبيه، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. اقرءوا إن شئتم: (فلا تعلمُ نفسٌ ما أُخفِي لهم من قُرَّةِ أعيُنٍ جزاءً بما كانوا يعملون)". (24) فلم يخطُر ذلك النعيمُ على قلبٍ أصلًا، نسأل الله الكريم من فضله. قال بعض السلف: "أخفوا لله العمل فأخفى الله لهم الجزاء، فلو قَدِموا عليه لأقرّ تلك الأعين عنده".

وقال الله عن أهل الجنة: (كَانُوا قَلِيلَاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأبُ الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد". (25) وتأمّل كلمة "دأب" أي أنها من سماتهم وصفاتهم وأفعالهم المستمرة التي يدأبون عليها حتى يرحلون إلى الله تعالى بخيرها، وقال صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريلُ فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزُّه استغناؤه عن الناس". (26)

ولا تنس لا تنس لا تنس أن تذكر الله وتدعوه في الثلث الأخير من الليل، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلثُ الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيبَ له من يسألُني فأعطيَه من يستغفرُنِي فأغفرَ له"، وفي رواية: "حتى ينفجر الصبحُ". (27) فالغنائم أيها النائم.

 ومن أراد الخير فليعمل بأسبابه ورأسها الاستعانة بالله تعالى وتقواه، وذُكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا نام ليلَهُ حتى أصبح فقال: "ذاك رجل بال الشيطان في أُذنيه". (28) متفق عليه، وهذا فيمن فاته قيامُ الليل؛ فكيف بمن فاتته فريضة الفجر؟! اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا. ولما اشتكوا للحسن ضعفهم عن التهجد قال: "قيّدتكم خطاياكم". وللسلف مع قيام الليل أخبار شريفة.

أخي في الله: إن من توفيق الله لعبده أن يهديَه لعملٍ صالحٍ لا ينقطع بموته، فلا يزال يصعد درجات الجنة حتى بعد رحيله عن دنيا العمل، بكلمةٍ علّمها، أو نفس أسعدها، أو جَوعة أشبعها، أو علّة داواها، أو بئرٍ حفرها، أو جِلدٍ أدفأه، أو ظلامٍ بدّده، أو طريق عبّده، أو نفعٍ سبّله، أو مسجد بناه، ونحو ذلك من مراضي رب العالمين، إنما المقصود مراعاة رأس المال قبل تحصيل الربح، فإن ذهبت العبادة الخاصة فما تلاها أولى بِذَهابٍ.

وعليك بالدعاء فهو زاد المؤمن وقُوْتُه وقُوَّتُه وسلاحه، وما خاب من دعا، وما ندم من ابتهل، وما خسر من تضرّع. ومِن أعظم أسباب إجابة الدعاء: اليقين بربك، وحسن ظنك به، والثقة بلطفه، والطمأنينة لوجوده وإحاطته وعلمه وقُربُه ورحمته. ومن وصايا طاووس بن كيسان: "إيّاك أن تطلب حوائجك ممن أغلق دونك أبوابه، وجعل دونك حجَّابه، وعليك بمن أمرك أن تسأله، ووعدك الإجابة"، ويكفينا قول الكريم الوهاب: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم).

اللهم حبب إلينا الإيمان، وزيِّنْهُ في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم ارزقنا حسنَ عبادتك آناء الليل وأطراف النهار. اللهم صل على محمد وأله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

..................

1-                         مصنف ابن أبي شيبة (14 / 37)

2-                          تفسير ابن كثير (6 / 202)

3-                          تفسير الثعالبي (4 / 49)

4-                           البخاري ( 1887 ) ومسلم ( 664 ) ( 279 )

5-                          أبو داود (466) وصححه الألباني. وقال الذهبي رحمه الله تعالى في تاريخ الإسلام (٨/‏٥٣٢): "قال الحسين بن أحْمَد الصّفار الشيرازي: لما مات أحْمَد بن منصور الحافظ، جاء إلى أبي رجلٌ فقال: رأيته في النّوم، وهو في المحراب واقف، في جامع شيراز، وعليه حُلَّة، وعلى رأسه تاج مكلَّل بالجوهر، فقلت: ما فعل اللَّه بك؟ قالَ: غفر لي وأكرمني، وأدخلني الجنة، فقلت: بماذا؟ قال: بكثرة صلاتي عَلى رَسُولِ اللَّه ﷺ". اللهم صل وسلم وبارك على محمد وآله عدد ما خلقت من الخلائق.

6-                           مسلم ( 725 ) ( 96 )

7-                           البخاري ( 574 ) ومسلم ( 635 )

8-                          مسلم (1467)

9-                          تفسير الرازي (21/ 385)

10-                    البخاري 8/107 (6407)، ومسلم 2/188 (779) (211)

11-                     الترمذي (586) وحسّنه، ووافقه ابن باز، وكذلك الألباني في السلسلة الصحيحة (14 / 15)

12-                     البخاري (1178) ومسلم (2/158)

13-                   أحمد 5/418 (23947) وقال محققوه: صحيح لغيره. الترمذي ( 478 ) والنسائي في الكبرى ( 331 )، وقال: "حديث حسن غريب".

14-                    أحمد (26774) والنسائي (1799) وصححه الألباني.

15-                   أبو داود ( 1269 )، وابن ماجه ( 1160 )، والترمذي ( 427 ) وقال: حديث حسن غريب". وصححه الألباني.

16-                   أبو داود ( 1271 )، والترمذي ( 430 ) وقال: حديث حسن غريب. وحسنه الألباني.

17-                    البخاري 1/145 ( 553 )

18-                     مسلم (831). و"قائم الظهيرة": أي قيام الشمس وقت الزوال، وذلك عند بلوغها وسط السماء.

19-                     البخاري 2/74 ( 1183 )

20-                     البخاري 1/134 ( 503 ) قال ابن حجر في فتح الباري (2/141): "يبتدرون: أي يستبقون، والسواري جمع سارية، كأن غرضهم بالاستباق إليها الاستتار بها ممن يمر بين أيديهم لكونهم يصلون فرادى".

21-                    أبو داود (1302) وقال الألباني: قلت: حديث حسن، واستحسنه أحمد، وصححه ابن خزيمة.

22-                     مسلم 2/125 ( 656 ) ( 260 )

23-                    البخاري 1/159 - 160 ( 615 ) ، ومسلم 2/31 ( 437 )

24-                    البخاري 4/143 (3244) ومسلم 8/143 (2824) (2)

25-                    الترمذي (2814) وحسنه الألباني، وقال الحافظ العراقي في تخريج إحياء علوم الدين (2 / 195): ورواه الطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة بسند حسن، وقال الترمذي: إنه أصح.

26-                    الطبراني في الأوسط ( 1 / 61 / 2 ) والحاكم ( 4 / 324 - 325 ) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2 / 330)

27-                     البخاري (1145) ومسلم (758) (170)

28-                     البخاري 2/66 ( 1144 ) ومسلم 2/187 ( 774 ) ( 205 )

 

التوازن في حياة المسلم

 

التوازن في حياة المسلم

 

الحمد لله جعل الحمدَ مفتاحًا لذكره، وجعل الشكرَ سببًا للمزيد من فضله، ودليلاً على آلائه وعظَمَته، قضاؤه وحُكمه عدلٌ وحكمة، ورِضاه أمانٌ ورحمة، يقضي بعلمه، ويعفُو بحِلمه، خيرُه علينا نازِل، وتقصيرُنا إليه صاعِد، لا نقدِر أن نأخُذَ إلا ما أعطانا، ولا أن نتقِيَ إلا ما وقانا، نحمدُه على إعطائه ومنعه وبسطِه وقدرِه، البرِّ الرحيم لا يُضيرُه الإعطاءُ والجُود، مُسدِي النِّعَم وكاشِفِ النِّقَم، أصبحنا عبيدًا مملوكين له، له الحُجَّة علينا ولا حُجَّة لنا عليه، نستغفره ونتوبُ إليه مما أحاط به علمُه وأحصاه في كتابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله سيدُ البشر أجمعين ورسولُ ربِّ العالمين، فصلواتُ الله وسلامه عليه، وعلى آله وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن المؤمن بالله المتبع لشريعته، المتدبر لكتابه، متّزن العقل، متوازن النظر، لا يعطي أمرًا فوق حجمه ولا ينقصه عن قدره، قدر رفع الآخرة إذ رفعها الله تعالى، ووضع الدنيا حيث وضعها الله. قد فتح الله بصيرته فرأى بعيني قلبه حقيقة الدنيا فزهد فيها زهادة أهل القبور، فجعلها معبرًا وممرّا وزادًا لرحلته للدار الآخرة ومستمتعًا بالخير إلى حين.

عباد الرحمن؛ إن المؤمن الموفق الحكيم يعلم أنّ من أجلّ المهمات لبصيرته وعمله وحكمته ومصيره: الحاجةُ الملحّة للتوازن في النظر للأمور وتقدير أحجامها المعنويّة بلا وكسٍ ولا شطط. وسيّدة قواعد التوازن هي أن الذي يستحق أن تقلق لأجله هو الآخرة؛ درجاتها ودركاتها، أما الدنيا فمفروغ منها، رزقك وعمرك.

فالعابد الناسك لا يترهّب ولا يتبتل، كما أنه لا ينشغل بالدنيا عن الدين ولا يغفل عن زاد التقوى، بل يحرث الأرض بالإحسان كما أمره ربه، فيعمل لآخرته ولا ينسى نصيبه من الدنيا. قال ابن الجوزي رحمه الله: "رأيت سبب الهموم والغموم؛ الإعراض عن الله عز وجل والإقبال على الدنيا. وكلما فات منها شيء وقع الغم لفواته.

فأما من رزق معرفة الله تعالى استراح؛ لأنه يستغني بالرضا بالقضاء، فمهما قدّر له رضي. وإن دعا فلم ير أثر الإجابة لم يختلج في قلبه اعتراض، لأنه مملوك مدبَّر فتكون همته في عبادة الخالق.

 ومن هذه صفته لا يؤثر جمع مال، ولا مخالطة الخلق ولا الالتذاذ بالشهوات. لأنه إما أن يكون مقصرًا في المعرفة فهو مقبل على التعبد المحض، يزهد في الفاني لينال الباقي. وإما أن يكون له ذوق في المعرفة فإنه مشغول عن الكل بصاحب الكل. فينشغل بمحبة الله تعالى والشوق إليه والأنس به وتلمّح إحسانه ولطفه ورفقه وبرِّه والحياء منه ومخافته وذكره ودعائه وإحسان التعبّد له، فينتظم له الزهد في الدنيا وأهلها تبعًا.

فتراه متأدبًا في الخلوة به، مستأنسًا بمناجاته، مستوحشًا من مخالطة خلقه، راضيًا بما يقدّر له. فعيشه معه كعيش محب قد خلا بحبيبه لا يريد سواه، ولا يهتم بغيره. فأما من لم يرزق هذه الأشياء، فإنه لا يزال في تنغيص متكدر العيش، لأن الذي يطلبه من الدنيا لا يقدر عليه، فيبقى أبدًا في الحسرات مع ما يفوته من الآخرة بسوء المعاملة، نسأل الله عز وجل أن يستصلحنا له فإنه لا حول ولا قوة إلا به". (1)

ومن مسائل التوازن للمؤمنين: تقديرُ العالم وإجلالُه، فقد جفا عن حقّه وجلاله أقوام -وبخاصة حدثاء الأسنان – وجعلوا كلمته ورأيه وفتواه كفتوى آحادهم التي تلقفوها من الكتب مباشرة أو من فهومهم القاصرة أو من شبكاتٍ مجهولة سائرة، وغفلوا عن كبار أمورٍ لا تُدرَكُ إلا بعد النضج العلمي الطويل، وسهَوا عن مرتبة إجلال حَمَلَةِ الشريعة وتعظيم العلم الذي في صدورهم. فإن المعلومة التي يتأمّلها الإنسان أربعين سنة ويسقيها عصارة تجاربه ويُمِرّ عليها دلائل الوحي ليست كالتي تنطبع في ذهن غيره في ساعات، فيضمحل صفوُها لكَدَرِ ثاني الحال.

ومن مهمات مسائل التوازن العقلي للمؤمن: الانتباه لتلبيسات إبليس في الأوامر والمناهي الإلهية، فإن الشيطان الغادر قد يَلْبَسُ جُبّة الشيخ الناصح، وما بالك بمن عُمُرُه أطول من عمر البشرية كلها، وتجاربه مع بني آدم لا تُحصى، فهو خبيرٌ نفسي، وعدوٌّ ماكر، ومُخالطٌ غادر، نافثٌ خَطَرات، ومُزيّنٌ شهوات. ومن الكتب النافعة في هذا الباب إغاثة اللهفان لابن القيم وتلبيس إبليس لابن الجوزي رحمهما الله تعالى.

 عباد الرحمن؛ الموفق من عصمه الله من كيد الشيطان وإغوائه، وكان بمعزل في التقوى عن خطواته، فإنه يبدأ بالخطوة ليمشي بالمرء أميالًا، ويهوّن عليه الأمر لينكسر حاجز المناعة ضد الخطيئة، ويوسوس للمرء بالأمر حرصًا على بلوغ غيره وهكذا، وتأمل خَبَرَهُ مع برصيصا العابد.

عباد الله؛ الحذر الحذر من خطوات الشيطان؛ فهو يأخذ بالعبد في طريق غوايته خطوة بخطوة، ولقد وجد في هذا الزمان من كان يضع صورة القائد خّطاب رحمه الله في محفظته، حتى إذا فَتَر نظر إليها. والآخرُ علّق صورة والده المتوفّى، فكان يُحيِّي الصورة كلما دخل المنزل، وبعد مدّة زاد مع التحية ركوعٌ. فيا سبحان الله، حذو القذة بالقذة، وهل هلك قوم نوح ومن بعدهم إلا بذرائع الشرك في لبوس الصلاح، فاللهم غُفْرًا. فالتصوير والنحت هو ذريعة التعظيم والعبادة، (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثير) فيحرُم تعليق صور ذوات الأرواح مطلقًا، ويغلظ التحريم إن كانت لذي سلطانٍ على القلوب سواء لمحبته كالوالد، أو لعلمه كالعلماء، أو لعبادته كالصالحين، أو لمُلْكِه كالسلاطين والملوك.

 ولكنّ الشيطان بحمد الله ضعيف صغير حقير أمام مَنْ حَفِظَ أمرَ ربِّه وتعلق به واستعاذ واعتصم، فهو مجرد أزّازٍ، يوسوس في الصدر فيؤُز (2) الإنسان لمعصية الرحمن ولكن لا سلطان له على قلبه وعقله وإرادته وجوارحه، إنما هو مشير سوء ومسعّر فتنة لا حول له ولا طول ولا قوة إلا بالوسوسة، ويخنس حال ذكر الله تبارك وتعالى، فهو كما قال أبو حازم رحمه الله: "الشيطانُ وما الشيطان! أُطيعَ فلم ينفع، وعُصيَ فلم يضرّ". وربنا جل وعلا يقول: (إن كيد الشيطان كان ضعيفًا) وقال تعالى: (وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم مآ أنا بمصرخكم ومآ أنتم بمصرخي إني كفرت بمآ أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب). فهو مجرد وسواس يخنس عند ذكر الله العظيم جلّ وعزّ. فالمؤمن يخشى الله وحده ويحذر كيد عدوّه وقد أجلى العليم عداوة الخبيث فقال سبحانه: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) فالاعتصام بحبل الله نجاة وحسن الرجاء بفضله فلاح.

من يتـق الله يُحمـد في عواقبه    ...  ويكفه شرّ من عزّوا ومن هانوا

عباد الله؛ العبد الموفق إذا آتاه الله حظًّا من علم وأثارة من سبيل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكون شديد العناية بفقه الأولويات والتوازنات وقواعد المصالح والمفاسد من التقديم والتأخير والتحصيل والاحتمال والدفع والرفع على ضوء المُحكمات الشرعيّة، فلا يمنع الرضا بالله من إعمال العقل وإتعاب الفكر في جلب مصالح الدنيا والآخرة ودفع مضارّهما، ذلك أن الذي أمرك بالرضا بأقداره هو من أمرك بتحصيل مصالح الزَّمَانين ومدافعة بلايا الدارين، (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)، اللهم نسألك الحكمة والتوفيق والعصمة والهدى والسداد.

بارك الله لي ولكم...

...............

1-                   صيد الخاطر (1 / 111) بتصرف.

2-                   أي يهيّج ويغري ويزيّن.


(وبشر الصابرين)

 

(وبشر الصابرين)

 

الحمد لله ذي الجلال والإكرام حي لا يموت قيوم لا ينام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الحليم العظيم الملك العلام، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام والداعي إلى دار السلام صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن المؤمن صابر لربه في كل أحواله.

فطبع المؤمن الصبر، لأنه مستسلم للقضاء حلوه ومرّه، فلا جزع ولا اعتراض بل صبر وتسليم، فإن ضعف الصبر في صدرك فراجع مساقي الرضا في قلبك، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والإنسان ضعيف بطبعه، قليلُ الحيلة، واهنُ الصبر إلا من صبّره الله، فإن ساعد على ذلك لا مبالاة بعاقبة التساهل بكبح النفس الغضوب أو الشهوانية أو العابثة؛ أفضى به ذلك إلى التلف، أو كاد.

أي أُخيّ؛ اصبر وارض واحمد واشكر، وافعل الصواب ولو كنت لوحدك، واجتنب الباطل ولو رأيت عليه الأكابر. فالأُمّةُ هو من كان على الحقِّ ولو كان لوحده كما كان خليل الرحمن، وخذ الأمر بتفاؤل لا بقنوط، وبقوّة لا بلعب، وبجدٍّ لا بهزل، ولا تكن من (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا) ولا تتعلق ولا ترجُ ولا تخف إلا الله جل جلاله. واعلم أن تكرار لا حول ولا قوة إلا بالله له الأثر النافع جدّا في قوة الروح والنفس والبدن والإيمان.

قد هيأوك لأمرٍ لو فطنتَ له  ... فاربَأ بنفسك أنْ ترعى مع الهَمَلِ

واعلم أن الناس يُجيعون ويُطعم الله، ويكيدون ويفرّج الله، ويَنسون ويذكُرُ الله، ويخذلون ويكفي الله، ويعادُون وينصر الله، إنه الله وكفى بالله وكيلًا. فلا تحنِ رأسك لغير خالقك، ولا تذلّ رقبتك لغير مولاك، فهو الكفاية والهدى والغنى والحفظ والنصر، والله تعالى لا يخلف ميعاده: (ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين . لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون).

وكُلُّ الحادِثاتِ وإنْ تَناهَتْ … فَمَقْرُونٌ بها الفَرَجُ القَرِيبُ

 ويا صاحبي: أَطِبْ معدنَك بالذكر والإيمان، وليكن قلبك ذاك الراضي بربه الشاكر لنعمه الصابر على ابتلائه المستغفر لذنبه. كن كذلك دومًا فلا ضَيْعَة لمن كان مع الله.

وتأمل حال يوسف عليه السلام، فقد بركت على كاهله خمسُ محنٍ شداد فاجتازهن عليه السلام بيقين وثبات وإحسان: الجُبُّ، والمراودة، والسجن، ونعيم السلطة، ولذّة الانتقام. لقد مرّت كلّ عواصفها الشديدة الهائلة بجبل إيمانه؛ فثبت ورسخ. فخلّد الله تعالى ثباته في سورته، فسورةُ يوسف هي سورة الثبات. والمؤمن مأمور بأخذ أسباب الثبات على دين الله تعالى، فيشدُّ ما وهى من أعمدة بنيانه، ويبنى ما انهدّ من متين جدرانه، ويحرس أرجاء بيضةِ دينه رأسِ ماله.

وقد يبتلي الله عبده ليرفَعه وليرحم به غيرَه في قابل أيّامه. فانظر كيف قدّر الله تعالى أن يُباع يوسف وتتوالى بلاءاته ليكون -بإذن الله ربه -سببًا في دفع مجاعةٍ عامّة مميتة، تتابعت سبعةُ أعوام في مصر وما حولها. وحقًّا: إذا أراد الله أمرًا هيّأ له أسبابه.

عباد الرحمن؛ القدر سرّ الله تعالى في خلقه، وأنّى لبشر أن يدرك ذلك، لأنه غيب كتبه وقدّره العليم الحكيم. فلولا أن الله تعالى قدّر على يوسف عليه السلام أن يُلقى في البئر؛ ما دخل بيت العزيز في مصر، ولولا أنه قدّر له أن يدخل السجن؛ ما قابل ساقي الملك، ولولا أنّه قدّر للملك أن يرى الرؤيا العجيبة ما انتهى يوسف عليه السلام لأعظم وزارات مصر فيكون هو عزيز مصر، ثم رحيل آله لمصر وسكناهم إياها. إنها القصة المذهلة التي ابتدأت بحُلْم وانتهت بتحقيقه بعد معاناة أربعين سنة، (1) فهي سورة الفرج بعد الشدة لمن أحسن بالله ظنًّا وسورة الثبات على دين الله عند أعتى الملمّات. فتأمل ما في تلك القصة العجيبة من أمور بدت لأول وهلةً مصيبة لكنها قد استبطنت فواتح الفرج ونعيم السرور.

ولمّا وصل الكربُ بيعقوب منتهاه؛ عَلِمَ أن الفرج قريب. وتأمّلْ حاله حينما فقد ابنه الثاني فابتهل إلى الله وشكا إليه حاله وأحسَنَ به الظن ثم قال: (يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله). فابتدأ بالأمل في رجوع يوسف الغائب منذ أربعين سنة حتى ذَكَرَهُ قبل أخيه الغائب منذ أيام. وتأمل كيف تنسّم روح الفرج فقال: (عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا) ألا ما أجمل قلوبهم. لذلك: فالمصائب إذا توالت تولّت. وإذا أظلم ليل الابتلاء فقد اقترب فجر الفرج، فمن نار الألم يشرق الأمل، ومن ليل الهموم ينشق ضياء الفرح، فيا مثقًلا بأحزانه: أفِقْ فحزن الدنيا لا يستحق!

ثم تدبّر قوله الأعز الأجل في خبر كليمه وما دبّره الحكيم سبحانه بأقداره المترابطة المتتابعة: (ثم جئت على قدر يا موسى).

إذا اشتملتْ على اليأس القلوبُ ... وضاقَ لما بِهِ الصَّدرُ الرحيبُ

وأوطأتِ المكارهُ واطمأنّت ... وأرْسَتْ في أماكنها الخطوبُ

ولم تَرَ لانكشاف الضُّرِّ وجهًا ... ولا أغنى بحيلته الأريبُ

أتاكَ على قنوطٍ منك غوثٌ ... يَمُنُّ به اللطيفُ المستجيبُ

عباد الله؛ هذا ثابت البُناني رحمه الله تعالى قد احتاج لمجاهدةِ نفسه على قيام الليل عشرين سنة حتى وصل بها لشاطئ النفس المطمئنة، قال: "جاهدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة، ثم تلذذتُ به عشرين أخرى". فالطريق طويل لكنه مفضٍ برحمة الله إلى نعيمٍ في الدنيا ونعيمٍ في الآخرة، لذا فلا عجب أن ذكر الله الصبرَ في القرآن أكثر من تسعين مرة، فلا خير في الدنيا والأخرى إلا بصبر، وقال الحبيب صلوات الله وسلامه وبركاته عليه: "ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبّر يصبّره الله. وما أُعطي أحدٌ عطاء خيرًا وأوسع من الصبر".(2)

ولا يمنع جميلُ الصبر من إسبال عبراتِ الرحمة ونفثِ زفرات الوفاء، لكنه يعلم أنّ في الله خَلَفٌ عن كل مفقود، وأن الجنة ميعاد المحبين المؤمنين.

وَهَوَّنَ ما أَلقَى من الوَجدِ أنَّنِي ... أُسَاكِنُه في داره اليومَ أوغَدًا

فحينها تهشُّ نفسُه، ويهدأُ جأشُه، ويعظم رضاه وحمده وشكره، فنِعمَت السلوى جزاء الصابرين الراضين الحامدين الشاكرين، ولَنِعمَ العزاءُ الجنة، (جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب أنه كان وعده مأتيا. لا يسمعون فيها لغوا الا سلاما ولهم وزقهم فيها بكرة وعشيا. تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا).

أكرِمْ بجنّات النعيم وأهلِها ... إخوانُ صدقٍ أيّما إخوانِ

جيرانُ ربِّ العالمين وحزبُهُ ... أكرِمْ بهم في صفوةِ الجيرانِ

هم يسمعون كلامَهُ ويرونَهُ ... والمُقلتان إليه ناظرتانِ

 ولولا انتظار موعودِ رب العالمين بلقيا الأحباب في دار الكرامة؛ لتقطّعت نفوسُ المُحبين من حسرات الفراق!

عباد الرحمن؛ واهِمٌ مَنْ ظَنَّ أنّ الموت هو الفراق، فالفراق ليس هنا بل هناك: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) قال قتادة: "فُرقة لا اجتماع بعدها". اللهم رضاك والجنة ولقيا الأحبة محمدًا وحزبه.

واعلم - يا عبد الله - أنّ الله تعالى لمّا بثّ الخلائق اختار لك هذا الزمان وهذا المكان ليكونا محل الابتلاء الإلهي لك، فكن خيرَ ذاكرِ صابر حامد شاكر تائب مستغفر. واعلم أنّ للمؤمن بحرٌ لا تكدره مصائب الزمان، إنه بحر الرضا بالله تعالى، فاغمِسْ كلَّ همّ لك في بحر الرضا بالله، حينها تنطفئ نيران المصيبة ببرد السلام. فليس مرادُهُ أن يُعذِّب، ولكن يَبتلي ليُهَذّب.

دعِ المقاديرَ تجري في أعَنّتِها  ...   ولا تبيتنّ إلا خالي البالِ

ما بين غمضةِ عينٍ وانتباهتها   ...  يغيّر الله من حالٍ إلى حالِ

 واعلم أنّ قدرَك إنْ لم تذهب إليه؛ جاء إليك. فكن لله، وبالله، ومع الله، وإلى الله؛ فهو الغاية وما سواه هباء، وهو الباقي وما سواه فناء، وهو الحقُّ وما سواهُ باطل، قال سبحانه: (وأن إلى ربك المنتهى) وقال: (وأن إلى ربك الرجعى) فمهما سلكتَ من دروب الحياة خيرًا أو شرًّا، سرورًا أو حزنًا، صحة أو سقمًا، شوقًا أو خوفًا؛ فإليه وحدهُ المنتهى. قال بعض الحكماء: "الدنيا بحر، والمركب التقوى، والآخرة الساحل".

واحمد الله تعالى واشكره كثيرًا على أن فضّلك على غيرك تفضيلًا بالعلم به والفرح به والأنس به في وقتٍ ترى فيه من يفرّ من الله حال شدته وكربته، فلا يفزع للصلاة والدعاء، بل لسفر أو لهو أو مسكر، أما أنت فاختصك بسفرك إليه بذكره ودعائه فهو مفزع الهاربين، ومأوى الشاردين، ومهوى المشمرين، وقبلة القاصدين، (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).

ولا تقل ليس معي أحد إذا كان معك الأحد الفرد الصمد، ومن لذائذ النفوس الاكتفاء برب البرايا والنفوس. وأنفعُ طعام للقلب هو جرعةٌ من الاكتفاء بالله تعالى.

أصبرْ على مضضِ الإدلاجِ بالسَّحرِ ... وبالرَّواحِ على الحاجات والبُكَرِ

إنّي رأيتُ وفي الأيامِ تجربة ... للصبرِ عاقبةٌ محمودةُ الأثرِ

وقَلّ مَنْ جَدّ في أمرٍ يُطالبه ... واستصحب الصبرَ إلا فازَ بالظّفَرِ

قال الجنيد رحمه الله: "ما طلب أحدٌ شيئًا بجدّ وصدق إلا ناله، فإن لم ينله كلّه نال بعضه". وقيل للبخاري: بم أدركت العلم؟ فقال: "بالمصباحِ، والجلوسِ إلى الصباح". وعِندَ الصَّبَاحِ يَحمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى.

قال شيخ الإسلام: "الناس عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام: ظالمٌ يأخذ فوق حقّه، ومقتصدٌ يأخذ بقدر حقّه، ومحسنٌ يعفو ويترك حقّه". وصدق الفضل بن يحيى حينما قال: "الصبرُ على أخٍ تعتب عليه، خيرٌ من صديقٍ تستأنفُ مودّته". وفي قول تعالى في وصف أهل الإيمان: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) دليلٌ على أن الانتقام يقبحُ من الكرام. ورُبَّ عفوٍ أشدُّ من انتقامٍ. وقال النخعي في قول الله تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون): "كانوا يكرهون أن يُستذلّوا، فإذا قدروا عفوا".

واجعل بينك وبين المحرمات حاجزًا مِنْ ترك المكروهات حِمىً لورعك وحفظًا لأمانتك، قال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى: "أعمالُ البِرِّ يُطيقها البرُّ والفاجرُ، ولكن لا يصبر عن المعاصي إلا صدِّيق". وقال الحجاج بن يوسف: "الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه". والقاعدة المضطردة التي لم ولن تنخرم: من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه. وتأمل عَقْرَ سليمان عليه السلام خيله غضبًا لله إذ ألهته عن صلاة العصر؛ فعوّضه الشكور الحميد عنها بالريح: (تجري بأمره رخاء حيث أصاب).

والراضي عن ربه ساخط للمعصية محتسب عليها، فكُن آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، فجمالُ العلم والعبادة الأمرُ بتقوى الله تعالى. وكن مبتدئًا بنفسك، مستنًّا بنبيك صلى الله عليه وسلم، وعليك بالعلم قبل الإنكار، وبالحلم والرفق أثناءه، وبالصبر بعده، فمن أنكرَ فإنه سيؤذَى في الله، فهي سبيل المرسلين وأتباعهم الصادقين، لهذا أمر بالله بالصبر في هذا الموطن: (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) فكن –رعاك الله –من البقيّة السابقين البررة: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون ع الفساد في الأرض).

وقد كانوا إذا عُدُّوا قليلًا   ...  فقد صاروا أقلّ من القليلِ

وتزدادُ أهمية الدعوة إلى سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر العلم عند انتشار الفساد وتفشي الغفلات وغلبة المنكرات. وإنّ الناهي عن المنكر دافعه أمران: براءةُ ذمته، ورحمتُه بالناس، (قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون). قال العثيمين رحمه الله: "كلّما أضيعت السنّة؛ كان فعلها ونشرها بين الناس أوكد؛ لئلّا تُترك وتموت". وقال ابن القيم رحمه الله: "وأيُّ دينٍ وأيّ خيرٍ فيمن يرى محارمَ الله تُنتهك، وحدودُه تُضاع، ودينُه يُترك، وسنُّة رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرغب عنها، وهو باردُ القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أنّ المتكلم بالباطل شيطان ناطق. وهل بليّة الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم؛ فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارُهم المتحزِّنُ المتلمِّظُ، ولو نُوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله؛ بَذَلَ وتبذّل، وجدّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسْب وسعه! وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون؛ وهي موت القلوب، فإنّ القلب كلّما كانت حياته أتمّ؛ كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل". (3) وقال ابن الجوزي رحمه الله: "يا من هو من عسكرِ الرسول، أيحسنُ بك كلَّ يوم هزيمة! فيا أقدام الصبر احملي، فقد بقي القليل". وسئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: أين تجد الراحة؟ فقال: "في سجدة بعد غفلة، وتوبة بعد ذنب"، وصدق رحمه الله تعالى، فمن سَجَدَ وَجَدَ.

بارك الله لي ولكم..

.............

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ جزاءَ الصبرِ الخالصِ الجنةُ الخالصةُ: (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) والعملُ للدين قرينُ الانتماء إليه. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما أغبط أحدًا لم يصبه في هذا الأمر بلاء". (4)

فعليك – أخا الإيمان - بالصبر والمصابرة والمرابطة في ذات الله، فاصبر وتصبّر وصبِّر، واهتف لنفسك وإخوتك بقول ربكم: (واصبر وما صبرك إلا بالله) وقوله: (وبشر الصابرين) وتدبر سورة العصر، فالإسلام دين الصابرين. وأرِ اللهَ تعالى منك ما يُرضيه؛ حتى يعطيك ما يرضيك. فأيُّ دينٍ كهذا الكمال والجمال، وأيّ مستودعٍ للصبر والأمل كهذا سعة وعظمة وسموًّا.

 وليس كلّ صبرٍ مستحقٌّ للثواب، فالصبر على الطاعة وعن العصيان وعلى البلوى مفتقرٌ إلى إخلاصه لوجه الله تعالى، قال سبحانه: (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم).

وخلِّ الهُويَنَى للضعيفِ ولا تكنْ ... نؤومًا فإِنّ الحُرَّ ليس بنائمِ

اللهم صل على محمد...

.....................

    1-     نقل ابن الجوزي في المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (١/‏٣١٩) عن سلمان رضي الله عنه قال: "كانَ بَيْنَ الرؤيا وتأويلها أربعون سَنَة". وعن الحسن: "ثمانون سنة".

2-       البخاري 2/151 ( 1469 ) ومسلم 3/102 ( 1053 ) ( 124)

3-        إعلام الموقعين (2 / 177) وقال ابن عقيل في الفنون: "مِن أعظم منافع الإسلام وآكد قواعد الأديان الأمر بالمعروف والنهي والتناصح؛ فهذا أشقّ ما يحمله المكلف؛ لأنه مقام الرسل، حيث يثقل صاحبه على الطّباع، وتنفر منه نفوس أهل اللّذّات، ويمقته أهل الخلاعة، وهو إحياء السنن وإماتة البدع". نقله السفاريني في غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (١/‏٢١٣)

4-        كتاب المحن، لأبي العرب التميمي (283)