إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 20 مايو 2022

مِن حِكَمِ الله تعالى في خلق المتضادّات

 

مِن حِكَمِ الله تعالى في خلق المتضادّات


الحمد لله له الحمد في الأولى والآخرة، أحمده وأشكره على نعمه الباطنة والظاهرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، هدى بإذن ربه القلوب الحائرة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه نجوم الدجى والبدور السافرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن الله تعالى لا يقدّر أمرًا إلا لما فيه من الخير أو لما يفضي به إلى الخير، فالله تعالى لا يخلق شرًّا محضًا، إذ الشر العدمي معدوم في مخلوقاته، فخلقه إما خير محض، أو خير من بعض الوجوه لحكم في الخلق والأمر والتكليف عظيمة، أو شرٌّ مترتب عليه خير في العاقبة. وعليه؛ فقد يكون الخير خالصًا، وقد يكون شرًّا يترتّب عليه خير يحبه الله تعالى، ومن هنا انتفت نسبة الشر إلى الله تبارك وتعالى.

 عباد الرحمن؛ إن لله تعالى حكما عظيمة في خلق المتضادات؛ فمنها: أن تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذه ذات إبليس التي هي أخبث الذوات وشرّها، وهي سبب كل شر، في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فتبارك الله خالق هذا وهذا.

 وتأمل حكمة الله تعالى في خلق الليل والنهار، والضياء والظلام، والداء والدواء، والحياة والموت، والحر والبرد، والحسن والقبيح، والأرض والسماء، والذكر والأنثى، والماء والنار، والخير والشر، وذلك من أدل الدلائل على كمال قدرته وعزته وسلطانه وملكه، فإنه خلق هذه المتضادات، وقابَلَ بعضها ببعض، وسلّط بعضها على بعض، وجعلها محالّ تصرّفه وتدبيره وحكمته، فخلوّ الوجود عن بعضها بالكليّة تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته.

 ومن حِكم خلق الله تعالى لإبليس ظهورُ آثار أسمائه القهرية مثل القهار والمنتقم والعدل وشديد العقاب وسريع الحساب وذي البطش الشديد، فإن هذه الأسماء والأفعال كمال، فلا بد من وجود متعلّقها. ولو كان الخلق كلهم على طبيعة المَلَكِ لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.

 ومنها: ظهور آثار أسمائه المتضمّنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء؛ لتعطلت هذه الحكم والفوائد. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم". (1)

ومنها: ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه سبحانه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، ولا ينزله غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فلا يضع الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل، ولا الفضل والعطاء موضع الحرمان والمنع، ولا الثواب موضع العقاب، ولا العقاب موضع الثواب، ولا الخفض موضع الرفع، ولا الرفع موضع الخفض، ولا العز مكان الذل، ولا الذل مكان العز، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به. فهو أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلمُ بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه ووصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك ولا يستأهله، وأحكم من أن يمنعها أهلها وأن يضعها عند غير أهلها.

 فلو قدّر عدم الأسباب المكروهة البغيضة له؛ لتعطلت هذه الآثار، ولم تظهر لخلقه، ولفاتت الحكم والمصالح المترتبة عليها، وفواتها شرٌّ من حصول تلك الأسباب. فلو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر؛ لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب. وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعافُ أضعافِ ما يحصل بها من الشر والضرر، فلو قدر تعطيلها لئلا يحصل منها ذلك الشر الجزئي لتعطل من الخير ما هو أعظم من ذلك الشر بما لا نسبة بينه وبينه.

 ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، ولكان الحاصل بعضها لا كلها. فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه، ولو كان الناس كلهم مؤمنين؛ لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة فيه سبحانه، والمعاداة فيه، والحب فيه، والبغض فيه، وبذل النفس له في محاربة عدوه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر، ومخالفة الهوى، وإيثار محاب الرب على محاب النفس.

 ومنها: عبودية التوبة والرجوع إليه واستغفاره، فإنه سبحانه يحب التوابين ويحب توبتهم، فلو عُطّلت الأسباب التي يُتاب منها؛ لتعطلت عبودية التوبة والاستغفار منها، ولا يخلو مؤمن من الحاجة للاستغفار على الدوام، وسيّدُ المستغفرين صلى الله عليهم وسلم كان دائم الاستغفار، وهو من قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وفي المسند (2) عن ابن عمر رضي الله عنهما: إنْ كنّا لنعدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول: "ربّ اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الغفور" مئة مرّة. فالاستغفار مرهم للروح، وتنظيف للصحيفة، وحفظ للعهد مع الله تعالى. فلكل مؤمن فاقة وحاجة دائمة للاستغفار والتوبة، لأنه لا يخلو من تقصير في واجب أو زلة لمحرّم.

 ومنها: عبودية مخالفة عدوّه، ومراغمته في الله، وإغاظته فيه، وهي من أحب أنواع العبودية إليه، فإنه سبحانه يحبُّ مِن وليِّه أن يغيظ عدوه ويراغمه ويسوءَه، وهذه عبودية لا يتفطن لها إلا الأكياس (3)، وكثير من الناس يتحرّز من كبائر ذنوب الجوارح ويغفل عن كبائر ذنوب القلب، كالكبر والحسد ونحو ذلك، والله تعالى يقول: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه)، والله المستعان.

ومنها: أن يتعبد له بالاستعاذة به من عدوه، وسؤاله أن يُجيره منه، ويعصمه من كيده وأذاه.

 ومنها: أن عبيده يشتد خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حل بعدوه بمخالفته وسقوطه من المرتبة المَلَكيّة إلى المرتبة الشيطانية، فلا يخلدون إلى غرور الأمل بعد ذلك.

 ومنها: أنهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته الذي حصوله مشروط بالمعاداة والمخالفة، فأكثر عبادات القلوب والجوارح مرتّبة على مخالفته.

 ومنها: أن نفس اتخاذه عدوًّا من أكبر أنواع العبودية وأجلّها، قال الله تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا)، فاتخاذه عدوًّا أنفع شيء للعبد، وهو محبوب للرب.

 ومنها: أن ظهور كثير من آياته وعجائب صنعه حصل بسبب وقوع الكفر والشرّ من النفوس الكافرة الظالمة، كآية الطوفان، وآية الريح، وآية إهلاك ثمود وقوم لوط، وآية انقلاب النار على إبراهيم بردًا وسلامًا، والآيات التي أجراها الله تعالى على يد موسى، وغير ذلك من آياته التي يقول سبحانه عقيب ذكر كل آية منها في سورة الشعراء: (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم) فلولا كفر الكافرين وعناد الجاحدين لما ظهرت هذه الآيات الباهرة التي يتحدث بها الناس جيلًا بعد جيل إلى الأبد.

 ومنها: أن خلق الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضًا، ويكسر بعضها بعضًا، هو مِن شأنِ كمالِ الربوبية والقدرة النافذة والحكمة التامة والملك الكامل، وإن كان شأن الربوبية كاملًا في نفسه ولو لم تخلق هذه الأسباب، لكن خلْقها من لوازم كماله وملكه وقدرته وحكمته، فظهور تأثيرها وأحكامها في عالم الشهادة تحقيقٌ لذلك الكمال وموجب من موجباته، فتعمير مراتب الغيب والشهادة بأحكام الصفات من آثار الكمال الإلهي المطلق بجميع وجوهه وأقسامه وغاياته.

 وبالجملة؛ فالعبودية والآيات والعجائب التي ترتّبت على خلق ما لا يحبه ولا يرضاه وتقديره ومشيئته أحب إليه سبحانه وتعالى من فواتها وتعطيلها بتعطيل أسبابها. (4)

بارك الله لي ولكم...

............

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واهتموا بتربية ذرياتكم، فهم على التحقيق رؤوس أموالكم، وادعو الله تعالى  بصلاحهم واستقامتهم.

عباد الرحمن؛ إنّ فِلْذَةُ الكبدِ روحٌ تمشي بين يدي والديها، ويمامة تتهادى بين روحيهما، حقيقٌ بهما الابتهال لربِّها بصلاحها، وقد كانت دعوة زكريا عليه السلام لولده الذي لم يولد بعد: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: " رضيًّا: أي مرضيًّا عندك وعند خلقك، تحبّه وتحبّبه إلى خلقك في دينه وخلقه". وكان يسأل ربه الذرية الطيبة: (رب هب لي من لدنك ذرية طيبة)، فأجاب رب العالمين دعاءه بولدٍ نبيٍّ رضيِّ مرضيٍّ سيدٍ حصورٍ لم يُسمَّ أحدٌ على اسمه قبلًا، (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا)، (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى). وكان من دعاء الخليل عليه السلام: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء). وبركة صلاح الوالد تدرك الولد بإذن الله تعالى ولو بعد حين، (وكان أبوهما صالحا). فذرية المرء هي رأس ماله الباقي بعده، وهم امتداده بعد رحيله، ومَفْرَحُه في قبره بصلاحهم واستقامتهم، ويوم القيامة بأمانهم وسعادتهم، والله المستعان. ولحطّان بن المعلى في وصف ولعه ببنيّاته:

لولا بنيّات كزغبِ القطا  ... رددن من بعضٍ إلى بعضِ

لكان لي مضطربٌ واسعٌ  ... في الأرض ذات الطول والعرضِ

وإنّما أولادنا بيننا  ... أكبادُنا تمشي على الأرضِ

لو هبّت الريح على بعضهم  ... لامتنعت عيني عن الغمضِ

اللهم أصلحنا ووالدينا وذرياتنا وأهلينا وأحبابنا والمسلمين، واجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا، ربنا وتقبل دعاءنا وهبنا اللهم لنا من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء، وهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، إله الحق آمين، وصل اللهم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

................

1.       مسلم 8/94 ( 2749 ) ( 11 )

2.       (4726) بسند على شرط الشيخين.

3.       الأكياس جمع كيِّس، والكَيْس: هو العقل والحزم.

4.       مدارج السالكين (2 / 191-204) بتصرف واختصار.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق