إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 16 مايو 2022

"فحجّ آدمُ موسى"

 

"فحجّ آدمُ موسى"

 

الحمد لله الذي زين قلوب أوليائه بأنوار الوفاق، وسقى أسرار أحبائه شرابًا لذيذ المذاق، وألزم قلوب الخائفين الوجَل والإشفاق، فلا يعلم الإنسان في أي الدواوين كتب ولا في أيِّ الفريقين يساق، فإن سامح فبفضله، وإن عاقب فبعدلِه، ولا اعتراض على الملك الخلاق. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، إلهٌ عزَّ مَن اعتز به فلا يضام، وذلَّ مَن تكبر عن أمره ولقي الآثام. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، خاتم أنبيائه، وسيد أصفيائه، المخصوص بالمقام المحمود، في اليوم المشهود، الذي جُمع فيه الأنبياء تحت لوائه.

آياتُ أحمدَ لا تحدُّ لواصف  ... ولوَ انَّه أُمليْ وعاش دهورَا

بشراكمُ يا أمة المختار في  .... يوم القيامة جنة وحريرَا

فُضِّلتمُ حقًّا بأشرف مرسَل  ... خير البرية باديًا وحضورَا

صلى عليه الله ربي دائمًا  ...  ما دامت الدنيا وزاد كثيرَا

وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، وتمسَّك بسنته، واقتدى بهديه، واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.

عباد الرحمن؛ إنّ الراضي بالله تعالى لا يتردّد في قبول ماء الوحي الطهور، فيغسل به قلبه، ويشرح به صدره، ويستضيء بنوره، ويسترشد بهُداه، ويُحكِمُ بع عقله. وقد يُبتلى المؤمن بطائف من وسواس شيطاني فيُعكّر عليه شيئًا من صفائه، ويشوّش عليه بعضًا من جمعيّة قلبه على ربه، ومن بركات الوحي أن يذهب هذا الوسواس، فما إن يقترب من حمى الصدر حتى يضمحلّ ويتبخّر دون أسوار العلم المبنيّة بالدلائل المرفوعة بالبراهين المحروسة بتوفيقِ مَن وَعَدَ – ووعده الحق-: (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى)، لا يضل هنا ولا يشقى هناك، فله الحمد كما ينبغي له.

ومن ذلك ما قد يختلج في قلوب بعض الأخيار من تردُّدٍ في فهم المحاجّة الشهيرة بين النبيّين الكريمين آدم وموسى عليهما السلام، مع أنها واضحة كالشمس لمن سلم من لوثات أهل البدع ابتداءً. قال شيخ الإسلام رحمه الله في تعليقه على تلك القصة من احتجاج آدم وموسى عليهما السلام، الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقي آدم موسى، فقال: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، ثم صنعت ما صنعت! فقال آدم لموسى: أنت الذي كلّمك الله، وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فهل تجده مكتوبًا عليَّ قبل أن أُخلق؟ قال: نعم، قال: فحجَّ آدمُ موسى، عليهما السلام". 

عباد الله؛ إنّ موسى عليه السلام إنما لام أباه على المصيبة ولم يلمه على الذنب، فهو لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة، فقال له: لم أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ ولم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبًا وتاب منه، فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يُلام وقد تاب منه أيضًا، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل: { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين }. والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلِّم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب؛ قال الله تعالى: { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك }، فأمره بالصبر على المصائب، والاستغفار من المعائب.

وقال تعالى: { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه }، قال ابن مسعود: هو الرجل تصيبه المصيبة يعلم أنها من عند الله فيرضى ويُسلِّم. (2) فالمؤمنون إذا أصابتهم مصيبة مثل المرض والفقر والذل؛ صبروا لحكم الله وإن كان ذلك بسبب ذنب غيرهم، فقدر الله ماض، وقضاؤه نافذ، ومن الضياع مدافعة قدر قد مضى وانقضى. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوم على الأقدار، وقال عنه خادمه أنس رضي الله عنه –بعد ذكر خدمته له -: "فما قال لي لشيء فعلتُه: لم فعلتَ كذا وكذا، وما قال لي لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا وكذا". (4)

وإنما تُشرع مدافعة القدر في المستقبل -وإن كان هذا لا يغيّر ما في اللوح المحفوظ ولكن مما دونه كصحف الملائكة ونحوها، والذي يقعُ آخرًا هو ما دوّن في اللوح المحفوظ –، فدفْعُ القدر بالقدر شريعة ماضية وجادّة رسوليّة، فمن قدّر الأقدار هو من شرع لنا دفعها بأقدار مقابلة، وقد شرع لنا مدافعتها وفق شرعه، فتبطشُ الجوارحُ بالأسباب المانعة والرافعة والجالبة بإذن مسببها تبارك وتعالى، ويتعلّق القلب بالله تعالى وحده ويتوكّل عليه ويرضا به وبأقداره حيثما توجّهت به، وأحاطت به، ونزلت عليه، فإن وُفّق لدرك مقصوده حمد الله وشكر وصبر على أداء حق شكره قدر طاقته، وإن كانت الأخرى صبر ورضي وحمد وشكر كذلك، لأن الله لا يختار لعبده الصادق إلا ما فيه خيرتُه وصلاحه في عاقبته، وكل قضاء الله تعالى لعبده خير. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له شيئًا إلا كان خيرًا له". (5) وعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له».  (6) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما أُبالي على أي حال أصحبت، على ما أحب، أو على ما أكره، لأني لا أدري الخير فيما أُحِبُّ أو فيما أكره". (7) وعن ابن عمر رضي الله عنهما – وتأمّل هذا الحرف - قال: "إن الرجل ليستخير الله فيختار له، فيتسخّطُ على ربه، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة، فإذا هو خير له". (8) وكلُّ قدر يكرهه العبد ولا يُلائمه لا يخلو من أمرين: إما أن يكون عقوبة على الذنب، فهو دواء لمرض لولا تدارك الحكيم إياه بالدواء لترامى به المرض إلى الهلاك. وإما أن يكون سببًا لنعمة لا تُنال إلا بذلك المكروه. (9) والرضا يُفرِّغُ قلب العبد، ويُقلل همّه وغمّه، فيتفرّغ لعبادة ربه بقلب خفيف من أثقال الدنيا وهمومها وغمومها. (10)

 ومن أمثلة مدافعة القدر بالقدر قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي عبيدة والصحابة رضي الله عنهم مع طاعون عمواس في الشام وهم على مشارِفِه، وقد اختلفوا هل يعودون للمدينة أم يدخلوا الشام، فنادى عمر في الناس بعد المشاورة: إني مُصبحٌ على ظهر، فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها أبو عبيدة! - وكان عمر يكره خلافه - نعم نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل، فهبطت واديًا له عَدْوتان (11): إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف -وكان متغيبًا في بعض حاجاته -فقال: إن عندي من هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرض؛ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها؛ فلا تخرجوا فرارًا"، قال: فحمد الله عمر بن الخطاب، ثم انصرف". (12) كذلك ما ورد في شأن فضل الدعاء، وأنه لا يردّ القضاء إلا الدعاء، وأن البلاء والدعاء يعتلجان بين السماء والأرض، وكذلك ما ورد في فضل صلة الرحم من زيادة الرزق والأجل وغير ذلك، والله أعلم.

وقال شيخ الإسلام أيضًا في قصة المحاجّة بين آدم وموسى عليه السلام: "الصواب في قصة آدم و موسى أن موسى لم يلم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل، لا لأجل أنّ تارك الأمر مذنب عاص، ولهذا قال: "لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة"؟ ولم يقل: لماذا خالفت الأمر، ولماذا عصيت؟

 والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس أو بغير أفعالهم بالتسليم للقدر وشهود الربوبية، كما قال تعالى: (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله و من يؤمن بالله يهد قلبه).. فليس للعباد أنفع من طاعة الله ورسوله وأمره إذا أصابته مصيبة مقدّرة أن لا ينظر إلى القدر، ولا يتحسّر بتقدير لا يفيد، ويقول: قدر الله وما شاء فعل. ولا يقول: لو أني فعلت لكان كذا، فيقدّر ما لم يقع يتمنّى أن لو كان وقع! فإن ذلك إنما يورث حسرة وحزنًا لا يفيد. والتسليم للقدر هو الذي ينفعه،(13) كما قال بعضهم: الأمر أمران: أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه. وما زال أئمة الهدى من الشيوخ وغيرهم يوصون الإنسان بأن يفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على المقدور، وإن كانت تلك المصيبة بسبب فعل آدمي.

وإذا كان الله تعالى قد يبتلى العبد من السرّاء والضرّاء بما يحصل معه شكره وصبره، أم كفره وجزعه، وطاعته أم معصيته؛ فالتائب أحق بالابتلاء. فآدم أهبط إلى الأرض ابتلاء له، ووفقه الله في هبوطه لطاعته، فكان حاله بعد الهبوط خيرًا من حاله قبل الهبوط، وهذا بخلاف ما لو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له، فإنه لا يكون عليه ملام البتّة، ولا هناك توبة تقتضي أن يُبتلى صاحبُها ببلاء.

 وأيضًا؛ فإن الله قد أخبر في كتابه بعقوبات الكفار مثل قوم نوح وهود وصالح وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون وقومه ما يعرف بكل واحدة من هذه الوقائع ألّا حُجّة لأحد في القدر. وأيضًا؛ فقد شرع الله من عقوبة المحاربين من الكفار وأهل القبلة وقتل المرتد وعقوبة الزاني والسارق والشارب ما فصّل". (15)

بارك الله لي ولكم...

...........

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن العبد لا يخلو من ابتلاء وفتنة تُظهر خبيئته وتجلو إيمانه، والسعيد هو من عافاه الله وسلّمه وحفظه، ولم يخذله بأن يكله لنفسه أو خلقه، فقد روى أبو داود (16) عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: وأيم الله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول«إنّ السعيد لَمَن جُنِّبَ الفتن، إنّ السعيد لمن جنّب الفتن، إنّ السعيد لمن جنّب الفتن، ولمن ابتُلي فصبر فواها». وتأمل هذا الكلام المخيف لشيخ الإسلام وأنّ على المؤمن ألا يأمن مكر الله تعالى وأن يسأله الهدى والعافية والحفظ والعافية، وألّا يكله إلى نفسه طرفة عين، قال: "عامّة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله فهم مسلمون، ومعهم إيمان مجمل. ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئًا فشيئًا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصِلُون لا إلى اليقين، ولا إلى الجهاد، ولو شُكِّكُوا لشكوا! ولو أُمِرُوا بالجهاد لما جاهدوا! وليسوا كفارًا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ولرسوله ما يقدمونه على الأهل والمال.

 وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة. وإن ابتلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم؛ فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب؛ وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق. وكذلك إذا تعيّن عليهم الجهاد ولم يجاهدوا كانوا من أهل الوعيد. ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم عامّة أهلها، فلما جاءت المحنة والابتلاء نافق من نافق. فلو مات هؤلاء قبل الامتحان لماتوا على الإسلام ودخلوا الجنة، ولم يكونوا من المؤمنين حقًّا الذين ابتلوا فظهر صدقهم، قالَ تَعالى: ﴿الم﴾ ﴿أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ . ولَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ وقال: {ومِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإنْ أصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأنَّ بِهِ وإنْ أصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا والآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرانُ المُبِينُ}".(17)

اللهم اجعلنا جميعا من الصابرين الراضين الشاكرين الحامدين، إله الحق آمين. اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وآله...

.......................

1-    البخاري 6/120(4736) ومسلم 8/51 (6841)

2-    وروي هذا الحرف عن علقمة وهو من خاصة ابن مسعود، وفيما يظهر أنه أخذه منه.

3-    أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (1 / 78)

4-    أحمد (12784) والبُخارِي ٨/‏١٧ (٦٠٣٨) ومسلم ٧/‏٧٣ (٦٠٧٧)

5-    أحمد في مسنده (5 / 24) وجوّد سنده شعيب الأرناؤوط رحمه الله تعالى.

6-    مسلم (2999)

7-    موسوعة ابن أبي الدنيا (١/ ٤١٤)

8-    موسوعة ابن أبي الدنيا ١/ ٤٣٢). وفي رواية: "فإذا هو قد خَارَ له". أي: اختار له ما يصلحه.

9-    وانظر: حياة السلف، للطيار (١/‏٤57)

10-                    مدارج السالكين (٢/ ٥٠٧ – ٥١١) بتصرّف.

11-                    العّدْوة: جانب الوادي.

12-                    البخاري 4/212 (3473)، ومسلم 7/26 (2218) (92)

13-                    قال الإمام إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى: "أجمع عقلاء كل أمة أنّ من لم يَجرِ مع القدر لم يتهنّ بعيشه". البداية والنهاية لابن كثير (11 / 79)

14-                    مسلم (1696)

15-                    مجموع الفتاوى (8/  303- 325) بانتقاء واختصار.

16-                    السنن (4 / 164) (4265) وصححه الألباني.

17-                    الإيمان لابن تيمية (١/‏٢١٣)

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق