إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 28 يناير 2015

الخمر أم الخبائث

الخمر أم الخبائث
10/4/1436
الحمد لله الذي كرم بني آدم بالدين والعقل, وحرم عليهم ما يذهبهما وينقصهما, فأباح الطيبات وحرم الخبائث, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله, صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان, أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أن شرب الخمر من كبار الذنوب, والخمر: اسم لكلّ مسكر أيّا كانت طريقة تناوله, فالعبرة بالأثر والنتيجة. وألحق بعضهم بذلك شربَ الحشيشة، وذلك من جهة أنّها تفسد العقل والمزاج حتّى يصير في الرّجل تخنّث ودياثة وغير ذلك من الفساد، والخمر أخبث من جهة أنّها تفضي إلى المخاصمة والمقاتلة وكلاهما يصدّ عن ذكر الله وعن الصّلاة. قال الله تبارك وتعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي اللّه عنه: "هذا –أي النبيذ - شرابُ من لا يؤمن باللّه واليوم الآخر» وعن عبد اللّه بن عمرو- رضي اللّه عنهما- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأصحابه: «أبايعكم على أن لا تشركوا باللّه شيئا، ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحقّ، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تشربوا مسكرا. فمن فعل من ذلك شيئا فأقيم عليه حدّه فهو كفّارة، ومن ستر اللّه عليه فحسابه على اللّه- عزّ وجلّ- ومن لم يفعل من ذلك شيئا ضمنت له على اللّه الجنّة»
وعن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ اللّه حرّم الخمر وثمنها، وحرّم الميتة وثمنها، وحرّم الخنزير وثمنه»
وعن ابن عمر- رضي اللّه عنهما- أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لعن اللّه الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه» رواه أبو داود.
عن وائل الحضرميّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن الخمر: «إنّه ليس بدواء لكنّه داء»
وقال صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام, إنّ على اللّه عزّ وجلّ عهدا، لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال». قالوا: يا رسول اللّه، وما طينة الخبال؟ قال: «عَرَقُ أهل النّار، أو عصارة أهل النّار» رواه مسلم.
عن ابن عمر- رضي اللّه عنهما- أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «كلّ مسكر خمر، وكلّ مسكر حرام. ومن شرب الخمر في الدّنيا فمات وهو يدمنها، لم يتب، لم يشربها في الآخرة» متفق عليه.
وعن أبي عامر الأشعريّ- رضي اللّه عنه- أنّه سمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «ليكوننّ من أمّتي أقوام يستحلّون الحر (أي الفرج الحرام) والحرير والخمر والمعازف، ولينزلنّ أقوام إلى جنب عَلَمٍ (أي جبل) يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم (يعني الفقير) لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدا، فيبيّتهم اللّه (أي يهلكهم في بياتهم) ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة" رواه البخاري.
وعن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من زنى وشرب الخمر نزع اللّه منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه» رواه الحاكم.
وعن ابن عمر- رضي اللّه عنهما-  قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من شرب الخمر لم يقبل اللّه له صلاة أربعين صباحا. فإن تاب تاب اللّه عليه، فإن عاد لم يقبل اللّه له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب اللّه عليه، فإن عاد لم يقبل اللّه له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب اللّه عليه، فإن عاد الرّابعة لم يقبل اللّه له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب لم يتب اللّه عليه وسقاه من نهر الخبال» قيل، يا أبا عبد الرّحمن، وما نهر الخبال؟ قال: نهر من صديد أهل النّار. رواه الترمذي وحسنه.
وعن جابر- رضي اللّه عنه- أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يشرب عليها الخمر" رواه الترمذي وحسنه.
وعن عبد اللّه بن عمرو- رضي اللّه عنهما- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من مات من أمّتي وهو يشرب الخمر حرّم اللّه عليه شربها في الجنّة" رواه أحمد بسند حسن.
عن أبي الدّرداء- رضي اللّه عنه- أنّه قال: أوصاني خليلي صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا تشرب الخمر، فإنّها مفتاح كلّ شرّ» رواه ابن ماجه.
وعن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السّارق حين يسرق وهو مؤمن» متفق عليه.
ورضي الله عن صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم, فإنهم لما نزل تحريم الخمر قالوا: انتهينا. وعن أنس- رضي اللّه عنه- قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، مناديا ينادي: ألا إنّ الخمر قد حرّمت. قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة. متفق عليه. وقال: فإنّي لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا إذ جاء رجل فقال: وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا: وما ذاك؟
قال: حرّمت الخمر. قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس. فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرّجل.
وقال عثمان بن عفّان- رضي اللّه عنه-: «اجتنبوا الخمر فإنّها أمّ الخبائث، إنّه كان رجل ممّن خلا قبلكم تعبّد فعلقته امرأة غَوِيَّةٌ فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنّا ندعوك للشّهادة فانطلق مع جاريتها فطفقت كلّما دخل بابا أغلقته دونه حتّى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر فقالت: إنّي واللّه ما دعوتك للشّهادة ولكن دعوتك لتقع عليّ، أو تشرب من هذه الخمرة كأسا، أو تقتل هذا الغلام قال: فاسقني من هذا الخمر كأسا فسقته كأسا قال: زيديني، فلم يرم حتّى وقع عليها، وقتل النّفس، فاجتنبوا الخمر؛ فإنّها واللّه لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلّا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه».
وقال أبو موسى- رضي اللّه عنه-: «ما أبالي شربت الخمر أو عبدت هذه السّارية من دون اللّه- عزّ وجلّ-» رواه النسائي. وقال عبد اللّه بن عمرو- رضي اللّه عنهما-: «لا تعودوا شرّاب الخمر إذا مرضوا» وقال أيضا: «لا تسلّموا على شَرَبَةِ الخمر» ورفع إلى عمر بن عبد العزيز، قوم يشربون الخمر فأمر بضربهم فقيل له: إنّ فيهم صائما.
فقال: ابدؤوا به، ثمّ قال: أمّا سمعت قوله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويُستهزء بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم).
وقال عبد اللّه بن أبي أوفى- رضي اللّه عنهما-: «من مات مدمنا للخمر مات كعابد اللّات والعزّى» قيل: أرأيت مدمن الخمر هو الّذي لا يستفيق من شربها؟ قال: «لا، ولكن هو الّذي يشربها إذا وجدها ولو بعد سنين»
وقال عروة بن الزّبير، لمّا أرادوا قطع رجله حين دخلتها الآكلة وقالوا له: لا بدّ أن تشرب شيئا يغيّب عقلك حتّى لا تحسّ بالألم، ونتمكّن من قطعها. فقال: ما ظننت أنّ أحدا يؤمن باللّه ويشرب شيئا يغيّب عقله حتّى لا يعرف ربّه عزّ وجلّ. وقال الحسن- رحمه اللّه تعالى-: «لو كان العقل يشترى لتغالى النّاس في ثمنه. فالعجب ممّن يشتري بماله ما يفسده». وقال الضّحّاك بن مزاحم- رحمه اللّه تعالى- لرجل: ما تصنع بشرب النّبيذ؟ قال: يهضم طعامي. قال: أما إنّه يهضم من دينك وعقلك أكثر»
وقال بعض أهل العلم: «لأن أرى ابني يفعل كذا أو يسرقُ أحبَّ إليّ من أن يسكر، فيأتي عليه وقت لا يعرف اللّه فيه»
بارك الله لي ولكم في القرآن..
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد, فاتقوا الله عباد الله, وتزينوا له بالصالحات, واحذروا الخبائث والموبقات, وقد أفلح من نجا منها وسلم من غائلتها.
  قال تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم)
قال ابن القيم رحمه الله: ذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة, ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا, فآفة الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثه, وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة وأن يصير قارصًا, وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذة شربها, وآفة العسل عدم تصفيته.
 وهذا من آيات الرب تعالى أن تجري أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها, ويُجريها في غير أخدود, وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة بها.
 كما ينفي عن خمر الجنة جميع آفات خمر الدنيا من الصداع والغَوْل والإنزاف وعدم اللذة, فهذه خمس آفات من آفات خمر الدنيا: تغتال العقل, ويكثر اللغو على شربها, بل لا يطيب لشرابها ذلك إلا باللغو, وتنزف في نفسها, وتنزف المال, وتصدع الرأس, وهي كريهة المذاق, وهي رجس من عمل الشيطان, توقع العداوة والبغضاء بين الناس, وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة, وتدعو إلى الزنا, وربما دعت إلى الوقوع على البنت والأخت وذوات المحارم, وتُذهب الغيرة, وتورث الخزي والندامة والفضيحة, وتُلحق شاربها بأنقص نوع الإنسان وهم المجانين, وتسلبه أحسن الأسماء والسمات, وتكسوه أقبح الأسماء والصفات, وتسهل قتل النفس, وإفشاء السر الذي في إفشائه مضرته أو هلاكه, ومؤاخاة الشياطين في تبذير المال الذي جعله الله قيامًا له ولمن يلزمه مؤنته, وتهتك الأستار, وتظهر الأسرار, وتدل على العورات, وتهوّن ارتكاب القبائح والمآثم, وتُخرج من القلب تعظيم المحارم, ومدمنها كعابد وثن, وكم أهاجت من حرب, وأفقرت من غنيّ, وأذلّت من عزيز, ووضعت من شريف, وسلبت من نعمة, وجلبت من نقمة, وفسخت من مودة, ونسجت من عداوة, وكم فرقت بين رجل وزوجته فذهبت بقلبه وراحت بلبه, وكم أورثت من حسرة, وأجرت من عَبرة, وكم أغلقت في وجه شاربها بابًا من الخير, وفتحت له بابًا من الشر, وكم أوقعت في بليّة, وعجّلت من منيّه, وكم أورثت من خزيّة, وجرّت على شاربها من محنة, وجرّت عليه من سِفْلة.
 فهي جِماع الإثم, ومفتاح الشر, وسلّابةُ النعم, وجلّابة النقم, ولو لم يكن من رذائلها إلا أنها لا تجتمع هي وخمر الجنة في جوف عبد كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: "من شرب الخمر في الدنيا؛ لم يشربها في الآخرة" لكفى.
 وآفاتُ الخمر أضعافُ أضعافِ ما ذكرنا, وكلها منتفية عن خمر الجنة.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...

الثلاثاء، 20 يناير 2015

أدلة حجاب الوجه ومنع الاختلاط ووجوب التسليم لله رب العالمين

أدلة حجاب الوجه ومنع الاختلاط ووجوب التسليم لله رب العالمين
3/3/1437
الحمد لله الّذي أعَزّ من أطاعه واتّقاه، والحمد لله الّذي أذلّ من خالف أمره فعصاه، النّاصر لدينه وأوليائه، القائل في مُحكَم آياته (وَلْتًكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُوْنَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُوْنَ)، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيءٍ قدير، وأشهد أن نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله وخليله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين. أَمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله تعالى حق تقاته, واستمسكوا بما يوصلكم لمرضاته, ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
أيها المسلمون: إن من أعظم وأهم أسباب قوّة قلب العبد ورسوخ يقينه، وسلامة صدره، وتمام رضاه؛ الاستسلام لله -عز وجل- في أمره ونهيه، وقضائه وقدره، فالكون كونه، والخلق خلقه، وهو المالك على الحقيقة، وغيره مملوك، وهو الرب المتصرف بالتدبير والتقدير، وغيره مربوب.
ومن غابت عنه هذه الحقيقة وانشغل بتوافه الدنيا ورذائل أهلها لم يصمد قلبه للابتلاء.
فلندخل -يا عباد الله- إلى جُنّة وجَنّة التسليم لله -عز وجل-، ولنستسلم له جل جلاله في كل شيء فبه خيرُ الدنيا الآخرة.
أيها الناس: إن الإسلام مأخوذ من التسليم، إذ إن معنى الإسلام في اللغة: الانقياد والإذعان، يقال: أسلم لله: إذا انقاد وأذعن وأطاع له. فالتسليم هو الإسلام، قال الله -سبحانه وتعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
إن التسليم لله -عز وجل- من أخص أركان الدين، وبه يجوز العبد الصراط، وتثقل به الموازين، وهو من أوجب الواجبات، وأعلى القربات.
بل؛ "إن مبنى العبوديةِ والإيمانِ بالله، وكتبه، ورسله على التسليم، وعدمِ الخوض في تفاصيل الحكمة في الأوامر، والنواهي، والشرائع، ولهذا لم يحكِ اللهُ -سبحانه- عن أمة نبي صَدَّقت نبيها وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به، ونهاها عنه، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت، وسَلَّمت، وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها، وإيمانها، واستسلامها على معرفته، ولا جعلت طلبه من شأنها. فحال المؤمن مع الأمر سمعنا وأطعنا, ومع النهي, سمعنا وانتهينا, ومع الخبر سمعنا وصدّقنا.
قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)
وقال تعالى في وصف المنافقين: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً)
وقال عنهم: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )
وإن من عِظَم أمر التسليم والانقياد لله -عز وجل- ولرسوله وشرعه وأمره ونهيه، أن الله -سبحانه وتعالى- ذكره في أكثر من عشرين موضعا من القرآن الكريم، وكل آية تحمل دلالة معينة وإشارة هامة على طريق التسليم.
عباد الرحمن, إِنَّ من قضايا التسليم لله ورسوله حِجَابُ الْمَرْأَةِ المسلمة, فقد جَاءَتْ بِهَا الشريعة, وَتَضافَرَتْ عَلَيْهاَ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, وَمَعَ هَذَا فَلا يَزَالُ أَعْدَاءُ الإِسْلامِ فِي الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ وَأَصْحَابُ الأَغْرَاضِ الدَّنِيَّةِ وَالْمَقَاصِدِ الْخَفِيَّةِ يُدَنْدِنُونَ حَوْلَ الْحِجَابِ, تَارَةً بِالتَّشْكِيكِ فِي شَرْعِيَّتِهِ, وَتَارَةً بِالسُّخْرِيَةِ وَالذَّمِّ لِمُرْتَدِيَتِهِ, وَفي كل يوم لهم طريقة في حربه.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ حِجَابَ الْمَرْأَةِ سِتْرٌ لَهَا وَصِيَانَةٌ, وَعَفَافٌ وَحِفْظٌ لَهَا بِإِذْنِ اللهِ وَأَمَانَةٌ, وَعَلامَةٌ عَلَى الصَّلاحِ وَالدِّيَانَةِ.
إِنَّ الْحِجَابَ هُوَ اللِّبَاسُ الذِي يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِ الْمَرْأَةِ مِنَ رَأْسِهَا إِلَى أَخْمُصِ قَدَمَيْهَا, بِشَرْطِ أَنْ لا يَكُونَ فِتْنَةً فِي نَفْسِهِ, وَلا يَكُونُ لِبَدَنِهَا وَاصفَاً وَلا يَكُونَ ضَيِّقَاً وَلا شَفَّافَاً. ومن أدلة ذلك قَوْلُ اللهِ -تَعَالَى-: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) وَالْخِمَارُ هُوَ مَا تُخَمِّرُ بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا, أي: تُغَطِّيهِ. فَإِذَا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِأَنْ تَضْرِبَ بِالْخِمَارِ عَلَى جَيْبِهَا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِسَتْرِ وَجْهِهَا  بِطَبِيْعَةِ الحَال, وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْخِمَارَ يَنْزِلُ مِنَ الرَّأْسِ إِلَى الْجَيْبِ وَهُوَ الصَّدْرُ وَالنَّحْرُ فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ. ثُمَّ نَقُولُ: إِذَا وَجَبَ سَتْرُ النَّحْرِ وَالصَّدْرِ كَانَ وُجُوبُ سَتْرِ الْوَجْهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ مَوْضِعُ الْجَمَالِ وَالْفِتْنَةِ. فَإِنَّ النَّاسَ الذِينَ يَتَطَلَّبُونَ جَمَالَ الصُّورَةِ لا يَسْأَلُونَ إِلَّا عَنِ الْوَجْهِ، والْوَجْهُ هُوَ مَوْضِعُ الْجَمَالِ، فَكَيْفَ يُفْهَمُ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْحَكِيمَةَ تَأْمُرُ بِسَتْرِ الصَّدْرِ وَالنَّحْرِ ثُمَّ تُرَخِّصُ فِي كَشْفِ الْوَجْهِ؟!
وَمِنْ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ: قَوْلُهُ -تَعَالَى- (وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) أي لا تَضْرِبُ الْمَرْأَةُ بِرِجْلِهَا فَيُعْلَمَ مَا تُخْفِيهِ مِنَ الْخَلاخِيلِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَتَحَلَّى بِهِ فِي القَدَم. فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةً عَنِ الضَّرْبِ بِالأَرْجُلِ خَوْفَاً مِنِ افْتِتَانِ الرَّجُلِ بِمَا يَسْمَعُ مِنْ صَوْتِ خِلْخَالِهَا وَنَحْوِهِ, فَكَيْفَ بِكَشْفِ الْوَجْهِ؟ فَأَيُّهُمَا أَعْظَمُ فِتْنَةً أَنْ يَسْمَعَ الرَّجُلُ خَلْخَالاً بِقَدَمِ امْرَأَةٍ لا يَدْرِي مَا هِيَ وَمَا جَمَالُهَا؟!
وَمِنْ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ: قَوْلُهُ -تَعَالَى- (يأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَمَرَ اللهُ نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا خَرَجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ فِي حَاجَةٍ أَنْ يُغَطِّينَ وُجُوهَهُنَّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِنَّ بِالْجَلابِيبِ وَيُبْدِينَ عَيْنَاً وَاحِدَةً". وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، وَقَولُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "وَيُبْدِينَ عَيْنَاً وَاحِدَةً"، إِنَّمَا رَخَّصَ فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى نَظَرِ الطَّريِقِ, فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ فَلا مُوجِبَ لِكَشْفِ الْعَيْنِ. وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ خَرَجَ نِسَاءُ الأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ مِنَ السَّكِينَةِ, وَعَلَيْهِنَّ أَكْسِيَةٌ سُودٌ يَلْبَسْنَهَا.
وعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ, فَإِنْ اِسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا, فَلْيَفْعَلْ" رَوَاهُ أَحْمَد.
فَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  نَفَى الْجُنَاحَ - وَهُوَ الإِثْمَ - عَنِ الْخَاطِبِ خَاصَّةً إِذَا نَظَرَ إِلِى مَخْطُوبَتِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ لِلْخِطْبَةِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْخَاطِبَ آثِمٌ بِالنَّظَرِ إِلى الأَجْنَبِيَّةِ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْخَاطِبَ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْوَجْهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ لِمُرِيدِ الْجَمَالِ بِلَا رَيْبٍ, وَمَا سِوَاهُ تَبَعٌ لا يُقْصَدُ غَالِبَاً.
 وَمِنْ أَدِلَّةِ السُّنَّةِ كذلك : حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ" فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: "يُرْخِينَ شِبْراً" قَالَتْ: إِذَاً تَنْكَشِفُ أقْدَامُهُنَّ ! قَالَ: "فَيُرخِينَهُ ذِرَاعاً لاَ يَزِدْنَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بسند صحيح. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ قَدَمِ الْمَرْأَةِ, وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مُتَقَرِّرٌ عِنْدَ نِسَاءِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَالْقَدَمُ أَقَلُّ فِتْنَةً مِنَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ بِلا رَيْبٍ. فَالتَّنْبِيهُ بِالأَدْنَى تَنْبِيهٌ عَلَى مَا فَوْقَهُ وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحُكْمِ، وَحِكْمَةُ الشَّرْعِ تَأْبَى أَنْ يَجِبَ سَتْرُ مَا هُوَ أَقَلُّ فِتْنَةً وَيُرَخِّصُ فِي كَشْفِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فِتْنَةً، فَفِي هَذِهِ الأَدِلَّةِ بَيَانٌ وَاضِحٌ لمن رام الهدى, أَسْأَلُ اللهُ أَنْ يَحْفَظَ أَعْرَاضَنَا وَأَهَالِينَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ وَالْهَادِي، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ, وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَغْزُوُّونَ مِنْ أَعْدَاءِ الإِسْلامِ مِنَ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ, وَهُمْ كَانُوا وَلا زَالُوا يَسْتَخْدِمُونَ جَانِبَ الْمَرْأَةِ لِبَثِّ الرَّذِيلَةِ وَقَمْعِ الْفَضِيلَةِ, وَإِنَّ مَسْأَلَةَ الْحِجَابِ مِنَ الْمَسَائِلِ التِي شَوَّشُوا بِهَا عَلَى نِسَائِنَا, بَلْ وَعَلَى بَعْضِ رِجَالِنَا, فَأَطَاعَهُمْ مَنْ أَطَاعَهُمْ وَتَبِعَهُمُ الْجُهَّالُ وَالسُّفَهَاءُ.
 قال الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِعْدِي رَحِمَهُ اللهُ: "وَلَمْ تَنْزِلْ آيَةُ الْحِجَابِ إِلَّا فِي الْمَدِينَةِ... فَاحْتَجَبَ نِسَاءُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَعَنْهُنَّ- وَالتَّابِعِينَ, وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ عَمَلُ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ, فَكَانَ كَالإِجْمَاعِ عِنْدَهُمْ, حَتَّى شَذَّ بَعْضُ الفُقَهَاءِ فَقَالَ بِعَدَمِ وُجُوبِهِ, فَنَمَا هَذَا الأَمْرُ إِلَى أَنَّ عُدَّ هَذَا الْقَوْلُ الْبَاطِلُ خِلافَاً فِي هَذَا الزَّمَانِ, وَأَخَذَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ لِلْعِلْمِ... فَأَخَذُوا يَنْشُرُونَ عَلَى صَفَحَاتِ الْمَجَلَّاتِ وَالْجَرَائِدِ الِإسْلَامِيَّةِ إِبَاحَةَ السُّفُورِ لِلنِّسَاءِ, وَالْحَالُ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ, لا يُعَدُّ خِلافَاً فِي الْمَسْأَلَةِ, لِأَنَّهُ خَارِقٌ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَسَائِرُ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ".
أيها المسلمون.. ومما يورده المرجفون: أن القول بكشف الوجه هو قول جمهور العلماء، وأنه لا يقول بوجوب تغطية الوجه إلا القليلُ منهم. بل وزعم بعضهم أنه لا يقول به إلا علماء نجد فقط.
وهذا كله محض كذب وافتراء؛ فإن الإجماع العمليَّ على مر العصور منعقد على أن المرأة تغطي وجهها ولا تخرج سافرة.. قال ابن حجر: "لم تزل عادة النساء قديماً وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب". ونقل ابن رسلان اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه". وكذا نقله النووي عن إمام الحرمين الجويني.
وقال أبو حامد الغزالي: "لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن متنقبات".
ونسبة جواز كشف الوجه للجمهور باطل, اسمع رعاك الله أقوال المذاهب الأربعة في هذه المسألة:
قال السرخسي الحنفي –في كلام له حول النظر إلى الأجنبيات-: "فدل على أنه لا يباح النظر إلى شيء من بدنها، ولأن حرمة النظر لخوف الفتنة، وعامة محاسنها في وجهها؛ فخوف الفتنة في النظر على وجهها أكثر منه إلى سائر الأعضاء".
وقال ابن نجيم الحنفي: "قال مشايخنا: تمنع المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال في زماننا للفتنة"
وقال ابن العربي المالكي: "والمرأة كلها عورة بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة كالشهادة؛ أو داءٍ يكون ببدنها".
وقال تقي الدين ابن السبكي الشافعي: "الأقرب إلى صنع الأصحاب أن وجهها وكفيها عورةٌ في النظر لا في الصلاة".
ونقل ابن مفلح الحنبلي عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: "وكشف النساء وجوههن بحيث يراهن الأجانب غير جائز".

اللهم صل على محمد..

الأربعاء، 14 يناير 2015

الأسماء الحسنى

الأسماء الحسنى

25/3/1436
    أحمد ربي على ترادف نعمائه, وأشكره على تراكم آلائه, لا مستحقّ للحمد على التمام سواه, خلق فسوّى, وقدّر فهدى, أتمّ علينا النعمة, وألبسنا العافية, ومن كل ما سألناه أعطانا, فلك الحمد ربنا كما ينبغي لك, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, أحقُّ من عُبدَ, وأَولى من أُحِبَّ, وأكرمُ من أُطِيعَ, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيّه وخليله وكليمه, خطيب الخلائق إذا وفدوا, ومبشر الناس إذا يئسوا, الأنبياء قد سكتوا لنطقه, والأملاك قد اعترفوا بحقه, إمام العابدين, وخاتم المرسلين, وقائد الغر المحجلين, الرحمة المهداة, والنعمة المسداة, لقد كان نبيُّنَا محمدٌ محمداً في قوله وفعله وخَلْقِهِ وخُلُقِهِ, جامعاً لحذافير كمالات البشر, أرسله الله بالهدى ودين الحق, السعيدُ من اتبعه والشقي من عصاه, جمع الله بيننا وبينه في أعلى جنته, وأحيانا وتوفانا على سنته, صلى الله وسلم وبارك عليه ما ذرّ شارق وما درّ بارق, وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان, أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, واحمدوه وأثنوا عليه بما هو أهله.
عباد الرحمن: سبحانَ وبحمدِ من لا يُحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه, بل هو كما أثنى على نفسه, وفوق ما يُثنِي به عليه خلقُه. فله الحمدُ أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا, حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لكرم وجهه, وعِزِّ جلاله, ورفيع مجده, وعلو جَدِّه.
عباد الله: إن من الطرق الدالة على شمول معنى الحمد وانبساطه على جميع المعلومات: معرفةُ أسمائه وصفاته, وإقرارُ العبد بأن للعالَم إلهًا حيًّا جامعًا لكل صفة كمال واسم حسن وثناء جميل وفعل كريم, وأنه سبحانه له القدرةُ التامة, والمشيئة النافذة, والعلم المحيط, والسمع الذي وسع الأصوات, والبصر الذي أحاط بجميع المبصَرات, والرحمة التي وسعت جميع المخلوقات, والملكُ الأعلى الذي لا تخرج عنه ذرة من الذرات, والغنى التام المطلق من جميع الجهات, والحكمة البالغة المشهودة آثارها في الكائنات, والعزة الغالبة بجميع الوجوه والاعتبارات, والكلمات التامات النافذات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من جميع البريات.
 واحدٌ لا شريك له في ربوبيته ولا في إلهيته, ولا شبيهَ له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله, وليس له من يَشرَكه في ذرة من ذرات ملكه, أو يخلُفه في تدبير خلقه, أو يحجبه عن داعيه أو مؤمليه أو سائليه, أو يتوسط بينهم وبينه بتلبيس أو فرية أو كذب, كما يكون بين الرعايا وبين الملوك. ولو كان كذلك لفسد نظام الوجود, وفسد العالم بأسره, ( لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا) ولو كان معه آلهة أخرى - كما يقوله أعداؤه المبطلون - لوقع من النقص في التدبير وفساد الأمر كله ما لا يثبت معه حال, ولا يصلح عليه وجود.
 ومن أعظم نعمه علينا وما استوجب به حمدَ عباده له أن جعلنا عبيدًا له خاصّةً, ولم يجعلنا نهْبًا منقسمين بين شركاء متشاكسين. فله الحمد والمنة والثناء الحسن الجميل على ما أولانا من جزيل العناية وجميل اللطف والاصطفاء.
وله العظيم أعظمُ حمدٍ وأتمُّه وأكملُه على ما مَنَّ به من معرفته وتوحيده والإقرار بصفاته العليا وأسمائه الحسنى, وإقرارِ قلوبنا بأنَّه اللهُ الذي لا إله إلا هو, عالمُ الغيب والشهادة, ربُّ العالمين, قيومُ السموات والأرضين, إلهُ الأولين والآخرين. لم يزل ولا يزالُ موصوفًا بصفات الجلال, منعوتًا بنعوت الكمال, مُنزَّها عن أضدادها من النقائص والتشبيه والمثال.
 فهو الحي القيوم الذي لكمال حياته وقيوميّته لا تأخذه سنة ولا نوم, مالكُ السموات والأرض, الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه, العالم بكل شيء, الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم, فلا تسقط ورقة إلا بعلمه, ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه, يعلم دبيب الخواطر في القلوب حيث لا يطّلع عليها المَلَك, ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلع عليه القلب.
 البصيرُ الذي لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة وأعضائها ولحمها ودمها ومخّها وعروقها, ويرى دبيبها على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء, ويرى ما تحت الأرضين السبع كما يرى ما فوق السموات السبع.
 السميعُ الذي قد استوى في سمعه سرُّ القول وجهرُه, وسع سمعه الأصوات, فلا تختلف عليه أصوات الخلق ولا تشتبه عليه, ولا يشغله منها سمع عن سمع, ولا تغلّطهُ المسائل, ولا تُبرِمُه كثرةُ سؤال السائلين, روى أحمد بسنده عن أمّنا عائشةَ رضي الله عنها: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات. لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإني ليخفى علي بعض كلامها, فأنزل الله عز وجل: (قد سمع الله قول التي تجاد لك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوُرَكما إن الله سميع بصير)"
القديرُ الذي لكمال قدرته يهدي من يشاء ويضل من يشاء, ويجعل المؤمنَ مؤمنًا والكافرَ كافرًا, والبرَّ برًّا, والفاجرَ فاجرًا. وهو الذي جعل إبراهيمَ وآلَهُ أئمةً يدعون إليه ويهدون بأمره, وجعل فرعونَ وقومَه أئمةً يدعون إلى النار. ولكمال قدرته لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء أن يُعلِّمه إيّاه. ولكمال قدرته خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب. ولا يُعجزِه أحدُ من خلقه ولا يفوته, بل هو في قبضته أين كان, فإن فرَّ منه فإنما يطوي المراحل في يديه, كما قيل:
 وكيف يفر المرء عنك بذنبه ... إذا كان يطوي في يديكَ المراحلا
 ولكمالِ غناهُ استحالَ إضافةُ الولدِ والصاحبة والشريك والظهير والشفيع بدون إذنه إليه. ولكمالِ عظمته وعلوّه وَسِع كرسيه السموات والأرض, ولم تسعْهُ أرضُه ولا سماواتُه, ولم تُحِطْ به مخلوقاتُه, بل هو العالي على كل شيء, الظاهرُ فوق كل شيء, وهو بكل شيء محيط.
 ولا تنفدُ كلماتُه ولا تبيدُ, ولو أن البحر يمدُّه من بعده سبعةُ أبحرٍ مدادٌ, وأشجارُ الأرض أقلامٌ, فكُتب بذلك المداد وبتلك الأقلام لنفد المداد وفنيت الأقلام ولم تنفد كلماتُه, إذ هي غير مخلوقة, ويستحيل أن يفنى غيرُ المخلوق بالمخلوق.
وهو سبحانه يحبُّ رسلَه وعبادَه المؤمنين ويحبونه, بل لا شيء أحبّ إليهم منه, ولا أشوقَ إليهم من لقائه, ولا أقرّ لعيونهم من رؤيته, ولا أحظى عندهم من قربه, ولولا شوقهم إليه لتقطعت نفوسُهم في الدنيا حسرات.
وأنه سبحانه له الحكمة البالغة في خلقه وأمره, وله النعمة السابغة على خلقه, وكل نعمة منه فضلٌ, وكل نقمة منه عدل.
وأنه أرحمُ بعباده من الوالدة بولدها. وأنه أفرحُ بتوبة عبده من واجد راحلته التي عليها طعامُه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقدها واليأس منها.
 وأنه سبحانه لم يكلّف عباده إلا وسعَهم, وهو دون طاقتهم, فقد يطيقون الشيء ويضيق عليهم, بخلاف وسعِهِم, فإنه ما يسِعُونَهُ ويسْهل عليهم, وتَفْضُلُ قُدَرُهُم عنه, كما هو الواقع.
 وأنه سبحانه لا يعاقب أحدًا بغير فعلِه, ولا يعاقِبُه على فعل غيره, ولا يعاقبه بترك ما لا يقدر على فعله, ولا على فعلِ ما لا قدرة له على تركه.
 وأنه حكيم كريم جواد ماجد محسن ودود صبور شكور, يُطاعُ فَيشكُر, ويُعصى فيَغفر. لا أحدَ أصبرُ على أذًى سمعه منه, ولا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ منه, ولا أحدَ أحبُّ إليه العُذر منه. ولا أحدَ أحبُّ إليه الإحسانُ منه, فهو محسنٌ يحبّ المحسنين, شكورٌ يحب الشاكرين, جميل يحب الجمال, طيّب يحب كل طِيّب, عليمٌ يحب العلماء من عباده, كريمٌ يحب الكرماء, قويٌّ والمؤمنُ القوي أحبّ إليه من المؤمن الضعيف, بَرٌّ يحب الأبرار, عدل يحب أهل العدل, حييٌّ سِتّير يحب أهل الحياء والستر, غفورٌ عفو يحبُّ من يعفوَ عن عباده ويغفرَ لهم, صادقٌ يحب الصادقين, رفيقٌ يحبّ الرفق, جوادٌ يحب الجود وأهلَه, رحيمٌ يحب الرحماء, وِتْرٌ يحب الوترَ.
 ويحب أسماءه وصفاتِه, ويُحب المتعبدين له بها, ويحب من يسألَه ويدعوه بها, ويحب من يعرفَها ويعقلَها, ويثني عليه بها, ويحمدَه ويمدحه بها, كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ من الله, من أجل ذلك أثنى على نفسه. ولا أحدَ أغيرُ من الله, من أجلِ ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحدَ أحبُّ إليه العذرُ من الله, من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين)
وفي حديث آخر صحيح: (لا أحدَ أصبرُ على أذى يسمعُه من الله, يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم)
بارك الله لي ولكم..

الخطبة الثانية:
الحمد لله.....
عباد الله: ولمحبتِه لأسمائه وصفاته أمرَ عبادَه بمُوجِبِها ومقتضاها, فأمرهم بالعدل والإحسان والبِرِّ والعفو والجود والصبر والمغفرة والرحمة والصدق والعلم والشكر والحلم والأناة والتثبت. ولما كان سبحانه يحبّ أسماءَه وصفاتِه كان أحبَّ الخلق إليه من اتصف بالصفات التي يحبُّها, وأبغضَهم إليه من اتصف بالصفات التي يكرهُها. فإنما أبغض من اتّصف بالكبْر والعظمة والجبروت لأن اتصافَه بها ظلمٌ, إذ لا تليقُ به هذه الصفاتِ ولا تَحْسُنُ منه, لمنافاتها لصفات العبيد, وخروجِ من اتصف بها من ربقة العبودية, ومفارقتِه لمنصبه ومرتبته, وتعديه طورَه وحدَّه. وهذا خلافُ ما تقدَّمَ من الصفات كالعلم والعدل والرحمة الإحسان والصبر والشكر, فإنها لا تُنافي العبودية, بل اتّصافُ العبد بها من كمال عبوديتِه, إذِ المتصفُ بها من العبيد لم يتعدّ طورَه, ولم يَخرجْ بها من دائرة العبودية.
 والمقصود: أنه سبحانه لكمالِ أسمائه وصفاته موصوفٌ بكل صفة كمال, منزهٌ عن كل نقص. له كلُّ ثناءٍ حسن, ولا يَصدرُ عنه إلا كل فعل جميل, ولا يُسمّى إلا بأحسن الأسماء, ولا يُثنَى عليه إلا بأكمل الثناء. وهو المحمود المحبوب المُعَظَّمُ ذو الجلال والإكرام على كلِّ ما قدَّرَه وخلَقَه, وعلى ما كل أمر به وشرعه.
 ومن كان له نصيب من معرفة أسمائه الحسنى واستقراءِ آثارها في الخلق والأمر؛ رأى الخلق والأمر منتظمَين بها أكملَ انتظام, ورأى سَريان آثارها فيهما, وعلِمَ بحسَب معرفته ما يليق بكماله وجلاله أن يفعلَه وما لا يليق, فاستدل بأسمائه على ما يفعلَه وما لا يفعلَه, فإنه لا يفعلُ خلاف موجِب حمده وحكمته. وكذلك يعلمُ ما يليق به أن يأمر به ويشرعَه مما لا يليق به. فيعلم أنه لا يأمر بخلاف موجب حمده وحكمته.
 فإذا رأى في بعض الأحكام جورًا وظلمًا أو سفهًا وعبثًا ومفسدة, أو ما لا يوجب حمدًا وثناءً فليعلم أنه ليس من أحكامه ولا دينه, وأنه بريءُ منه ورسولُه, فإنه إنما يأمرُ بالعدل لا بالظلم, وبالمصلحة لا بالمفسدة, وبالحكمة لا بالعبث والسفه. وإنما بَعث رسولَه بالحنيفية السمحة, لا بالغلظة والشدة, وبعثه بالرحمة لا بالقسوة. فإنه أرحم الراحمين, ورسوله رحمة مهداة إلى العالمين, ودينُه كلّه رحمة, وهو نبي الرحمة, وأمته الأمة المرحومة. وذلك كله موجَب أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة, فلا يُخبَر عنه إلا بحمده, ولا يُثنَى عليه إلا بأحسن الثناء, كما لا يسمى إلا بأحسن الأسماء.
 وقد نبه سبحانه على شمول حمده لخلقه وأمره بأن حمد نفسه في أول الخلق وآخره, وعند الأمر والشرع, وحَمِدَ نفسَه على ربوبيته للعالمين, وحمد نفسه على تفرده بالإلهية وعلى حياته. وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاةِ أحدٍ من خلقه لحاجته إليه. وحمد نفسَه على علوّه وكبريائه, وحمد نفسه في الأولى والآخرة. وأخبر عن سَريان حمده في العالم العلوي والسفلي. ونبَّه على هذا كله في كتابه, وحمد نفسه عليه؛ فنوّعَ حمدَه وأسبابَ حمدِه, وجمعَها تارة, وفرقها أخرى, ليتعرّف إلى عباده, ويعرِّفَهم كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه, وليتحبّبَ إليهم بذلك, ويحبَّهم إذا عرفوه وأحبوه وحمدوه.

 قال تعالى: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) وقال تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) وقال تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا) وقال تعالى: (الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير) وقال تعالى: (الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير) وقال سبحانه: (وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون) وقال سبحانه: (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين) وقال: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون). اللهم صل وسلم وبارك على محمد وآله وأصحابه.

الجمعة، 9 يناير 2015

الافتقار إلى الله تعالى

الافتقار إلى الله تعالى
  10/3/1436

الحمد لله الذي نصب الكائنات على ربوبيته ووحدانيته حججا, وأوجب الفوز بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادة لم يبغ لها عوجا, وجعل لمن لاذ به واتقاه من كل ضائقة مخرجا, وأعقب من ضيق الشدائد وضنك الأوابد لمن توكل عليه فرجا, وجعل قلوب أوليائه متنقلة في منازل عبوديته من الصبر والتوكل والإنابة والتفويض والمحبة والخوف والرجا, فسبحان من أفاض على خلقه النعمة, وكتب على نفسه الرحمة.
 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا سميّ له ولا كفءَ له, ولا صاحبة له ولا ولدا, ولا يحصي أحد ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه, وفوقَ ما يُثني عليه خلقُه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرتُه من خلقه, وأمينه على وحيه, وسفيره بينه وبين عباده, أرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين. أرسله على حين فترة من الرسل, فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل, وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيامَ بحقوقه. وسدَّ إلى جنته جميع الطرق فلم تفتح لأحد إلا من طريقه, فشرح له صدره ورفع له ذكره ووضع عنه وزره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره, صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه, أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, وتفكّروا في شأنكم وما يُراد من خلقِكم وما يتبعكم بعد رحيلكم.
عباد الله: لما كان الله تعالى هو الخالق المالك المدبر, فلا يخرج شيء في ملكه عن قدرته ومشيئته وحكمته ورحمته, وكان العبد هو المخلوق المملوك المُدّبَّر الذي لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا, ولا حياة ولا موتًا, ولا إعطاءً ولا منعًا؛ فهو هباءٌ صغير فقير في جملة هذا الكون الشاسع الفسيح, فإن مسألة حاجة العبد التامّة وافتقاره المطلق ومسكنته البالغة لغنى ربه وقوته ورحمته ولطفه تكون شديدة الوضوح والسطوع في بصر العبد وبصيرته, ذلك أن العبد كله لله وبالله ملكًا وإعانة فأين إذن استغناؤه ولمن يا ترى فراره؟!
من افتقر فليلُذ بالغني الكريم, ولينخ ركابه مستمنحًا عطايا الوهاب البر الرحيم, وكل أحدٍ إذا خفته هربت منه إلا الله العظيم فإنك إذا خفته فررت إليه "ففروا إلى الله" أي الجئوا إليه واعتمدوا في كل أموركم عليه.
والعبد لا ينفك عن افتقار تام لربه سواء في حياة قلبه وغذاء روحه بالعلم والإيمان والتسديد والتوفيق, أو في حياة جسده وتحصيل بلغته من هذه الدنيا التي جعلها الله قيامًا له, حتى إذا وصل لتلك المحلة المنيفة من التعلق والافتقار واللجأ أغناه ربه بأمداد لطفه فازداد علمه بربه ويقينه وإيمانه بموعوده وبارك الله له عمره, قال شيخ الإسلام: "ليس عند القلب أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله ومحبته له وإخلاصه الدين له, وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله فيصير القلب منيبا إلى الله خائفًا منه راغبًا راهبًا كما قال تعالى: { من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب } إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه وحصول مرهوبه, فلا يكون عبدا لله ومحبًّا له إلا بين خوف ورجاء, قال تعالى: { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }"
وتأمل يا عبدالله حال هذا الإنسان العجيب ومزاجه الغريب في جهله مع عجزه, واستغنائه مع فقره, ورجوعه بعد فراره وكفره, قال سبحانه وبحمده:
{ لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) }
قال ابن القيم: "وعلى العبد الموفق الالتفات إلى ما سبقت به السابقة من الله بمطالعة فضله ومنته وجوده, وأن العبد وكل ما فيه من خير فهو محض جود الله وإحسانه, وليس للعبد من ذاته سوى العدم, وذاته وصفاته وإيمانه وأعماله كلها من فضل الله عليه.
فإذا شهد هذا وأحضره قلبه وتحقق به؛ خلصه من رؤية أعماله. فإنه لا يراها إلا من الله وبالله, وليست منه هو ولا به. فرؤية الأعمال حجاب بين العبد وبين الله, ويخلصه منها شهود السبق ومطالعة الفضل"
وقال شيخ الإسلام مدلّلًا على حاجة الإنسان التامّة وفقره الّلازم الملازم لرحمة ربه وتوليه من تسعة أوجه فطريّة عقليّة شرعية: "إن العبد, بل كل حي, بل وكل مخلوق, هو فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة, والمضرة هي من جنس الألم والعذاب, فلا بد له من أمرين:
 أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع ويلتذ به.
والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع من دفع المكروه. وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية. فهنا أربعة أشياء: أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
والثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.
والثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
 والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد, بل ولكل حي لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها, وأما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر. إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه:
أحدها: أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه. فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب, لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب, فالأول من معنى الألوهية, والثاني من معنى الربوبية, إذ الإله هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالًا وإكرامًا. والرب هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها.
وكذلك قوله تعالى: { عليه توكلت وإليه أنيب } وقوله: { فاعبده وتوكل عليه } وقوله تعالى: { وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده }
الوجه الثاني: أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له. فبذكره تطمئن قلوبهم, وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم, ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه, ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به.
 وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم, فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم, وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح ولا نعيم ولا لذة بدون ذلك بحال. بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى. ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول: لا إله إلا الله رأس الأمر. فأما توحيد الربوبية الذي أقر به الخلق وقرره أهل الكلام فلا يكفي وحده، بل هو من الحجة عليهم.
وليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه. ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل طعام المسموم { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون } فإن قوامهما بأن تأله الإله الحق, فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلها حقًّا, إذ الله لا سميًّ له ولا مثل له, فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها، هذا من جهة الإلهية, وأما من جهة الربوبية فشيء آخر.
واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئا، ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب, وبينهما فروق كثيرة. فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو, فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره, وهي كادحة إليه كدحا فملاقيته, ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.
 ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي تنعم به والتذ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك. وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه؛ ولهذا قال إمامنا: ( إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم { لا أحب الآفلين } وكانت أعظم آية في القرآن الكريم: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم }  وقد بسطت الكلام في معنى القيوم في موضع آخر، وبينت أنه الدائم الباقي الذي لا يزول ولا يعدم، ولا يفنى بوجه من الوجوه.
 واعلم أن هذا الوجه مبني على أصلين:
أحدهما: على أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه.
 الثاني: النعيم في الدار الآخرة أيضًا مثل النظر إليه, كما في الدعاء المأثور: { اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة } . وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة؛ نادى مناد يا أهل الجنة, إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب, فينظرون إليه سبحانه. فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، وهو الزيادة } فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه؛ وإنما يكون أحب إليهم لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره, فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب، فكلما كان الشيء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم.
روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة, فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم, فيزدادون حسنًا وجمالًا, فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالًا, فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا, فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا)
 قال الله تعالى في حق الكفار: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } { ثم إنهم لصالوا الجحيم } فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب, ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات؛ ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه تعالى.
 وهذان الأصلان ثابتان في الكتاب والسنة, وعليهما أهل العلم والإيمان.
بارك الله لي ولكم........

الخطبة الثانية:
الحمد لله.......... أما بعد, فاتقوا الله عباد الله, واستعدوا للقائه بما أطقتم من أحسن الأعمال. وتذكروا حاجتكم إليه وافتقاركم إليه وضرورتكم الملحّة لفضله ورحمته وإحسانه.
قال ابن تيمية رحمه الله: الوجه الثالث: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر, ولا عطاء ولا منع, ولا هدى ولا ضلال, ولا نصر ولا خذلان, ولا خفض ولا رفع, ولا عز ولا ذل. بل ربه هو الذي خلقه ورزقه وبصَّره وهداه وأسبغ عليه نعمه, فإذا مسّه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره, وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه, وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله.
  فمن نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق؛ فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولًا, ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولًا حتى يطلبه ويشتاق إليه.
الوجه الرابع: أن تعلُّقَ العبدِ بما سوى الله مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله, فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته ضره وأهلكه, وكذلك من النكاح واللباس. وإن أحبّ شيئًا حبًّا تامًّا بحيث يُخَالِلُـهُ فلا بد أن يسأمه أو يفارقه. وفي الأثر المأثور : { أحبب ما شئت فإنك مفارقه . واعمل ما شئت فإنك ملاقيه . وكن كما شئت فكما تدين تدان } .
واعلم أن كل من أحب شيئا لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه ويكون ذلك سببا لعذابه, ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله يُمَثَّلُ لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرع يأخذ بلهزمته (أي: شدقيه) يقول: أنا كنزك, أنا مالك. رواه البخاري. فمن أحب شيئا لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد أو فقد, فإن فقد عذب بالفراق وتألم, وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة.
 وكل من أحب شيئا دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته, فصارت المخلوقات وبالا عليه إلا ما كان لله وفي الله, فإنه كمال وجمال للعبد. وهذا معنى ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الدنيا ملعونة ملعون ما فيها, إلا ذكر الله وما والاه }  رواه الترمذي وغيره.
 الوجه الخامس: أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته؛ فإنه يخذل من تلك الجهة, وهو أيضا معلوم بالاعتبار والاستقراء, فما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة, ولا استنصر بغير الله إلا خذل. وقد قال الله تعالى: { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا .  كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا } . وهذان الوجهان في المخلوقات نظير العبادة والاستعانة في المخلوق, فلما قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } كان صلاح العبد في عبادة الله واستعانته. وكان في عبادة ما سواه والاستعانة بما سواه؛ مضرته وهلاكه وفساده.
 الوجه السادس: أن الله سبحانه غني حميد كريم واجد رحيم، فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غناه عنه, يريد به الخير ويكشف عنه الضر, لا لجلب منفعة إليه من العبد, ولا لدفع مضرة, بل رحمة وإحسانًا. والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم, فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه ويجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة ما. وإن كان ذلك أيضًا من تيسير الله تعالى, فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله.
 إذا تبين هذا ظهر أن المخلوقَ لا يقصد منفعتك بالقصد الأول؛ بل إنما يقصد منفعته بك, فإذا دعوتُه فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه. والرب سبحانه يريد لك, ولمنفعتك بك, لا لينتفع بك, وذلك منفعة عليك بلا مضرة. فتدبر هذا, فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول, كما أنه لا يقدر عليه.
 ولا يحملنك هذا على جفوة الناس, وترك الإحسان إليهم, واحتمال الأذى منهم, بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم, وكما لا تخفهم فلا ترجهم, وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله, وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله, وكن ممن قال الله فيه: { وسيجنبها الأتقى  الذي يؤتي ماله يتزكى  وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } . وقال فيه: { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } .
الوجه السابع: أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك وإن كان ذلك ضررا عليك, فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها.
 الوجه الثامن: أنه إذا أصابك مضرة كالخوف والجوع والمرض؛ فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله, ولا يقصدون دفعها إلا لغرض لهم في ذلك.
 الوجه التاسع: أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك, ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك. فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله, ولا يضرونك إلا بإذن الله, فلا تعلق بهم رجاءك. قال الله تعالى: { أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور } . والنصر يتضمن دفع الضرر, والرزق يتضمن حصول المنفعة, قال الله تعالى: { فليعبدوا رب هذا البيت  الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } وقال النبي صلى الله عليه وسلم: { هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم } رواه البخاري, بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم.
 جماع هذا أنك أنت إذا كنت غير عالم بمصلحتك, ولا قادر عليها, ولا مريد لها كما ينبغي؛ فغيرك من الناس أولى أن لا يكون عالمًا بمصلحتك, ولا قادرًا عليها, ولا مريدًا لها. والله سبحانه هو الذي يعلم ولا تعلم, ويقدر ولا تقدر, ويعطيك من فضله العظيم كما في حديث الاستخارة: { اللهم إني أستخيرك بعلمك, وأستقدرك بقدرتك, وأسألك من فضلك العظيم, فإنك تقدر ولا أقدر, وتعلم ولا أعلم, وأنت علام الغيوب }. رواه البخاري.

اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان