النعيم في الرضا واليقين
الحمد لله خلق من الماء بشرا فجعله نسبا
وصهرا، أحمده سبحانه على كل فضل وأشكره على كل نعمة، وأتوب إليه وأستغفره إعلانا
وسرا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له أحاط بكل شيء خبرا، وأشهد أن نبينا
محمدا عبده ورسوله أعلى الناس منزلة وقدرا، وأوصلهم رحما وبرا، صلى الله وسلم
وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله،
واستمسكوا بدينه، واعلموا أن أمر المؤمن كله خير. فعليكم بالرضا بالله تعالى.
يا عبد
الله: أوصيك ونفسي بتقوى الله، وإذا فُجعت في نفسك أو أهلك وولدك أن ترضى عن الله،
فوالله ما رضي عبد عن الله إلا أرضاه الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إنّ عِظَم الجزاء مع عظم البلاء، وإنّ الله تعالى إذا أحبّ قومًا
ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السَّخط". (1) فمن رضي عن الله
أرضاه الله في دنياه وأخراه.
كتب
عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، يوصيه ويذكر له
تلك الوصية النافعة؛ فاستفتح كتابه رضي الله عنه بقوله: "أما بعد: فاعلم أن
الخير كله في الرضا عن الله"، إن الخير كله أن ترضى عن الله.
اعلم
أخي في الله! أنه إذا أصابك البلاء فرضيت عن الله أرضاك الله في الدنيا والآخرة،
وأقرّ الله عينك وأثلج صدرك، فكم من مصيبة عادت نعمة على العبد إذا رضي عن الله
تبارك وتعالى، وكم من بلايا رضي أصحابها فزادتهم من الله قربًا ومن الله رضًا
وحبًّا.
يا عبد
الله؛ عليك أن ترضى عن الله تبارك وتعالى، ولهذا الرضا دلائل: أولها: طيب
الكلام، وحسن الظن بالله تبارك وتعالى، ومن ثمّ قال العلماء: "إن العبد إذا
رضي عن الله وهبه اليقين في مصيبته"، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في
تفسير قوله تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ
يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [التغابن:11] قال رضي الله عنه: "يهدي
قلبه: أن يهبه اليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن
ليصيبه". فإذا كان الإنسان راضيًا عن الله تبارك وتعالى، وعنده الإيمان
واليقين الذي ربّى النبي صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه، ثبّت الله جنانه، ولذلك
كان بعض السلف إذا أصيب بالمصيبة أظهر الرضا لله.
فكلما
كان اليقين في قلب العبد وجدته أثبت جنانًا، وأشرح لله عز وجل صدرًا، والله ما رضي
عبد عن الله إلا جعل له من كل همٍ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا.
الوصية
الثانية يا عبد الله: العلم بأنه لا يدفع البلاء إلا
الله. فإذا حصل الرضا فإن بعد الرضا أمرٌ مهم لا بد من وجوده؛ وهو علمك بأنه
لا يدفع البلاء إلا الله، وأنه لا يدفع هذا العناء الذي تجده إلا الله.
كان
النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه؛ فأوصى البراء بن عازب رضي الله عنه إذا أوى
إلى فراشه أن يقول: "إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك،
ووجّهت وجهي إليك، وفوّضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ
ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيّك الذي أرسلت. فإنك إن متّ
من ليلتك متّ على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيرًا". (2) أول ما
يحسّ الإنسان بالبلاء إذا أراد أن يفرج الله كربه وهمه، أن يحسّ من أعماق قلبه أنه
لا ينجيه أحد من هذا البلاء إلا الله عز وجل.
الوصية
الثالثة يا عبد الله: تذكّر جزاء الضارعين إلى الله
عند البلاء.
قال
بعض العلماء: ما أصاب الكرب والخطب عبدًا فضرع إلى الله تبارك وتعالى إلّا أعطاه
تفريج الكرب، ومع تفريج الكرب زيادة فضلٍ من الله؛ ولذلك تجد بعض الناس يُفجع
بأهله ويفجع بولده، فيعوّضه الله حلاوة إيمانٍ تبقى معه إلى لقاء الله عز وجل.
فالله
منه العوض، ما رجاه أحد فخاب، ولذلك قال بعض العلماء: "إذا أراد الله أن يجمع
للعبد بين المصيبتين؛ ابتلاه وسلبه اليقين فيه" والعياذ بالله، إذا ابتلى
الله العبد ولم يلتجئ إلى الله بعد البلاء فاعلم أنه والعياذ بالله مُستدرَج،
ولذلك البلاء كل البلاء على الكافر الذي إذا أصابته المصيبة لا يدري أين يذهب، ولا
يدري أين يتجه، ولكن المؤمن له باب يقرعه ورب لا يخيب من يرجوه. فلذلك أحبتي؛
كان من لوازم البلاء اليقين في الله عز وجل.
أصيب
بعض السلف بمصيبة وعظمت عليه هذه المصيبة وكانت آفةً في جسده، وما زال يعرض نفسه
على الناس رجلًا بعد رجل حتى يأس من علاج هذا الداء، وقنط أن يشفى من ذلك البلاء،
فدخل يومًا من الأيام فإذا رجل يتلو كتاب الله فسمعه يتلو قول الله عز وجل: {
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل:62] فقال: اللهم إني مضطر
وأنت مجيب، فما قام من ساعته إلا وهو معافى!
إذا
دخل اليقين إلى قلب العبد لا يمكن أن يبرح وحاجته في قلبه، بل إن بعض الناس يمسي
المساء وحاجته تضايقه، وكربته تؤلمه فيتضرع إلى الله بالدعوة الصادقة حتى يعز على
الله أن يصبح وحاجته في قلبه فيفرج عليه قبل أن يصبح؛ وهذا من عظيم لطف الله
بالعباد.
الوصية
الرابعة يا عبد الله: حسن الظن بالله، فمن الأمور
التي تبعث باليقين (3) حسن الظن بالله تبارك وتعالى، والله ما أحسن عبد ظنه بربه
إلا كان الله عند حسن ظنه، إذا أصابتك المصيبة فأحسن الظن بالله، وقل: إنا لله
وإنا إليه راجعون، الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار، من قالها
فقد أوجب الرضا من الله تبارك وتعالى، ولذلك أَحرصُ ما يكون الشيطانُ في بداية
المصيبة أن يسيء ظنك بالله عز وجل، ولذلك إذا جاءت المصيبة في النفس، أو جاءت في
المال، أو جاءت في الولد، جاءك الشيطان فقال لك: لو كان الله يحبك ما ابتلاك! ولو
كان الله يحبك ما أصابك بابنك فلذة كبدك! ولو كان الله يحبك ما أفقدك مالك على كبر
سنك! ولو كان الله ولو كان الله.. فهو أحرص ما يكون على أن تكون على سوء ظن بالله
عز وجل.
فالله
الله! أن يسوء ظنك بالله عز وجل، بل قل: الحمد الله، وليكن قلبك مطمئنًا بالفرج من
الله تبارك وتعالى، فمن اتقى الله جعل له من كل همٍّ فرجًا ومن كل ضيقٍ مخرجًا.
أخي!
المُلْك لمن؟ والكون لمن؟ والتدبير لمن؟ من الذي يجير ولا يجار عليه؟ ومن الذي
يغيث ولا مغيث سواه؟ والله لو علم المكروب سعة رحمة الله عز وجل ما تألّم من كربه،
ولو أيقن المكروب بحلم الله به لا يمكن أن يصيبه بلاء في نفسه، وأضرب لك مثلًا
يسيرًا: لو أنك يومًا من الأيام سئلت عن أرحم الناس بك وأحلمهم عليك؟! لقلت: أبي
وأمي، ولكان في قلبك يقين أن لا أرحم في الناس من أبيك وأمك، والله ثم والله لرحمة
والديك بك لا تأتي مثقال ذرة في رحمة الله عز وجل بك، ولَلُطف الله عز وجل وحنانه
وحلمه ورحمته وأنت تقاسي الآلام وتكابد الأسقام، أشدّ من رحمة والديك بك، ولكن
يريد أن يرفع درجتك، ويحط عنك خطيئتك، ويريد أن تخرج من هذه الدنيا وأنت صفر
اليدين من السيئات والخطايا، حتى إذا وافيته وافيته بوجه أبيض مشرقٍ من تلك
البلايا، وإنَّ من عباد الله من هو والله حبيب لله، لا يبتليه الله عز وجل إلا لكي
يدنو منه، يبتليه لكي يسمع صوته: يا رب! يا رب! إلهي سيدي مولاي، يسمع إخباته
وإنابته، فتكون أصدق شاهدٍ على توحيده لله تبارك وتعالى.
الوصية
الخامسة يا عبد الله: تفكّر في سرّ ابتلاء الله
تعالى لعباده.
هذه
البلايا وهذه الفتن والرزايا بسطت لك لكي تكون سلّمًا إلى رحمة الله عز وجل، شعرت
أو لم تشعر، وكان بعض السلف إذا نزلت به المصيبة ووهبه الله اليقين عليها والصبر
عليها تسلّى بالدعاء، حتى أُثر عن بعضهم أنه كان يكثر الدعاء ويلحّ في المسألة حتى
يقول: يا ليت أن الله لا يفرج عني كربي حتى تستديم هذه الحلاوة لمناجاته ومناداته.
فإذا
دخل اليقين إلى القلوب هانت عليها البلايا والخطوب، إذا دخل اليقين إلى الأفئدة
تعلقت بالله وحده لا شريك له، ما ابتلاك الله لكي تفزع إلى زيد وعمرو لا والله،
وما ابتلاك بالأسقام حتى تتعلق بغيره سبحانه وتعالى، فوالله لو صُبّت البلايا على
العبد لا يمكن أن يجد الفرج والمخرج إلا بالله سبحانه وتعالى، فلذلك يكون الإنسان
على يقين بالله تعالى، فلا ملجأ ولا منجى من الله تبارك وتعالى إلا إليه.
بارك الله لي ولكم..
.............
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على
توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه
ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله،
واعلموا أن الله تعالى قد كتب البلايا قبل أن يخلق العباد، قال النبي صلى الله
عليه وسلم: "أوّل ما خلق الله القلم قال: اكتب! قال: يا رب! ما أكتب؟
قال: اكتب ما هو كائن وما يكون إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما هو كائن وما يكون
إلى قيام الساعة". (4) ولذلك ركب عبد الله بن عباس مع النبي صلى
الله عليه وسلم ذات يوم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهديه هدية، وأن يمنحه
تلك العطية فقال عليه الصلاة والسلام: "يا غلام؛ ألا أعلمك كلمات؟ احفظ
الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجَاهَك، إذا استعنت فاستعن بالله، وإذا سألت فاسأل
الله، واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه
الله لك، واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه
الله عليك، رُفعت الأقلام وجفّت الصحف". (5)
فمَن
هذا الذي يستطيع أن يتخطى أمر الله عز وجل؟ ومن هذا العبد الذي يستطيع أن يقضي
الوطر لنفسه قبل أن يقضيه لغيره من خلق الله عز وجل؟ فاللهَ الله! أن ينظر الله عز
وجل عليك في البلاء، وقد رفعت كفك إلى غير الله.
الله
الله! أن ينظر الله إليك في البلاء وقد تعلقت بغيره جل في علاه.
الله
الله! أن ينظر الله إليك في البلاء وقد صرفت شعبةً من شعب قلبك تعتقد فيها في أحدٍ
سواه.
الله
الله! أن ينظر الله إليك في البلاء وقد تعلّقت بغيره وعُذت بأحد سواه. وكم من
أقوام استعاذوا واستجاروا بغير الله ففرّج الله عنهم الكربات امتحانًا واختبارًا،
واستدرجهم منه علمًا وحكمةً واقتدارًا، ثم ابتلاهم بالبلاء الذي هو نهايتهم من حيث
لا يحتسبون!
عباد
الرحمن؛ من وثق بالله، وأيقن بالله تبارك وتعالى، أحسّ في قرارة قلبه أن لا ملجأ
ولا منجى من الله إلا إليه، إن فقدت الأموال فإنك لم تفقد ربَّها، وإن فقدت
الأبناء والبنات فإنك لم تفقد من أوجدها ومن خلقها، وإن فقدت الآباء والأمهات،
فإنك لم تفقد من جَبَل قلوبهم إلى الحنان فأحسنوا إليك ووهبوا يد المعروف إليك.
فالله
الله! أن يَخِيب ظنُّك في رجائه، أو تكون من عباده الذين ضلّ سعيهم بالرجاء في
غيره. (6)
اللهم
صل على محمد...
.............
1. البخاري 7/109 ( 5470 ) ،
ومسلم 6/174 ( 2144 ) ( 23 )
2. البخاري
1/71 ( 247 ) و9/174 ( 7488 ) ، ومسلم 8/78 (2710 ) ( 57 ) و( 58 ) وفي رواية في
الصحيحين: "واجعلهنّ آخرَ ما تقول". قال
النووي: "في الحديث ثلاث سنن مهمة مستحبة، ليست بواجبة: الوضوء
عند إرادة النوم، والنوم على الشق الأيمن، وذكر الله تعالى؛ ليكون خاتمة
عمله". شرح صحيح مسلم 9/31 ( 2710 )
3. ولليقين
كتاب سابق مستقل.
4. أبو
داود (4700) وصححه الألباني.
5. الترمذي
( 2516 ) وصححه الألباني. ومعنى "رفعت الأقلام وجفّت
الصحف": أي فُرغ من الأمر وجفّت كتابته، كناية عن تقدم كتابة المقادير
كلها والفراغ منها من أمد بعيد. ذكره في دليل الفالحين (1/288)
6. دروس
للشيخ محمد المختار الشنقيطي (49 / 4،9) باختصار وتصرف يسير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق