من أرضى الله بسخط الناس
الحمد لله شرح صدور المؤمنين فانقادوا
لطاعته، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم فلم يجدوا حرجا في الاحتكام إلى
شريعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،
صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن الخير كله في الرضا بالله
تعالى، فأصبحوا وأمسوا يا عباد الله على الرضا بالله تعالى.
روي عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه
كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "أمَّا بعد، فإن الخير كله في الرضا،
فإن استطعت أن ترضى وإلّا فاصبر".
ومن يجعل الرحمنُ في قلبه الرضا .. يعشْ في غنًى من طيّب العيش واسعُ
عباد
الرحمن؛ قد يريد الناس شيئًا يخالف أمر الله تعالى، وهنا محك الإيمان واختبار
اليقين ومعيار التقوى، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا، قال
سبحانه: { إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا }، فالحزم كلّ الحزم
في الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية: "من أرضى الله بسخط الناس كفاه
الله مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا" (1) قال
ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن تأمل أحوال العالم رأى هذا كثيرًا فيمن يعين
الرؤساء على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يعين أهل البدع على بدعهم هربًا من عقوبتهم،
فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شرّ نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرّم،
وصبر على عدوانهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم
كالمهاجرين والأنصار ومن ابتلي من العلماء والعباد وصالحي الولاة والتجار
وغيرهم". (2)
وقال
ابن تيمية رحمه الله: "السعادة في معاملة الخلق: أن تعاملهم لله، فترجو الله
فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب
الله لا لمكافأتهم، وتكفّ عن ظلمهم خوفًا من الله لا منهم. كما جاء في الأثر:
"ارجُ الله في الناس، ولا ترج الناس في الله، وخفِ الله في الناس، ولا تخف
الناس في الله". أي: لا تفعل شيئًا من أنواع العبادات والقُرَب لأجلهم لا
رجاء مدحهم ولا خوفًا من ذمّهم، بل ارجُ الله ولا تخفهم في الله فيما تأتي وما
تذر، بل افعل ما أُمرتَ به وإن كرهوه.
وفي
الحديث: "إنّ من ضعف اليقين أن تُرضي الناس بسخط الله، أو تذمّهم على
ما لم يؤتك الله". (3) فإنّ اليقين يتضمّن اليقين في القيام بأمر الله
وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمّن اليقين بقدر الله وخلْقِه وتدبيره، فإذا أرضيتهم
بسخط الله لم تكن موقنًا لا بوعده ولا برزقه، فإنّه إنما يحمل الإنسان على ذلك
إمّا ميل إلى ما في أيديهم من الدنيا، فيترك القيام فيهم بأمر الله لِما يرجوه
منهم، وإما ضعف تصديق بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا
والآخرة، فإنك إذا أرضيت الله نصرَك ورزقك وكفاك مؤنتهم، فإرضاؤهم بسخطه إنما يكون
خوفًا منهم ورجاء لهم، وذلك من ضعف اليقين.
وإذا
لم يُقدّر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم، فإنّه
ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدّر؛ كان ذلك من ضعف
يقينك، فلا تَخفهم ولا ترجهم ولا تذمّهم من جهة نفسك وهواك، لكن من حمده الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
فهو المذموم. ولما قال بعض وفد بني تميم: يا محمد، أعطني، فإنّ حمدي زَيْنٌ وإنّ
ذمّي شَيْنٌ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك الله عز
وجل". (4) وكتبت عائشة إلى معاوية وروي أنها رفعته إلى النبي صلى
الله عليه وسلم: "من أرضى الله بسخط الناس كفاه مؤنة الناس، ومن أرضى
الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا". (5) هذا لفظ المرفوع،
ولفظ الموقوف: "من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن
أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذامًّا"، هذا لفظ المأثور عنها،
وهذا من أعظم الفقه في الدين. والمرفوع أحقّ وأصدق، فإنّ من أرضى الله بسخطهم كان
قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، وهو كاف عبده (ومن يتق الله
يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ). فالله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب، وأما
كون الناس كلهم يرضون عنه؛ فقد لا يحصل ذلك، لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض،
وإذا تبيّنت لهم العاقبة.
ومن
أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا، كالظالم الذي يعضّ على يده
يقول: (يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا }،
وأما كون حامده ينقلب ذامًّا: فهذا يقع كثيرًا ويحصل في العاقبة، فإن العاقبة
للتقوى، لا يحصل ابتداء عند أهوائهم، وهو سبحانه أعلم". (6)
فَلا تَجزَع وَإِن أَعسَرتَ يَومًا ... فَقَد
أَيسَرتَ في الزَمَنِ الطَويلِ
وَلا تَيأَس فَإِنَّ اليَأسَ
كُفرٌ ... لَعَلَّ اللَهَ يُغني عَن قَليلِ
وَلا تَظنُن بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوءٍ ... فَإِنَّ
اللَهَ أَولى بِالجَميلِ
بارك
الله لي ولكم..
.............
الخطبة
الثانية:
الحمد
لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا
لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله
عباد الله، واعلموا أن أعجز الناس وأجهلهم هو من أعطى الدنيا أكثر من حقّها وأكبر
من حجمها رغبةً واهتمامًا ورضًا وسخطًا، فضع الدنيا – رحمك الله – حيث وضعها الله،
وارفعِ الآخرةَ إذْ رفعها الله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله: "ولما كان الألم
لا محيص منه البتّة؛ عزّى الله سبحانه من اختار الألم اليسير المنقطع على الألم
العظيم المستمر بقوله: (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم
) فضرب لمدة هذا الألم أجلًا لا بدّ أن يأتي، وهو يوم لقائه، فيلتذُّ العبد أعظم
اللذة بما تحمّل من أجله وفي مرضاته، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمّل من
الألم في الله ولله.
وأكّدَ
هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه، ليحمل العبدَ اشتياقُه إلى لقاء ربه ووليّه على
تحمل مشقة الألم العاجل، بل ربما غيّبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس
به! ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه الشوقَ إلى لقائه فقال في الدعاء
الذي رواه أحمد وابن حبان: "اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على
الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، وأسألك
خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحقّ في الغضب والرّضا، وأسألك القصد في
الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد
القضاء، وأسألك برْدَ العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق
إلى لقائك في غير ضرّاء مضرّة، ولا فتنة مضلة (7) اللهم زيّنا بزينة الإيمان،
واجعلنا هداة مهتدين". (8) فالشوق يحمل المشتاق على الجدّ في السير
إلى محبوبه، ويقرّب عليه الطريق، ويطوي له البعيد، ويهوّن عليه الآلام والمشاق،
وهو من أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده، ولكن لهذه النعمة أقوالٌ وأعمال هما
السبب الذي تنال به، والله سبحانه سميع لتلك الأقوال عليم بتلك الأفعال، وهو عليم
بمن يصلح لهذه النعمة ويشكرها ويعرف قدرها ويحب المنعم عليه، قال تعالى: (وكذلك
فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين
) فإذا فاتت العبد نعمة من نعم ربه فليقرأ على نفسه: { أليس الله بأعلم بالشاكرين
}.
ثمّ
عزّاهم تعالى بعزاء آخر؛ وهو أن جهادهم فيه إنما هو لأنفسهم وثمرته عائدة عليهم،
وأنه غنيّ عن العالمين، ومصلحة هذا الجهاد ترجع إليهم لا إليه سبحانه، ثم أخبر أنه
يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين.
ثم
أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس
له كعذاب الله، وهي أذاهم له ونيلهم إياه بالمكروه والألم الذي لا بد أن يناله
الرسل وأتباعهم ممن خالفهم، جعل ذلك في فراره منهم، وتركه السبب الذي ناله، كعذاب
الله الذي فرّ منه المؤمنون بالإيمان!
فالمؤمنون
لكمال بصيرتهم فرّوا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحمّلوا ما فيه من الألم
الزائل المفارق عن قريب، وهذا لضعف بصيرته فرّ من ألم عذاب أعداء الرسل إلى
موافقتهم ومتابعتهم، ففرّ من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله! فجعل ألم فتنة الناس
في الفرار منه بمنزلة ألم عذاب الله، وغُبن كلّ الغبن؛ إذ استجار من الرمضاء
بالنار، وفرّ من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني
كنت معكم، والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق.
والمقصود؛
أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يَمتحن النفوس ويبتليها، فيظهر بالامتحان
طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح، وليمحّص النفوس التي
تصلح له ويخلّصها بكَير الامتحان، كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو مِنْ غشّه إلا
بالامتحان، إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة، وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما
يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية، فإن خرج في هذه الدار وإلا ففي كَيْر جهنم، فإذا
هُذّب العبد ونُقّي أذن له في دخول الجنة". (9)
ألا ما
أجمل الرضا، وأحلى مذاقه، وأرقّ أوقاته، وأينع ثماره، اللهم رفقةَ الراضين بك، إله
الحق. اللهم نسألك الفردوس الأعلى بلا حساب ولا عذاب ووالدينا وأهلينا وأحبابنا
والمسلمين، إله الحق آمين.
اللهم
صل على محمد...
............
1- الترمذي
(2/ 67) وصححه الألباني في الصحيحة (2311) بنحوه.
2- الزاد
(3/ 16-17)
3- شعب
الإيمان (1/176) والحلية (3/122) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2009)
4- الترمذي
(3267) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وضعفه أيمن صالح. ورواه أحمد (15991) وقال
محققوه: إسناده ضعيف لانقطاعه، أبو سلمة بن عبد الرحمن- وهو ابن عوف القرشي- لم
يثبت سماعه من الأقرع بن حابس.
5- الترمذي
(2/ 67) وصححه الألباني في الصحيحة (2311) بنحوه.
6- مجموع
الفتاوى (1 / 52)
7- أي
أنه سأل الله أن يجعل سبب شوقه إلى لقائه هو محض الشوق إليه والإيمان به وحسن الظن
به وعظيم الرجاء وصادق المحبة، وهذا هو الشوق الصادق الجميل، لا هربًا من مشقّة
الدنيا أو فتنة الدِّين.
8- أحمد
(18351) والنسائي (1305) وصححه الألباني في الكلم الطيب (106) ولفظ النسائي:
"اللهم بعلمك الغيب.. الحديث".
9- زاد
المعاد (3/ 16-17) باختصار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق