إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 30 يناير 2020

عنايةُ الإسلامِ بذوِي الاحتياجاتِ الخاصَّةِ


عنايةُ الإسلامِ بذوِي الاحتياجاتِ الخاصَّةِ
منقولة بتصرف
الحمدُ للهِ خلَقَ الإنسَانَ ولَم يَكنْ شيئاً مَذكُوراً، صوَّرَهُ فَجَعَلَهُ سَمِيعاً بَصِيرًا، أرسَلَ إليهِ رُسُلَهُ وَهَدَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وإمَّا كَفُوراً، نَشهدُ أنْ لا إِلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ إنَّهُ كانَ حِليماً غَفُوراً، ونَشهدُ أنَّ سيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحمَّداً عَبدُ اللهِ ورَسُولُهُ، كانَ لِرَبِّهِ عَبداً شَكُوراً، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليهِ وعلَى آلِهِ وأصحَابِهِ، والتَّابعينَ ومَن تَبعَهُم بإحسانٍ وإيمانٍ إِلى يَومِ نَلقَى فيهِ كتابَنَا مَنشُوراً... أمَّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ حَقَّ التَّقوَى، ورَاقِبوا اللهَ في السِّرِّ والنَّجَوى {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.
أيُّها المسلمونَ: إِخوانُنَا وأبنَاؤنَا وأَخواتُنَا وبَناتُنَا ذَوُو الاحتياجاتِ الخاصَّةِ، وهمْ مِمَّن ابتُلُوا بقُصُورٍ أو خَللٍ وَظِيفيٍّ مُستدِيمٍ؛ حَرَكيٍّ أو حِسِّيٍّ أو عَقْليٍّ، وُلِدَ بهِ أو أُصيبَ بهِ بعدَ وِلاَدَتِهِ، هُم مِنَّا ونحن مِنهُم, هُم جُزءٌ مِن جسدنا الاجتماعيِّ، ولقد كانَ النبيّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- يحثُّ أمتهُ على الاهتمامِ بهم ويؤكّد على قضاءِ حوائجهِمْ، وتيسيرِ أمورِهِمْ، والقيامِ بحقِّهِمْ، وأخبر أن الله تعالى يرزق وينصر على ذلك فقال -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم-: “ابْغُونِي الضعفاءَ فإنّمَا تُرْزَقُونَ وتُنْصَرْونَ بضعفائِكُمْ“(رواه أبو داود)
وحذّرَ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- أشدّ التحذيرِ منْ تضليلِ الكفيفِ عنْ طريقِهِ عبثاً وسخريةً بهِ فقالَ: “مَلْعُونٌ مَنْ كَمَّهَ أَعْمىً عنْ طريق“(رواه أحمد). وقالَ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- في الحديثِ القدسيّ مسلّياً ومخففاً للمبتلى: “يقولُ اللهُ -عزّ وجلّ- منْ أذهبتُ حبيبتيْهِ فصبرَ واحتسبَ لمْ أَرْضَ لهُ ثواباً دونَ الجنةِ“(رواه الترمذي). والحبيبتان هما العينان.
ووضع الإسلام قاعدة تدفع عنهم المشقة والحرج، فقال سبحانه [لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]. حتى في أعظَمِ أركانِ الإسلامِ عذرَ اللهُ المرضى وذوي الإعاقاتِ فقالَ صلَّى الله عليه وسلَّم (صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ). فأيُّ تَكريمٍ؟! وأيُّ تَخفيفٍ؟! وأيُّ توجيهٍ لنا وَتنبِيهٍ لِتلكَ الفئَةِ الغالِيَةِ؟! حقَّا إنَّهُ دِينُ الرَّحمةِ! وأجر العاجز يجري له إن كانت نيته صالحة، قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر كَتَبَ الله تعالى له من الأجر ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا)) رواه البخاري.
أيُّها المؤمنونَ: ولقدْ اهتمّ الخلفاءُ ومَنْ دونَهم بهذه الفئة الغالية اهتمامًا بالغًا؛ فقد أُثِرَ عن عمرَ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنّهُ فَرَضَ لذوي العاهاتِ راتباً من بيتِ المالِ؛ حمايةً لهم من ذُلِّ السؤالِ. وكذلكَ الخليفةُ الأمويُّ عمرُ بنُ عبد العزيزِ -رحمهُ اللهُ- أمرَ بإحصائِهِم وتخصيصِ قائدٍ مرافقٍ لكلِّ كفيفٍ، وخادمٍ لكلِّ مُقْعَدٍ لا يقوى على أداءِ الصلاةِ وقوفاً.
وكذلك الوليدُ بن عبدِ الملكِ أنشأَ لهم مشفىً خاصّاً بهم، وجعلَ فيهِ الأطباءَ وأجرى لهم الأرزاقَ والنفقاتِ. وكذلك الخليفةُ العباسيُّ أبو جعفر المنصورُ فقد بنَي مشفىً للمكفوفينَ ومأوى للمجذومينَ وملجأً للعجائزِ في بغداد. وفرض الوليد لكُلِّ مُقْعَدٍ خَادِمًا، وكلِّ أَعمَى قَائِدًا.
وقد استمرّ اهتمامُ المسلمينَ على مرِّ التاريخِ بهذهِ الفئةِ الكريمةِ التي ابتلاهَا اللهُ -جلَّ وعلَا- امتحانًا، وأعدَّ لها على صبرِهَا أجرًا وثوابًا، ولازال المسلمون بحمد الله على احترام وتقدير وإعانة كل ذي حاجة، فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
عباد الله: إن الإعاقة ليست عيبًا ولا منقصة بل هي امتحان من الله تعالى للعبد أيصبر فيرفعه صبره ورضاه وحمده وشكره، أم يجزع فيكونَ من الخاسرين، وإن المتأمل لحياة العظماء في الإسلام يرى كثيرًا منهم لم يسلم من إعاقة في بصره أو سمعه أو حركته أو غير ذلك، والله تعالى حكيم بر رحيم.
كانَ النبيُّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- يستخلفُ ابنَ أمِّ مكتومٍ -رضي اللهُ عنهُ- على المدينةِ و”كانَ مؤذناً لرسولَ اللهَ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- وهو أعمى“(رواه مسلم). وكانَ ابنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهما- كفيفاً في آخر عمره وهو حبرُ الأمّةِ. وبعث النبيُّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- معاذًا رضِيَ اللهُ عنهُ أميرًا وقاضيًا على اليمن وهو أعرجٌ. وهذا عطاءُ بنُ أبي رباحٍ قد اجتمعتْ فيه كثيرٌ من الإعاقاتِ، فلمْ تمنعهُ من النبوغِ والتميُّزِ بين أقرانِهِ، فكانَ من أشهرِ علماءِ التَّابعينَ وإمامًا للفتوى ومرجعًا للفقهاءِ وأئمةِ المذاهبِ الفقهيةِ في زمانِهِ.
وفي الأمّةِ كثيرٌ من هؤلاءِ الرجالِ الأفذاذِ في سابقِها ولاحقِها إلى يومِنا هذا منْ ذوي الإعاقةِ مِمّن تميَّزوا في حياتِهم وبذلوا أسبابَ التفوقِ والنبوغِ، ولمْ يستسلموا لواقعِهم، فوفَّقهم اللهُ -تعالى-، وأعانَهم وجَعَلَهُم مقدّمينَ على كثيرٍ منَ الأصحّاءِ الأقوياءِ في كثيرٍ منَ المجالاتِ، ومن الشواهد العصرية الشيخ ابن إبراهيم، وابنُ حميدٍ، وابنُ بازٍ، وغيرهم كثير بحمد الله، فالعبرة بالتقوى والعقل والأدب والعزيمة والرضى بالله تعالى. والمؤمن مبتلى، وإنما يُبتلى الرجل على قدر دينه، وإذا أحب الله عبدًا أصاب منه، وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثلُ فالأمثل، قال سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون)[البقرة:155-157].
باركَ اللهُ لِي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعنِي وإيّاكُم بما فيهِ من الآياتِ والذّكرِ الحكيمِ، أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكمْ؛ إنّهُ هوَ الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حَقَّ حَمدِهِ، ومَا كُلُّ نِعمَةٍ إلاَّ مِن عِندِه. والصلاةُ والسلامُ على خَاتَمِ أَنبيَائِهِ ورُسُلِهِ، وعلَى آلِهِ وصَحبِهِ ومَنِ اهتَدَى بِهَدْيِهِ... وبَعدُ:
فاتقوا الله تعالى، واسألوه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. ولكل من ابتلي بابتلاء في جسده: احمد الله أن خصك بهذا الابتلاء، فإن البلاء إن نزل معه صبر ورضى فهو رحمة، أما إن صاحبه جزع واعتراض فهو هلكة، واحمدوا الله أن المصيبة لم تكن في دينكم:
وكل كسر فإن الدين يجبره  ...  وما لكسر قناة الدين جبرانُ
واحمدوا الله تعالى أنها أهون من أختها، فما من مصيبة إلا ومن جنسها ما هو أعظم منها، واحمدوا الله تعالى أن رزقكم الصبر والاحتساب والرضى والحمدَ والشكرَ عليها، فلله الحمد كلُّه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
فاشكُرُوا مَولاكُم علَى مَا أَصابَكُم مِنَ البَّلاءِ وثِقُوا أنَّه ابتلاءُ مَحبَّةٍ واصطِفاءٍ، وأنَّ عَاقِبَتَه إنْ صَبرتُم جَنةٌ عَرضُهَا كعَرضِ الأرضِ والسَّماءِ، وتَذكَّرُوا دَوماً وأَبداً قولَ العَليمِ الخَبيرِ سبحانَه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، وتَذَكَّروا أيضاً قولَ الحبيبِ صلَّى الله عليهِ وسَلَّم: "إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ" رواه الترمذيُّ وابنُ ماجَه.
كمَا يَنبغِي العِلمُ أنَّ الإعاقةَ لَم تَكُن يَومًا سَببًا للخُمُولِ والرُّكُودِ أو التَّنَصُّلِ مِنَ المسؤوليةِ والحَركَةِ في الأرضِ والإِسهَامِ في كافَّةِ مَجالاتِهَا الدينيةِ والدُّنيويةِ، فالإِعَاقةُ وإنْ حَرَمَتْ صَاحِبَهَا شَيئا مِنَ المجَالاتِ، فإنَّ ثَمَّةَ مَجالاتٌ لا حَدَّ لَهَا يَستطِيعُ مِن خَلالِهَا تَحقيقَ أَعلَى الإِنجازَاتِ وأَفضلَ الأَعمالِ, والتَّاريخُ حَافِلٌ بالمِئَاتِ مِن العُلماءِ والمفكِّرينَ والمختَرِعينَ, مِمَّن لَم تَمْنَعْهُمْ إِعاقَتُهُمْ عَن الإِنجَازِ والإِبدَاعِ.
وإذَا رُزِقَ الوَالدَانَ: الوَلَدَ، وكَتبَ اللُه تعالى عَليهِم أَنْ يَكونَ مُعَاقًا، فلْيَعْتَبِرَاهُ نعمة مِنَ اللهِ وهذا لعمر الله من النعم الخفية على كثير من الناس، ولكن من تأمل الحكم العظيمة فيها اطمأن قلبُه لاختيار الله له، وأيقن بحكمة الله ورحمته له ولمن ابتُلي في جسده أو عقله من أحبابه، فرضيتْ نفسه وارتاح قلبه، فالله رحيم بعباده وهو أعلم بمصالحهم من أنفسهم، وكم من نعمة في طي محنة ورحمة في بطن بلاء، ومتى ربط المؤمن الدنيا بالآخرة اتضحت رؤيته ونصعت بصيرته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
 أَسألُ اللهَ العظيمَ ربَّ العَرشِ العَظيمِ بأسمائِهِ الحسنَى، وصفاتِه العُلَى أَن يَجعَلَنَا دَائمًا وأَبدًا مِن أَهلِ الصَّبرِ والرِّضَى ومِن أَصحابِ الهِمَمِ العَاليةِ، ومِن أَصحابِ العَزائمِ الصَّادقَةِ، وأنْ يَشفِيَ مَرضَانَا، ومَرضَى المسلمينَ، ويَرحَمَ مَوتَانَا، ومَوتَى المسلمينَ.
ثُمَّ صلَّوا وسلِّموا على نَبِيِّ الرَّحمَةِ، فقد قالَ اللهُ في مُحكَمِ تَنزِيلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}؛ فاللهمَّ صَلِّ وَسَلِّم وَبَارِك على عَبدِكَ وَرَسُولِكَ مُحمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبه أجمعين.
اللهم إنَّا نَسألُكَ العَفوَ والعَافِيَةَ والمعافاةَ الدَّائِمةَ في دِينِنا ودُنيانا وأَهلِينا وأَموالِنا، واحْفَظْنَا مِن بينِ أَيدِينا وَمن خَلفِنَا، وعن أَيمَانِنا وعن شَمَائِلِنا، ومِن فَوقِنَا، ونَعوذُ بِكَ أنْ نُغتَالَ مِن تَحتِنا. اللهمَّ إنَّا نَسأَلُكَ صِحَّةً في إِيمَانٍ، وإيمَانَاً في حُسنٍ خُلُقٍ وعَمَلٍ. اللهمَّ اشْفِ مَرضَانَا ومَرْضَى المُسلِمِينَ وعافِ مُبتَلانَا، واهد ضالنا اللهمَّ أَنزِلْ رَحمَتَكَ وشِفَاءَكَ على المُسلِمينَ.
اللهمَّ آمنِّا في أوطَانِنا وأَصلح أَئِمَّتَنَا، دُلَّهُم على الحقِّ والرَّشَادِ، وبَاعِدْ عنهم أَهلَ الغَيِّ والفَسَادِ وارزقهم البطانة الصالحة الصادقة الناصحة، اللهم احفظ بهم الدين وأقم بهم الشريعة واجعلهم رحمة وخيرًا للمسلمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ،).

الأحد، 26 يناير 2020

مراقبة الله تعالى


مراقبة الله تعالى
منقولة بتصرف
الْحَمْدُ لِلَّهِ غَافِرِ الزَّلَّاتِ وَمُقِيلِ الْعَثَرَاتِ، أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ بِحَقٍّ سِوَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَمُصْطَفَاهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى حَقَّ تُقَاتِهِ وَاسْتَشْعِرُوا دَائِمًا وَأَبَدًا مُرَاقَبَةَ اللَّهِ لَكُمْ، وَعَظِّمُوا اللَّهَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الْبَقَرَة: 281].
عِبَادَ اللَّهِ، نَحْنُ فِي زَمَنٍ تَكَاثَرَتْ فِيهِ الْفِتَنُ، وَتَنَوَّعَتْ عَبْرَ وَسَائِلَ مُخْتَلِفَةٍ؛ مِنْ شَاشَاتٍ وَجَوَّالَاتٍ فِيهَا بَرَامِجُ مُتَجَدِّدَةٌ، مِنْ خِلَالِهَا قَدْ يَصِلُ الْوَاحِدُ إِلَى الْمُنْكَرِ وَهُوَ فِي قَعْرِ بَيْتِهِ دُونَ رَقِيبٍ وَلَا حَسِيبٍ، وَأَصْبَحَ الْعَاقِلُ لَا يَكَادُ يُصَدِّقُ مَا يَسْمَعُ وَيَرَى مِنْ مُنْكَرَاتٍ مُنْتَشِرَةٍ عَبْرَ هَذِهِ الْجَوَّالَاتِ الَّتِي بِيَدِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
فيا أيها المؤمنون. اتقوا اللهَ تعالى في السِّرِّ والعلنِ والغيبِ والشهادةِ ،فإن ربَّكم العليمَ الخبيرَ لا يعزبُ عنه مثقالُ ذرةٍ في السماواتِ ولا في الأرضِ ولا أصغرُ من ذلك ولا أكبرُ، يحاسبُكم تعالى ذكرُه على النَّقيرِِ والقِطميرِ والقليلِ والكثيرِ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾،قال عز جنابه: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾
عبادَ اللهِ. إن اللهَ -جلَّ وعلا- أخبرَكم بأنه رقيبٌ على أعمالِكم، عالمٌ بما في نفوسِكم، لا تخفى عليه منكم خافيةٌ، فالسرُّ عنده علانيةٌ، أخبرَكم بذلك لتخافوه وتخشَوْه وتراقِبوه، فقال تقدَّست أسماؤُه:﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ ،وقال تعالى:﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾
إنه الرقيب سبحانه، الذي لا فرق عنده بين الظاهر والباطن، ولا بين السر والعلانية، لا يخفى على سمعه شيء، ولا يغيب على بصره شيء.. قال سبحانه: ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61].
فمن تكلم علمَ الله تعالى نطقَه، ومن سكت علم الله عز وجل فِكرَه، ومن أسرّ أحاط الله بسريرته، وعلم ما يجول في خاطره، ﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الملك: 13].
عباد الرحمن: مراقبة الله في السر والعلن من أسمى مقامات الدين، وأعلى منازله؛ فهي تفسير لمعنى الإحسان الذي هو أعلى درجات الدين وأفضلُ منازل العبودية؛ بل هو حقيقتها ولبها وروحها وأساسها، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.. كما ثبت في حديث جبريل المشهور، حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم مَا الإِحْسَانُ؟ فقَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». متفق عليه.
فهو الرقيبُ على الخَواطِرِ واللوا        حظِ كيفَ بالأفعالِ والأركانِ
عبادَ اللهِ، إن الواجبَ على من نَصَحَ نفسَه وأحبَّ نجاتَه أن يستحضِرَ ويتيقَّن اطِّلاعَ اللهِ على ظاهرِه وباطنِه، ولا شكَّ أن من اعتقدَ ذلك وتيقَّنه حملَه على خيرٍ كثيرٍ، ودفع عنه شرًّا عظيماً، فاللهُ -جلَّ وعلا- على كلِّ شيءٍ شهيدٌ؛ ولذلك فقد جعل َالنبيُّ صلى الله عليه وسلم مراقبةَ اللهِ- جل وعلا- وتيقُّنَ اطلاعِه على أحوالِ عبادِه من أعلى مقاماتِ الدِّينِ، فلما سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن الإحسانِ قال: «أن تعبدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإن لم تكنْ تراه فإنه يَراك» متفق عليه .
ومن عبَدَ اللهَ أيها المؤمنون مستَحضِراً قُربَه وأنه بين يديه كأنه يراه أوجبَ له ذلك خشيةً وخوفاً وهيبةً وتعظيماً للهِ ربِّ العالمين، كما أن تيقُّنَ اطلاعِ اللهِ على عبدِهِ يحمِلُ العبدَ على إحسانِ العبادةِ، وبذلِ الجهدِ في إتمامِها وتكْمِيلِها، وقد نبَّهَ إلى ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حثِّهِ صلى الله عليه وسلم المؤمنين على الخشُوعِ في الصَّلاةِ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن أحدَكم إذا قامَ في صلاتِه فإنه يناجي ربَّه، أو إن ربَّه بينَه وبينَ القبلةِ» متفق عليه.
أيها المؤمنون. إن إيمانَ العبدِ بأن اللهَ يراه ويطَّلعُ على سرِّه وعلانيتِه وباطنِه وظاهرِه، وأنه لا يخفى عليه شيءٌ من أمرِه من أعظمِ أسبابِ تركِ المعاصي الظاهرةِ والباطنةِ؛ وإنما يسرِفُ الإنسانُ على نفسِه بالمعاصي والذنوبِ إذا غفلَ عن هذا الأمرِ؛ ولذلك قال اللهُ تعالى في بيانِ تهوُّكِ أهل النارِ في الذنوبِ والمعاصي:﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكم ظنُّكُم الذِي ظَنَنتم بِربِّكُم أَرْداكُم فَأَصْبَحْتُم من الخاسِرِين﴾ ،فمن قام في قلبِه أنه لا تخفى على اللهِ خافيةٌ، راقبَ ربَّه وحاسبَ نفسَه وتزوَّد لمَعادِه، واستوَى عنده السرُّ والإعلانُ؛ ولذلك كان من وصاياه صلى الله عليه وسلم: «اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ» رواه أحمد؛ أيْ: اتق الله في السِّرِّ والعلانيَةِ، حيث يراك الناسُ وحيثُ لا يرَوْنَك، فخشيةُ اللهِ تعالى في الغيبِ والشهادةِ من أعظمِ ما ينجِّي العبدَ في الدنيا والآخرةِ؛ ولذلك كانَ من دعاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أسألُك خشْيتَك في الغَيبِ والشهادةِ» رواه أحمد، وكان الإمام أحمدُ كثيراً ما ينشِدُ قولَ أبي العتاهية:
إذا ما خلوتَ الدهرَ يوماً فلا تقـلْ        خلــوتُ ولكن قلْ عليَّ رَقِيب
ولا تحسَبنَّ اللهَ يغفـــلُ ساعةً          ولا أنَّ مـا يَخفـى علـيه يَغِيب
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ في السرِّ والعلنِ، وإياكم وانتهاكَ محارمِ اللهِ في الخلواتِ، فإن الرجل ليصيب الذنبَ في السرِّ فيصبحُ وعليه أثرُه ومذلَّتُه، ومن أعجبِ ما رُوي في هذا أن رجلاً كان يرابي في السرِّ، لا يعلم به أحدٌ، فمرَّ ذاتَ يومٍ بصبيانٍ يلعبون فقال بعضُهم لبعضٍ: جاء آكلُ الرِّبا! فنكسَ رأسَه، وقال في نفسِه: ربِّ أفشيت سِرِّي إلى الصبيانِ. فتابَ من ذنبِه، وجمعَ مالَه، وقال: ربِّ إني أسِيرٌ، وإني قد اشتريتُ نفسي منك بهذا المالِ فأعتِقْني، وتصدَّقَ بمالِه كلِّه واستقامَ سرُّه وإعلانُه، فمرَّ ذاتَ يومٍ بأولئك الصِّبيَةِ، فلما رأوه قال بعضُهم لبعضٍ: اسكتوا فقد جاءَ فلانٌ العابدُ، فبكى ذلك الرجلُ.
فسبحانَ من بنفحاتِ فضلِه اتَّسَعَت القُلوبُ للإيمانِ وانشَرَحَتْ، ومن بحُسنِ هدايتِه وتوفيقِه انجلت عن القلوبِ ظلماتُ الجهلِ وانقشَعَت، ونعوذُ به جلَّ وعلا من خزيِ الدُّنيا والآخرةِ. عِبَادَ اللَّهِ: تَأَمَّلُوا مَعِي أَيْضًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: « سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ...»، إِذَا نَظَرْنَا إِلَى هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ نَجِدُ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمْ، وَالْوَصْفَ الَّذِي تَحَقَّقَ فِيهِمْ -عَلَى اخْتِلَافِ أَعْمَالِهِمْ-: هِيَ تَقْوَى اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَمُرَاقَبَتُهُ فِي خَلَوَاتِهِمْ.
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا تَقُلْ    خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ: عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاعَةً     وَلَا أَنَّ مَا تُخْفِيهِ عَنْهُ يَغِيبُ
لَهَوْنَا عَنِ الْأَيَّامِ حَتَّى تَتَابَعَتْ    ذُنُوبٌ عَلَى آثَارِهِنَّ ذُنُوبُ
فَيَا لَيْتَ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ مَا مَضَى    وَيَأْذَنُ فِي تَوْبَاتِنَا فَنَتُوبُ
بارك الله لي ولكم..

الخطبة الثانية
الحمد لله... أما بعد.
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واخْشَوْه في الغيبِ والشهادةِ، فإن اللهَ قد أعدَّ لمن راقبَهُ وخَشِيَه أجْراً عظيماً، فقال سبحانه:﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾، وخَصَّ من خَشِيَه في الغَيْبِ والسِّرِّ، فقال:﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرحمنَ بالغَيبِ وَجاءَ بقلْبٍ مُنيبٍ * اُدْخُلوها بِسَلامٍ ذلك يومُ الخُلُودِ * لهُمْ ما يَشَاؤُونَ فِيهَا﴾.
أما أولئك الذين خفَّ قدرُ اللهِ في قلوبهم وضعُفَ يقينُهم وإيمانُهم فسارعوا في ارتكابِ الموبقاتِ، والتورُّطِ في الذنوبِ والمعاصي في أوقاتِ الخلواتِ، ولم يَرعَوْا حقَّ ربِّ الأرضِ والسماواتِ فإن الله تعالى يقول: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾
عباد الله: استمِعوا إلى هذا الحديثِ العظيمِ عند ابنِ ماجه بسندٍ جيدٍ من حديثِ ثوبانَ  رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لأعلَمَنَّ أقواماً من أُمَّتي يأتون يومَ القيامةِ بحَسَنَاتٍ أمثالِ جبالِ تهامةَ بيضاً، فيجعلُها الله- عز وجل- هباءً منثوراً» قال ثوبان: يا رسولَ الله صِفْهم لنا، جَلِّهم لنا ألا نكونَ منهم ونحن لا نعلم!! قال: «أما إنهم إخوانُكم ومن جِلْدَتِكم ويأخُذُون من الليلِ ما تأخُذُون، ولكنهم أقوامٌ إذا خلَوْا بمحارمِ اللهِ انتهكوها» . وليس معنى هذا التشجيع على المجاهرة بالمعصية؛ لأن المجاهرة أعظم إثمًا وأشد جرمًا، قال -صلى الله عليه وسلم-: “كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ الله عَلَيْهِ فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ الله عَنْهُ“(متفق عليه).
عِبَادَ اللَّهِ، لَا يَزَالُ الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يَقَعُ مِنْهُ الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ، مَرَّةً يُحْسِنُ وَمَرَّةً يُسِيءُ، حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- فَيَجِدُ مَا عَمِلَ حَاضِرًا ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الْكَهْفِ: 49]، فَتُعْرَضُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْأَعْمَالُ فَلَا تَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ، وَفِي يَوْمِ الْحِسَابِ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، وَيَنْظُرُ مَا عَمِلَتْ يَمِينُهُ وَيُسْرَاهُ، فَتُخْرَجُ الْفَضَائِحُ وَتُبْلَى السَّرَائِرُ، وَيُفَاجَأُ كُلُّ عَامِلٍ بِمَا أَسَرَّ وَأَعْلَنَ ﴿ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ﴾ [الْقَمَر: 53]
وإذا خلوت بريبة في ظلمة   والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها:  إن الذي خلق الظلام يراني
عباد الرحمن: إنّ من أجل وأعظم ثمار المراقبة: المغفرةُ والثواب الكبير، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[الملك:12].
فنسأل الله أن يعيننا على حقوقِه وطاعتِه، فإن من السبعةِ الذين يظلُّهم اللهُ في ظلِّه «رجلٌ دَعتْه امرأةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وجمالٍ، فقال: إني أخافُ اللهَ ربَّ العالمين» متفق عليه.
اللهم صل على محمد..


الأربعاء، 22 يناير 2020

إضاءات نبوية


إضاءات نبوية
منقولة بتصرف
 الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه  الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وتدبروا قوله سبحانه في محكم آياته ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا )
وروى الترمذي بسند صحيح  عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا فقال (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلاَلَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِىي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ». وفي سنن البيهقي (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا أَوْ عَمِلْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي وَلَنْ تَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَىَّ الْحَوْضَ ».
إخوة الإسلام: في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مواقف وعبر ودروس، نتناول اليوم بعضا منها اتباعا لسنته صلى الله عليه وسلم.
 فالموقف الأول نرى فيه كيف كان الرسولُ صلى الله عليه وسلم يُعينُ أصحابه بطريقة يحفظ بها عفتهم وحياءهم. ففي صحيح البخاري  (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ – رضى الله عنهما قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فِي غَزَاةٍ ، فَأَبْطَأَ بِي جَمَلِي وَأَعْيَا، فَأَتَى عَلَىَّ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ « جَابِرٌ » . فَقُلْتُ نَعَمْ . قَالَ « مَا شَأْنُكَ » . قُلْتُ أَبْطَأَ عَلَىَّ جَمَلِي وَأَعْيَا ، فَتَخَلَّفْتُ . فَنَزَلَ يَحْجُنُهُ بِمِحْجَنِهِ ، ثُمَّ قَالَ « ارْكَبْ » . فَرَكِبْتُ ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَكُفُّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – أي من سرعته وقوّته - قَالَ « تَزَوَّجْتَ » . قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ « بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا ». قُلْتُ بَلْ ثَيِّبًا . قَالَ « أَفَلاَ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ » . قُلْتُ إِنَّ لِي أَخَوَاتٍ ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تَجْمَعُهُنَّ ، وَتَمْشُطُهُنَّ ، وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ . قَالَ « أَمَّا إِنَّكَ قَادِمٌ ، فَإِذَا قَدِمْتَ فَالْكَيْسَ الْكَيْسَ » . -والكيس هو العقل والحزم -.
ثُمَّ قَالَ « أَتَبِيعُ جَمَلَكَ » . قُلْتُ نَعَمْ . فَاشْتَرَاهُ مِنِّى بِأُوقِيَّةٍ، ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَبْلِي ، وَقَدِمْتُ بِالْغَدَاةِ ، فَجِئْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ، قَالَ « الآنَ قَدِمْتَ » . قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ « فَدَعْ جَمَلَكَ ، فَادْخُلْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ » . فَدَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ ، فَأَمَرَ بِلاَلاً أَنْ يَزِنَ لَهُ أُوقِيَّةً . فَوَزَنَ لِي بِلاَلٌ ، فَأَرْجَحَ فِي الْمِيزَانِ ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى وَلَّيْتُ فَقَالَ « ادْعُ لِي جَابِرًا » . قُلْتُ الآنَ يَرُدُّ عَلَىَّ الْجَمَلَ ، قَالَ « خُذْ جَمَلَكَ وَلَكَ ثَمَنُهُ » . فأعطاه الجمل والثمن صلى الله عليه وسلم.
أما الموقف الثاني فيُبيّن لنا فيه صلى الله عليه وسلم  الدعاءَ للأخ المسلم بظهر الغيب وفضلِه: ففي صحيح مسلم  : (عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وكانت تحته الدرداء، قَالَ: قَدِمْتُ الشَّامَ فَأَتَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي مَنْزِلِهِ فَلَمْ أَجِدْهُ، وَوَجَدْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ فَقَالَتْ: أَتُرِيدُ الْحَجَّ الْعَامَ فَقُلْتُ نَعَمْ. قَالَتْ: فَادْعُ اللَّهَ لَنَا بِخَيْرٍ فَإِنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ: « دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ ».
 أما الموقف الثالث فهو يدل على رحمته وعدله صلى الله عليه وسلم، ويتعلق بنصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضي الله عنها ، ففي صحيح البخاري (حَدَّثَنَا عَلِىٌّ أَنَّ فَاطِمَةَ – رضي الله عنها -اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ ، فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – أُتِىَ بِسَبْىٍ ، فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تُوَافِقْهُ ، فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ ، فَجَاءَ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ ، فَأَتَانَا وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا ، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ فَقَالَ « عَلَى مَكَانِكُمَا » حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي، فَقَالَ « أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ ، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ ، وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ ، وَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ » قال ابن تيمية: وإن  مما يعين على قوة الجسد واحتمال الشدة التزام  هذا الذكرِ قبل النوم لأنه يغني عن الخادم.
أيها المسلمون: ومن دلائل النبوة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، – قصةُ شربهِ اللبنَ مع أبي هريرة – وقد رواها  البخاري في صحيحه (  أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ آللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ ، وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الْجُوعِ ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِى يَخْرُجُونَ مِنْهُ ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِي ، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ، ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِي ،               فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ ، ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ – صلى الله عليه وسلم – فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ ، مَا فِي نَفْسِى                   وَمَا فِي وَجْهِى ثُمَّ قَالَ: « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الْحَقْ » . وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ ، فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ ، فَأَذِنَ لِي ، فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ. فَقَالَ « مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ » . قَالُوا أَهْدَاهُ لَكَ فُلاَنٌ أَوْ فُلاَنَةُ . قَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِى » .  قَالَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلاَمِ ، لاَ يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ ، وَلاَ عَلَى أَحَدٍ ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا ، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ ، وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا ، فَسَاءَنِي ذَلِكَ فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِى أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا ، فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ – صلى الله عليه وسلم – بُدٌّ ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا ، فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ، قَالَ « يَا أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « خُذْ فَأَعْطِهِمْ » . قَالَ فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَقَدْ رَوِىَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَىَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ » . قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « اقْعُدْ فَاشْرَبْ » . فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ . فَقَالَ « اشْرَبْ » . فَشَرِبْتُ ، فَمَا زَالَ يَقُولُ « اشْرَبْ » . حَتَّى قُلْتُ لاَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا . قَالَ « فَأَرِنِى » . فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى ، وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ .)
 ومن المواقفِ الدالةِ على كمال حلمه ورأفته صلى الله عليه وسلم ، موقفُه مع الأعرابي  الذي جبَذه، ففي صحيح البخاري (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنْتُ أَمْشِى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً – قَالَ أَنَسٌ فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ – ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ . فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ . )
اللهم اجعلنا من أهل شريعته وسنته وشفاعته إله الحق،                  أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم.

          الخطبة الثانية
 الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه  الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،                        أما بعد  أيها المسلمون، فاتقوا الله تعالى وارجوا اليوم الآخر واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
عباد الرحمن: ومن المواقف في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الدالةِ على كمال زهده في الدنيا قصةُ عمرَ والحصير، ففي صحيح البخاري ومسلم (فَقُلْتُ هَذَا عُمَرُ. فَأُذِنَ لِى، قَالَ عُمَرُ: وفيه: وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ _أي جلد - حَشْوُهَا لِيفٌ – أي ليف النخل- وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَضْبُورًا  -أي ورق الشجر الذي يستخدم في دبغ الجلود -  وَعِنْدَ رَأْسِهِ أُهُبًا مُعَلَّقَةً. فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَبَكَيْتُ فَقَالَ « مَا يُبْكِيكَ ». فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمَا الدُّنْيَا وَلَكَ الآخِرَةُ ».
ومن مواقفه صلى الله عليه وسلم : شفَقتُه على عبدالله بن عمرو بن العاص، وعلى كل عابد وطالب علم؛  فعند ابنِ ماجه بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ جَمَعْتُ الْقُرْآنَ فَقَرَأْتُهُ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَطُولَ عَلَيْكَ الزَّمَانُ وَأَنْ تَمَلَّ فَاقْرَأْهُ فِي شَهْرٍ ». فَقُلْتُ دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي.
 قَالَ « فَاقْرَأْهُ فِي عَشْرَةٍ ». قُلْتُ دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي. قَالَ « فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ ». قُلْتُ دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي. فَأَبَى.).
ومن نصحه صلى الله عليه وسلم لأمته، ما دل به أصحابَه وأمته على كسب الحسنات، ومن ذلك ما ورد في صحيح مسلم  عَنْ سَعْدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ ». فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ
قَالَ « يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ ».
 وورد في مسند الإمام أحمد (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ: « أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِى غَيْرِ إِثْمٍ وَلاَ قَطْعِ رَحِمٍ ». فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُحِبُّ ذَلِكَ. قَالَ « أَفَلاَ يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمَ أَوْ يَقْرَأَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلاَثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاَثٍ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ ».
وصدق الله العظيم: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) اللهم صل على محمد..

الخميس، 9 يناير 2020

حياة القلوب وأمراضها


حياة القلوب وأمراضها
منقولة باختصار وتصرف
الحمد لله رب المشارق والمغارب، خلق الإنسان من طين لازب. ثم جعله نطفة بين الصلب والترائب...خلق منه زوجه وجعل منهما الأبناء والأقارب.. وأشهد أن لا إله إلا الله القوي الغالب... وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُ الملكِ الواهب... ما من عاقل إلا علم أن الإيمان به حق وواجب... سل العدول، وسل هل عابه في الحقِّ عائب؟ اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله حيثما كنتم، وقوموا بالأمر الذي من أجله خُلقتم؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
أيها المسلمون في مستفتح العام يحسن التذكير. وما يتذكر إلا من ينيب، من غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، واشتدت عليه حسراته. لا بد من وقفةٍ صادقةٍ مع النفس في محاسبةٍ جادةٍ، ومساءلةٍ دقيقةٍ، فوالله لتموتن كما تنامون، ولتبعثنَّ كما تستيقظون، ولتجزون بما كنتم تعملون. هل الأعمار إلا أعوام؟ وهل الأعوام إلا أيام؟ وهل الأيام إلا أنفاس؟ وإن عمراً ينقضي مع الأنفاس لسريع الانصرام. (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا [آل عمران:30].
هذه يد المنون تتخطف الأرواح من أجسادها. تتخطفها وهي راقدة في منامها. تعاجلها وهي تمشي في طرقاتها. تقبضها وهي مكبة على أعمالها. تتخطفها وتعاجلها من غير إنذار أو إشعار. فَإِذَا جَآء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَئَخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [النحل:61].
ها هو ابن آدم يصبح سليماُ معافى في صحته وحُلَّته، ثم يمسي بين أطباق الثرى قد حيل بينه وبين الأحباب والأصحاب.
ويلٌ للأغرار المغترين. يأمنون الدنيا وهي غرارة. ويثقون بها وهي مكارة. ويركنون إليها وهي غدارة. فارقهم ما يحبون، ورأوا ما يكرهون. وحيل بينهم وبين ما يشتهون. ثم جاءهم ما يوعدون. ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون.
إنها الدنيا: تُبكي ضاحكاً، وتضحك باكياً. وتُخيف آمناً، وتؤمن خائفاً، وتفقر غنياً، وتغني فقيراً. تتقلب بأهلها، لا تُبقي أحداً على حال. العيش فيها مذموم، والسرور فيها لا يدوم، تُغيِّر صفاءها الآفات، وتنوبها الفجيعات، وتفجع فيها الرزايا، وتسوق أهلها المنايا. قد تنكرت معالمها، وانهارت عوالمها.
أيها الإخوة: لا يعرف حقيقة الدنيا بصفوها وأكدارها، وزيادتها ونقصانها إلا المحاسب نفسه. فمن صفَّى صُفِّيَ له، ومن كَدَّر كُدِّر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله. ومن سرَّه أن تدوم عافيته فليتق الله ربَّه، فالبر لا يبلى، والإثم لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان. وإذا رأيت في عيشك تكديراً وفي شأنك اضطراباً، فتذكر نعمةً ما شُكرت، أو زلة قد ارتكبي فجودة الثمار من جود البذار، ومن زرع حصد، وليس للمرء إلا ما اكتسب، وهو في القيامة مع من أحب.
يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: من عرف أنه عبدٌ لله وراجعٌ إليه فليعلم أنه موقوف. ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليُعد لكل سؤال جواباً. قيل: يرحمك الله فما الحيلة؟ قال: الأمر يسير. تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى. فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي.
أيها الإخوة: وهذه وقفة محاسبة مع النفس، يقول الحسن رحمه الله: داوِ قلبك؛ فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، ولن تحب الله حتى تحب طاعته.
أيها المسلمون: من عرف قلبه عرف ربَّه، وكم من جاهل بقلبه ونفسه، والله يحول بين المرء وقلبه. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: هلك من لم يكن له قلبٌ يعرف المعروف وينكر المنكر.
أيها الإخوة: لا بد في هذا من محاسبةٍ تَفُضُّ تغاليق الغفلة، وتوقظ مشاعر الإقبال على الله في القلب واللسان والجوارح جميعاً.
من لم يظفر بذلك فحياته كلها والله هموم في هموم، وأفكارٌ وغموم، وآلامٌ وحسرات. بل إن الله لم يبعث نبيه محمداً إلا بالمهمتين العظيمتين: علم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس. (هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2].
بل لقد علَّق الله فلاحَ عبده على تزكية نفسه وقدم ذلك وقرره بأحد عشر قسماً متوالية؛ ثم قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس:1-10].
أيها الإخوة: إن في القلوب فاقةً وحاجةً لا يسدها إلا الإقبال على الله ومحبته والإنابة إليه، ولا يلم شعثها إلا حفظ الجوارح، واجتناب المحرمات، واتقاء الشبهات.
معرفة القلب من أعظم مطلوبات الدين، ومن أظهر المعالم في طريق الصالحين. معرفة تستوجب اليقظة لخلجات القلب وخفقاته، وحركاته ولفتاته، والحذر من كل هاجس، والاحتياط من المزالق والهواجس، والتعلق الدائم بالله؛ فهو مقلب القلوب والأبصار. جاء في الخبر عند مسلم رحمه الله من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((سمعت رسول الله يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد يصرفه حيث يشاء. ثم قال رسول الله : اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك))
ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
والقلوب - أيها الإخوة - أربعةٌ: قلبٌ تقيٌّ نقي فيه سراج منير فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف مظلم؛ فذلك قلب الكافر: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88]. وقلب مرتكس منكوس؛ فذلك قلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي: فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ [النساء:88]. وقلبٌ تمده مادتان؛ مادة إيمان، ومادة نفاق فهو لِما غلب عليه منهما. وقد قال الله في أقوام: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ [آل عمران:167].
وفي القلب قوتان: قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل. وقوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل. فمن لم يعرف الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه. ومن عرفه واتبعه فهو المنعم عليه السالك صراط ربه المستقيم. يقول ابن القيم رحمه الله: وهذا موضع لا يفهمه إلا الألبّاء من الناس والعقلاء، ولا يعمل بمقتضاه إلا أهل الهمم العالية والنفوس الأبية الزاكية.
والعاقل هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه، وأكثر الخلق يخافون موت أبدانهم، ولا يبالون بموت قلوبهم.
إذا كان الأمر كذلك أيها الأحبة. فاعلموا أن صاحب القلب الحي يغدو ويروح، ويمسي ويصبح وفي أعماقه حسٌ ومحاسبة لدقات قلبه، وبصر عينه، وسماع أذنه، وحركة يده، وسير قدمه، إحساس بأن الليل يدبر، والصبح يتنفس، والكون في أفلاكه يسبح بقدرة العليم وتدبير الحكيم؛ (كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى [لقمان:29]. يعبد الله كأنه يراه، فيمتلئ قلبُه محبةً ومعرفةً، وعظمةً ومهابةً وأُنساً وإجلالاً. ولا يزال حبه يقوى، وقربه يدنو حتى يمتلئ قلبه إيماناً وخشية، ورجاء وطاعة، وخضوعاً وذلة؛ ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) كلما اقترب من ربه اقترب الله منه: ((من تقرب إليّ شبراً تقربتُ إليه ذراعاً)) فهو لا يزال رابحاً من ربه أفضل مما قدم، يعيش حياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة: فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]. ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)) رواه البخاري، من بذل شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وجازاه أفضل ما قدم.
أصحاب القلوب الحية صائمون قائمون، خاشعون قانتون، شاكرون على النعماء، صابرون في البأساء، لا تنبعث جوارحهم إلا بموافقة ما في قلوبهم، تجردوا من الأثرة والغش والهوى. اجتمع لهم حسن المعرفة مع صدق الأدب، وسخاء النفس مع مظانة العقل. هم البريئة أيديهم، الطاهرة صدورهم، متحابون بجلال الله، يغضبون لحرمات الله، أمناء إذا ائتمنوا، عادلون إذا حكموا، منجزون ما وعدوا، موفون إذا عاهدوا، جادون إذا عزموا، يقومون في مصالح الخلق، ويضيقون بآلامهم، في سلامةٍ من الغل، وحسن ظن بالخلق، وحمل الناس على أحسن المحامل. كسروا حظوظ النفس، وقطعوا الأطماع في أهل الدنيا.
جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير)) رواه مسلم، فهي سليمة نقية، خالية من الذنب، سالمة من العيب. يحرصون على النصح والإخلاص، والمتابعة والإحسان. همتهم في تصحيح العمل أكبر منها في كثرة العمل: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]. أوقفهم القرآن فوقفوا، واستبانت لهم السنة فالتزموا، يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون:60].
رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات، بواطنهم كظواهرهم بل أجلى، وسرائرهم كعلانيتهم بل أحلى، وهمتهم عند الثريا بل أعلى. إن عُرفوا تنكَّروا، تحبهم بقاع لأرض، وتفرح بهم ملائكة السماء. هذه حياة القلوب وهذه بعض آثارها.
أما القلوب المريضة فلا تتأثر بمواعظ، ولا تستفزها النذر، ولا توقظها العبر. أين الحياة في قلوب عرفت الله ولم تؤد حقه؟؟ قرأت كتاب الله ولم تعمل به. زعمت حب رسول الله وتركت سنته. يريدون الجنة ولم يعملوا لها، ويخافون من النار ولم يتقوها.
رُب امرئ من هؤلاء. أطلق بصره في حرام فحُرم البصيرة، ورب مطلق لسانه في غيبة فحرم نور القلب، ورب طاعم من الحرام أظلم فؤاده، محرومون من قيام الليل؟ ولا يجدون لذة المناجاة؟
القلب الميت: الدنيا تُسخطه وترضيه، والهوى يصمه ويعميه. ماتت قلوبهم ثم قبرت في أجسادهم، فما أبدانهم إلا قبورُ قلوبهم. قلوبٌ خَرِبَةٌ لا تؤلمها جراحات المعاصي، ولا يوجعها جهل الحق. لا تزال تتشربُ كلَّ فتنة حتى تسودَّ وتنتكس، ومن ثَمّ لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً.
عباد الله. غفلة القلوب عقوبة، والمعصية بعد المعصية عقوبة، والغافل لا يحس بالعقوبات المتتالية ولكن ما الحيلة؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
(ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:24-25].

-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله المستحق للحمد والثناء، له الخلق والأمر، يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره وأعوذ بالله من حال أهل الشقاء. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أفضل الرسل وخاتم الأنبياء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
أيها الناس: من خاف الوعيد قصُر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آتٍ قريب، وما شغل عن الله فهو شؤم.
التوفيق خير قائد، والإيمان هو النور، والعقل خير صاحب، وحسن الخلق خير قرين.
يقول الحسن رحمه الله: المؤمن قوَّام على نفسه، يحاسب نفسه لله. وإنما خف الحساب يوم القيامة على أقوام حاسبوا أنفسهم في الدنيا. وشق الحساب على أقوام يوم القيامة أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة. فحاسبوا أنفسكم رحمكم الله وفتشوا في قلوبكم.
تمرضُ القلوب وتموت إذا انحرفت عن الحق وقارفت الحرام؛ (فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]. تمرض القلوب وتموت إذا افتتنت بآلات اللهو وخليع الصور؛ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67].
كل الذنوب تميت القلوب، وتورث الذلة، وضيق الصدر وتردُّ الرزق.
يقول الحسن رحمه الله: ابن آدم: هل لك بمحاربة الله من طاقةٍ؟ فإن من عصى الله فقد حاربه، وكلما كان الذنب أقبح كان في محاربة الله أشد.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وتوبوا إلى ربكم وأصلحوا فساد قلوبكم.