إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 30 يناير 2020

عنايةُ الإسلامِ بذوِي الاحتياجاتِ الخاصَّةِ


عنايةُ الإسلامِ بذوِي الاحتياجاتِ الخاصَّةِ
منقولة بتصرف
الحمدُ للهِ خلَقَ الإنسَانَ ولَم يَكنْ شيئاً مَذكُوراً، صوَّرَهُ فَجَعَلَهُ سَمِيعاً بَصِيرًا، أرسَلَ إليهِ رُسُلَهُ وَهَدَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وإمَّا كَفُوراً، نَشهدُ أنْ لا إِلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ إنَّهُ كانَ حِليماً غَفُوراً، ونَشهدُ أنَّ سيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحمَّداً عَبدُ اللهِ ورَسُولُهُ، كانَ لِرَبِّهِ عَبداً شَكُوراً، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليهِ وعلَى آلِهِ وأصحَابِهِ، والتَّابعينَ ومَن تَبعَهُم بإحسانٍ وإيمانٍ إِلى يَومِ نَلقَى فيهِ كتابَنَا مَنشُوراً... أمَّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ حَقَّ التَّقوَى، ورَاقِبوا اللهَ في السِّرِّ والنَّجَوى {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.
أيُّها المسلمونَ: إِخوانُنَا وأبنَاؤنَا وأَخواتُنَا وبَناتُنَا ذَوُو الاحتياجاتِ الخاصَّةِ، وهمْ مِمَّن ابتُلُوا بقُصُورٍ أو خَللٍ وَظِيفيٍّ مُستدِيمٍ؛ حَرَكيٍّ أو حِسِّيٍّ أو عَقْليٍّ، وُلِدَ بهِ أو أُصيبَ بهِ بعدَ وِلاَدَتِهِ، هُم مِنَّا ونحن مِنهُم, هُم جُزءٌ مِن جسدنا الاجتماعيِّ، ولقد كانَ النبيّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- يحثُّ أمتهُ على الاهتمامِ بهم ويؤكّد على قضاءِ حوائجهِمْ، وتيسيرِ أمورِهِمْ، والقيامِ بحقِّهِمْ، وأخبر أن الله تعالى يرزق وينصر على ذلك فقال -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم-: “ابْغُونِي الضعفاءَ فإنّمَا تُرْزَقُونَ وتُنْصَرْونَ بضعفائِكُمْ“(رواه أبو داود)
وحذّرَ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- أشدّ التحذيرِ منْ تضليلِ الكفيفِ عنْ طريقِهِ عبثاً وسخريةً بهِ فقالَ: “مَلْعُونٌ مَنْ كَمَّهَ أَعْمىً عنْ طريق“(رواه أحمد). وقالَ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- في الحديثِ القدسيّ مسلّياً ومخففاً للمبتلى: “يقولُ اللهُ -عزّ وجلّ- منْ أذهبتُ حبيبتيْهِ فصبرَ واحتسبَ لمْ أَرْضَ لهُ ثواباً دونَ الجنةِ“(رواه الترمذي). والحبيبتان هما العينان.
ووضع الإسلام قاعدة تدفع عنهم المشقة والحرج، فقال سبحانه [لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]. حتى في أعظَمِ أركانِ الإسلامِ عذرَ اللهُ المرضى وذوي الإعاقاتِ فقالَ صلَّى الله عليه وسلَّم (صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ). فأيُّ تَكريمٍ؟! وأيُّ تَخفيفٍ؟! وأيُّ توجيهٍ لنا وَتنبِيهٍ لِتلكَ الفئَةِ الغالِيَةِ؟! حقَّا إنَّهُ دِينُ الرَّحمةِ! وأجر العاجز يجري له إن كانت نيته صالحة، قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر كَتَبَ الله تعالى له من الأجر ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا)) رواه البخاري.
أيُّها المؤمنونَ: ولقدْ اهتمّ الخلفاءُ ومَنْ دونَهم بهذه الفئة الغالية اهتمامًا بالغًا؛ فقد أُثِرَ عن عمرَ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنّهُ فَرَضَ لذوي العاهاتِ راتباً من بيتِ المالِ؛ حمايةً لهم من ذُلِّ السؤالِ. وكذلكَ الخليفةُ الأمويُّ عمرُ بنُ عبد العزيزِ -رحمهُ اللهُ- أمرَ بإحصائِهِم وتخصيصِ قائدٍ مرافقٍ لكلِّ كفيفٍ، وخادمٍ لكلِّ مُقْعَدٍ لا يقوى على أداءِ الصلاةِ وقوفاً.
وكذلك الوليدُ بن عبدِ الملكِ أنشأَ لهم مشفىً خاصّاً بهم، وجعلَ فيهِ الأطباءَ وأجرى لهم الأرزاقَ والنفقاتِ. وكذلك الخليفةُ العباسيُّ أبو جعفر المنصورُ فقد بنَي مشفىً للمكفوفينَ ومأوى للمجذومينَ وملجأً للعجائزِ في بغداد. وفرض الوليد لكُلِّ مُقْعَدٍ خَادِمًا، وكلِّ أَعمَى قَائِدًا.
وقد استمرّ اهتمامُ المسلمينَ على مرِّ التاريخِ بهذهِ الفئةِ الكريمةِ التي ابتلاهَا اللهُ -جلَّ وعلَا- امتحانًا، وأعدَّ لها على صبرِهَا أجرًا وثوابًا، ولازال المسلمون بحمد الله على احترام وتقدير وإعانة كل ذي حاجة، فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
عباد الله: إن الإعاقة ليست عيبًا ولا منقصة بل هي امتحان من الله تعالى للعبد أيصبر فيرفعه صبره ورضاه وحمده وشكره، أم يجزع فيكونَ من الخاسرين، وإن المتأمل لحياة العظماء في الإسلام يرى كثيرًا منهم لم يسلم من إعاقة في بصره أو سمعه أو حركته أو غير ذلك، والله تعالى حكيم بر رحيم.
كانَ النبيُّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- يستخلفُ ابنَ أمِّ مكتومٍ -رضي اللهُ عنهُ- على المدينةِ و”كانَ مؤذناً لرسولَ اللهَ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- وهو أعمى“(رواه مسلم). وكانَ ابنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهما- كفيفاً في آخر عمره وهو حبرُ الأمّةِ. وبعث النبيُّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- معاذًا رضِيَ اللهُ عنهُ أميرًا وقاضيًا على اليمن وهو أعرجٌ. وهذا عطاءُ بنُ أبي رباحٍ قد اجتمعتْ فيه كثيرٌ من الإعاقاتِ، فلمْ تمنعهُ من النبوغِ والتميُّزِ بين أقرانِهِ، فكانَ من أشهرِ علماءِ التَّابعينَ وإمامًا للفتوى ومرجعًا للفقهاءِ وأئمةِ المذاهبِ الفقهيةِ في زمانِهِ.
وفي الأمّةِ كثيرٌ من هؤلاءِ الرجالِ الأفذاذِ في سابقِها ولاحقِها إلى يومِنا هذا منْ ذوي الإعاقةِ مِمّن تميَّزوا في حياتِهم وبذلوا أسبابَ التفوقِ والنبوغِ، ولمْ يستسلموا لواقعِهم، فوفَّقهم اللهُ -تعالى-، وأعانَهم وجَعَلَهُم مقدّمينَ على كثيرٍ منَ الأصحّاءِ الأقوياءِ في كثيرٍ منَ المجالاتِ، ومن الشواهد العصرية الشيخ ابن إبراهيم، وابنُ حميدٍ، وابنُ بازٍ، وغيرهم كثير بحمد الله، فالعبرة بالتقوى والعقل والأدب والعزيمة والرضى بالله تعالى. والمؤمن مبتلى، وإنما يُبتلى الرجل على قدر دينه، وإذا أحب الله عبدًا أصاب منه، وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثلُ فالأمثل، قال سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون)[البقرة:155-157].
باركَ اللهُ لِي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعنِي وإيّاكُم بما فيهِ من الآياتِ والذّكرِ الحكيمِ، أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكمْ؛ إنّهُ هوَ الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حَقَّ حَمدِهِ، ومَا كُلُّ نِعمَةٍ إلاَّ مِن عِندِه. والصلاةُ والسلامُ على خَاتَمِ أَنبيَائِهِ ورُسُلِهِ، وعلَى آلِهِ وصَحبِهِ ومَنِ اهتَدَى بِهَدْيِهِ... وبَعدُ:
فاتقوا الله تعالى، واسألوه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. ولكل من ابتلي بابتلاء في جسده: احمد الله أن خصك بهذا الابتلاء، فإن البلاء إن نزل معه صبر ورضى فهو رحمة، أما إن صاحبه جزع واعتراض فهو هلكة، واحمدوا الله أن المصيبة لم تكن في دينكم:
وكل كسر فإن الدين يجبره  ...  وما لكسر قناة الدين جبرانُ
واحمدوا الله تعالى أنها أهون من أختها، فما من مصيبة إلا ومن جنسها ما هو أعظم منها، واحمدوا الله تعالى أن رزقكم الصبر والاحتساب والرضى والحمدَ والشكرَ عليها، فلله الحمد كلُّه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
فاشكُرُوا مَولاكُم علَى مَا أَصابَكُم مِنَ البَّلاءِ وثِقُوا أنَّه ابتلاءُ مَحبَّةٍ واصطِفاءٍ، وأنَّ عَاقِبَتَه إنْ صَبرتُم جَنةٌ عَرضُهَا كعَرضِ الأرضِ والسَّماءِ، وتَذكَّرُوا دَوماً وأَبداً قولَ العَليمِ الخَبيرِ سبحانَه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، وتَذَكَّروا أيضاً قولَ الحبيبِ صلَّى الله عليهِ وسَلَّم: "إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ" رواه الترمذيُّ وابنُ ماجَه.
كمَا يَنبغِي العِلمُ أنَّ الإعاقةَ لَم تَكُن يَومًا سَببًا للخُمُولِ والرُّكُودِ أو التَّنَصُّلِ مِنَ المسؤوليةِ والحَركَةِ في الأرضِ والإِسهَامِ في كافَّةِ مَجالاتِهَا الدينيةِ والدُّنيويةِ، فالإِعَاقةُ وإنْ حَرَمَتْ صَاحِبَهَا شَيئا مِنَ المجَالاتِ، فإنَّ ثَمَّةَ مَجالاتٌ لا حَدَّ لَهَا يَستطِيعُ مِن خَلالِهَا تَحقيقَ أَعلَى الإِنجازَاتِ وأَفضلَ الأَعمالِ, والتَّاريخُ حَافِلٌ بالمِئَاتِ مِن العُلماءِ والمفكِّرينَ والمختَرِعينَ, مِمَّن لَم تَمْنَعْهُمْ إِعاقَتُهُمْ عَن الإِنجَازِ والإِبدَاعِ.
وإذَا رُزِقَ الوَالدَانَ: الوَلَدَ، وكَتبَ اللُه تعالى عَليهِم أَنْ يَكونَ مُعَاقًا، فلْيَعْتَبِرَاهُ نعمة مِنَ اللهِ وهذا لعمر الله من النعم الخفية على كثير من الناس، ولكن من تأمل الحكم العظيمة فيها اطمأن قلبُه لاختيار الله له، وأيقن بحكمة الله ورحمته له ولمن ابتُلي في جسده أو عقله من أحبابه، فرضيتْ نفسه وارتاح قلبه، فالله رحيم بعباده وهو أعلم بمصالحهم من أنفسهم، وكم من نعمة في طي محنة ورحمة في بطن بلاء، ومتى ربط المؤمن الدنيا بالآخرة اتضحت رؤيته ونصعت بصيرته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
 أَسألُ اللهَ العظيمَ ربَّ العَرشِ العَظيمِ بأسمائِهِ الحسنَى، وصفاتِه العُلَى أَن يَجعَلَنَا دَائمًا وأَبدًا مِن أَهلِ الصَّبرِ والرِّضَى ومِن أَصحابِ الهِمَمِ العَاليةِ، ومِن أَصحابِ العَزائمِ الصَّادقَةِ، وأنْ يَشفِيَ مَرضَانَا، ومَرضَى المسلمينَ، ويَرحَمَ مَوتَانَا، ومَوتَى المسلمينَ.
ثُمَّ صلَّوا وسلِّموا على نَبِيِّ الرَّحمَةِ، فقد قالَ اللهُ في مُحكَمِ تَنزِيلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}؛ فاللهمَّ صَلِّ وَسَلِّم وَبَارِك على عَبدِكَ وَرَسُولِكَ مُحمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبه أجمعين.
اللهم إنَّا نَسألُكَ العَفوَ والعَافِيَةَ والمعافاةَ الدَّائِمةَ في دِينِنا ودُنيانا وأَهلِينا وأَموالِنا، واحْفَظْنَا مِن بينِ أَيدِينا وَمن خَلفِنَا، وعن أَيمَانِنا وعن شَمَائِلِنا، ومِن فَوقِنَا، ونَعوذُ بِكَ أنْ نُغتَالَ مِن تَحتِنا. اللهمَّ إنَّا نَسأَلُكَ صِحَّةً في إِيمَانٍ، وإيمَانَاً في حُسنٍ خُلُقٍ وعَمَلٍ. اللهمَّ اشْفِ مَرضَانَا ومَرْضَى المُسلِمِينَ وعافِ مُبتَلانَا، واهد ضالنا اللهمَّ أَنزِلْ رَحمَتَكَ وشِفَاءَكَ على المُسلِمينَ.
اللهمَّ آمنِّا في أوطَانِنا وأَصلح أَئِمَّتَنَا، دُلَّهُم على الحقِّ والرَّشَادِ، وبَاعِدْ عنهم أَهلَ الغَيِّ والفَسَادِ وارزقهم البطانة الصالحة الصادقة الناصحة، اللهم احفظ بهم الدين وأقم بهم الشريعة واجعلهم رحمة وخيرًا للمسلمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ،).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق