إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 6 فبراير 2020

تحصين وتعزيز الأمن العقدي والفكري


تحصين وتعزيز الأمن العقدي والفكري
الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، الحمد لله الذي خلق الكون ومن عليه بالحكمة ابتداء وبالقدرة اعتلاء، وبالعمل ابتلاء، وبالعطاء فضلاً ونعمة ومنة. نحمده حمد الشاكرين له، المنقادين لحكمه، المتمثلين لأوامره المنتهين بنواهيه. ونشهد أن لا إله في الأرض ولا في السماء إلا هو. ونصلي ونسلم على من بعثه الله بالحق بشيرًا ونذيرًا، وهاديًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان. أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: راقبوا الله في سركم وجهوكم، واتقوه ما استطعتم، فإن تقواه من أوجب العبادات، وأعظم القربات.
واعلموا أنكم في زمان اختلطت فيه السبل وتشابهت فيه المسالك وكثر فيه أدعياء الصلاح والإصلاح لذلك وجب على كل ناصح لنفسه ولأمته أن يعزز الأمن العقدي والفكري والمنهجي وأن يحذر الزيغ والانحراف عن صراط الله المستقيم إلى سبل وتيارات وبدع وإرهاب غير مشروع وانحراف عن جادة الرسول الهادي صلى الله عليه وسلم.
إذن فإذا أردنا تصحيح المسار فلنبدأ بأنفسنا، ولنقم لله تعالى بتهذيبها مما علق بها من مسائل شبهات استبطنتها شهوات رَغَبٍ ورَهَبٍ، والله مع المتقين.
فواجب الوقت: إحسانُ الظن بالله تعالى، وحراسةُ ثغور الإسلام، والعملُ على إطفاء الحرائق التي علِقَت بأطرافِ دين الناس، وإنقاذُ ما يمكن إنقاذه من بقايا وئامهم وصلاحهم، ودفعُ ورفعُ عادياتِ الشر والفساد عنهم، والاشتغالُ بصيانة المسلّمات الكبرى للشريعة في الأمة، وبناءُ محاضن التربية الجادة والعلم والفكر، والتأكيدُ على امتثال الشريعة معتقدًا وعملًا وسلوكًا وأخلاقًا، (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين . فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم).
والمؤمن يخشى على نفسه مغبة أعمال المنافقين وهو لا يشعر، ولربما أوصلت سيئاتُ أعمالهم لخبيث اعتقادهم، وسمع رجلٌ أبا الدرداء رضي الله عنه يتعوّذ من النفاق في صلاته، فلما سلّم قال له: ما شأنُك وشأن النفاق؟ فقال: اللهم اغفر لي، ثلاثًا، لا تأمن البلاء، والله إنّ الرجلَ ليفتن في ساعة واحدة فينقلب عن دينه. وسئل حذيفة رضي الله عنه عن النفاق فقال: "هو الذي يصف الإيمان ولا يعمل به". فلا بد للمؤمن أن يخاف النفاق، وقال الحسن رحمه الله: "من لم يخف النفاق فهو منافق". فالخوف من النفاق مطلب شرعيّ، لأنه من تربية النفس لتزكيتها، لكن بحدود حتى لا ينقلب الحال لوسواس وسوداوية وقنوط، فالخوف سوطُ القلوب لتستقيمَ على الطريق، فهو مُؤدِّبٌ مُهذِّبٌ لا مُعذِّب مُتلف، وقد سأل رجلٌ حذيفة رضي الله عنه عن النفاق، فقال: أتستغفر إذا أذنبتَ، وتصلي إذا خلوتَ؟ قال: نعم، فقال: اذهب فما جعلك الله منافقًا.
وبين المداراة والمداهنة فرق ظاهر، وتأمل الفرق بين إرخاء أشرعة القارب تلافيًا للريح العاتية مع ثبات وجهته، وبين تغيير مسار القارب عن وجهته الصحيحة الوحيدة، (إنا لا نضيع أجر المصلحين)
  فقُم من عثرتك، وانفض ثيابك، واستقبل باب من لا يخيب من دعاه، ولا يُطرد من لاذ بحماه. وكم من آية غيّرت بالهدى تاليها ومتدبرها، وكم من حديث ألجم ألْسُنًا وكم من حديث أطلقها، قال علقمة: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث، ويعني به روايته رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله عز وجل ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل بها عليه سخطه إلى يوم القيامة". حديث صحيح رواه أحمد وغيره.
عباد الله: لا بد لتعزيز الأمن العقدي والفكري من تأكيد مرجعية الوحي المطلقة، فمن لم يثق في الوحي ثقة مطلقة فلا ترجُه. وهذه مسألة في غاية الخطر، فمصادر التلقّي في زماننا متنوّعة المنابع مختلفة المشارب، وكلها كَدَرٌ ومرض إلا ينبوع الوحي فهو الحياة. فالذي خلقنا هو العالِم بما يصلُح لنا ويُصلحُنا.
ولكل اجتماع نزاع، ولابد لكل نزاع من فصل، ولا يمكن هذا الفصل إلا بمرجعيّة يُسلّمُ بها الطرفين، فأهل العقل المادّي مختلفون، وكذلك أصحاب الحسّ والذوق والرؤى ونحوهم. أما أهل الإسلام فقد جعل الله لهم مرجعيّة جامعة مانعة: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلًا) والرد إلى الله يكون بتحكيم كتابه، والرد إلى الرسول يكون بتحكيم سنّته، والآي والأحاديث في هذا مشهورة معلومة. وفتنُ الابتلاء نارٌ تُنضج عقولَ أقوامٍ وتُحرق آخرين.
وتأمل كلام المؤمن الورع الحكيم المجرب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في الفتنة، فقد دعاه بعض الناس للخروج معهم، فأبى عليهم وقال: "لا، إلا أن تعطوني سيفًا له عينان بصيرتان، ولسان ينطق بالكافر فأقتله، وبالمؤمن فأكفّ عنه.
 وضرب لهم سعد مثلاً فقال: مثلنا ومثلكم؛ كمثل قوم كانوا على محجة، -أي البيضاء الواضحة -فبيناهم كذلك يسيرون هاجت ريح عجاجة، فضلوا الطريق، فقال بعضهم: الطريق ذات اليمين، فأخذوا فيه فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: الطريق ذات الشمال، فأخذوا فيه فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: كنا على الطريق حيث هاجت الريح، فنُنيخ، فأناخوا وأصبحوا، فذهبت الريح وتبيّن الطريق".
وقد ذُكِر عن علي رضي الله عنه أنه قال: "العلم نقطة كثّرها الجاهلون". أي أنّ أصل العلم الذي فقههُ الصحابة رضي الله عنهم كان نزرًا نافعًا، وهو أصول قيّمة ومحكمات جامعة تُرجع إليها المسائل وتُعرض عليها الدلائل، ويفيءُ طالبُ العلم بها لبركة الوحي الصافي، ويَرِدُ بها الحقَّ الوافي، وهو فقه الكتاب وفقه أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم وأعماله، وهو ليس بهذه الكثرة المُشَتِّتة، إنما شقّق الناس بعدها وتشدّقوا وأوغلوا وغالوا. فبركة العلم في صفائه من كدر التكلّف، ونقائه من دَغَلِ المخالفة.
والمؤمن متعلق بالدليل لأنّ الدليل عبارة عن أعلامٍ يهتدي بها في مسيره للآخرة، فإن انحرف عنها؛ انحرف عن الطريق، وإن انحرف عن الطريق لم يصل. والأعلام منها ما هو صحيح وهي نصوص الوحي الصحيحة، ومنها أعلام زائفة وهي ما لم تصحّ، وبهذا تظهر بركة أهل الحديث الذين حفظ الله بهم أعلام الدين، ودلائل الملة، وعلامات الطريق.
دِينُ النَّبِيّ محمَّدٍ أَخبَارُ  ...  نِعْمَ المَطِيَّةُ للفَتَى الآثارُ
لاَ تُخدَعَنَّ عن الحَدِيثِ وأَهلِهِ  ...  فالرَّأيُ ليلٌ والحدِيثُ نَهَارُ
ولَرُبَّما غَلَطَ الفَتى سُبُلَ الهدى  ...   والشَّمسُ طَالِعَةٌ لها أنوارُ
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أسبغ علينا المنن، وأكرمنا بأقوم كتاب وأهدى سَنن، نستغفره سبحانه من الذنوب والخطايا في السر والعلن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله المبعوث بالرحمة وأزكى السُنن، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحابته، شموس الضحى، وبدور الدجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، ولتكن التقوى ديدنكم وسبيلَكم لتفوزوا في الدارين، ولتسعدوا في الحياتين.
عباد الله: أن من ثوابت الأمة التَّوحِيد، وهو أصل الأصول ومحض تحقيق الشهادتين وغاية الخلق الإنساني، وكلُّ المحكمات راجعة لهذا الأصل العظيم. ولا يعني هذا إهدارها، ولكن لكل شيء قدره.
فمَنْ نَقَضَ توحيدَه بشرك وخرج من ربقة المسلمين؛ فليس له من حقوق الأخوّة شيء، بل منه وعليه البراء حتى يُسلم وجهه لله رب العالمين. ولا يعني ذلك الوقوف على ظواهر هذا الأصل لوحدها، أو التمسح بدعاوى أنّنا أهل التوحيد، بل لا بد من تحقيقه بجذوره وأصوله وفروعه وأطرافه، وتكميل حقوقه قدر المستطاع، ومتى حقّقناه جملةً فسنكون قد انتظمنا كلّ المحكمات معه، لأنه مبدؤها وإليه معادُها، فالسلفية مبادئٌ ومسلّمات لا دعاوى وشعارات.
عباد الرحمن: ومن أصول الأمن العقدي والفكري تعظيم وحراسة سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. ويحصلُ ذلك بالاتّباع الصادق لهدي نبينا الخاتم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فتحقيق الشهادة الثانية يكون بصدق اتّباعه ظاهرًا وباطنًا.
ومن المهمات الابتدائية لكل مؤمن وضوحُ الطريق لسالكه، فيرى السائر فيه مَدَّ بصره وضوحًا لا غبش فيه، ويتبيّن حدوده واضحة لا لبس فيها، فيُبصر موضع كلَّ خطوة قبل مدِّ قدمه في المسير. ذلك أن السبيل إن لم يكُ على الجادّة النبوية فكل خطوة فيه للأمام هي في حقيقتها خطوة للخلف، فإن انحراف المنهج يستلزم انحراف المسير، وعلى قدر زاوية الانحراف وسرعة السير يكون معيار البعد زمانًا ومكانًا.
ويا أخي: إن كنت عامّيًّا ففرضُك سؤالُ من وثقت بورعه وعلمه، فإن اتّسع بِطَانُ علمك فقارِن واتبَع أشبه الأقوال بالحق فإن على الحق نورًا، ومتى تبحّرت فاجتهد ولا تقلّد.
ولا ترتبط بشخص تضعَه حجة لك على الدوام سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه فلا تربط الناس بشيخٍ رباطًا لا ينفك، بل اربطهم بالوحي، ثم أرشدهم للاستنارة بعلم ذلك الشيخ، ومَنْ قصد البحر استقل السواقيا. قال شيخ الإسلام: "وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرّقون به بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون".
واعلم يا عبد الله أن من تعظيمِ السنة حفظُ حقوقِ أهلِها، وكلّ مؤمن له حظ من ذلك مهما جافاها بقول أو فعل أو مسلك أخطأ فيه. ويتضح ذلك بأن تتذكر الشهادة الأولى بالتوحيد وعظيم حق أهلها مهما صدر منهم مالم ينقضوها، إذ لهم عليك حق الولاء بحسب قربهم منها، فيجتمع لهم الحب بقدر تحقيقهم لها والبغض بقدر بُعدهم عنها، وهذا مسلك دقيق جدًّا قلَّ من يُراعيه في زمن البغي العلمي والعملي، والله المستعان.
 وبالجملة فكل من كان من أهل التوحيد ففيه جزء من تعظيم السنّة، وله حظٌّ من حقّهما، فلا يجوز بحال معاملته كالكافر الفاجر، وكذلك لا يجوز تقريبه وتولّيه كالمؤمن الطاهر، بل لكل مقام قدرُه وحدّه، والعبرة بما ظهر من حسنه أو سوئه.
وقال جل شأنه: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) فخذ الدين كلَّه لا بعضه، واستقم كما أمرت لا كما اشتهيت، وانتهر صولة نفسك الأمارة برهبة الموقف غدًا بين يدي الجبار جل جلاله، وتذكّر ساعة: "إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضبْ قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي. ".. رواه البخاري.
واعلم – رحمك الله تعالى -أنه قد كثر في زماننا التنابزُ بالألقاب حتى صارت قوالبَ يلقيها من شاء على من شاء، مع أن كثيرًا ممن أُطلقت عليهم تلك المسمّياتُ والألقاب، حتى استقرّت في صدور الرعاع أو أشباه الرعاع؛ هم في الحقيقة بريئون من تلك الوصمات وما أُلصقت بهم من تلفيقات، فأكثرها تُهَمٌ تنفيريّة تُلقى على كواهل من لم يتبنّوا تلك الأخطاء أو الضلالات، ولم يجدوا في غَيْبتهم من يَتثبت ويتبيّن ويدفع عن أعراضهم القالات، وموعد الجميع غدًا بين يدي رب البريات.
إذن فلا تكن ممن يَصِم أو يرضيه أن يوصَم، ولتهنِك تسمية الله لك (هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا) وجواب الأُمَّةِ ربَّها يوم القيامة حين يسألهم: "من أنتم؟ فنقول: نحن المسلمون". رواه البخاري.
اللهم صل على محمد..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق