إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

لا تنسوا العظيمتين

 

لا تنسوا العظيمتين

الحمدُ لله برحمته اهتدى المُهتدونَ، وبعدلِهِ وحكمَتِهِ ضلَّ الضَالونَ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يُسألُ عمَّا يفعلُ وهم يُسألونَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسولُه، ترَكنا على مَحجَّةٍ بَيضَاءَ لا يزيغُ عنها إلاَّ أهُلُ الأهواء ِوالظُّنونِ، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آله وأصحابِه وأتباعِه بإحسانٍ إلى يومٍ لا ينفعُ فيه مالٌ ولا بنونَ إلاَّ مَنْ أتى اللهَ بِقلبٍ سَلِيمٍ. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الفائزين بالغنى عند الله هم أفقر الناس إليه. ومن أعظم وسائل تحصيل الافتقار إلى الله تعالى، العلم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى سبحانه وبحمده.

ومن استقرأ الأسماء الحسنى وجدها مدائحَ وثناءً تقصُرُ بلاغاتُ الواصفين عن بلوغ كنهها، وتعجز الأوهام عن الإحاطة بالواحد منها. ومع ذلك فلله سبحانه محامد ومدائح وأنواع من الثناء لم تتحرك بها الخواطر، ولا هجست في الضمائر، ولا لاحتْ لمتوسمٍ، ولا سنحت في فكر. ففي دعاءِ أعرَفِ الخلق بربه، وأعلمهم بأسمائه وصفاته ومحامده: «أسألك بكل اسم هو لك، سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي»([1]).

وفي الصحيح عنه في حديث الشفاعة لمّا يسجدُ بين يدي ربه، قال: «فيفتحُ عليّ من محامده بشيء لا أحسنه الآن»([2]) وكان يقول في سجوده: «أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك»([3]).

فلا يُحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه البتة. وله أسماءٌ وأوصافٌ وحمدٌ وثناءٌ لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل. ونسبةُ ما يعلم العباد من ذلك إلى ما لا يعلمونه كنقرة عصفور في بحر([4]).

والله سبحانه مع كونه خالقَ كلِّ شيء، فهو موصوف بالرضا والغضب، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، والرحمة والانتقام. فاقتضت حكمته سبحانه أن خلق دارًا لطالبي رضاه، العاملين بطاعته، المؤثرين لأمره، القائمين بمحابّه، وهي الجنة. وجعل فيها كل شيء مرضي، وملأها من كل محبوب ومرغوب ومشتهى ولذيذ، وجعل الخير بحذافيره فيها، وجعلها محلّ كل طيّب من الذوات والصفات والأقوال.

وخلق دارًا أخرى لطالبي أسباب غضبه وسخطه، المؤثرين لأغراضهم وحظوظهم على مرضاته، العاملين بأنواع مخالفته، القائمين بما يكره من الأعمال والأقوال، الواصفين له بما لا يليق به، الجاحدين لما أخبرت به رسله من صفات كماله ونعوت جلاله، وهي جهنم. وأودعها كل شيء مكروه، وشحَنها من كل مؤذٍ ومؤلم، وجعل الشرَّ بحذافيره فيها، وجعلها محل كل خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال.

فهاتان الداران هما دارا القرار.

وخلق دارًا ثالثة هي كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزود المسافرون إليهما، وهي دار الدنيا. ثم أخرج إليها من آثار الدارين بعض ما اقتضته أعمالُ أربابهما، وما يُستدل به عليهما، حتى كأنهما رأي عين، ليصير للإيمان بالدارين ــ وإن كان غيبًا ــ وجهُ شهادة، تستأنسُ به النفوس، وتستدل به. فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات والملابس الفاخرة والصور الجميلة، وسائر ملاذ النفوس ومشتهياتها، ما هو نفحةٌ من نفحات الدار التي جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال([5]). فإذا رآه المؤمنون ذكّرهم بما هناك من الحَبْرة والسرور والعيش الرخي، كما قيل:

فإذا رآك المسلمون تيقّنوا

 

حورَ الجنان لدى النعيم الخالدِ

فشمّروا إليه، وقالوا: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة»([6]) وأحدثتْ لهم رؤيتُه عزمات وهممًا وجدًّا وتشميرًا، لأن النعيم يذكّر بالنعيم، والشيءُ يذكِّر بجنسه، فإذا رأى أحدهم ما يعجبه ويروقه ولا سبيل له إليه قال: «موعدك الجنة وإنما هي عشية أو ضحاها».

فوجودُ تلك المشتهيات والملذوذات في هذه الدار رحمة من الله، يسوقُ بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التي هي أكمل منها، وزادٌ لهم من هذه الدار إليها، فهي زادٌ وعبرة ودليل وأثر من آثار رحمته التي أودعها تلك الدار. فالمؤمن يهتزُّ برؤيتها إلى ما أمامه، ويُثير ساكن عزماته إلى تلك، فنفسُه ذوَّاقة توَّاقة، إذا ذاقت شيئًا منها تاقت إلى ما هو أكمل منه حتى تتوق إلى النعيم المقيم في جوار الرب الكريم([7]).

وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضًا من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات، ما يُستدَلُّ بجنسه على ما في دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النَّفَسَينِ الشتاء والصيف([8])، الذين أَذِنَ الله سبحانه بحكمته لجهنم أن تتنفس بهما، فاقتضى ذانِك النَّفَسَان آثارًا ظهرت في هذه الدار، كانت دليلًا عليها وعبرة. وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى ونبّه عليه بقوله في نار الدنيا: (نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين) [الواقعة: ٧٣] تذكرة تذكّر بنار الآخرة، ومنفعة للنازلين بالقَوَاء، وهم المسافرون. يقال: أقوى الرجل، إذا نزل بالقِيِّ، والقَوَاء هي الأرض الخالية. وخصّ المقوين بالذكر وإن كانت منفعتها عامة للمسافرين والمقيمين تنبيهًا لعباده ــ والله أعلم بمراده من كلامه ــ على أنهم كلهم مسافرون، وأنهم في هذه الدار على جناح سفر، ليسوا هم مقيمين ولا مستوطنين، وأنهم عابرو سبيل وأبناء سفر.

والمقصود: أنه سبحانه أشهدَهم في هذه ما أعد لأوليائه وأعدائه في دار القرار، وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما هناك من خير وشر. وجعل هذه العقوبات والآلام والمحن والبلايا سياطًا يسوق بها عباده المؤمنين، فإذا رأوها حذِروا كل الحذر، واستدلوا بما رأوه منها وشاهدوه على ما في تلك الدار من المكروهات والعقوبات. وكان وجودُها في هذه الدار وإشهادهم إياها وامتحانهم باليسير منها رحمةً منه بهم، وإحسانًا إليهم، وتذكرة وتنبيهًا.

ولما كانت هذه الدار ممزوجًا خيرُها بشرِّها، وأذاها براحتها، ونعيمها بعذابها؛ اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن خلَّص خيرَها من شرِّها، وخصّه بدار أخرى هي دار الخيرات المحضة ودار الشرور المحضة. فكتب على هذه الدار حكم الامتزاج والاختلاط، وخلط فيها بين الفريقين، وابتلى بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض فتنة. حكمةٌ بالغةٌ بهرتِ العقول، وعزةٌ قاهرة. فقام بهذا الاختلاط سوقُ العبودية كما يحبه ويرضاه، ولم تكن تقوم عبوديته التي يحبها ويرضاها إلا على هذا الوجه. بل العبد الواحد جمع فيه بين أسباب الخير والشر، وسلّط بعضه على بعض، ليستخرج منه ما يحبه من العبودية التي لا تحصل إلا بذلك([9]).

فلما حصلت الحكمة المطلوبة من هذا الامتزاج والاختلاط؛ أعقبه بالتمييز والتخليص، فميّز بينهما بدارين ومحلّين، وجعل لكل دار ما يناسبها، وأسكن فيها من يناسبها. وخلق المؤمنين المتقين المخلصين لرحمته، وأعداءَه الكافرين لنقمته، والمخلّطين للأمرين معًا. فهؤلاء أهل الرحمة، وهؤلاء أهل النقمة، وهؤلاء أهل النقمة والرحمة. وقسمٌ آخر لا يستحقون ثوابًا ولا عقابًا. ورتّب على كل قسم من هذه الأقسام الخمسة حُكمَه اللائق به، وأظهر فيه حكمته الباهرة، ليعلم العبادُ كمالَ قدرته وحكمته، وأنه يخلق ما يشاء، ويختار من خلقه من يصلح للاختيار، وأنه يضع ثوابه موضعه، وعقابه موضعه، ويجمع بينهما في المحل المقتضي لذلك، ولا يظلم أحدًا، ولا يبخسه شيئًا من حقه، ولا يعاقبه بغير جنايته.

هذا مع ما في ضمن هذا الابتلاء والامتحان من الحكم الراجعة إلى العبيد أنفسهم، من استخراج صبرهم وشكرهم وتوكلهم وجهادهم، واستخراج كمالاتهم الكامنة في نفوسهم من القوة إلى الفعل([10])، ودفْعِ الأسباب بعضها ببعض، وكسرِ كلِّ شيء بمقابله، ومصادمته بضده؛ لتظهر عليه آثارُ القهر، وسمات الضعف والعجز، ويتيقن العبدُ أن القهَّارَ لا يكون إلا واحدًا، وأنه يستحيل أن يكون له شريك، بل القهر والوحدة متلازمان.

بارك الله لي ولكم...

.........

الخطبة الثانية

الحمد لله..

عباد الرحمن: القرآن المجيد عمدتُه ومقصودُه الإخبارُ عن صفات الرب سبحانه وأسمائه وأفعاله وأنواع حمده والثناءِ عليه، والإنباءُ عن عظمته وعزّته وحكمته وأنواع صنعه، والتقدمُ إلى عباده بأمره ونهيه على ألسنة رسله، وتصديقُهم بما أقامه من الشواهد والدلالات على صدقهم وبراهين ذلك ودلائله، وتبيينُ مراده من ذلك كله. وكان من تمام ذلك الإخبار عن الكافرين والمكذبين، وذكر ما أجابوا به رسلهم وقابلوا به رسالات ربهم، ووصف كفرهم وعنادهم، وكيف كذبوا على الله، وكذّبوا رسله، وردّوا أمره ومصالحه. فكان في اجتلاب ذلك من العلوم والمعارف والبيان وضوحُ شواهدِ الحق، وقيامُ أدلته وتنوعها.

وكان موقع هذا من خلقه موقع تسبيحه تعالى وتنزيهه من الثناء عليه، وأن أسماءه الحسنى وصفاته العليا هي موضع الحمد، ومن تمام حمده تسبيحُه وتنزيهُه عما وصفه به أعداؤه والجاهلون به مما لا يليق به.

والمقصود: أن خلق الأسباب المضادة للحق، وإظهارها في مقابلة الحق؛ من أبين دلالاته وشواهده، فكان في خلقها من الحكمة ما لو فاتت لفاتت تلك الحكمة، وهي أحب إلى الله من تفويتها بتقدير تفويت هذه الأسباب، والله أعلم»([11]).

اللهم صل على محمد...

 

 



([1])  أحمد (3712) وابن حبان (972). وصححه ابن القيم في شفاء العليل (2/749) والصنعاني في الإنصاف (102).

([2])  البخاري (4712) ومسلم (194).

([3])  مسلم (486).

([4])  أخرج البخاري في صحيحه (122) ومسلم (2380) عن ابن عباس ¶ في معرض ذكره لقصة موسى عليه السلام والخضر قال: «..فجاء عصفور، فوقع على حرفها – أي السفينة - فنقر، أو فنقر في الماء، فقال الخضر لموسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مقدار ما نقر أو نقص هذا العصفور من البحر».

([5])  ثَمَّ مطلبان:

      الأول: أن حقائق الآخرة ليست كحقائق الدنيا وإن اتّحدت مسمياتها، قال ابن عباس : «ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء» أخرجه الطبراني في التفسير (534) وصححه ابن تيمية في فتاواه (5/115) والسيوطي في الجامع الصغير (7614) والألباني في الصحيحة (2188).

      الثاني: أن في الجنة نعيمًا ليس له جنسٌ في الدنيا ولا شبهٌ ولا مثلٌ ولا اسمٌ، قال تعالى: ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾ وقال في الحديث الإلهي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» رواه البخاري (4779) ومسلم (2824).

([6])  من قول النبي ﷺ في غزوة الخندق، البخاري (2961).

([7])  قال عمر بن عبد العزيز ♫: «إن لي نفسًا توّاقة، ما نالت شيئًا إلا تاقت لما هو أعلى منه، تاقت نفسي للزواج بابنة عمي فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، ثم تاقت للإمارة فوليتها، ثم تاقت للخلافة فنلتها، والآن تاقت للجنة فأرجو أن أكون من أهلها».

([8])  أخرج البخاري في الصحيح (3260) ومسلم (617) عن أبي هريرة ؓ قال: قال رسول الله ﷺ: «اشتكت النار إلى ربها، فقالت: ربِّ أكل بعضي بعضًا. فأَذِنَ لها بنَفَسَين، نَفَسٌ في الشتاء، ونفَسٌ في الصيف. فأشدّ ما تجدون من الحر، وأشدّ ما تجدون من الزمهرير».

([9])  وهي عبودية المجاهدة.

([10]) أي من القوة الكامنة فيهم للفعل المترتب عليه الثواب.

([11]) طريق الهجرتين للإمام ابن القيم (1/ 229- 237) باختصار واقتصار.

السبت، 14 أكتوبر 2023

الله وحده هو الغنيُّ، وجميعُ الخلائقِ مفتقرةٌ إليه

 

الله وحده هو الغنيُّ، وجميعُ الخلائقِ مفتقرةٌ إليه

 

الحمد لله، الحمد لله الذي جعلَ حبَّه أشرفَ المكاسِب، وأعظمَ المواهِب، أحمده - سبحانه - وأشكرُه على نعمة المطاعِم والمشارِب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المُنزَّه عن النقائِص والمعايِب، خلقَ الإنسانَ من ماءٍ دافِقٍ يخرجُ من بين الصُّلب والترائِب، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى الهُدى والنور وطهارة النفسِ من المثالِب، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي سبيلُ النجاة والفلاح، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

 عباد الرحمن؛ إنّ من أسماء الله تعالى الغني، وهو دال على غناه المطلق بكل صنوف الغنى، كما أنه دال على فقر الخلائق كلها فقرًا مطلقًا إليه تبارك وتعالى. «وهذا من معاني (الصمد) وهو الذي يفتقر إليه كل شيء، ويستغني عن كل شيء. بل الأشياء مفتقرة إليه من جهة ربوبيته ومن جهة إلهيته؛ فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا يصلح ولا ينفع ولا يدوم. وهذا تحقيق قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) [الفاتحة: ٥]

ودخل عثمان أو غيره على ابن مسعود ــ وهو مريض ــ فقال: كيف تجدك؟ قال أجدني مردودًا إلى الله مولاي الحق»([1]). وقال سهل بن عبد الله: «ليس بين العبد وبين الله حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق أقرب إليه من الافتقار»([2]).

وتأمل حال هذا الإنسان العجيب ومزاجه الغريب في جهله مع عجزه، واستغنائه مع فقره، ورجوعه بعد فراره وكفره، قال سبحانه وبحمده: (لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت: ٤٩ - ٥١].

قال الحافظ ابن كثير: «يقول تعالى: لا يَمَلّ الإنسان من دعائه ربّه بالخير ــ وهو: المال، وصحة الجسم، وغير ذلك ــ وإن مسه الشر ــ وهو البلاء أو الفقر ــ (فيئوس قنوط) أي: يقع في ذهنه أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير. (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي) أي: إذا أصابه خير ورزق بعد ما كان في شدة ليقولن: هذا لي، إني كنت أستحقه عند ربي، (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) أي: يكفر بقيام الساعة، أي: لأجل أنه خُوِّل نعمة يفخر، ويبطر، ويكفر، كما قال تعالى: (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: ٦، ٧].

ثم قال: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ) [فصلت: ٥١] أي: أعرض عن الطاعة، واستكبر عن الانقياد لأوامر الله، عز وجل، كقوله تعالى: (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) [الذاريات: ٣٩]. (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ) [فصلت: ٥١] أي: الشدة، (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت: ٥١] أي: يطيل المسألة في الشيء الواحد" ([3]).

وتدبر قول الله تعالى مبيّنا ضعف البشر وأنهم ليسوا في حقيقتهم بشيء إن خذلهم ربهم ووكلهم إلى ضعفهم وفقرهم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: ١٥] «فيخبر تعالى بغنائه عما سواه، وبافتقار المخلوقات كلها إليه، وتذللها بين يديه، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ) أي: هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات، وهو الغني عنهم بالذات؛ ولهذا قال: (وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي: هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له، وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله، ويقدره ويشرعه»([4]).

معاشر الحنفاء: "ليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به ويتنعم بالتوجه إليه إلا اللهُ سبحانه. ومن عَبَدَ غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل طعام المسموم (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون) [الأنبياء: ٢٢] فإن قوامهما بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلها حقًّا، إذ الله لا سميّ له ولا مثل له، فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها، هذا من جهة الإلهية، وأما من جهة الربوبية فشيء آخر.

ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي تنعم به والتذ غير مُنْعِمٍ له ولا مُلْتَذٍّ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك. وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه؛ ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل ﷺ: (لا أحب الآفلين) [الأنعام: ٧٦] وكانت أعظم آية في القرآن الكريم: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) [البقرة: ٢٥٥] وهذا أمر عظيم جدًا حري بكل مؤمن عابد ملاحظته وتذكره على الدوام، فبعبادة ربه تكون حياته فلا قوام له إلا بها.

وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن النبي ﷺ قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة؛ نادى مناد يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزْكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إليه سبحانه. فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، وهو الزيادة»([5]) فبيَّن النبي ﷺ أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه؛ وإنما يكون أحب إليهم لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره، فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب، فكلما كان الشيء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم.

عباد الله: إن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل. بل ربه هو الذي خلقه ورزقه وبصَّره وهداه وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسّه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله.

 وإذا تعلّقَ العبد بما سوى الله ضره ذلك، ومن أحب شيئًا لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه ويكون ذلك سببا لعذابه، وفي الأثر المأثور: «أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان»([6]).

فمن أحب شيئًا لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد أو فقد، فإن فقد عذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة([7]).

ومن توكل على غير الله خاب، فما علّق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل. وقد قال الله تعالى: { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا .  كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا } [مريم: ٨١، ٨٢].

إنّ الله سبحانه غني حميد كريم رحيم، فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحسانًا. والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم، والرب سبحانه يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك([8])، وذلك منفعة عليك بلا مضرة.

ولا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم([9])، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تخفهم فلا ترجهم، وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله، وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله، وكن ممن قال الله فيه: { وسيجنبها الأتقى  الذي يؤتي ماله يتزكى  وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } [الليل: ١٧ - ٢٠]. وقال فيه: { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } [الإنسان: ٩].

بارك اللي لي ولكم..

...............

الخطبة الثانية:

الحمد لله...

أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلم يا عبد الله أن الله سبحانه يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله لا لمعاوضة ولا لمنفعة يرجوها منك، ولا لتكثر بك، ولا لتعزز بك، ولا يخاف الفقر، ولا تنقص خزائنه على سعة الإنفاق، ولا يحبس فضله عنك لحاجة منه إليك واستغنائه بحيث إذا أخرجه أثّر ذلك في غناه، وهو يحب الجود والبذل والعطاء والإحسان أعظم مما تحب أنت الأخذ والانتفاع بما سألته([10])، فإذا حبسه عنك فاعلم أن هناك أمرين لا ثالث لهما:

أحدهما: أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك، وأنت المعوق لوصول فضله إليك، وأنت حجر في طريق نفسك. وهذا هو الأغلب على الخليقة، فإن الله سبحانه قضى فيما قضى به أن ما عنده لا ينال إلا بطاعته، وأنه ما استجلبت نعم الله بغير طاعته، ولا استديمت بغير شكره، ولا عوقت وامتنعت بغير معصيته. وكذلك إذا أنعم عليك ثم سلبك النعمة، فإنه لم يسلبها لبخل منه، ولا استئثار بها عليك، وإنما أنت السبب في سلبها عنك، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) [الأنفال: ٥٣] فما أزيلت نعم الله بغير معصيته.

إذا كنت في نعمة فارعها

 

فإن المعاصي تزيل النعمْ

فآفتُك من نفسك، وبلاؤك من نفسك، وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك، وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك.

ومن العجب أن هذا شأنك مع نفسك وأنت تشكو المحسن البريء عن الشكاية، وتتهم أقداره وتعاتبها وتلومها، فقد ضيعت فرصتك، وفرطت في حظك، وعجز رأيك عن معرفة أسباب سعادتك وإرادتها، ثم قعدتَ تعاتب القدر بلسان الحال والمقال! فأنت المعني بقول القائل:

وعاجز الرأي مضياعٌ لفرصته

 

حتى إذا فات أمرٌ عاتب القدرَا

ولو شعرت بدائك، وعلمت من أين دُهيت، ومن أين أصبت؛ لأمكنك تدارك ذلك، ولكن قد فسدت الفطرة، وانتكس القلب، فأعرضتَ عمَّن أصلُ بلائك ومصيبتك منه، وأقبلت تشكو مَنْ كل إحسان دقيق أو جليل وصل إليك فمنه، فإذا شكوته إلى خلقه كنت كما قال بعضهم وقد رأى رجلًا يشكو إلى آخر ما أصابه ونزل به، فقال: يا هذا، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك!

وإذا أتتك مصيبة فاصبرْ لها
وإذا شكوتَ إلى ابن آدم إنّما

 

صبرَ الكريم فإنه بك أرحمُ
تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يَرحمُ

وإذا علم العبدُ حقيقة الأمر، وعرف من أين أُتي، ومن أي الطرق أغير على سرْحه، ومن أي ثغرة سرق متاعه وسلب؛ استحيا من نفسه ــ إن لم يستح من الله ــ أن يشكوا أحدًا من خلقه، أو يتظلَّمهم، أو يرى مصيبته وآفته من غيره، قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) [الشورى: ٣٠] وقال: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) [آل عمران: ١٦٥] وقال: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) [النساء: ٧٩]»([11]).

       اللهم أعز الإسلام والمسلمين...

 وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

إبراهيم الدميجي

28/ 3/ 1445

aldumaiji@gmail.com

 

 



([1])  مجموع الفتاوى: (5/ 515-517) وانظر كذلك: الرد على المنطقيين: (1/ 345) والعقل والنقل (1/429).

([2])  صفة الصفوة (4/ 65).

([3])  تفسير ابن كثير (7/ 186).

([4])  تفسير ابن كثير (6/ 541).

([5])  مسلم (181).

([6])  البيهقي في الشعب (10541) الحاكم (4/ 324) أبو نعيم في الحلية (3/ 202) وانظر السلسلة الصحيحة (831).

([7])  لخوفه من فواته، وهلعه عليه، وحرقته به، وغيرته عليه، وذلته له، وانشغاله به عما سواه.. في عذابات أُخر يُصلى بها المحبون غير ربهم.

([8])  وهذا كلام شريف جدًّا جدًّا. وقد بسطه ابن القيم في طريق الهجرتين (1/107).

([9])  وهذا تنبيه نفيس، فبعض الخلق يجفو بني جنسه ويشمئز منهم بل قد يقع في نوع بغي أو تقصير من جهة قصده الاستغناء عنهم بالله، ونسي أن الله قد سخر الناس لبعضهم وأقام سنن خلقه على تعاونهم وتنافعهم واتصالهم بل وإحسانهم، فالموفق من نظر للأمر نظرة كلية شاملة، فأعطى الناس حقوقها المرعية من قبل الشريعة بلا تعلق البتة بغير رب العالمين.

([10])   وتدبر هذا المعنى الشريف مما يحفز الداعي على المسألة والطلب والإلحاح في الدعاء وحسن الظن بالكريم الوهاب سبحانه وبحمده.

([11])   طريق الهجرتين (1/ 130 – 136).