مظاهر الاعتصام بغير الله
تعالى (1)
الحمد لله، لا مانعَ لِما أعطاهُ، ولا رادَّ لِما قَضَاهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ
إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ولا مَعبودَ بِحقٍّ سِواهُ، وأشهدُ أنَّ محمَّدَاً
عبدُ اللهِ ورسولُهُ ومُصطَفَاهُ، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آلِه
وأصحابِه وَمَنْ والاهُ. أمَّا بعدُ: فأوصِيكُمْ ونَفْسي بِتَقْوى اللهِ:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:
100].
عباد الرحمن: إنّ الاعتصام بغير
الله داء قاتل، وسمٌّ ناقع، يثلم الدين، ويهدم الإيمان، ويقطع الطريق بين العبد
ورحمة ربه تعالى.
وقد يبتدئ الأمر بضعف يسير، ثم يزداد مع المدى حتى
ينتهي إلى الخروج من ربقة الدين، فأصل الشرك التفاتُ القلب واعتصامه بغير الله
تعالى، والتوحيد يعصف بالشرك ويقطع جذوره من القلب والجوارح، وعليه فتعزيز توحيد
المعرفة والإثبات والقصد والطلب في القلب في الغاية من الأهمية، فهي المطلب الأسمى،
والهدف الأشرف، والغاية الخالدة.
ولكل داء أعراض تشير إليه، وأسباب تدعو إليه، ولكل
باطن مظاهر دالّة عليه، ومن مظاهر الاعتصام بغير الله تعالى:
1 ــ الجهل بالله تعالى:
فالجهل أبو الخيبات، وسرداب الضيعات، ودهليز
الهلكات، لذلك كانت أول آية في القرآن هي: (اقرأ) فالقرآن منبع
العلم النافع الدافع للجهل، والرافع لآفاته.
وكثير من الخلائق قد أُتوا من ركن جهلهم، فالعلم
سلاح المؤمن، وأشرف العلوم بإطلاق هو العلم بالله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله
وآلائه وبما يستحق من الحمد والتقديس والتسبيح والذكر، ثم العلم بدينه وشرعه الذي
ارتضاه صراطًا مستقيمًا وطريقًا قويمًا للوصول إلى حبه ومرضاته وجنته.
2 ــ التعلق بالمخلوق:
لا بأس من معاملة الناس والإفادة منهم والانتفاع
منهم شريطة أن يكون تعلق المضغة فقط بمن فطرها وسوّاها وقدّر لها سيرها ومرساها،
فكل شيء هالك إلا وجهه، وكل حبل منقطع إلا من جهته، وكل شأن مضمحل إلا من قِبَلِه،
فبه ومنه وإليه تُرجع الأمور وتُتَصرّفُ الأشياء سبحانه وبحمده.
ومتى تعلق المرء بمخلوق ناقص ضعيف فقير فانٍ فلا
تسلْ عن خيبته وخسارِهِ من جهة مأموله ومطلوبه، أَبَت سُنّةُ الخلاق القدير الحكيم
تعالى إلا أن يكون النقص بقدر خطأ وجهة التعلق.
فكلما تعلق القلب بربه تنزّلت عليه المنح والألطاف،
وانهمرت على دربه أسباب التوفيق والسعادة، وكلما ضعف تعلّقه انقطعت عنه الأسباب
بحسَبه، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلًا. (نسوا الله فنسيهم) [التوبة: 67] أي: تركهم ووكلهم لأنفسهم.
عن عطاء الخراساني قال: لقيت وهب بن منبه وهو
يطوف بالبيت فقلت له: حدثني حديثًا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز، قال: نعم، أوحى
الله تبارك وتعالى إلى داود: «يا داود؛ أما وعزّتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من
عبيدي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته فتكيده السموات السبع ومن فيهن والأرضون السبع
ومن فيهن؛ إلا جعلت له من بينهن مخرجًا، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبيدي
بمخلوق دوني، أعرف ذلك من نيته؛ إلا قطعت أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت
قدميه، ثم لا أبالي بأي وادٍ هلك»([1]).
وتعلق القلب بالله مستلزم لإخلاص الدين له، ولا
يكفي العلم بقدرته تعالى، بل لا بد من العمل بمقتضاها من تجريد الاعتصام والعبادة.
قال الدهلوي ؒ: «إن الكفار في عهد الرسول ﷺ لم يكونوا يرون لله عديلًا يساويه في
الألوهية والقدرة وفي الخلق، ولكنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم والأصنام التي كانوا
يعبدونها هم وكلاؤهم عند اللَّه، وبذلك كفروا.
فمن أثبت في عصرنا هذا لمخلوقٍ التصرف في العالم،
واعتقد أنه وكيله عند اللَّه؛ ثبت عليه الشرك ولو لم يعدله بالله، ولم يثبت له
قدرة تساوي قدرة اللَّه»([2]).
ومن رام الوصول لمنح الكريم العلام فليزم عتبة
الاعتصام.
وإذا تولّاه امرؤٌ دونَ الوَرَى |
|
طُرًّا تولّاهُ العظيمُ الشأنِ |
وبالاعتصام بالله والاعتماد عليه، وإنزال الحوائج
به دون غيره، يبطل كيد الكائدين، ويندفع عدوان المعتدين، وشر الحاسدين، من الإنس
والجن والشياطين. وإذا ابتلي الإنسان بتعلق بغير الله فالواجب عليه الفزع إلى الله
تعالى، والاعتصام والاستعاذة به، والتوبة والالتجاء إليه، ورجاؤه وحسن الظن به،
والتوكل عليه، والتوجه إليه بقلبه وقالبه، وتفويض الأمور بحذافيرها للطفه ورحمته
وحكمته، فإن هذا هو السبب المنجي من الشرور، قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ
وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ
فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي: كافيه.
3 ــ التهالك على الدنيا، وإيثارها على الآخرة:
حب الدنيا مغروز في نفوس البشر، لأجل سيرورة
استخلافهم ليقوموا بمصالحهم، ويتابعوا معيشتهم وتناسلهم، لإقامة امتحان صلاحيتهم
لقرب الله تعالى في جنته. ولا يلامون على حب الدنيا ابتداءً، فليس حبها بعيب ولا
ذنب، ولكن يكون كذلك إذا طغى على حب الآخرة، أو زاحمها، أو ألهى عنها، أو قسّى
القلب لأجلها، فحينها يكون حبًّا مذمومًا.
وقد نبّهنا الله تعالى لذلك في سورة الزهد فقال: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا
سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ
تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ
لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ
النَّعِيمِ (8) أي: "شغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة
وابتغائها، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر، وصرتم من أهلها؟!
قال الحسن البصري: { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } في الأموال والأولاد، وعن
أبي بن كعب قال: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت: { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } يعني: «لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب».
وعن مُطْرِّف بن عبد الله بن
الشخير عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله ﷺ وهو يقول: «﴿ﮋ ﮌ﴾ يقول ابن آدم: مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما
أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟»([3]).
وعن أنس ؓ قال: قال رسول الله ﷺ: «يتبع الميتَ
ثلاثةٌ، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله،
ويبقى عمله»([4]).
وعن أنس أيضًا أن النبي ﷺ قال: «يهرم ابن آدم
وتبقى منه اثنتان: الحرص والأمل»([5]).
ورأى الأحنف بن قيس في يد رجل درهمًا فقال:
لمن هذا الدرهم؟ فقال الرجل: لي. فقال: إنما هو لك إذا أنفقته في أجر، أو ابتغاء
شكر. ثم أنشد الأحنف متمثلا قول الشاعر:
أنتَ للمال إذا أمسكتَه |
|
فإذا أنفقتَه فالمالُ لَكْ |
وقال قتادة: { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ
الْمَقَابِرَ } كانوا يقولون نحن أكثر من بني فلان ونحن أعَدُّ من بني فلان، وهم
كل يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم.
والمراد بقوله: { زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } أي: صرتم إليها ودفنتم فيها، كما جاء في الصحيح:
أن رسول الله ﷺ دخل على رجل من الأعراب يعوده، فقال: «لا بأس، طهور إن شاء
الله». فقال: قلت: طَهُور؟! بل هي حمى تفور، على شيخ كبير، تُزيره القبور!
قال: «فَنَعَم إذًا»([6]).
وعن ميمون بن مهران قال: كنت جالسًا عند عمر بن
عبد العزيز، فقرأ: { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } فلبث هنيهة فقال: يا ميمون، ما أرى المقابر إلا
زيارة، وما للزائر بد من أن يرجع إلى منزله.
وقوله: { كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } قال الحسن
البصري: هذا وعيد بعد وعيد. وقوله: { كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ }
أي: لو علمتم حق العلم، لما ألهاكم التكاثر عن طلب الدار الآخرة، حتى صرتم إلى
المقابر.
ثم قال: { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ . ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ
} هذا تفسير الوعيد المتقدم، وهو قوله: { كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلا
سَوْفَ تَعْلَمُونَ } تَوعَّدَهم بهذا الحال، وهي رؤية النار التي إذا زفرت زفرة
خَرَّ كل ملك مقرب ونبي مرسل على ركبتيه من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال، على
ما جاء به الأثر المروي في ذلك.
وقوله: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } أي: ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به
عليكم، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك. ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته.
وعن أبي هريرة قال: بينما أبو بكر وعمر جالسان، إذ
جاءهما النبي ﷺ فقال: «ما أجلسكما هاهنا؟» قالا: والذي بعثك بالحق ما
أخرجنا من بيوتنا إلا الجوع. قال: «والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره»
فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار، فاستقبلتهم المرأة، فقال لها النبي ﷺ: «أين
فلان؟» فقالت: ذهب يستعذب لنا ماء، فجاء صاحبهم يحمل قربته فقال: مرحبًا، ما
زار العباد شيء أفضل من شيء زارني اليوم.
فعلّق قربته بكرب نخلة، وانطلق فجاءهم بعذق، فقال
النبي ﷺ: «ألا كنت اجتنيت؟» فقال: أحببت أن تكونوا الذين تختارون على
أعينكم.
ثم أخذ الشفرة، فقال النبي ﷺ: «إياك والحلوب؟»
فذبح لهم يومئذ، فأكلوا، فقال النبي ﷺ: «لتسألنّ عن هذا يوم القيامة، أخرجكم من
بيوتكم الجوع، فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا، فهذا من النعيم»([7]).
وعن محمود بن الربيع قال: لما نزلت: { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } فقرأ حتى بلغ: { لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ
النَّعِيمِ } قالوا: يا رسول
الله، عن أي نعيم نُسأل؟ وإنما هما الأسودان الماء والتمر، وسيوفنا على رقابنا،
والعدو حاضر، فعن أي نعيم نسأل؟ قال: «أما إن ذلك سيكون»([8]).
وعن معاذ بن عبد الله بن حُبَيب،
عن أبيه، عن عمه قال: كنا في مجلس فطلع علينا النبي ﷺ وعلى رأسه أثر ماء، فقلنا:
يا رسول الله، نراك طيّب النفس. قال: «أجل». قال: ثم خاض الناس في ذكر
الغنى، فقال رسول الله ﷺ: «لا بأس بالغنى لمن اتقى الله، والصحة لمن اتقى الله
خير من الغنى، وطيب النفس من النعيم»([9]).
وعن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ: «إن أول ما
يسأل عنه ــ يعني يوم القيامة ــ العبد من النعيم أن يقال له: ألم نُصِحّ
لك جسمك، ونُرْوكَ من الماء البارد؟»([10]).
وقال سعيد بن جبير: حتى عن شربة عسل. وقال
مجاهد: عن كل لذة من لذات الدنيا. وقال الحسن البصري: نعيم الغداء والعشاء، وقال
أبو قِلابة: من النعيم أكل العسل والسمن بالخبز النقي. وقول مجاهد هذا أشمل هذه
الأقوال.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قال: النعيم: صحة
الأبدان والأسماع والأبصار، يسأل الله العباد فيما استعملوها، وهو أعلم بذلك منهم،
وهو قوله تعالى: { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ
كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا } [الإسراء: 36].
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: «نعمتان
مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»([11]). ومعنى هذا: أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين،
لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه، فهو مغبون»([12]).
([1]) قال الإمام
أحمد: حدثنا به هشام بن القاسم ثنا أبو سعيد المؤدب ثنا من سمع عطاء..» تيسير
العزيز الحميد (1/ 139) ورواه أبو نعيم في «حلية الأولياء»
(٨/ ٣١٨) بنحوه. وهو من أخبار وهب بن منبه رحمه الله تعالى، وقد كان من أحبار أهل
الكتاب وأسلم وحسن إسلامه، وكثرت فوائده ومواعظه ووصاياه وأخباره. ولا بأس
بالتحديث عنهم اعتبارًا فيما لا يخالف شرعنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق