كيف يحقق المؤمن عبودية
الافتقار إلى الله تعالى؟ ((11) (التوكل والخلوة)
الحمد لله جعل الحمدَ مفتاحًا لذكره، وجعل الشكرَ سببًا
للمزيد من فضله، ودليلاً على آلائه وعظَمَته، قضاؤه وحُكمه عدلٌ وحكمة، ورِضاه
أمانٌ ورحمة، يقضي بعلمه، ويعفُو بحِلمه، خيرُه علينا نازِل، وتقصيرُنا إليه
صاعِد، لا نقدِر أن نأخُذَ إلا ما أعطانا، ولا أن نتقِيَ إلا ما وقانا، نحمدُه على
إعطائه ومنعه وبسطِه وقدرِه، البرِّ الرحيم لا يُضيرُه الإعطاءُ والجُود، ليس بما
سُئِل بأجودَ منه بما لم يُسأل، مُسدِي النِّعَم وكاشِفِ النِّقَم، أصبحنا عبيدًا
مملوكين له، له الحُجَّة علينا ولا حُجَّة لنا عليه، نستغفره ونتوبُ إليه مما أحاط
به علمُه وأحصاه في كتابه، علمٌ غيرُ قاصِر وكتابٌ غيرُ مُغادِر , وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله سيدُ البشر أجمعين
ورسولُ ربِّ العالمين، فصلواتُ الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى
أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، وتهيئوا للقائه بصالح
ما تطيقون من النية والقول والعمل، فإنه تعالى يقول: (إليه يصعد الكلم الطيب
والعمل الصالح يرفعه).
عباد الله: إن من وسائل تحصيل الافتقار: تحقيق التوكل على الله تعالى.
ويكفي المتوكّل غناءً وفلاحًا ونُجْحًا
قول الحكيم العليم الغني الكريم: (ومن يتوكل على
الله فهو حسبه) [الطلاق: ٣] أي كافيه. فمن توكّل على الله وفوّض أمره إليه، ولجأ
لعزيز جنابه، واستغنى به عمن سواه؛ فقد حقّق عبودية الافتقار، والذي نفسي بيده لهو
حقيق بالمدد الرباني واللطف الرحماني والكفاية التامة والغوث العاجل في دينه
ودنياه.
والتوكّل فرع عن الافتقار وثمرة له،
وعلى قدر تحقيقه تكون ثمرته وكفايته، وقد بسطت الكلام في التوكل في كتاب سابق بما
أغنى عن تكراره.
عباد الله: ومن وسائل تحصيل الافتقار
إلى العلي الغفار: الخلوة بالنفس متفكّرًا.
إن المفتقر إلى الله مخلوق طيني ترابي،
تطغى عليه المادة حينًا، وتعشيه غياية الطبع الجهول الغفول حينًا، فلا بد لمن
نَصَحَ نفسه من ساعات يقف فيها مناجيًا نفسه الأمارة واعظًا لها حتى تكون لربها
مطمئنة ساكنة، وبطريق سعادتها مبصرة سالكة.
«فالناس في هذه الدار على جناح سفر
كلهم، وكل مسافر فهو ظاعن إلى مقصده ونازل على من يسرّ بالنزول عليه. وطالب الله
والدار الآخرة إنما هو ظاعن إلى الله في حال سفره ونازل عليه عند القدوم عليه»([1]).
ومن مواعظ أبي الفرج ابن الجوزي ؒ في هذا الشأن: «إخواني! الخلوة مَهْرُ بِكر
الفكر، وسُلَّم معراج الهمة، حريمُ العُزلة مصونٌ من عيب العبث، إذا خلت دار
الخلوة عن الصّور، تفرّغ القلب لملاحظة المعاني.
يا هذا! إذا رُزقت يقظةً فصُنْها في بيت
عزلة، فإن أيدي المعاشرة نهّابة، احذر معاشرة الجُهال، فإن الطبع لصٌ، لا تُصادقنّ
فاسقًا، فإن من خان أول منعمٍ عليه لا يفي لك.
يا أفراخ التوبة! لازموا أوكار الخلوة،
فإن هِرَّ الهوى صَيُود، إياك والتقرب من طرف الوكر، والخروج من بيت العزلة، حتى
يتكامل نباتُ الخوافي([2]) وإلا كنت رزق الصائد.
الأُنس بالإنس كالغِرَاء، المخالطة توجب
التـخليط، وأيسر تأثيرها تشتيت الهمّ.
أقلُّ ما في سقوط الذئب في غَنَمٍ |
|
إن لم يصب بعضها أن تنفر الغنمُ |
واعلم أن قطع العلائق أصل الأصول لطيب
الوصول.
صاحبْ أهل الدين وصافِهم، واستفد من
أخلاقهم وأوصافهم، واسكن معهم بالتأدب في دارهم، وإن عاتبوك فاصبر ودارهم، إن لم
يكن لك مَكَنَةُ البذر ولم تُطق مراعاة الزرع، فقَفْ في رفقة ﴿وإذا حضر القسمة
أولوا القربى واليتامى﴾ [النساء:
٨] أنت في وقت الغنائم نائم، وقلبك في شهوات البهائم هائم.
وإن صدقت في طِلابهم فانهض وبادر، ولا
تستصعب طريقهم فالمُعين قادر. تعرّض لمن أعطاهم وسَلْ فمولاك مولاهم، رُبَّ كنز
وقع به فقير، ورُبّ فضل فاز به صغير، عَلِم الخضرُ ما خفي على موسى، وكُشف لسليمان
ما غُطّي عن داود.
يا هذا! لا تحتقر نفسك فالتائب حبيب
الله، والمنكسر مستقيم، إقرارُك بالإفلاس غِنًى، اعترافُك بالخطأ إصابة، تنكيس
رأسك بالندم رفعة، عُرَضت سلعة العبودية في سوق البيع فبذلت الملائكة نقد ﴿أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس
لك﴾ [البقرة: ٣٠] وقال آدم: ما عندي إلا فُلوس إفلاسٍ نقشها ﴿ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من
الخاسرين﴾ [الأعراف: ٢٣] فقيل: هذا الذي ينفق على خزانة الخاص، أنين المذنبين
أحبُّ إلينا من زجل المسبحين.
واستعذبوا ماء الجفون فعذّبوا |
|
الأسرار حتى درّت الآماقُ |
يا معاشر المذنبين! إن كان يأجوج الطبع،
ومأجوج الهوى، قد عاثوا في أرض قلوبكم ﴿فأعينوني بقوة
أجعل بينكم وبينهم ردما﴾ [الكهف: 95] اجمعوا عزائم قوية تشابه زُبَرَ الحديد،
وتفكروا في خطاياكم، لتثور صُعَداءُ الأسف، شيدوا بُنيان العزائم بهجر المألوف
ليستحجر البناء، هكذا بناء الأولياء قبلكم، فجاء الأعداء (فما اسطاعوا ان يظهروه
وما استطاعوا له نقبا﴾ [الكهف:
٩٧].
ليس عزمًا ما مَرض المرءُ فيه |
|
ليس همًّا ما عاقَ عنه الظلامُ |
الجدَّ الجدَّ، فما تحتمل الطريقُ
الفتور، ضاقت أيام الموسم، فجعجعوا بالإبل([3]).
كان أُسيد الضبّي إذا عوتب في كثرة
بكائه يقول: كيف لا أبكي وأنا أموت غدًا؟
وكانت عابدةٌ لا تنام من الليل إلا
يسيرًا، فعوتبت في ذلك فقالت: كفى بطول الرقدة في القبور رقادًا.
هذه طريقُهم فأين السالك؟ هذه صفاتهم
فأين الطالب؟»([4]).
بارك الله لي ولكم...
.............
الخطبة الثانية
الحمد لله...
اللهم صل على محمد..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق