كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (9) (عز القناعة)
الحمد لله له الحمد في الأولى والآخرة، أحمده وأشكره على نعمه
الباطنة والظاهرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله، هدى بإذن ربه القلوب الحائرة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
نجوم الدجى والبدور السافرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد؛
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من
وسائل تحصيل عبودية الافتقار إلى الغني الغفار مجاهدة النفس بالقناعة.
فالقناعة كنز لا يفنى، وهي من فروع
الزهد في الدنيا، والمؤمن يسأل الله غنىً لا يطغيه وصحة لا تلهيه.
قال الله تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة
ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) والحياة الطيبة هي القناعة، كما قال عليّ
(92) وابن عباس (93) رضي الله عنهم.
وقال العثيمين رحمه الله تعالى في هذه
الآية: "لم يقل: فلننعمن أبدانهم، بل قال: (فلنحيينه حياة طيبة) وذلك بما يجعل الله في قلوبهم من الأنس وانشراح الصدر
وطمأنينة القلب وغير ذلك، حتى إن بعض السلف قال: «لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما
نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف». يعني من انشراح الصدر ونور القلب والطمأنينة
والسكون. أسأل الله أن يشرح قلبي وقلوبكم للإسلام، وينورها بالعلم والإيمان، إنه
جواد كريم»([1]).
وكان رسول الله ﷺ يحث على القناعة ويدعو
إليها بحاله ومقاله، فقد كان إمام الزاهدين ونبراس ذوي العقل والقناعة، قد عُرضت
عليه جبال الذهب فقنع بالكفاف، فكان يربط الحجر على بطنه من الجوع، وينام على
الحصير، ويلبس ما تيسر، ويسكن كسكن غبراء الناس وهو سيد ولد آدم، وخُيّر بين الملك
والنبوة وبين العبودية والرسالة فتواضع للعبودية دون الملك، وهذا في غاية القناعة
التي ليس وراءها مرمى.
وكان ينصح لأمته بالبُلغة دون الترف،
فعن عبيد الله بن محصن ؓ أَنَّ رَسولَ الله ﷺ قال: «مَنْ أصبَحَ منكم
آمِنا في سِرْبه([2])، مُعافى في جَسَدِهِ، عندهُ قوتُ يومِه، فكأنَّما
حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها»([3]) أي كأنما جمعت له الدنيا بأسرها وأُعطيها لوحده دون
الناس، لأن قيام الدنيا على هذه الثلاث، فمتى قامت للعبد فهو كملوك الدنيا في
الحقيقة، بل عيشه أطيب، إذ لم يزيدوا عليه إلا بالحطام الملهي والغم الملازم
والحساب الباقي.
وعن عبد الله بن عمرو بن
العاص ¶ أَنَّ رَسولَ الله ﷺ قال: «قد أفْلَحَ مَنْ أسلم، ورُزِقَ كفافا،
وقَنَّعه الله بما آتاه»([4]).
وعن فضالة بن عبيد ؓ: أنه سمع رسول
الله ﷺ يقول: «طُوبى لِمنْ هدِيَ للإسلام، وكان عَيْشُه كَفَافا وَقنِعَ»([5]).
وعن أبي سعيد الخدري ؓ أنَّ ناسًا من
الأنصار سألوا رسولَ الله ﷺ فأَعْطَاهم، ثم سألوه فأَعْطَاهم، ثم سألوه فأعطاهم،
حتى إذا نَفِذَ ما عِنْدَهُ قال: «ما يكون عنْدي من خير فلَنْ أدَّخِرَهُ عنكم،
ومَنْ يَسْتَعِفف يُعِفُّه الله، ومَن يستَغْنِ يُغْنهِ الله، ومن يتصبَّر
يُصَبِّره الله، وما أُعْطِي أحد عطاء هو خَير وأوسَع من الصبر» متفق عليه([6]).
وعن أبي أمامة ؓ قال: سمعت رسول الله ﷺ
يقول: «أغبطُ الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ([7]) ذو حظ من صلاة وكان رزقه كفافًا فصبر عليه حتى يلقى الله
عز وجل، وأحسن عبادة ربه، وكان غامضًا في الناس([8])، عُجّلتْ منيّته، وقلّ تراثه، وقلّت بواكيه»([9]).
وكان نبي الله ﷺ يوجّه أمته إلى أن
حقيقة الغنى إنما تكون إذا استغنت النفس حتى وإن قلّ عرض الدنيا، فعن أبي هريرة ؓ
قال: إَنَّ رَسولَ الله ﷺ قال: «ليس الغِنى عن كثرة العَرَض([10])، ولكن الغِني غني النفسِ»([11]).
بل كان ينهاهم عن
مسألة الخلق ويوجههم للاستغناء عنهم، فعن الزبير بن العوام ؓ قال: قال رسولُ
الله ﷺ: «لأن يأخذ أحدكُم أحْبُلَهُ([12])، ثم يأتي الجبلَ فيأتي بحُزْمة
من حَطَب على ظهره فيبيعها، خير له من أن يسأل الناس أعْطَوْهُ أم مَنَعوُه»([13]).
وقد أرشد صلوات الله وسلامه وبركاته
عليه إلى وجوب الاستغناء عن الناس وكفّ إراقة ماء الوجه إليهم بالعمل الشريف، فعن
أنس بن مالك ؓ أن رُجلا من الأنصار أتى النبيَّ ﷺ يسأله، فقال: «أمَا في
بيتك شيء؟» قال: بَلَى، حِلْس([14]) نَلْبَسُ بعضَه، ونَبْسُطُ بعضَهُ، وقَعْب([15]) نَشْرَبُ فيه من الماء، قال: «ائتني بهما» فأتاه
بهما، فأخذها رسولُ الله ﷺ بيده، وقال: «من يشتري هذين؟» قال رجل: أنا
آخذها بدرهم، قال رسول الله ﷺ: «مَنْ يزيد على درهم؟» ــ مرتين أو ثلاثًا
ــ قال رجل: أنا آخذهما بدرهَمْينِ، فأعطاهما إياه. فأخذ الدرهمين فأعطاهما
الأنصاريَّ، وقال: «اشَترِ بأحدهما طعامًا، فانبِذْه إلى أهلك، واشتر بالآخر
قَدُّومًا([16]) فائْتِني به»، فأتاه به، فشَدَّ فيه رسولُ الله ﷺ عودًا بيده، ثم قال:
«اذَهبْ فاحتَطِبْ وَبِعْ، ولا أرَيَنَّكَ خَمْسة عشر يومًا»، ففعل. فجاء
وقد أصاب عشرةَ دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال له رسولُ الله
ﷺ: «هذا خْير لك من أن تجيء المسألة نُكْتَة في وجهك يومَ القيامة، إن المسألة
لا تَصْلُحُ إلا الثلاث: لذي فقر مُدْقِع([17])، أو لذي غُرْم مُفْظِع([18])، أو لذي دم مُوِجع»([19]).
وتأمّل حكمته ﷺ وعنايته الدقيقة بأسباب
الاستغناء وبحفظ كرامة الرجل، إذ امتنع أوّلًا عن التصدّق عليه رحمة به مما يلحقه
من سؤال الناس وقرعًا لقلبه وتنبيهًا له، ثم ثنّى بسؤاله عما لديه مما يمكن
الاستغناء عنه ــ ولو مؤقتًا ــ، ثم باعها حتى يكون رأس مال تجارته من أصل ماله لا
مال غيره، ثم ساعده بأن يكون سمسارًا متبرّعًا له، ثم انتظر المزايدة حتى طابت
نفسه بالدرهمين الذين قسمهما بين الحاجة الآنية المُلحّة لأهل الرجل، وبين شرائه
قدّومًا يكون معينًا لاحتطابه وعمله، ثم ساعده بربط العود على حديدة القدوم ليكون
الفأس صالحًا للاحتطاب، ثم أمره أن يغيب عنه خمسة عشر يومًا ليقطع رجاءه بالعودة
لطلب الصدقة التي لا ترهق البدن ولا تتعبه وذلك أدعى لنشاطه، حتى إذا عاد بربح
الدراهم التي أغنته ووسعت عليه وعلى أهله وذاق حلاوة جنى الكدّ وربح عرق الجبين
ختم له بالوصية الرائعة المنبهة له ولغيره. فصلوات الله وسلامه وبركاته ما جرى
الزمان على هذا الرسول المعلم والرحيم الشفيق، (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم
بالمؤمنين رؤوف رحيم) [التوبة:
١٢٨].
ووعد من استغنى بسؤال الله عن سؤال
بالجنة فعن ثوبان ؓ أَنَّ رَسولَ الله ﷺ قال: «مَنْ يَكْفُلُ لي أن لا يسأل
الناس شيئا وأتَكَفَّلُ له بالجنّة؟» فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحدًا
شيئًا([20]).
وقال حكيم بن حزام ؓ قال سألتُ
رسولَ الله ﷺ فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني ثم قال لي: «يا
حكيم، إن هذا المال خَضِرٌ حُلْو([21])، فَمَنْ أخذَه بسَخَاوَةِ نفسه بُورِكَ له فيه، ومن أخذه
بأشراف نفسه لم يُبَاركْ له فيه، وكان كالذي يأْكلُ ولا يشبَعُ، واليَدُ العُلْيا
خير من اليد السفلى» قال
حكيم: فقلت: يا رسولَ الله، والذي بَعَثَكَ بالحقِّ لا أرْزَأُ([22]) أحدًا بَعدَكَ شيئًا حتى أُفارِقَ الدنيا. فكان أبو بكر
يدعو حَكيمًا لِيُعطِيَهُ عطاءه، فيأْبى أن يقبلَ منه شيئًا، ثم إن عمر دعاه
ليُعْطِيه عطاءه، فأبى أن يَقْبلَ منه شيئًا، فقال عمر: يا معشر المسلمين، إني
أعرض على حكيم حقَّهُ الذي له مِنْ هذا الفيء، فيأبَى أن يأخذه، فلم يَرْزَأْ حكيم
شيئًا أحدًا من الناس بعدَ رسولِ الله ﷺ حتى تُوفيَ. متفق عليه([23]).
فالأصل في سؤال الناس بلا حاجة التحريم،
فعن أبي هريرة ؓ قال: قال رسولُ الله ﷺ: «مَنْ سأل الناس تكُّثرًا([24])، فإنما يسأل جَمْرًا، فليستقِل أو ليستكثر»([25]) وعن قبيصة بن مخارق الهلالي ؓ قال: تحمَّلت حَمَالة([26])، فأتيتُ رسول الله ﷺ أسأله فيها، فقال: «أقِمْ حتى
تأتيَنا الصدقةُ، فنأمُر لك بها» ثم قال: «يا قبيصة، إنَّ المسألةَ لا تحلّ
إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فَحلَّتْ له المسألة حتى يُصيبَها، ثم يُمْسِكُ،
ورجُل أصابتهُ جائحة([27]) اجتاحت، فحلّتْ له المسألة حتى يُصيب قوَامًا مِنْ عَيْش
ــ أو قال: سِدادًا مِنْ عَيْش ــ ([28]) ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحِجَا([29]) من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلّت له المسألة، حتى
يصيبَ قَوَاما من عَيْش ــ أو قال: سِدَادا من عيش ــ فما سِوَاُهنَّ من المسألة
يا قبيصة سُحْت يأكلها صاحبها سُحْتا»([30]).
وعن عبد الله بن عمر ¶ أن عمر
قال: كان رسولُ الله ﷺ يعطيني العَطَاءَ، فأقول: أعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَر إليه
مِني قال: فقال: «خذه، وإذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مُشْرِف([31]) ولا سائل فَخُذه فَتَمَوَّله، فإن شئتَ كُلْه، وإن شئتَ
تصَدَّقْ به، وما لا فلا تُتْبِعّةُ نَفْسَك» قال سالم بن عبد الله: فلأجل ذلك كان
عبد الله لا يسألُ أحدًا شيئا، ولا يرُدّ شيئا أعْطِيَهُ. متفق عليه([32]) فالمال متى أُخِذ من حلّه بسخاوة نفس بورك لصاحبه فيه،
لا مع الهلع والجزع.
وكان يرشد أمته إلى توحيد رب العالمين
في السؤال، فكمال التوحيد أن لا يسأل إلا الله، وقد بايع جمعًا من صحابته على أن
لا يسألون الناس شيئًا. وعن عبد الله بن مسعود ؓ قال: قال رسولُ الله ﷺ:
«مَنْ نَزَلَتْ به فَاقَة فأنزلها بالناس لم تُسَدَّ فاقَتُه، ومَنْ نزلتْ به
فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له بِرِزْقِ عاجِل أو آجل»([33]).
بارك الله لي ولكم
.............
الخطبة الثانية
الحمد لله..
عباد الرحمن: إن الرضى عن الله هو باب
القناعة، فمتى ولجه المؤمن فقد هبط وادي القناعة الخصيب. فعن ابن عباس قال: قال
موسى عليه السلام حين كلم ربه: أي رب، أيّ عبادك أحب إليك؟ قال: «أكثرهم لي
ذكرًا» قال: أيّ عبادك أحكم؟ قال: «الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس»
قال: رب، أيّ عبادك أغنى؟ قال: «الراضي بما أعطيته»([34]).
وعن عثمان بن عفان ؓ: أَنَّ رَسولَ
الله ﷺ قال: «ليس لابنِ آدم حقٌّ في سوى هذا الخصال: بيت يسكُنه، وَثوْب
يُوارِي عورتَه، وجِلْفُ الخبزِ والماء»([35]) وقال النضر بن شَميل: جِلْفُ الخبز: يعني ليس معه
إدام. وفي رواية رزين: «وجلف خُبز يَرُدّ بها جَوْعتَهُ، والماء القَراح».
أما الماء القَراح فهو الذي لا يشوبه شيء ولا يخالطه مما يُجعل فيه كالعسل والتمر
والزبيب وغير ذلك مما يُتخذ شرابًا. وفي هذا الحديث غُنيَةٌ ومستمسك للزهاد
المقتصدين.
قال المناوي ♫:
«قال حكيم: أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع.
وقال بِشْر: لو لم يكن في القنوع إلا
التمتع بالعز لكفى.
وقال الشافعي: من غلبت عليه شهوة الدنيا
لزمته العبودية لأهلها، ومن رضي بالقنوع زال عنه الخضوع.
وقيل: الطمع طمعان: طمع يوجب الذل لله،
وهو إظهار الافتقار. وغايته العجز والانكسار، وغايته الشرف والعزّ والسعادة
الأبدية. وطمعٌ يوجب الذل في الدارين، وهو رأس حب الدنيا، وحب الدنيا رأس كل
خطيئة، والخطيئة ذل وخزي.
وحقيقة الطمع: أن تعلق همتك وقلبك
وأمَلك بما ليس عندك، فإذا أمطرت مياه الآمال على أرض الوجود، وأُلقي فيها بذر
الطمع؛ بسقت أغصانها بالذل. ومتى طمعت في الآخرة وأنت غارق في بحر الهوى ضللت
وأضللت»([36]).
هـي القنـاعةُ لا تـرضَى بهــا بـدلًا |
|
فيهــا النعيـمُ وفيهــا راحـةُ
البـدنِ |
وقال آخر ــ وما أجوده! ــ:
إذا أظمأتك أكفُّ اللئامِ |
|
كفَتْك القناعةُ شِبَعًا ورِيَّا |
وصلى الله على محمد....
([2]) آمنا في سربه: أي في نفسه، يقال:
فلان واسع السرب، أي: رَخِيُّ البال، وروي بفتح السين، وهو المسلك والمذهب.
([3]) البخاري في الأدب المفرد (300)
والترمذي (2346) وقال: حديث حسن غريب، وحسنه السيوطي في الجامع الصغير (8436)
وصححه الشوكاني في فتح القدير (2/44) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (5346).
([9]) شعب الإيمان للبيهقي (7/ 292)
وبنحوه في مسند أحمد (5/252) والزهد له (11) وفي الزهد لوكيع (133) والترمذي
(2347) وحسنه، وفي السند مقال.
([19]) أخرجه أحمد (3/100) وحسنه
الأرناؤوط لغيره، وأبو داود (1641) وسكت عنه فهو صالح عنده. والدم الموجع: هو
الدية الثقيلة على من احتملها.
([21]) الخَضِرُ: هو العشب الناعم
الطريّ، والمراد: أن المال محبوب إلى الناس مستحلىً في قلوبهم ملتذّون به.
([26]) الحمالة: احتمال الكلفة المالية
في الديات، وذلك في حال ثورة فتنة بين فريقين، فيقتل بينهم قتلى، فيلتزم رجلٌ مصلح
أن يؤدي ديات القتلى من عنده، طالبًا الصلح وإطفاء الفتنة.
([28]) القوام: ما يقوم به أمر الإنسان
من مال ونحوه. وبنحو معناه السِّداد ــ بكسر السين ــ: وهو ما يكفي المعوز والمقل،
يقال: في هذا سِداد من عِوَز.
([30]) أخرجه مسلم (3/97) والسحت هو:
المال الحرام، سمي به لأنه يُسْحِت البركة ويذهبها، أو لأنه يهلك آكله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق