إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 ديسمبر 2015

تكفير المعين.. وحرمة الدماء المعصومة

تكفير المعين.. وحرمة الدماء المعصومة
الحمد لله، الحمد لله تقدَّسَت أسماؤُه وصفاتُه، وتعالى مجدُه وعزُّه وعظمتُه وتمَّت كلماتُه، أحمدُ ربي وأشكرُه على نعمِهِ التي لا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أضاءَت براهينُ وحدانيَّته وعظُمَت آياتُه، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه تواتَرَت مُعجزاتُه وكرُمَت أخلاقُه وصفاتُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه أجمعين. أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى؛ فمن اتقَى اللهَ وقاه الشُّرورَ والمُهلِكات، ومن اتَّبعَ هواه وعصَى ربَّه وكفرَ به أدركَه الشقاءُ وأرداهُ في الدَّرَكات.
عباد الله: في هذا الزمان الحالك, رخصت الفتاوى, وافتُئتَ على أهل العلم, واستُحلّت دماءُ وأعراضُ أهلِ الإسلام من لدن أهل الإسلام! فعادت سُلالة فكرِ ذي الخويصرة جذعة فتيّة, واشرأبّت أعناق الفتن والبلايا من رؤوس حدثاءِ الأسنان سفهاءِ الأحلام, وظهرت قرون الغلوّ التي حذّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إياكم والغلو, فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" رواه ابن ماجه بسند صحيح.
وموجبات الردة, ونواقض الملة عديدة, وقد استحق وصفَهَا من لا خلاق له ممن رام تبديل الدين والهزء بالشريعة وحرب الله ورسوله, فتتردد بين الحين وأخيه قالاتُ فجورٍ وأفعالُ كفر, حقيقٌ بمن بسط الله يده بالسلطان والتمكين أن يقوم فيها لله محتسبًا قَصْبَ الزنادقة.. وكثير ما هم!
وفي مسند أحمد بسند حسّنه الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَحدٌّ يُقام في الأرض خير من أن تُمطروا أربعين خريفًا" نعم, فمنفعة الغيث خاصة بالأجساد, ومنفعة الحدِّ نفعها للأديان, وهي غاية خلقِنا. ولو علم الأثيمُ قُربَ الحَدّ من الحَدِّ ما اجتازه, ولكن من أَمِنَ أساءَ!
بيد أن مسألة تكفير المعيّن في غاية الخطر إن كانت في يد من لم يملك أدواتها, وفي سلطة من لم يستتم شروط إيقاعها, فلا يجوز بحال أن يُترك عنان التكفير للعامّة, بل هو خاص بمن أوكل الله لهم سياسة الناس بالشريعة, وهم العلماء الراسخون الذين علموا شروط التكفير وموانعه, وأحسنوا إقامة الحجة على متنكبي المحجة, فقد يُتهم المرء بارتكاب مكفِّر وهو منه براء! إنما كُذب عليه كما كُذب على كثير من الأجلّة كافترائهم على شيخ الإسلام ابن تيمية بالكفر والمروق من الدين وإهانته لجناب النبوة! وكذبهم على الإمام المجدد بأنه يبغض الرسول صلى الله عليه وسلم, ويدعو لدين جديد, ونحو ذلك البهتان الذي طال كثيرًا من المصلحين في هذه السنين.
هذا, وقد يركب المرءُ المعصيةَ وهي ليست من المكفرات, فيُرمى – جهلًا وظلمًا - بالردة! كصنيع الخوارج بمرتكب الكبيرة.
 كما قد يركب الذنب المكفِّر المخرج من الملة في ذاته, ولكن لا يحكم بكفره بسبب أحد الموانع, فلا بد مع استجماعِ الشروطِ انتفاءُ الموانع:
كالجهل: كما في قصة الذي قال لولده: "إذا أنا متُّ فأحرقوني, ثم ذُرُّوا رمادي في الهواء فلئن قدر الله علي ليعذبني..." والحديث مخرّج في الصحيحين, فهذا الرجل شكّ في عموم قدرة الله تعالى, وهذا من المكفرات, مع هذا غفر الله له لخشيته وجهله.
وكالخطأ: كقصة الفَرِحِ بعودة دابته بعد يأسه من النجاة فقال بعد استمكانه منها: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك, أخطأ من شدة الفرح!" ومن فروع ذلك: سبقُ اللسان بما لم يقصده الجنان من ألفاظ الكفر, وبخاصة مع وجود القرائن الصَّارفة.
وكالتأويل الذي له وجه: ولم يتضح الحق لصاحبه, كالكثير ممن يظنون أنهم ينزهون الله تعالى عن طريق قواعد ذهنية أحسنوا بها الظنّ فسمّمت تصوراتهم, فوصل بهم ذلك إلى إنكار بعض صفاته. وقد كان الإمام أحمد يصلي خلف بعض من قال بتلك المقالات. وقال شيخ الإسلام لبعض المحرفة(المؤولة): أنتم تقولون كلاماً لو قلت به لكفرت! لكنكم لم تكفروا عندي لأنكم ترومون التنزيه بذلك التحريف, ولم تتصوروا حقيقة مذهبكم ومآل مقالاتكم. أما تأويلات الباطنية والفلاسفة والرافضة وأشباههم فهي كفر محض.
وكالإكراه: لقوله تعالى: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" وبعضهم خصّ الرخصة بالنطق فقط, وبعضهم خصّ الإكراه بالتهديد بالقتل دون الضرب والحبس, والله أعلم.
واعلم أن تكفير المعين يختلف عن تكفير الوصف فالوصف كقولنا: تارك الصلاة كافر. أما تكفير الشخص المعين فهو أن تقول: فلان كافر! وهنا مكمن الخطر لمن توغَّل في ذلك بغير بينة ولا برهان. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة الوداع _ وتأمل عظمة الموقف وأهمية البيان وقيمة كل حرف فيها _: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلّغت؟" قالوا: نعم, قال: "اللهم اشهد. فليبلّغ الشاهد الغائب, فإنه رُبَّ مُبلِّغٍ يُبلِّغُه لمن هو أوعى له".
وبالجملة فلا تفريط ولا إفراط, والتقوى وسط بين الغلو والجفاء, وكما قال علي رضي الله عنه: خير الناس النمط الأوسط, الذين يرجع إليهم الغالي ويلحق بهم التالي.
الشاهد من هذا يا عباد الله: أن على الناصح لنفسه أن لا يقع في شَرَك التكفير بغير حق, وليعلم أن من دخل في الإسلام بيقين فلا يُخرج منه إلا بيقين, وليتيقَّن أن لكلّ كلمة طالباً من الله تعالى, وأنه موقوف بين يدي الجبار جل جلاله, ومسؤول عن ما اقترفه لسانه أو خطه بنانه, فليعدّ للسؤال جواباً وللجواب صواباً, وأنّى ذلك إلا ببرهان شاف, واستدلال كاف. والكلمة يملكها من كانت حبيسة جوفه, لكن إن خرجت فقد ملكته, فإما إعتاق أو إيباق! والله المسؤول أن يحفظني والقارئ والمسلمين من مضلات الفتن ودواهي المحن, فهو المستعان, وعليه التكلان, ولا إله إلا هو.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد إلا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي لجنته ورضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:
فاتقوا الله يا عباد الله حق التقوى، واستعدوا للقاء الله بأحسن ما حضركم من عمل.
عباد الرحمن: لقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- الناسَ من فتن آخر الزمان، وأمر المسلم بالاعتصام بحبل الله ودينه، وعدم الانسياق خلف الأهواء والفتن، فقال –صلى الله عليه وسلم-: " وإنَّ أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها. وسيُصيبُ آخرها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها، وتجيءُ فتنةٌ فيُرقِّقُ بعضها بعضًا.. فمن أحبَّ أن يزحزحَ عن النارِ ويدخلَ الجنةَ، فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ، وليأتِ إلى الناسِ الذي يحبُّ أن يُؤْتَى إليهِ " رواه مسلم.
 فمن أراد أن يرْحَمَه الله فليرحم خَلق الله، وإذا أراد أن تُصان أمواله ونفسُه، فليبدأ هو وليسلم الناس من لسانه ويده.
 عباد الله أن أعظم ذنب بعد الشرك بالله تعالى هو قتل النفس الحرام. قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [الإسراء: 33].
عن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ قالَ في حَجَّةِ الوداعِ: "هذا يومٌ حرامٌ وبلَدٌ حَرامٌ، فدماؤكم وأموالُكم وأعراضُكم عليكم حرامٌ مثلُ هذا اليومِ وهذا البلدِ إلى يومِ تلقونَهُ وحتَّى دَفعةٌ دَفَعها مسلِمٌ مسلِمًا يريدُ بها سوءًا، وسأخبرُكم مَنِ المسلمُ؛ من سلمَ النَّاسُ من لسانِهِ ويدِهِ، والمؤمنُ من أمِنهُ النَّاسُ على أموالِهم وأنفسِهم، والمهاجرُ من هجرَ الخطايا والذُّنوبِ والمجاهدُ من جاهدَ نفسَهُ في طاعةِ اللَّهِ تعالى" رواه البزار بسند صحيح، فهذا هو التعريف النبوي للمسلم والمؤمن والمهاجر يا عباد الله، فهل نعي ونتدبر ومن ثَم نمتثل ونعمل؟!
وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال المؤمن في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا»؛ أخرجه البخاري.
وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "إن من ورَطَات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حِلِّه"؛ أخرجه البخاري.
بل قد حرَّم الله مجرد الإشارةَ إلى مسلمٍ بسلاحٍ أو حديدة، سواءٌ كان جادًّا أو مازِحًا؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُشِر أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزِعُ في يده فيقع في حُفرةٍ من النار»؛ متفق عليه. وفي روايةٍ لمسلم: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنُه حتى ينزِع، وإن كان أخاه لأبيه وأمه».
أيها المسلمون: إن القتل بغير حقٍّ جريمةٌ مُزلزِلة، وخطيئةٌ مُروِّعة، سواءٌ كان المقتول من أهل المِلَّة، أم كان من أهل العهد والذِّمَّة؛ فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَزوال الدنيا أهونُ على الله من قتل مؤمنٍ بغير حقٍّ»؛ أخرجه ابن ماجه.
وعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل مُعاهَدًا لم يرَحْ رائحةَ الجنة، وإن رِيحها يوجد من مسيرة أربعين عامًا»؛ أخرجه البخاري. وعند النسائي: «من قتل قتيلاً من أهل الذِّمَّة لم يجِد ريح الجنة».

اللهم صل وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان..

الاثنين، 21 ديسمبر 2015

اتقوا الظلم..



 اتقوا الظلم..
واعجبًا للظالم كيف يهتني بنوم وهو يعلم نصر الله للمظلوم.
تنامُ عينُك والمظلوم منتبه   يدعو عليك وعينُ الله لم تنمِ
كيف يطيب له نَفَسٌ وهو يسمع قول الجبار جل جلاله: (وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما)
أَمَا وَاَللَّهِ إنَّ الظُّلْمَ شُؤْمٌ      وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
 إلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي      وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
سَتَعْلَمُ فِي الْمَعَادِ إذا الْتَقَيْنَا     غَدًا عِنْدَ الْمَلِيكِ مَنْ الظَّلُومُ
الظلم ظلمة في الدنيا وظلمات في الآخرة..
روى أحمد بسند صحيح أن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ مِنْ أَخِيهِ، مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ حِينَ لَا يَكُونُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ، أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَجُعِلَتْ عَلَيْهِ"
لا تستعجل عقوبةَ الظالم فهي محيطة به. روى الشيخان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إن الله ليملي للظالم ، فإذا أخذه لم يفلته )) ، ثم قرأ : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } [ هود : 102]
كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ : أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا مَكَّنَك اللَّهُ الْقُدْرَةَ مِنْ ظُلْمِ الْعِبَادِ فَاذْكُرْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْك ، وَاعْلَمْ أَنَّك لَا تَفْعَلُ بِهِمْ أَمْرًا مِنْ الظُّلْمِ إلَّا كَانَ زَائِلًا عَنْهُمْ - أيْ بِمَوْتِهِمْ - بَاقِيًا عَلَيْك -أَيْ عَارُهُ وَنَارُهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ آخِذٌ لِلْمَظْلُومِ حَقَّهُ مِنْ الظَّالِمِ، وَإِيَّاكَ إيَّاكَ أَنْ تَظْلِمَ مَنْ لَا يَنْتَصِرُ عَلَيْك إلَّا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } .
فكيف رأيت الحقّ قرّ قراره ... وكيف رأيت الظلم آلت عواقبه
وتذكر حديث المفلس واعلم أن ميزان الآخرة منضبط على معيار واحد يميّز العدل من الظلم (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) غافر 17، عدل ينجى ويسعد، وظلم في الجحيم يركس { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ }
ان معول الظلم ليهدم جبال الحسنات، وكلما اشتدت المظلمة اشتد الهدم.
ياصاحِ: ليت الحلالَ سلم، فكيف الحرام؟ كان لبّان يخلُط اللبن بالماء، فجاء سيل فأهلك الغنم، فجعل يبكي ويقول: اجتمعت تلك القطراتُ فصارت سيلا. ولسان الجزاء يناديه " يداك أوكتا وفوك نفخ " .
كم بكت في تنعّمِ الظالمِ عينُ أرملة، واحترقت كبد يتيم؟ (وَلَتَعلُمَنّ نَبَأَهُ بَعدَ حين) واعجبا من الظّلمةِ كيف ينسون طي الأيام سالف الجبابرة، وما بلغوا معشار ما أوتوا، أما شاهدوا مآلهم؟ (فَكُلاً أَخَذنا بِذَنبِهِ) أما رحلوا بالندم؟ (فَما بَكَت عَلَيهِم السَماءُ والأرض).
ويحك، لا تحتقر دعاء المظلوم، فشَرار نار قلبه محمول بريح دعائه إلى سقف بيت الظالم، نباله تصيب، وبوعد الله لا تخيب. (وعزتي وجلالي لأَنصُرَنّكَ وَلَو بَعدَ حين).
اصْبِرْ عَلَى الظُّلْمِ وَلَا تَنْتَصِرْ، فَالظُّلْمُ مَرْدُودٌ عَلَى الظَّالِمِ، وَكِلْ إلَى اللَّهِ ظَلُومًا فَمَا رَبِّي عَنْ الظَّالِمِ بِالنَّائِمِ.. وَمَا يَدٌ إلَّا يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا.
شتان من بات وقلوب العباد عند ربها تدعوا له وتثني عليه، وبين من دموعهم ترفَع شكايتها بالدعاء عليه! وفي الصحيحين: "واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فَإِنَّها لَيْسَ بَيْنَها وَبَيْنَ اللهِ حِجابٌ"
‏ربما تنام وعشرات الدعوات ترفع لك، من فقير أعنته، أو جائعٍ أطعمته، أو حزين أسعدته، أو مكروب نفست عنه.. وعند الله في ذاك الجزاءُ.

الأربعاء، 2 ديسمبر 2015

وصية حبيب

وصية حبيب
الحمد لله رب العالمين...
صح عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ « يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ ». ثم َقَالَ « أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ أن تَقُول اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ». والحديث مسلسل بالوصية
ألا ما أعظمه من موصٍ وما أشرفها من وصية. حقيق بكل مؤمن أن يحفظها ويلزمها.
قال شيخ الإسلام: تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤالُ العونِ على مرضاته، ثم رأيتُه في الفاتحة في: "إياك نعبد وإياك نستعين" فالعون على الطاعة هو جماع الخير.
 وقال عنه ابن القيم: كان يقول في سجوده وهو محبوس اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله –أي يلحُّ على الله بها ويكررها- وقال لي مرة: المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسورُ من أسره هواه.
فرطّب قلبك ولسانك بهذا الدعاء الجامع وخاصة في صلاتك في السجود وقبل السلام.
إن مبنى الدين على قاعدتين: الذكرِ والشكر، قال تعالى: "فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون" وليس المراد بالذكر مجردُ الذكر باللسان بل بالقلب والجوارح، فالدين كله ذكر. وأما الشكر فهو القيام بطاعته والتقربُ اليه بأنواع محابه ظاهرا وباطنا.
 وهذان الأمران هما جماع الدين، فذكره مستلزمٌ لمعرفته، وشكرُه متضمن لطاعته، وهذان هما الغايةُ التي خَلَق لأجلها الجنّ والإنس والسموات والأرض، ووضع لأجلها الثواب والعقاب وأنزل الكتب وأرسل الرسل.
فحق الله أن يذكرَ فلا يُنسى ويشكرُ فلا يُكفر، وهو سبحانه ذاكرٌ لمن ذكره شاكرٌ لمن شكره. والذكرُ رأس الشكر، وإذا ذكر العبد نعمة الله تعالى عليه هاج من قلبه هائج الشكر، فالذكر والشكر جماع السعادة والفلاح.
وبالجملة فأنفعُ الدعاء طلبُ العون على مرضات الله، وأفضلُ المواهب إسعافُه بهذا المطلوب، وجميعُ الأدعية المأثورة مدارُها على هذا، وعلى دفعِ ما يضادِّه، وعلى تكميله وتيسير أسبابه.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه عدد أنفاسِ أهلِ الجنة.

إبراهيم الدميجي

شأن الرَّحِم

شأن الرَّحِم
الحمد لله رب العالمين..
كان النضرُ بنُ الحارث العبدري شديدَ العداوة للإسلام فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر فرثته أخته قُتَيلة، ومما قالته:
يا راكبًا إن الأثيل مظِنّة ... من صبح خامسةِ وأنت موفقُ
أَمُحَمَدٌ يَا خَيْرَ ضَنْءِ كَريمَةٍ ... فِي قومها، والفحل فحلٌ مُعرِقُ
مَا كَانَ ضرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَربَّمَا ... مَنَّ الفتَى، وهُوَ المَغيظُ المُحنَقُ
فالنضْرُ أقربُ مَنْ أَسرْتَ قَرَابَةً ... وَأَحقُّهُم إن كان عِتقٌ يُعتقُ
ظَلتْ سُيُوفُ بني أبِيهِ تنوشُهُ ... لله أَرحَام هُنَاكَ تُشقَّقُ
قالوا: فرقَّ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دَمعت عيناهُ، وقال: " يا أبا بكر لو سمعتُ شعرها ما قتلتُ أخاها" أي لقبل شفاعتها فيه.
نعم فلا يهتز لصدق المشاعر سوى معادنِ الأحرار، وسيدهُم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هناك في داخل النفس الإنسانية ثمّ رغبةٌ في الخصوصية، وتأمل نفسك لو جلست في مكان عام، ثم جلس بقربك شخص لا تعرفه حتى كاد أن يلزقَ بك، فما ستحسّ به هو رغبتُك في الابتعاد عنه قليلًا لتتنفس الخصوصية.
وبما أن الإنسان لا مفرّ له من خُلطة البشر والاحتكاكِ بهم فمن الطبيعي أن يكون بينه وبين بعضهم نفرة ومشاحنة وربما قطيعة، لذلك شدّد الله الأمر في كتابه بوصل ما أمر به أن يوصل كحفظِ حق الجار وصلة الرحم ونحوِ ذلك.
ومن نفيس وصايا زينِ العابدين رحمه الله تعالى: يا بني لا تصحبنَّ قاطعَ رحم فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله تعالى في ثلاثة مواضع. "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله"
ولكلِّ من كانت بينه وبين رحمه قطيعة: تذكّر ليالي الجُمع.. قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: " إن أعمالَ بني آدمَ تُعرضُ كلَّ خميسٍ ليلةَ الجمعة، فلا يقبلُ عملُ قاطعِ رحم " رواه أحمد بسند جيد. لذا فانتبه ألّا تكون قاطعًا فتُقطع! فمن وصل وُصِلَ ومن قطعَ قُطع، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُم قَامَتْ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: مَهْ؟ قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ. قَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ. فَذَاكِ" متفق عليه. وفي البخاري: "لا يدخلُ الجنةَ قاطعُ رحمٍ" وفي الصحيحين في حديث الصراط: "وترسل الأمانةُ والرحمُ فتقومان جَنْبَتَي الصراط يميناً وشمالاً".
أُخيّ: ألا تريدُ عمرًا طويلًا ورزقًا دارًّا؟ إن وصلُكَ لِرحمك مُؤدٍّ لذاك: "من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه" متفق عليه.
فإن قلتَ: كيف أصلُ رحمي وهم لا يستحقون؟ بل ولا سلامة منهم إلا بالبعد عنهم! قلتُ: بل الوصلُ يسير والأمر هيّنٌ بحمد الله، ولكن بشرط أن تفهم سرَّ سهولته، ألا وهو يقينُك أنكَ تتعاملُ مع الله لا معهم، وأنك تنتظر الأجر والرضى منه لا منهم، وتذكّر حديثين:
في البخاري: "لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا" وفي مسلم أن رجلا قال : «يا رسولَ الله ، إِن لي قرابةً أصلِهُم ويقطعونني، وأُحْسِن إِليهم ويُسيئُون إِليَّ، وأحلُم عنهم ويجهلون عليَّ؟ قال: لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهُم الملَّ، -وهو الرمادُ الحار - ولن يزالُ معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك». فهل تريد أجمل من هذا.
أخي: اجعل صلةَ أرحامك من صلبِ اهتماماتك وأولوياتك، واجعل لها نفيس وقتك، والأمر يسهُل بالتعوّد.
وتذكّر أن الجنة تريد منك مهرًا من الصالحات أم هل تريدُها مجّانًا؟!

إبراهيم الدميجي

خبر في سوء الخاتمة.. وخابت صفقة الأعشى

خبر في سوء الخاتمة.. وخابت صفقة الأعشى
وصف النقادُ الأعشى بقولهم: كان إذا مدح رفع, وإذا هجا وضع!
    أما خبر هلاكه فمؤسف, نعوذ بالله من الخذلان, وعليه بنيت هذه الكلمة، ففي سنةِ صلحِ الحديبية هَمَّ الأعشى بالإسلام, وأنشأ قصيدة يمدح فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم, ومنها:
ألم تَغتمضْ عيناكَ ليلةَ أرمدا ... وبِتَّ كما باتَ السليمُ مُسهَّدا
أَلاَ أَيُّهذا السَّائِلِي أَيْنَ يَمَّمَتْ ... فإِنَّ لها في أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدا
نبياً يرى ما لا تَرونَ وذكرُهُ ... أغارَ لَعَمري في البلاد وأَنجدا
أجِدَّك لم تَسمعْ وَصاةَ محمدٍ ... نبيِّ الإلهِ حين أوصى وأَشهدا
إذا أنت لم ترحلْ بزادٍ من التُّقى ... ولاقَيت بعد الموتِ من قد تزوَّدا
ندمت على ألاَّ تكون كمثلهِ ... فتُرصِدَ للموت الذي كان أرصَدا
وصَلِّ على حينِ العَشِيَّاتِ والضُّحَى ... ولا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ, واللّهَ فاعْبُدا
    وكان سائراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه القصيدة الجميلة ليُسْلَم. فلما كان قريباً من مَكة, قال أبو سفيان: يا معشر قريش، هذا الأعشى، والله لئن أتى محمداً واتّبعه ليُضرمنَّ عليكم نيران العرب بشعره،(فقد كان الأعشى كقناةِ الجزيرة حاليّا) فاجمعوا له مئة من الإبل, ففعلوا. فأتوه وقالوا: أين أردت يا أبا بصير؟. قال: أردت صاحبكم هذا _يعني النبي عليه الصلاة والسلام_ لأُسْلِمَ. فقالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك، وكلها لك موافق. قال: وما هي؟ قالوا: الزنا والقمار والربا والخمر. قال: أما الزنا فلقد تركني، وأما القمار فلعلي إن لقيته أن أصيب منه ما يغنيني عنه، وأما الربا فما دِنت وما أدَنت، وأما الخمر - أَوّه إن في النفس منها لعُلالات- فأرجع إلى صُبابةٍ قد بقيت في المِهرَاس فأشربُها. فقالوا: هل لك أن تأخذَ مئةً من الإبلِ وترجعَ إلى بلدك سنتَك هذه، وتنظرَ ما يصيرُ إليه أمرُنا. فقال: ما أكره ذلك. ففعلوا. فأخذها وانطلق إلى بلده فلما كان قريباً من بلده منفوحةَ باليمامة رمى به بعيرُه فقتله..
 وتأمل عظيم العبرة في قوله:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى .. ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
 واسأل ربك الثبات على الدين حتى الممات, وليت شعري ما ذا سيقول غداً؟!

إبراهيم الدميجي

"وقل رب ارحمهما"

"وقل رب ارحمهما"
الحمد لله رب العالمين...
قال صلى الله عليه وسلم عن أويسٍ القَرَني: "له والدة هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبره" فبرُّه بأمه جعله مستجاب الدعوة.
وبرُّ الوالدين من أعظم أسباب الغفران.. قال الإمام أحمد : بِرُّ الوالدين كفارةٌ للكبائر.
وفي المسند أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، إني أصبتُ ذنباً عظيماً،
-أي من الكبائر- فهل لي من توبة؟ قالَ: "هل لك مِنْ أمٍّ؟" قالَ: لا، قالَ: "فهل لك من خالةٍ؟" قال: نعم، قال: "فبِرَّها" قلتُ: لأن الخالة هي بقيّة الأم.
وقال رجل لعمر: قتلتُ نفساً،- وهو اعظم ذنب بعد الشرك -  قال: أمُّك حية؟ قال: لا، قال: فأبوك؟ قال: نعم، قال: فبِرَّه وأحسن إليه. ثم قال عمر: لو كانت أمُّه حيَّةً فبرَّها وأحسن إليها، رجوتُ أنْ لا تَطعَمهُ النارُ أبداً. وعن ابن عباس بمعناه أيضاً.
ألم تعلم أن برّ والديك أحبّ إلى الله من الجهاد، ففِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: "قُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا" قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ" قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ".
وفي حديث آخر لم يذكرِ الوالدين فقال العلماء لأنه لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَالِدَانِ. فاحمد الله الذي أعطاك ما حرم منه غيرَك.
 ألا ما أعظم حقَّ الوالدين. ويكفي أن الله تعالى قد قُرِنَ حَقّهما بحقِّه: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) "ومن أدرك أبويه أو أحدَهما فلم يدخلاهُ الجنةَ فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين"
وَلمُسْلِمٌ: أَقْبَلَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أُبَايِعُك عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ لِيَبْتَغِيَ الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: "فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْك أَحَدٌ حَيٌّ"؟ قَالَ: نَعَمْ بَلْ كِلَاهُمَا حَيٌّ. قَالَ: "فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ"؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَارْجِعْ إلَى وَالِدَيْك فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا". الله أكبر ولله الحمد. وقال: لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ".
وعند أحمدَ بسند صحيح أن رجلًا قال: إني جئت لأبايعُك وتركتُ أبويّ يبكيان قال: "فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتَهما"
والعجب أنّ لهما حقًّا وإن كانا مشركين فكيف بالمؤمنَين الحنيفَين. يالَله ألهذا الحدّ وصل أمرُ البِرّ.
وتأمّل فقه مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ في قوله: بِتُّ أَغْمِزُ رِجْلَيْ أُمِّي، وَبَاتَ عَمِّي يُصَلِّي لَيْلَتَهُ، فَمَا سَرَّنِي لَيْلَتَهُ بِلَيْلَتِي. وقيل للحسن: إني أتعلم القرأن، وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: "عشاء مع أمك تُقِرُّ به عينَها، أحب إلي من حجة تحجها تطوعاً".
ولمن رحل والده: ادعُ له واستغفر له وصِل أصحابه.. مرّ رجل من الأعراب بابن عمر فسلّم عليه عبدُ الله، وحملَه على حمار كان يركبُه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه. فسُئل فقال: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أبرَّ البرِ صلةُ الولدِ أهلَ وُدِّ أبيه" رواه مسلم.
فبرهما باب للجنة وعقوقُهما حفرةٌ إلى النار قال صلى الله عليه وسلم: "ملعونٌ من عقَّ والديه" رواه أحمد.
ولمن ثقُل عليه البر أقولُ: تَطْلُبُ الْجَنَّةَ بِزَعْمِك وَهِيَ تَحْتَ أَقْدَامِ أُمِّك، حَمَلَتْك فِي بَطْنِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَأَنَّهَا تِسْعُ حِجَجٍ، وَكَابَدَتْ عِنْدَ وَضْعِك مَا يُذِيبُ الْمُهَجَ، وَأَرْضَعَتْك مِنْ ثَدْيِهَا لَبَنًا، وَأَطَارَتْ لِأَجْلِك وَسَنًا، وَغَسَلَتْ بِيَمِينِهَا عَنْك الْأَذَى وَآثَرَتْك عَلَى نَفْسِهَا بِالْغِذَاءِ، وَلَوْ خُيِّرَتْ بَيْنَ حَيَاتِك وَمَوْتِهَا لَآثَرَتْ حَيَاتَك بِأَعْلَى صَوْتِهَا.
 هَذَا وَكَمْ عَامَلْتهَا بِسُوءِ الْخُلُقِ مِرَارًا فَدَعَتْ لَك بِالتَّوْفِيقِ سِرًّا وَجِهَارًا، فَلَمَّا احْتَاجَتْ عِنْدَ الْكِبَرِ إلَيْك جَعَلْتهَا مِنْ أَهْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَيْك، وَقَدَّمْت عَلَيْهَا أَهْلَك وَأَوْلَادَك فِي الْإِحْسَانِ وَقَابَلْت أَيَادِيهَا بِالنِّسْيَانِ، وَصَعُبَ لَدَيْك أَمْرُهَا وَهُوَ يَسِيرٌ، وَطَالَ عَلَيْك عُمُرُهَا وَهُوَ قَصِيرٌ، وَهَجَرْتهَا وَمَا لَهَا سِوَاك نَصِيرٌ.
ألا تخشَ أن تُعَاقَبُ فِي دُنْيَاك بِعُقُوقِ البنات والْبَنِينَ وَتخزى فِي أُخْرَاك بِالْبُعْدِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يا هذا تذكر الوعيد (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)
لِأُمِّك حَقٌّ لَوْ عَلِمْت كَبِيرُ   ...    كَثِيرُك يَا هَذَا لَدَيْهِ يَسِيرُ
فَكَمْ لَيْلَةٍ بَاتَتْ بِثِقَلِك تَشْتَكِي  ...   لَهَا مِنْ جَوَاهَا أَنَّةٌ وَزَفِيرُ
وَفِي الْوَضْعِ لَوْ تَدْرِي عَلَيْهَا مَشَقَّةٌ ... فَمِنْ غُصَصٍ مِنْهَا الْفُؤَادُ يَطِيرُ
فَآهٍ لِذِي عَقْلٍ وَيَتّْبَعُ الْهَوَى  ...  وَآهٍ لِأَعْمَى الْقَلْبِ وَهُوَ بَصِيرُ
فَدُونَك فَارْغَبْ فِي عَمِيمِ دُعَائِهَا  ...   فَأَنْتَ لِمَا تَدْعُو إلَيْهِ فَقِيرُ
لا تجعل أمَّك مستودعًا لأحزانك، فأخبرها بما يسرّك لا ما ساءك فحزنها عليك أضعافُ أضعافِ حزنِك على نفسك.. فارحمها رحمك الله.
واعلم أن بر الوالدين ليس في طاعتهما فقط، بل البر الحقيقي هو فنُّ إدخالِ السرور عليهما بأي شيء كان.
وتذكّر أن غيرك قد حُرم من نعيم لقياهما، بموت أو غربة أو غيرها وودّ لو دفع سنة من عمره بالجلوس معهما ساعة من ليل أو نهار. فاعرف – يا رعاك الله – قدر نعمة الله عليك بوالديك.
وإني موصيك ببرِّهما برًّا خاصًّا لا يسبِقُكَ إليه سابق ولا يلحَقُكَ فيه لاحق.. دلّلهما وأظهر لهما بصدق حبَّك وشوقَك ولهفتك..  ولتكن بَهجة لقلبيهما وسرورًا وسعادة وأمنًا وكفاية.
لا تحزنهما بالانشغال عنهما بجوال أو غيره. أشركهما في كل دعوة صالحة، بل خصَّهما دونَك بدعَوات، ولا تنس في كل سجود أن تضرع لربك: رب ارحمهما كما ربّياني صغيرًا.
وثق أنك مهما فعلت وأحببت فلن تستطيعَ أن تصل لمستوى حبهما لك.. فحب الوالد لولده هو من النوع الذي لا يقاس ولا يوزن لأنه لا حدّ له.
وسيأتيك يومٌ لن يبق من والديك سوى الذكريات، فافعل اليوم ما تريد أن تتذكّره غدًا.
 وإذا أردت أن تعرف قدر الوالدين فاسأل من فقدهما!

إبراهيم الدميجي

لكل مهموم

لكل مهموم
الحمد لله رب العالمين...
تموت النفوس بأوصابها    ولم يدر عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي   أذاها إلى غير أحبابها
 لكل مهموم أو حزين أو مريض أو محطم الفؤاد أو متآكل الروح من فشله أو عثرته أو إحباطه..  ثمّ رب يراك.. وإله يسمع نجواك.. ويفرح بضراعتك.. ويقرّبك إذا تخلّى عنك الأقربون.
ويذكُرك إن نسيك المحبون..
ويرحمُك إذ قسا عليك الألدّون..
ويرفعك ويرزقك ويشفيك ويسعدك.. ويشرح صدرك وييسر أمرك..
فأين أين أين عن طرق بابه..
واللياذِ بعظيم جنابه..
والالتذاذِ بجميل خطابه..
 والانطراح في عبوديته ودعائه.
اشك نفسكَ والناسَ إليه.. واحذر من أن تشكوه إليهم..
 كيف تشكو من لا يأتي بالخير إلا هو..؟! 
   وَإِذَا شَكَوتَ إلى ابنِ آدمَ إِنَّمَا   تَشْكُو الرَّحِيمَ إلى الذي لا يَرْحَمُ
وعليك بجادّة الأنبياء.. "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله"
والبث هو الحزن الذي لا يطاق. والله المستعان.

إبراهيم الدميجي