إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 25 أبريل 2019

فتن التكفير والتفجير


فتن التكفير والتفجير
منقولة بتصرف
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، وأظهر الحق بالحق وأخزى الأحزاب، وأتمَّ نوره، وجعل كيد الكافرين في تباب. أرسل الرياح بشرًى بين يدي رحمته وأجرى بفضله السحاب. وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الوهاب، الملكُ فوقَ كل الملوك وربُّ الأرباب. غافرُ الذنب وقابلُ التوب شديد العقاب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المستغفِر التواب، خُلُقه الكتاب، ورأيُه الصواب، وقوله فصلُ الخطاب، قدوةُ الأمم، وقمةُ الهِمَم، ودرة المقربين والأحباب، عُرضت عليه الدنيا بكنوزها، فكان بلاغُه منها كزاد الركاب، ركب البعير، ونام على الحصير، وخصف نعله ورتق الثياب، أضاء الدنيا بسنته، وأنقذ الله به الأمة بشرعته، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى الآل والأصحاب ما هبت الرياح بالبشرى وجرى بالخير السحاب.
أما بعدُ: فأُوصيكُمْ - أيُّها الناسُ - بتقوى اللهِ سبحانَهُ والاستمساكِ بعروتِهِ الوثقى، والاعتصامِ بحبلِهِ المتينِ، ولُزومِ جماعةِ المسلمينَ، فإنَّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، وإياكُم ومُحدثاتِ الأمورِ، فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٍ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٍ، ﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [النور:52].
عبادَ اللهِ: جاء في مسند أحمد عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ رَجُلٍ، مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ مَعَ الْخَوَارِجِ، ثُمَّ فَارَقَهُمْ، قَالَ: دَخَلُوا قَرْيَةً، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ، ذَعِرًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ، فَقَالُوا: لَمْ تُرَعْ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رُعْتُمُونِي. قَالُوا: أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ، حَدِيثًا يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُحَدِّثُنَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ذَكَرَ فِتْنَةً الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، قَالَ: " فَإِنْ أَدْرَكْتَ ذَاكَ، فَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ، قَالَ أَيُّوبُ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ ". قَالُوا: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ أَبِيكَ يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَقَدَّمُوهُ عَلَى ضَفَّةِ النَّهَرِ، فَضَرَبُوا عُنُقَهُ فَسَالَ دَمُهُ كَأَنَّهُ شِرَاكُ نَعْلٍ مَا ابْذَقَرَّ، وَبَقَرُوا أُمَّ وَلَدِهِ عَمَّا فِي بَطْنِهَا».
عبادَ اللهِ، إن الخوارِجَ قد عَانتْ منهمُ الأمةُ في قديمِ عصرِهَا وحديثهِ، فهمُ الذينَ قاتلُوا الصَّحَابَةَ - رضيَ اللهُ عَنْهُمْ - فِي مَعْرَكَةِ النَّهْرَوَانِ، حَيْثُ قَاتَلُوا أَصحابَ رسولِ اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - الذينَ همْ خِيارُ النَّاسِ بعدَ الأَنبياءِ، إِنَّهُمْ الذينَ قتلوا الخلِيفتينِ الرَّاشدينِ عُثمانَ بنَ عفَّانٍ وهوَ يقرأُ القرآنَ وَعَليًّا بنَ أبي طالبٍ - رضيَ اللهُ عنهُ - وهوَ في طريقِهِ للصلاةِ.
إِنَّهُمُ الذينَ شَغَّبُوا على الخلفاءِ وتعطَّلَ الجهادُ بِسَبَبهمْ في كثيرٍ منَ الأزمان.ِ
لقد بغوا في كثيرٍ منْ بلادِ الإسلامِ فكفَّرُوا وفجَّرُوا وقَتَلُوا وخرَّبُوا. بينما المشركون في عافية من حدّهم مصداقا لقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم إذ قال: "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان". قالَ شيخُ الإسلام عنهم: "المؤمنونَ منهـمْ في تعبٍ، والمشركونَ منهمْ في راحةٍ".
أيُّها المؤمنونَ، إنَّ مما جاءتْ بِهِ الشريعةُ المباركةُ تحريمُ الدماءِ والتهديدُ والوعيدُ في ذلكَ والتشديدُ في هذا الأمرِ، فإنَّ مِنْ أعظمِ الذنوبِ بعدَ الشركِ باللهِ: قتلُ مسلمٍ بغيرِ حقٍّ، قدْ قالَ تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء:93]. ليسَ في دماءِ الآدميينَ فقطْ! بلْ حتى في دماءِ البهائمِ؛ عنِ المغيرةِ- رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ - مرَّ بنفرٍ منَ الأنصارِ يرمونَ حمامةً فقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: « لا تَتَّخِذُوا الرُّوحَ غَرَضًا »فإذا كانَ الوعيدُ قدْ وردَ في قتلِ بهيمةٍ بغيرِ حقٍّ، فكيفَ بقتلِ الآدميِّ؟! وكيفَ بقتلِ المسلمِ؟!
ويقولُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: «لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ» رواهُ الترمذيُّ وصححَهُ الألبانيُّ. وقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: « لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا »رواهُ البخاريُّ.
وكما في الحديث عن ابن عباس قال: وَلَقَدْ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَجِيءُ الْمَقْتُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آخِذًا رَأْسَهُ، إِمَّا قَالَ: بِشِمَالِهِ، وَإِمَّا بِيَمِينِهِ، تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ، فِي قُبُلِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يَقُولُ: يَا رَبِّ، سَلْ هَذَا: فِيمَ قَتَلَنِي؟»رواه أحمد.
عبادَ اللهِ، إنَّ التفجيرَ والتخريبَ في بلادِ المسلمينَ، وقصدَ المعصومينَ بالتخويفِ والترويعِ، والإيذاءِ والقتلِ، ما هوَ إلا ضربٌ منْ ضروبِ الفسادِ في الأرضِ، وفاعلُهُ قدْ أتى جرمًا عظيمًا، وعلَّقَ في رقبتِهِ دماءً معصومةً، وأول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء. كما عند البخاري
ولهذا حرم الله معصية ولي الأمر إذا لم يأمر بمعصية لما في ذلك من المفاسد ، وحرم الخروج على إمام المسلمين وتفريق الكلمة وأمر بردع من سعى في ذلك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر " رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم : "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد ، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه " رواه مسلم ولحفظ الضرورات الخمس شرع الله الحدود تطهيرا وردعا، وربما وصلت للقتل والصلب بحسَب قدر إفسادِه في الأرض، ولحدٌّ يقام في الأرض خير من أن تمطروا أربعين صباحًا.
عباد الله: وإن من مقوماتِ الأمن وأسبابِ تحقيقه بعد التوحيد: إقامُ الصلاة وإيتاءُ الزكاة والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى : ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) . فربط سبحانه وتعالى حصول النصر على الأعداء الذي يتوفر به الأمن للمسلمين ربط ذلك بإقام الصلاة التي هي ثاني أركان الإسلام ، وإيتاء الزكاة . وكما أن هذه الأمور هي من أهم أسباب النصر والأمن في الدنيا ، فهي كذلك من أسباب الأمن في الدار الآخرة :( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) وقوله : (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) أي لم يخلطوا عبادتهم بشرك بل أخلصوا الدين لله رب العالمين وقال تعالى فيهم : (إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون).  وقال تعالى : (وهم في الغرفات آمنون) جعلنا الله جميعا منهم ووالدينا  والمسلمين.
عباد الله: إن من مقومات الأمن وأسبابه : شكرُ النعمة ، ومن أسباب زواله كفرُها , قال تعالى : " وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " . وقال تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (لأنفال:53)
وقال تعالى : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112) وقال تعالى : ( وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين ، فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ، إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) .
اللهمَّ إنَّا نسألُكَ باسمِكَ العظيمِ الذي ملأَ الأركانَ كلَّها، أنْ تحفظَ هذا البلدَ وأهلَهُ. اللهمَّ احفظْ أبناءَنَا والمسلمين منَ مضلات الفتنِ.
باركَ اللهُ لي ولكمْ بالقرآنِ العظيمِ وبهديِ سيدِ المرسلينَ أقولُ قولي هذا.

الخطبةُ الثانيةُ
عباد الله: إنَّ ما قامَ بهِ هؤلاءِ منِ استباحةِ الدمِ المعصومِ، خروجٌ على وليِ الأمرِ وشق عصا طاعة إمام المسلمين، وهوَ منْ أفعالِ الخوارجِ الذينَ قالَ عنهمْ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتَهُمْ فَاقْتُلْهُمْ؛ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
فإنَّ كلَّ عمَلٍ تخرِيبيٍّ يستهدِفُ الآمِنينَ ومَعصومِي الدماءِ والنفوسِ المحرمةِ محرَّمٌ بالإجماعِ، مخالفٌ لأحكامِ شرعِ اللهِ، فحسبُنَا اللهُ ونعمَ الوكيلُ. فكَمْ منْ نفسٍ معصومةٍ أُزهِقتْ؟! وكَمْ منْ نفسٍ آمنةٍ رُوِّعتْ؟! مفاسدٌ عظيمةٌ، وشرورٌ كثيرةٌ، وإفسادٌ في الأرضِ، وترويعٌ للآمنينَ، ونقضٌ للعهودِ، وتجاوزٌ على إمامِ المسلمينَ.
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنَا شَرَّ كُلِّ ذِي شَرٍّ، وَأَنْ يَحْفَظَ بِلَادَنَا وَبِلَادَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَيْدِ الْحَاسِدِينَ، مِنْ أَعْدَاءِ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ.
اللَّهُمَّ مَنْ قَصَدَ الإسلام والْمُسْلِمِينَ بالفتنة في دينهم ودنياهم وَرَامَ الْإِفْسَادَ فِي بِلَادِهِمْ، وَالتَّخْرِيبَ فِي أَوْسَاطِهِمْ فَاهْتِكْ سِتْرَهُ، وَاكْشِفْ أَمْرَهُ، وَاكْفِ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ; إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ بِسُوءٍ فَأَشْغِلْهُ فِي نَفْسِهِ، وَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَى نَحْرِهِ، وَاجْعَلْهُ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ اهْدِ ضَالَّ الْمُسْلِمِينَ، وَأَصْلِحْ شَبَابَهُمْ وَشَيْبَتَهُمْ، وَرِجَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، وَفُكَّ أَسْرَاهُمْ، وَاشْفِ مَرْضَاهُمْ، وَعَافِ مُبْتَلَاهُمْ.
الَّلهُمَّ احْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ، حَرْبًا عَلَى أَعْدَائِكَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَأَقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ..

الخميس، 18 أبريل 2019

العنف الأسري


العنف الأسري
منقولة بتصرف واختصار
الحمدُ لله الوليِّ الحميد، الغفور الودود، ذي البطشِ الشديد، الفعَّالِ لما يُريد، ما شاءَ كان وما لم يشَأ لم يكُن، يعلمُ ما في السماوات وما في الأرض وخائنةَ الأعيُن وما تُخفِي الصدور، وهو ذو العرش المجيد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له.
وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، البشيرُ النذير، والسِّراجُ المُنير، سيِّدُ ولد آدم يوم القيامة، صاحبُ الحوض المورود، وقائِدُ الغُرِّ المُحجَّلين، صلواتُ الله وسلامُه وبركاته عليه، وعلى آلِ بيتِه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وعلى أصحابِه الغُرِّ الميامين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الوصيَّةَ المبذُولةَ لي ولكم – عباد الله – هي تقوَى الله في الغيبِ والشهادة، والغضبِ والرِّضا، والمنشَطِ والمكرَه، (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 1].
أيها المسلمون: الأُسرةُ المُسلمةُ رُكنٌ رئيسٌ من أركان المُجتمع المُسلم المُتكامِل، وعليه فإن كل ما يطرَأُ على تلكُم الأُسرة؛ من استِقرارٍ واضطرابٍ، ويُسرٍ وأناة، ورِفقٍ وعُنفٍ سينعكِسُ بالضرورة على المجمُوع، بقَدر ما لتلكُم الأسرة من مكانةٍ وأثرٍ في المُجتمع، قلَّ ذلكم أو كثُر.
لذلكم كلِّه أكَّد الإسلامُ أهميَّةَ الأُسرة، فأقسمَ الله – جلَّ شأنُه – بأصلِ الأُسرة؛ إذ قال – جلَّ وعلا -: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا ولَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 1- 4]. وبهذا القسمُ يظهرُ الوالِدُ والولَد الذين تتكوَّنُ منهم الأُسرة، وقد قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: «والرَّجُلُ راعٍ في أهلِ بيتِه ومسؤولٌ عن رعيَّته، والمرأةُ راعِيةٌ في بيتِ زوجِها ومسؤولةٌ عن رعيَّتِها» (رواه البخاري ومسلم).
إذا تبيَّن ذلكم – عباد الله -، فلنعلَم أن العُنفَ الأُسَريَّ من أعظمِ ما يُهدِّدُ كِيانَ الأُسرة المُسلمة، ويثلِمُ لُحمَتَها، ويُبدِّدُها شذَرَ مذَرَ، لتنتقِلَ عدواها إلى ما يُجاوِرُها من أُسَر وبيُوتاتٍ، فتنشَأُ حالةٌ من الوُجوم والاضطِراب، تتجاذَبُهما حاضِناتٌ من التهوُّر والقسوة، والجهل بالحقوق والواجِبات والمسؤوليَّات.
العُنفُ – عباد الله – شرٌّ كلُّه، والرِّفقُ خيرٌ كلُّه، وما كان العُنفُ في شيءٍ إلا شانَه، وما نُزِعَ من شيءٍ إلا زانَه، وإنه ما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانَه، وما نُزِعَ من شيءٍ إلا شانَه. وإن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
العُنفُ – عباد الله – داءٌ لا خيرَ فيه البتَّة، وهو قبيحٌ يعظُمُ قُبحُه وضررُه حينما يطَالُ ذوِي القُربَى، فإن العُنفَ ظُلمٌ ووقعُه على ذوِي القُربَى أشدُّ مضاضةً على النَّفسِ من وَقع الحُسام المُهنَّد.
العُنفُ  والغلظة – عباد الله – سُلوكٌ مَشينٌ، يُلحِقُ الضَّررَ بالمُعنَّفِ به، جسديًّا أو ماليًّا أو نفسيًّا، وهو يصِلُ في بعض المُجتمعات والبِيئات إلى شِبه ظاهرةٍ؛ لتكاثُر وقوعِها، وفَداحَةِ مغبَّاتها، فإن ضحاياها كُثُر، والله المستعان.
وإنه ما من داءٍ اجتماعيٍّ إلا وله دواءٌ، علِمَه من علِمَه، وجهِلَه من جهِلَه. وإن دينَنا الحَنيفَ لم يدَعْ لنا خيرًا إلا دلَّنا عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرَنا منه، وإن أولَ عُنفٍ أُسريٍّ وقعَ في البشريَّة قد قصَّه علينا ربُّنا – جلَّ وعلا – في كتابِه العزيز الذي لا يأتِيه الباطِلُ من بين يدَيه ولا من خلفِه، تنزيلٌ من حكيمٍ حميد، فقد قال الله في مُحكَم التنزيل عن أول عُنفٍ أُسريٍّ: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة: 27- 30].
هذه صورةٌ واحدةٌ من صُور العُنف الأُسريِّ، وهي أعلاها خطرًا وجُرمًا؛ لبُلوغها درجةَ إزهاقِ النفسِ بغيرِ حقٍّ، وما دُون ذلكم من الصُّور لا يُمكنُ حصرُه، غيرَ أن من أهمِّها: الضربَ المُبرِّح، أو التهديدَ بالطلاق، أو الحِرمانَ من النَّفقَة، أو الظُّلمَ في العطيَّة بين الأولاد أو بين الزوجات، ونحو ذلكم. هذا إذا كان العُنفُ صادِرًا من قِبَلِ الزوجِ.
أما إن كان من قِبَل الزَّوجة، فمن صُوره: التربُّصُ بالزوجِ من خلال هَدر حُقوقِه، وتأليبِ الأولاد على عُقوقِه جسديًّا ونفسيًّا وماليًّا. وقُولُوا مثلَ ذلكم في العُنفِ الصادِرِ من الأولاد تُجاه بعضهم أو تجاه الوالدَين أو أحدَهما.
إذا عُلِمَ ذلكم – عباد الله -، فاعلَمُوا أن للعُنفِ الأُسريِّ أسبابًا كثيرةً، يأتي في مُقدَّمتها: ضعفُ الإيمان في القلوب والغفلةُ عن لقاء علام الغيوب. يُضافُ إلى ذلكم: جهلُ المُعنِّف بالحقوق والواجِبات التي ينبغي أن يُؤدِّيَها على ما كُلِّفَ به منها.
كما أن تعاطِيَ المُسكِرات والمُخدِّرات وغيرها من أنواع الكُيُوف القتَّالة سببٌ مُنتشِر انتِشارَ النار في الهَشيم، لدَى من أُصيبُوا بلَوثَة العُنف الفتَّاكة.
ولربَّما كان من أسبابِ العُنفِ: ما يتلقَّاهُ المُشاهِدُ من إسقاطٍ إعلاميٍّ، عبرَ الأفلام، والمُسلسلات التي يُستعمَلُ فيها العُنفُ، حتى تَؤُزَّ المُشاهِدَ أزًّا على مُحاكاتها أو التطبُّع بطَبعِها؛ لما لها من أثرٍ بالِغٍ في التلقِينِ الذهنيِّ الآسِر.
يُضافُ إلى ما مضَى – عباد الله -: الأمراضُ النفسيَّة والاجتماعيَّة، كذاك اضطرابُ أحد الزَّوجين أو كِليهما في العشرة الزَّوجية.
وبمثلِ تلكُم الأسباب تبرُزُ آثارُ العُنفِ على الأُسرة ثم المُجتمع، فلا تسأَلُوا حينئذٍ عما يُحدِثُه العُنفُ الأُسريُّ من الشَّرخِ العَميقِ لحِصن الأُسرة المُستقِرِّ، المبنيِّ على أساس السَّكَن والمودَّة والرحمة، كما قال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم: 21].
ناهِيكم – عباد الله – عن تفلُّتِ الفتَيَات والفِتيَان من البُيُوت، فِرارًا من ذلكم العُنف الممقُوت بعد الاكتِواء بلَهيبِه، وما ينتُجُ عنه من جرائِمَ ووقوعٍ في المُسكِرات والمُخدِّرات هروبًا من الواقِعِ المُؤلِم. بل قد يتعدَّى الأمرُ إلى أبعدَ من ذلكم، ليصِلَ درجةَ الانتِحار بقتلِ المُعنَّفِ نفسه، ولربما تشرَّبَت الأُسرةُ خُلُقَ العُنف من مُمارسةِ الوالدَين؛ ليُكرِّرَ الطفلُ ذلكم حينما يكبُر، فتُصبِحُ وراثةً خُلُقيَّة، أو أن يُصابَ الأولادُ بالقلقِ المُزمِن والاضطرابِ النفسيِّ خوفًا من المُستقبَل، فيكرَهُون الزواجَ، ويكرَهُون الأُسرة، فينقلِبُون عِبئًا ثقيلاً على المُجتمع، أمنيًّا واجتماعيًّا واقتِصاديَّا وتربويًّا، والله – جلَّ وعلا – قد قال لسيِّد الخلق وأكرمِهم وأحلَمِهم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].
اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا والمسلمين إله الحق، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، وأستغفِرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنبٍ وخَطيئةٍ، فاستغفِرُوه وتوبُوا إليه، إن ربي كان غفورًا رحيمًا.

الخطبة الثانية:
الحمدُ لله على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتِنانِه.
وبعد: فاتَّقُوا الله – عباد الله -، واعلَمُوا أن الإسلامَ دينٌ كاملٌ، بيَّن الله به علاقةَ المرءِ بربِّه، وعلاقتَه بخلقِه؛ فما من شرٍّ قد حذَّرَ منه إلا فتَحَ أمامَه أبوابًا من الخير، وما من داءٍ إلا فتَحَ أمامَه دواءً لا يُغادِرُ ذلك الداء.
وإن مُعضِلةَ العُنف الأُسريِّ لجَديرةٌ بأن تكون من أولويَّات اهتِمامات المُجتمع المُسلم؛ لأن استِقرارَه الاجتماعيَّ والنفسيَّ لا يُمكنُ أن يتحقَّقَ بمنأَى عن استِقرار الأُسرة التي هي أُسٌّ في المُجتمع، فإن مثلَ تلكُم الاهتِمامات الجادَّة تمنَحُ الأُسَرَ والبُيُوتات وعيًا مُلازِمًا، يُمكنُ بمُوجَبِه الخُروجَ من زوبَعةِ ذلكم الطَّبع الشارِخِ سِياج الأُسرة واستِقرار المُجتمع، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6].
فالرفق الرفق يا عباد الله، اتقوا الله في أنفسكم وأهليكم واعلموا أن كل راع سيسأله الله عما استرعاه أَحفِظَ أم ضيّع، ويا أيها الأب المبارك: اعلم أن ابناءك هم مشروع حياتك الأعظم فاجعل لهم أعظم همتك وطويل وقتك وسعة صدرك ورحمة قلبك ونصح أُبوّتك.
= ثم اعلموا ياعباد الله أن هذه الليلة هي التي يسمونها ليلة النصف من شعبان، ويزعمون فيها أخبارًا وأحاديثَ لم يثبت منها شيء، فلم يثبت في فضل ليلة النصف من شعبان حديث صحيح ولم يرد عن الصحابة تفضيلها ولا تخصيصها بأية عبادة، فعلى هذا فلا يشرع إحياء تلك الليلة و لا صيام نهارها و لا تخصيصها بعبادة معينة و لا عبرة بكثرة من يفعل ذلك من الجهلة ، و الله المستعان.
وكل خير في اتباع من سلف  .. وكل شر في ابتداع من خلف
هذا وصلُّوا – رحمكم الله – على خيرِ البريَّة، وأزكى البشريَّة: محمد بن عبد الله صاحبِ الحوضِ والشفاعة؛ فقد أمرَكم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم – أيها المُؤمنون -، فقال – جلَّ وعلا -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ صاحبِ الوجهِ الأنوَر، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجُودِك وكرمِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمُومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكرُوبِين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين، برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِح أئمَّتَنا وولاةَ أمورِنا، واجعَل ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقَاك واتَّبعَ رِضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم كُن لإخواننِا المُضطهَدين في دينهم في سائرِ الأوطان يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم كُن لإخوانِنا المُجاهِدين المُرابِطِين في الثُّغور، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)  [البقرة: 201].
سُبحان ربِّنا ربِّ العزّةِ عما يَصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العَالمين.

(إذا جاءَ نصرُ الله والفتح)



(إذا جاءَ نصرُ الله والفتح)
الحمد لله فالقِ الإصباح وفارقِ أهلِ الغي من أهل الصلاح وسائقِ السحاب الثقال بهبوب الرياح ومنزّلِ الفرقانِ على عبده يوم الكفاح ببيض الصفاح، محذرا من دار البوار وحاثا على دار الفلاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله والحرماتُ تُستَبَاحُ وحزب الكفر قد عم الفجاج والبطاح، فلم يزل صلى الله عليه وسلم يهدي بإذن ربه إلى الحق حتى علا شأن الإسلام بين الأنام وشذا عطرُه وفاح، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما أزال ظُلَمَ الحنادسِ ضوءُ الصباح، وبارك وسلم تسليما، أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى حق التقوى تغنموا الفلاح، واعلموا أن النصر للإسلام مهما انتهت إليه ظنونُ الناس، وحقيقةُ النصر هي تديّن الناس بالإسلام واعتناقهم إيّاه ودخولهم في حوزته، وثباتُ أهله عليه، فثبات المؤمنين على الدين هو حقيقةُ نصرِ الدين، أما ملكُهُ للآفاق فليست كنصرِهِ في النفوس، وإن كنّا -بحمد الله -قد وُعدنا بهذا وهذا.
إنَ من المهمات في هذا العصر نشرُ التفاؤلِ بنصر الإسلام، والاستبشارُ بمستقبله، وحسنُ الظن بالله تعالى فيه، وبعظيم حكمته في أقداره، وحسنِ عاقبته للمؤمنين. فهو الذي وعد نبيَّه بعلوِّ دينه ونصر جنده وعزِّ شريعته مهما تكالبت عليها سباع الكفرة وضباع المنافقين. والتفاؤلُ بجمال المستقبل ليس ضعفًا إذا كان ناشئًا عن حسن الظن بالله تعالى وليس عن خوَر وعجزٍ وكسل، فاستفرغ جهدك في نصر دين الله ما استطعت لذلك سبيلا، وأحسن الظن بجميل تدبيره. واعلم أنّ الفرقانُ بين التفاؤل والأماني هو الجديةُ والعمل، فالأملُ محتاج لعمل. وأعظمُ الجدّيةِ هي الجديّةُ في الاستقامة على الإسلام، فدعوةٌ بلا استقامة؛ لا عمود لها ولا ثبات ولا صدقيّة، وإن أردتَ امتحان جدية رجلٍ في الاستقامة؛ فارقُب تبكيره لشهود صلاة الجمعة، ألا ما أقلّهم وأكْرِم بقليلهم.
 وقد يُظنُّ جهلًا بالمتفائلِ سذاجةً لقوّة تفاؤله، ولكن حقيقتُه حسن الظن بربّه ومعرفتُه بسنن الله في خلقه. فلا تخذُل نفسك بالقلق، بل أسعفها بالتفاؤل. ومهما كبَسَت على صدرك جيوشُ الهموم وتراكمت على روحك أرتالُ الغموم؛ فثمّ نورٌ في الروح، إنّه حسن الرجاء بالله تعالى. ومهما بلغ حجم جليد الكذب يومًا؛ فشمسُ الزمان كفيلةٌ بإذابته، حينها سيحصحصُ الحقُّ. ومع تتابع الفواجع الدامية في جسد الأمة؛ تبقى هناك ألطافٌ مدهشة غيرُ متوقعةٍ، ليس لها تفسير سوى لطفِ اللهِ المحض، (إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم). ولما كانت جموعُ الأحزابِ محاصرةً المسلمين من الأمام واليهودُ قد غدروهم من الخلف، وبلغ الخوفُ من الناس كل مبلغ؛ كان رسولُ الهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه يبشرُ الناس بفتح كسرى وقيصرَ واليمن، ثقةً بالله تعالى ونصره ووعده.
عباد الله: أنّ مَن تأمل أحوال الأمة يرى تكالب الأعداء عليها واستضعافهم لها وتنكيلهم بها ولكن هذه سنة الله تعالى في المداولة والمدافعة وله في ذلك الحكم الباهرة التي تتقاصر دون فهم تفاصيلها العقول، فعلى المؤمن أن يثق كل الثقة ويوقن كل اليقين بأنّ الله ولي الصالحين، وأنّه إن رضيَ عنه؛ فلا عليه ما فاته من غيره، فالخيرُ بحذافيره في مراضيه، والنعماءُ بكمالها بين يديه، وقد وعد – ووعده الحق – أنّ العاقبة للمتقين.
والحقُّ منصورٌ ومُمتَحنٌ فلا ... تعجب فهذي سنةُ الرحمنِ
وتدبر قول الله تعالى: (وما النصر إلا من عند الله) وقد ذكر الله هذا الحرف في آلَ عمران وكرره في الأنفال مختتما إياه في الموضعين بذكر اسميه الجليلين (العزيزِ الحكيم) فهو العزيز القوي الغالب، وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها اللائقة وله الحُكمُ والحكمة، ولا نصر على الإطلاق إلا من الله وحده، فكلما احتجتَ لنصر – وأنت على الدوام كذلك – فردّد بقلبك: (وما النصر إلا من عند الله) فلن تنتصرَ على نفسك أو على غيرك من الإنس والجن وغيرهم إلا بحبل الله الناصر، فنصرُه حقيقي تام، ونصر غيره هباء فانٍ، فتعلّقْ به وحده واعبده حق العبادة.
لقد وعدنا الله بالنصر إن نصرنا دينه، وبالعزِّ أن اعتصمنا به دون سواه، وبالتمكينِ إن مكّنّا عبادته في القلوب والأعمال، قال تعالى: (ولينصرن الله من ينصره) وقال سبحانه: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) وقال جل وعز: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) ولا يكفي الصبرُ لإدراك النصر، بل لا بد أن يُقرن بالتقوى (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا).
 وأبشر أخا الإسلام ببشرى الله: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض) فالعاقبة للتقوى.
وبحمد الله فمهما صلصل الباطل وجلجل فهو إلى تباب، ويبقى الحق شامخًا راسخًا، وتدبّر أمرَ أهلَ الباطلِ حين: (سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم) ثم كانت النهاية بأيسرِ طريق: (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون) إنها سُنَّةُ الصراع بين الحق والباطل، ونهايتُه دومًا: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا).
وافرح – أخا الإيمان -ببشارة نبي الإسلام بنصر الله للإسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرضَ فرأيتُ مشارقَها ومغاربها، وإنّ أمتي سيبلغُ ملكُها ما زُوي لي منها". وقال أيضًا: "ليبلغنّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يتركُ اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيزٍ أو بذلّ ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلًّا يذل به الكفر". فالنصر للإسلام مهما طال الزمان، ولكل زمانٍ رجالُه.
خَلقَ اللهُ للحروبِ رجالًا ...  ورجالًا لقَصعةٍ وثَرِيدِ
فلا تكن –لك الله -من المُرجفينَ ولا البكّائين المتشائمين، وفي الصحيح: "إذا قال الرجل: هَلَكَ الناسُ، فهو أهلكُهُم". والإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، واعلم أنّ نصرَ المؤمن وفوزَه لا يلزم منه كسبُ الحرب العسكرية، بل يكفي منه ثباتُ الناس على الإسلام والإيمان والفضيلة، وهذا معنًى حَسَنٌ تِكرَارُه في المجامعِ والخَلوات، فمَن ثَبَتَ على دينه فهو المنتصر حقًّا مهما كان حالُ دنياهُ الفانية. فالعبرةُ الحقّ إنما هي بالدين الحق، أما الدنيا فمجرد مَمَرٍّ للسائرين. ورضوانُ الله عز وجلّ أصلُ جميع السعادات، وكلّها راجعة إليه، قال سبحانه لمّا ذكر نعيم الجنة: (ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم).
 وتذكّر دومًا تمام النعمة بالإسلام. قال ربنا عز وجل ممتنًّا: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا) وتدبر قوله: (رضيت لكم الإسلام) وهذه أعظم نعمة في الوجود أن هدانا للإسلام ورضيه لنا للوصول إلى مرضاته، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أكملَ لهم الدين فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وأتمّه فلا ينقصه أبدًا، ورضيه فلا يسخطه أبدًا".
 فتذكر دومًا نعمة هداية الله لك بالإسلام (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب). وتفكّر كثيرًا كيف تمّمَ الله عليك النعمة في نفسك، وأراكَ العِبرة في غيرك، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
فلتكن – رعاك الله -من أصحاب المبادئ لا من أصحاب المصالح، واعلم أنّ المصالحَ تتدثرُ أحيانًا بثياب المبادئ، فتجمعُ ضِغْثًا على إبالة، وحَشَفًا وسُوءَ كَيْلَة. فإنْ يومًا ضعُفَتْ نفسُك وحارَ عقلُك وتحرّك يقينك وتزعزع جأشك؛ فتدبرْ خاتمة الصافات، وفيها يقول ربنا الأعلى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنهم لهم المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون (173) فتول عنهم حتى حين (174) وأبصرهم فسوف يبصرون (175) أفبعذابنا يستعجلون (176) فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين (177) وتول عنهم حتى حين (178) وأبصر فسوف يبصرون (179) سبحان ربك رب العزة عما يصفون (180) وسلام على المرسلين (181) والحمد لله رب العالمين).
بارك الله لي ولكم..

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، أظهر الحق بالحق وأخزى الأحزاب، وأتمَّ نوره، وجعل كيد الكافرين في تباب، أرسل الرياح بشرًى بين يدي رحمته وأجرى بفضله السحاب، جعل الليل والنهار خلفة فتذكر أولو الألباب، نحمَده تبارك وتعالى على المسببات والأسباب، ونعوذ بنور وجهه الكريم من المؤاخذة والعتاب، ونسأله السلامة من العذاب وسوء الحساب، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الوهاب، الملكُ فوق كلِّ الملوكِ وربُّ الأرباب، الحكمُ العدل يومَ يُكشف عن ساق وتوضع الأنساب، غافرُ الذنب وقابلُ التوب شديد العقاب، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله المستغفِرُ التواب، خُلُقُه الكتاب، ورأيُه الصواب، وقولُه فصلُ الخطاب، قدوةُ الأممِ، وقِمّةُ الهِمَم، ودرةُ المقربين والأحباب، عُرضت عليه الدنيا بكنوزِها، فكان بلاغُه منها كزادِ الركاب، ركب البعيرَ، ونام على الحصيرِ، وخصف نعله ورتق الثياب. أضاء الدنيا بسنته، ووعدهم رحمةَ اللهِ بشفاعته، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى الآل والأصحاب ما هبت الرياح بالبشرى وجرى بالخير السحاب.
أما بعد فاتقوا الله عباد الله واحمدوا الله تعالى أنْ جعل معدَنَ الإسلامِ الأصيلِ محفوظًا، فهو غير قابل للتغيير والنّحت والتبديل، قد يتغيّر بعض معتنقيه لكنّ حقيقته باقية محفوظة في صدور وسطور من شاء الله تعالى الله من عباده الذين حفظه بهم وحفظهم به. ومهما اشتدت ضراوة الحرب على الإسلام والتنكيل بأهله، ومهما علت قمم المكر به وكيده، إلا أنّ خصومَهُ يعودون منه بأحمالِ الخيبة، ذلك أنه كاملٌ في ذاته، عَصيٌّ على السقوط بكامله، حتى وإن تعثّر أهلُه لجهلٍ أو ضعفِ عزيمة أو ساعةِ خطيئة، لكنهم في الحقيقة يَعلُون به ولا يُعلى عليهم بغيره.
وليس على الأرض من جميع الأديان والثقافات خصمٌ ثقافي حضاري أخلاقي يقارب الإسلام، لذلك فلا نستغرب توحيدَ الهجمات المتتابعة عليه، قال تبارك وتعالى: (والله متم نوره) فدين الله نور يكتسح ظلام الجاهليات ويُبدِّدُ ظُلُمَ الشياطين ويهدي للحق المبين (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير)، وقال سبحانه: (ليُظهره على الدين كله ولو كره المشركون) وتدبر معنى الظهورِ المتضمنِ للعلوِّ والقهرِ والغلبة والوضوح.
 وقال الله تعالى في وصف أثر الإسلام على ظلمات الجهل والظلم والكفر: (يخرجهم من الظلمات إلى النور) فظلماتُهم كثيرةٌ، وسوادُها كثيفٌ، لكن الإسلام شمسٌ تسطعُ فتنيرُ الأرجاءَ، وتضيءُ الأنحاءَ، وتُذيبُ أقنعةَ شمعِ الأعداء، قال المصباح المنير والبشير النذير صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وآله: "لنْ يشادَّ الدينَ أحدٌ إلّا غَلَبَهُ". وفي طلعةِ البدرِ ما يُغنيك عن زُحلِ.
لئِنْ عَزّ ديني واستُبيحَتْ جوارحي ... فأينَ مقامُ العزِّ إلا مقامِيا
اللهم صل على محمد..