إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 يناير 2019

تحريم الغناء والمعازف



تحريم الغناء والمعازف
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما، وهدانا صراطا مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله، خير البرية، وأزكى البشرية، دعا إلى الهدى، وحذر من الضلال بعد الهدى، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى أصحابه أولي النهى، ومن تبعهم على الحق واقتفى. أما بعد:
قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا).
أيها المؤمنون: إن المسلم في زحمة الحوادث والفتن يحتاج إلى تصفية الفؤاد وتنقية النفس مما يشوبها؛ لتُقبل على ربها وباريها وتتذوق حلاوة الإيمان والطاعة، وتسعد بذلك للقاء الله تعالى إذا حل الأجل، وانقضت المهلة.
عباد الله اعلموا أن الغناء مزمار الشيطان، الذي يصد به القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية الفاحشة عياذا بالله تعالى.
أيها المسلمون: إن الغناء محرم عند أهل العلم حتى ولو كان خاليًا من آلات اللهو والملاهي، وهو الغناء بالشِّعر الرقيق الذي فيه تشبيب بالنساء ونحوه، مما توصف فيه محاسن النساء، فإن كان مصحوبًا بآلات اللهو فحرمتُه أشدّ، وقد حكى غير واحد من أهل العلم الإجماعَ على تحريمه.
 وتحريم المعازف هو قول الأئمة الأربعة أبو حنيفةَ ومالكُ والشافعيُّ وأحمدُ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام" والأدلة على تحريمه كثيرة مشهورة ومنها:
قال جل وعلا ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: هو الغناء وأشباهه، وبذلك فسره خلقٌ من التابعين.
وفي قوله تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) قال مجاهد: الغناء والمزامير، وفي قوله تعالى: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ) قال ابن عباس: هو الغناء بالحميرية، وفي قوله: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال محمد بن الحنفية ومجاهد: الزور هنا هو الغناء.
وأخرج البخاري من حديث أبي مالك الأشعري قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف" والحر هنا هو الفرج الحرام، فقوله: "يستحلون" دليل على أنها محرمة وتأمل كيف قرَنَ المعازف بالخمر والزنا. وروى أحمد وصححه الألباني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، ويضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير". والقينات هنّ المُغنّيات.
وأخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يبيت قوم من هذه الأمة على أكل وشرب ولهو ولعب ثم يصبحون قردة وخنازير، ويبعث الله على أحياء من أحيائهم ريحًا فينسفهم كما نسف من كان قبلكم، باستحلالهم الخمر وضربهم بالدفوف، واتخاذهم القينات“، أي المغنيات.
وقال الشعبي: لُعنَ المُغنِّي والمُغنّى له. وكان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- وهو من أعلام علماء التابعين يبالغ في إنكار الغناء والملاهي ويذكر أنها بدعة في الإسلام، وجاء عنه -رضي الله عنه- أنه كتب إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن -جل جلاله-، فإنه بلغني عن الثقات من حملة العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بهما ينبت النفاق في القلب كما يُنبت النبتَ الماء. وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: الغناء رقية الزنا.
أيها المؤمنون: إن هذا السماعَ الشيطانيَّ قد ورد له في الشرع بضعةَ عشر اسمًا؛ فورد بأنه اللهو، واللغو، والباطل، والزور، والمكاء، والتصدية، ورقية الزنا، وقرآن الشيطان، ومنبت النفاق في القلب، والصوت الأحمق، والصوت الفاجر، وصوت الشيطان، ومزمور الشيطان، والسُّمُود.
فكل هذه الألقاب أقد طلقت عليه لبيان شناعة جرمه وخطورة آثاره المنعكسة على أهله.
قال ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان: إنك لا تجد أحدًا عُنِيَ بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علمًا وعملاً، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن، عدل عن هذا لذاك، ويقل عليه سماع القرآن، وربما حمله الحال على أن يُسكتَ القارئ ويستطيل قراءته، ويستزيد المغني ويستقصر نوبته، وأقل ما في هذا أن ينال نصيبًا من ذم الشرع لمن يشتري لهو الحديث، إن لم يحظ به جميعه، والكلام في هذا مع من في قلبه بعضُ حياةٍ يحس بها، فأما من مات قلبه وعظمت فتنته فقد سد على نفسه طريق النصيحة: (وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
اللهم أيقظنا من الرقدات والغفلات، وأعذنا من المضلات، ووفقنا لهداك والعمل في رضاك.
الخطبة الثانية
الحمد لله..
عباد الله: اتقوا الله تعالى، واسمعوا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري معلقا وصححه الأئمة عن أبي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ: أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لَيَكُونَنَّ من أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إلى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عليهم بِسَارِحَةٍ لهم يَأْتِيهِمْ، يَعْنِي الْفَقِيرَ لِحَاجَةٍ، فيقولوا: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا فَيُبَيِّتُهُمْ الله وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" عياذًا بالله تعالى من أسباب غضبه وعقابه. والمعازف هي آلات اللهو بجميع أنواعها، اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء.
عباد الله: قد يسأل سأل فيقول: أليس في الغناء ما هو جائز كالذي يروى في السيرة النبوية؟ فالجواب: ليس في الغناء ما هو جائز، بل الغناء كله محرم؛  كما تقدم بالأدلة، وأمَّا ما يروى في السيرة من نشيد الأعراب؛ كحُداءِ أنجشةَ، وسلمةِ بن الأكوع، ونحوِ ذلك من الأناشيد والأشعار التي لا بأس بها، فإنَّه مجرد إنشادٍ وليس بالغناء المحرم، وغيرُ مصحوب بآلات اللهو والطرب، وهو يدعو إلى الشيم، ومكارم الأخلاق، وإظهار الفرح والسرور والبهجة؛ كفعل الأنصار يوم قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- للمدينة: طلع البدر علينا.. وكذلك الإنشاد عند التنشيط على الأعمال الشاقة بين الرجال؛ كفعل الصحابة بيوم بناء المسجد، وحفر الخندق ونحوها كقولهم: اللهم لولا أنت ما اهتدينا..، وإظهار الفرح والسرور في العيدين، وإنشاد الأشعار التي لا تخرج عن الحكمة والاعتدال والمرؤة، والتي ليس فيها كذب ولا ذم لأحد، فذلك مباح غير ممنوع، فما عدى ذلك فحرام.
 ويجوز ضربُ الدفِّ لإعلان النكاح، أو في العيد أو قدوم الغائب، مع غناء الجواري الصغيرات المباحِ المعتاد الذي ليس فيه دعوة لمحرم، ولا مدح لمحرم، في وقتٍ قصير من الليل بين النساء فقط، دون الرجال، وأن لَّا يكون بمقربة من الرجال، ولا يجوز رفع ذلك بمكبرات الصوت، وأمَّا الرجال فلا يجوز لهم ضرب الدف والزير لا في العَرضة، ولا غيرها؛ كما بينت ذلك اللجنة الدائمة للإفتاء.
ومن ذلك يا عباد الله سماع الشيلات فهو محرمة إن كانت بكلام المغنين أو على وزن ألحانهم أو بما يسمى بالمؤثرات الصوتية الشبيهة بالمعازف لأن علة التحريم واحدة فيهما، وكذلك إذا اشتملت على وصف النساء، ويشتد المنكر إن صاحبه رقص وتمايل وفخرٌ بأنساب أو أحساب أو حطام دنيا.
عباد الله ليعتبر كل منا بمن مضى من أحبابه، وليعلم أنه خلفهم ذاهب عما قريب، فالعاقل حقًّا هو من قصّر أمله، فمن طال أملُه ساء عملُه، ولا تزالُ تَنْعَى ميتًا حتى تكونَه، ومن أراد أن ينظر إلى حال الدنيا بعد رحيله فلينظر إليها الآن بعد رحيل غيره. وتذكّر من كان معك فوق الأرض بالأمس صار اليوم تحتها، ولربّما هذا التراب الذي تمشي فوقه قد كان جسدًا لمن كان يهرول في الدنيا كأنما هو من الخالدين!
ومُشَيِّدٌ دارًا ليسكن دارَهُ ... سَكَنَ القبورَ وداره لم تُسكَنِ
ولو كُشف لك ما بقي من أَجَلِك لزهدت فيما بقي من أَمِلك، والفَطِنُ الحازم هو من يعرف قدر ما أمامه ويفْقَهُ ما بين يديه، ولا ينشغلُ بالفاني على الباقي (والله خير وأبقى).
وهل تعلم أن الدنيا ستستمرُّ بكل صخبها بعد رحيلك الحزينِ عنها، سيتذكرُك أحباؤك زمنًا ثم ينسونك، سيستوي عندك الليلُ والنهار، فخذ زادك منها الآن.
إن الحياة غالية جدًّا، ولا تُبذل إلا لما هو أغلى وأحب، والوقت هو الأجزاء المقيمةُ لهذه الحياة، فلا يُجاد به إلا لما هو أنفس، فيا أخي: وقتُك هو حياتك! ألم تر أن الزمن يمضي أسرع من أن نتأمله؟! هكذا هي الأعمار، فكلها أيام باقية دونها أيام، ونستكمل رزقنا في هذه الدنيا، ثم نرحل عنها إلى ربنا.
وقِفْ قليلًا: هل أنت مستعد للرحيل، هل تعرف لماذا خُلقت، وماذا يُراد منك وبك، وكم بينك وبين الآخرة من وقت.
فعليك يا عبد الله بالمحاسبة النافعة وحراسة زاد الآخرة قبل الرحيل الأخير. وقد بكَى النَّخعي رحمه الله عندَ الموتِ وقال: أنتظرُ رَسُولَ رَبي وما أدري أيُبَشِّرُني بالجنة أو النار. وقال عبد العزيز بن أبي رواد: ‏دخلت على المغيرة بن حكيم في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: أوصني. فقال: اعمل لهذا المضجع! وشيّع الحسن جنازة فجلس على شفير القبر فقال: إن أمرًا هذا آخره لحقيق أن يُزهد في أوله، وإن أمرًا هذا أوله لحقيق أن يُخاف آخره.
 فيا صاحبي عليك بالعبادة واعلم أنها أمنيةُ الموتى، فبادر قبل أن تغادر. واعمل على أن ترحل بسلام لدار السلام بجوار السلام.
إنّ عالمك الحقيقي هو منزلتك عند الله تعالى، أما الدنيا فظلٌّ زائل، قال الحسن: يومان وليلتان لم تسمعِ الخلائقُ بمثلهن قط: ليلةٌ تبيتُ مع أهل القبور ولم تبتْ ليلةً قبلها، وليلةٌ صبيحتُها يومُ القيامة. اللهم رحمتَك التي وسعت كل شيء.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد..

السبت، 19 يناير 2019

العفاف ضرورة الزمان


العفاف ضرورة الزمان
الحمد لله...
أما بعد: فاتقوا الله عباد الرحمن، واعلموا أن العفاف تاج أخلاق المؤمنين، وشمس صفات المتقين، وقد أجمعت أمم الأرض على استحسانه، ورفعت صاحبه للمقامات العالية، ذلك أنه لا يكون إلا لشريف النفس سامي الخُلق، مأمون الجوانب الغادرة.
ولقد أثنى الله تعالى على أهله، وجلّلهم بحفظه ومعونته، ووعدهم أجزل العطايا وأكبر الهبات لأنهم تساموا بنقاء أرواحهم وحسن تدينهم عن كل ما يشوب ذلك النقاء أو يخدش جناب الإيمان.
وإنه لخُلُقٌ قلبي قبل أن يكون ظاهرًا، فالقلب العامر بمحبة الله تعالى والحياء منه وحسن الرجاء فيه وعظم الخوف منه وتمام التوكل عليه لا بد أن يثمر ذلك صحيح العفاف، فالعفاف عمل قلب لأنه حركة القلب للصلاح والمباح وكفه وسكونه عن الحرام، فهو عمل من هذه الحيثية، وهو كذلك ثمرة من ثمار أعمال القلوب الزاكية، وظهوره في الثمرة أجلى من العمل.
وحَدُّ العفاف: كف النفس عما لا ينبغي لها. وعلى قدر تحقيقه يقترب صاحبه من كماله في نفسه ورفعته عند ربه.
هذا والعفة أنواع عديدة، وجماعها الكف عن الحرام والاستيحاش منه والازورار بعيدًا عن ذرائعه. وهي منقسمه على الجوارح، وأصولها ثلاثة:
 عفة الفرج وعفة اللسان وعفة البطن، والبقية متفرعة عنها كالعفة في المال والرئاسة والمدح والتكاثر ونحو ذلك.
وإذا ضبط المرء عفته في أنواع العفة الثلاث فقد انتظمت له سائرها، وتيسرت له عواقبها، ويكون حينها قد لبس ثوب العفاف. وهي كالتالي:
 أولًا: العفة عما في أيدي الناس:
 وهي أن يعفَّ عما في أيدي الناس، سواء ببصره أو سمعه أو لسانه أو حتى فكره، وأن يقنع برزق الله له، فهو أحكم وأعلم وأرحم. قال الله تبارك وتعالى: (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) وكذلك بأن يترك مسألتهم، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يكفل لي ألا يسأل الناس شيئًا وأتكفَّل له بالجنة". فقال ثوبان: أنا. فكان لا يسأل أحدًا شيئًا. (1)
ثانيًا: كف اللسان عن الأعراض:
فيجب على المسلم كف لسانه عن أعراض الناس، وألا يقول إلا طيبًا. فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه، ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". (2) ويتبع اللسان القلم والكتابة. فالقلم هو اللسان الثاني. ويلحق به الكف عن الدماء والازورار عن تخوّضها بلا برهان شريعة. ويتبعه كذلك لحظ العين أو حركة اليد أو غيرهما بازدراء أو همز أو لمز، أو أي أذيّةٍ لأي كائن – حتى لو كان كافرًا أو بهيمة أو طيرًا - لم يأذن بها الله عز وجل.
ثالثًا: عفة الفرج عمّا حرم الله:
وهي أن يعفَّ فرجه عن المحرمات والفواحش. وقد اشتدت الحاجة في هذا الزمان للتذكير به والتنويه بشأن أهله والتحذير من تدنيسه، والله المستعان.
الفرج الحرام حفرة إلى الجحيم، وأكثر أهل النار إنما دخلوا منها ومن اللسان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تقوى الله وحسن الخلق»، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار. فقال: «الفم والفرج». (3)
ويتبع عفاف الفرج عفافُ رُسله كالسمع والبصر والكلام وغيرها. يكفي في خبث المعصية مسمّاها لأنها جرأة على مخالفة الجبار جل جلاله ونوع كفر لنعمه التي لا تعد ولا تحصى، فكيف نعصي من لا قوام لنا إلا به؟!
عباد الله: إن العفاف برهان التقوى ودليل الاستقامة، فالدنيا بأسرها امتحان صبر واختبار صدق، فمن عفّ وكفّ وصبر لله على الاستقامة فهو المؤمن حقًّا والفاضل صدقًا.
والعفاف ضرورة الزمان، لأنا نعيش زمانًا عاصفًا بكل المقاييس، فأبواب الشهوات المحرمة مشرعة على القلوب الضعيفة بلا رقيب إلا من لدن علام الغيوب!
بل قد تسلطت الشهوات على الشبهات حتى استبطنتها خفية، فصارت الشبهات سلّمًا لبلوغ حظوظ النفس الأمارة بالسوء والفحشاء، ففي الأموال ضعف وازع الخوف من الربا – على سبيل المثال – بسبب اشتباه معاملات الحلال بالحرام، وساعد على ذلك فتاوى لمتفقّهة التيسير – زعموا – الذين يسوّغون للناس أبوابًا ما كان الشيطان يحلم بها في الزمن الأول! فابتدعوا للعامة معاملات تدور هي والربا على رحى واحدة وتصدر من نبع سوء واحد، قد يقترب بعضها حتى يكون ربًا صريحًا أو يتأخر قليلًا بحسب حقيقته، لكنه لا يخرج من المشتبه المذموم. ولا يعني هذا التعميم بحال لا بأوصاف ولا بأشخاص، فثم علماء أهل فضل وورع، وثمّ معاملات أحدثها الناس لا لبس فيها ولا اشتباه، إنما القصد تنبيه النبيه.
وفي الأنكحة اخترع الشيطان للناس طرقًا قذف زخرفها في قلوب بعضهم فروّجوها حتى اشتبه السفاح الذميم بالنكاح الشريف. وحتى لو خالفه في بعض صوره وشروطه لكنه باقٍ في قبيل المشتبهات. فإذا استمرأ العبد المشتبه والمكروه سهل عليه خوض الحرام الصريح، إذ ثوب الإيمان يتقلص عن المؤمن شيئًا فشيئًا مع كثرة اختلاط المشتبهات والمكروهات في قلبه، وينقص حتى لا يطيق مدافعة الباطل ولا مجاهدة الأمّارة!
حتى في أمور السلطان جرت ببعضهم كلاليب شُبَهٍ ارتضعت لَبَانَ الشهوات، فصار دينُ بعض شهوةُ سلطانه بلسان حاله، فأشبهوا إمامية الرفض وطُرُقية الخرافة. 
وفي أمور الرئاسات وسباع الغضب وأدخنة اللهو وقتار الغفلة ما لا يكاد يُحصى تنظيرًا وتطبيقًا.
لذا، كانت قيمة العفاف عزيزة جدًّا في هذا الزمان.
إن العفيف سيد نفسه، غير مستعبد لهواه وطمعه، بل قد علّق ناصية عبادته على وفق شرع ربه، كلّما هبت على نفسه عواصف الشهوات ثبت به العفاف الراسخ في قلبه كالجبل الأشم، يسمو ببصيرته صُعُدًا في مراقي الفلاح، يتنسّم وحي ربه فيتسنّم سبيل رضوانه.
قلبه العامر بالغنى بربه كفاه عفافًا عما سواه، كان في بداية أمره يجاهد نفسه الأمارة حتى رقّاها لتكون لوّامة، فما زال بها حتى اطمأنت وسكنت وابتهجت واغتنت، وأيقنت أن الغِنى - كل الغنى - في الاستعفاف عما لا يحل؛ فكانت من المفلحين. حينها التفت بقلبه العفيف إلى ما خلّفه من حطام وبهرج ثم أشاح عنه عازمًا على لزوم ذلك المنهج، وأي منهج؟! إنه سبيل الله وصراطه ودينه ورضوانه.
يقرأ قول ربه الحاضّ على لزوم طريق العفة بكل أنواعها في البطن والفرج والمال والجوارح وهو يرى تكرار الأمر به في الشريعة: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون) فغض البصر يسبقه غض القلب عن خطرات الحرام ويثمر منه حفظ الفرج وصيانته.
 وقال سبحانه آمرًا أمرًا حاسمًا جازمًا قاطعًا لكل تسويل باطل وتسويغ ذريعته: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) فعليهم العفاف ومن الله لهم الغنى. والفقر ليس بعذر في الخطيئة: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) وقد تكفّل الله تعالى لأهل العفاف بالغنى والمعونة، فقد بشرنا صلى الله عليه وسلم بوعد الله تعالى للمتعففين، وهو الوعد الذي أحقّه على نفسه كرمًا وامتنانًا وهو لا يخلف الميعاد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف». (4)
ويتذكّرُ الصدّيقَ الذي رمى كل شهوة الدنيا خلف ظهره صارخًا في وجه الهوى: (معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون) فعافاه مولاه: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) حفظه ربه بالعفاف لإخلاصه ونقائه وصدق توحيده فصرف حفرة الغفلة عنه عليه السلام.
لقد كانت العفة محورًا من محاور دعوة النبي العفيف الكريم صلوات ربي وسلامه وبركاته عليه، فلقد كان العفاف حاضرًا في حياته يفعله قبل قوله، فقد كان العفيف الكامل في زمنٍ لم يكن يُستنكر فيه طمع الهوى الظلوم، فقد كان هو الصادق الأمين، والأمين هو المستأمَن على كل ما يخشى عليه تلف الاستطالة من دم أو عرض أو مال.
لقد كان العفاف من الأصول الأولى للإسلام، فقد كان الأمر به واضحًا صريحًا من البداية، فقد ذكره أبو سفيان رضي الله عنه لهرقل حينما سأله عن أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما في شأن كلام هرقل لأبي سفيان ومن معه من رجالات قريش، وفيه: "ويأمرنا بالصلاة، والصدقة، والعفاف.." (5)
والعفيف غني بقناعته وطيب نفسه وانشراح صدره، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفّة في طعمة». (6)
لقد كان العفيف الأكبر صلوات الله وسلامه وبركاته عليه يعلي قيمة العفة ويُثنى على الناس بها، إذْ كان العفاف من معايير الإيمان لديه.
وتأمل حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه في أوصاف أهل الجنة وأهل النار وكيف كان العفاف ظاهرًا جليًّا معتبرًا ويكأنه الميزان لغيره من الخصال، فحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا". وقال: "وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق. ورجل رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم. وعفيفٌ ذو عيال". (7)
وحتى عند أعنف أمر وهو القتل فعفاف المؤمن حاضر هنالك، فلا يتعدى ولا يمثّل فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعفّ الناس قتلة: أهلُ الإيمان». (8)
ومن أدعيته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه لربه تعالى: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى". (9)
والعفيف موعود على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بالجنة، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة». (10)
واعلم أن من أعظم أسباب العفاف صدق الدعاء والثقة بالعطاء وحسن الظن بمن هو أرحم بنا من أنفسنا، والعطاء أحب إليه من المنع، ويفرح إن دُعي وسُئل واستُعين واستُغيث واستُنصِر واستُغنِي.
وأكرِم بهذه البشارة النبوية للمتعففين فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عُرض عليّ أولُ ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد وعفيف متعفف وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه». (11)
فتأمل كيف وصفه بالعفاف والتعفف، ذلك أن النفس مهما كانت سامية عن الدنايا فإنه لا يزال يعرض لها ما يكاد يصرفها عن استقامتها، فكان العبد في حاجة دائمة للمجاهدة بالتعفف، وفيه معنى استمرارية المجاهدة بالتعفف.
إن العفاف خلق يسموا بالنفس جدًّا ويرفعها وينزهها عن الإهانة والمذلة حتى مع ضيق ذات اليد، ولا بد للعفيف من قناعة تبرد لواعج حاجته وتشبع نهمة فاقته.
ولله أبي الحسن النعيمي إذ يقول:
إِذَا أَظْمَأَتْكَ أَكُفُّ الِّلئام ... كَفَتْكَ القَنَاعَةُ شِبْعاً وَرِيَّا
فَكُنْ رَجُلاً رِجْلُهُ فِي الثَّرَى ... وَهَامَةُ هِمَّتِهِ فِي الثُّرَيَّا
أَبِيّاً لِنَائِلِ ذِي ثَرْوَةٍ ... تَرَاهُ بِمَا فِي يَدَيْهِ أَبِيَّا
فَإِنَّ إِرَاقَةَ مَاءِ الحَيَاة ... دُوْنَ إِرَاقَةِ مَاءِ المُحَيَّا (12)
هذا ويتأكد العفاف جدًّا – بمعناه العام -  في أزمنة المجاعات أو الفتن التي يختلط فيها الحق بالباطل ويستطيل البشر في الدماء والأموال والأعراض، وهو حديث عزيز جدًّا حريّ بنشره وإشهاره، ففعن أبي ذر رضي الله عنه قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وأردفني خلفه وقال: «يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، كيف تصنع؟" قال: الله ورسوله أعلم. قال: «تعفّف».
قال: "يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد - يعني القبر- كيف تصنع؟». قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «اصبر».
قال: «يا أباذر، أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضًا حتى تغرق حجارة الزيت (13) كيف تصنع؟». قال: الله ورسوله أعلم. قال: «اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك». قال: فإن لم أُتْرَك؟ قال: «فائت من أنت منهم (14) فكن فيهم». قال: فآخذ سلاحي؟ قال: «إذًا تشاركهم فيما هم فيه! ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف (15) فألقِ طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك». (16) إذن فمن العفاف ما يكون في الدماء، وهو أعظم العفاف، والله المستعان.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
........................
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه..
أيها المؤمن: هاتِكَ لفتةً عظيمة جميلة في شأن العفاف وهي أن المرء في سيره لإعفاف نفسه ومن يعول فهو مكتوب من أهل سبيل الله، فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنه قال: مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جَلَدِه ونشاطه. فقالوا: يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل الله؟ (17) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كان خرج يسعى على ولده (18) صغارًا (19) فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان (20)». (21)
هذا والعفاف الخالص لله عز وجل من أكبر أسباب كشف الكربات بإذن الله تعالى، وتأمل حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار. وفيه: "فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، ففرج الله عنهم فخرجوا". (22)
هذا وعفيف البطن موعود بالفلاح، ولفظ الفلاح هو أشمل لفظٍ لخيري الدنيا والآخرة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنّعه الله بما آتاه». (23)
فسِرُّ العفاف إذن هو القناعة!
وقال الحسن البصري: "لا يزال الرجل كريمًا على الناس حتى يطمع في دينارهم، فإذا فعل ذلك استخفوا به، وكرهوا حديثه وأبغضوه". قلت: تصديق ذلك في حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس". (24)
ذلك أن المال عزيز بأيدي أصحابه ولا يهون عليهم أخذه من أيديهم، بل إنهم ليصولون دونه صيال السباع الضواري (وتحبون المال حبًّا جما) فكما أنه يهمّهم ويسوقهم تحصيله فكذلك يؤرقهم ويروقهم حفظه، فالشّح مغروز في نفوس البشر، فمن أراد مزاحمتهم عليه قَلوه وأبغضوه إلا من سخت نفسه منهم لأمر خارج عن ذلك كزهد أو غياث أو تحبّب أو صدقة ونحو تلك الرغائب. فأقل الناس أهل القناعة، وأقل قليلهم أهل الزهادة!
واعلم أن فتنة النساء أشد من فتنة المال عند بعضهم، والعكس صحيح لدى آخرين، وكل امرئ قد ركّب فيه ضعف وميل بحكم بشريّته فيستحكم في جهة دون الأخرى، وقد حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من الفتنتين فقال في شأن النساء: «ما تركت بعدي فتنة هي أضرّ على الرجال من النساء». (25) وقال في فتنة شأن المال: «لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال». (26) فلدى بعض الناس ميل غريزي للنساء أكثر بكثير من ميله لجمع المال، ولدى آخرين طمع وجشع وشح وهلع للمال مع زهده في أمر النساء، والشيطان يشمّ قلب عدوه وابن عدوه آدم فحيثما وجد ضعفًا ولج منه، سواء من هذين البابين أو من سواهما كحب الرئاسة أو محبة الظلم أو غير لك.
وقد جمعهما حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوة خَضِرة (27) وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون، فاتقوا فتنة الدنيا وفتنة النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل في النساء». (28) ففتنة المال من أوّليات فتنة الدنيا للعالمين.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
.....................................
1.    أبو داود (1643) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1643)
2.    البخاري (10)
3.    أحمد (2/ 472، 2/ 291) قال محقق جامع الأصول (11/ 694): رواه ابن حبان في صحيحه، وهو حديث صحيح بشواهده. وابن ماجه (4246)
4.    أحمد (7416) والترمذي وحسّنه (1655) وجوّد إسناده ابن باز في حاشية بلوغ المرام (765)
5.    البخاري، الفتح 6 (2941) واللفظ له. ومسلم (1773)
6.    أحمد (2/ 177) (6661) واللفظ له وقال الشيخ أحمد شاكر (10/ 139): إسناده صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 301) (886)
7.    مسلم (2865)
8.    أبو داود (2666) واللفظ له. وأحمد (1/ 393) (3727) وقال شاكر: إسناده صحيح (5/ 275)
9.    مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه (2721)
10.البخاري (6474)
11.الترمذي (1642) وقال: حديث حسن واللفظ له. أحمد (2/ 425) وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده حسن (18/ 137)
12.سير أعلام النبلاء (17 / 447)
13.حجارة الزيت: موضع بالمدينة في الحرة سمى بها لسواد الحجارة ولمعانها حتى كأنما طلبت بالزيت، والمراد: أن الدم يعلو حجارة الزيت ويسترها لكثرة القتلى. وهذه إشارة إلى وقعة الحرة التي كانت زمن يزيد من الدماء.
14.أي: أهلك وعشيرتك ممن كان على عفافك وورعك.
15.أي: إن غلب ضوء السيف وبريقه عينك ونفسك وخشيت أن تقاتل فغطّ وجهك حتى يقتلك فتكون ابن آدم المقتول لا القاتل. وهذا خاص في أزمنة الفتن أما في غيرها فالمدافعة هي السنة لما رواه مسلم 1/87 (140) (225) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه مالك" قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله" قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد" قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: "هو في النار".
16.أبو داود (4261) وصححه الألباني (3/ 803) وابن ماجه (3958) والحاكم (4/ 424) وأحمد (5/ 149، 163) واللفظ له.
17.قالوا هذا لمحبتهم الجهاد في سبيل الله وضنّهم بأشداء الرجال إلا يتوانوا عن تلك المواقف التي يُعزّوا بها دين الله، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم بلطفه المعهود إلى أن فضل الله واسع وأن سبيله يشمل من كان ساعيًا في شأن عفافه وعفاف عياله.
18.الولد يشمل الذكر والأنثى، وفي التنزيل: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين).
19.يتبع الصغار من كان في حكمهم لمرضه أو إعاقته ونحو ذلك، وخصهم بالذكر إخراجًا للأقوياء من الأولاد حتى لا يتواكلوا ويكونوا عالة يقتاتون على جهد غيرهم وقد أغناهم الله بالقوة.
20.فالاعتبار أنما هو بالنيات.
21.رواه الطبراني في الكبير (19/ 129) وقال المنذري في الترغيب والترهيب: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (3/ 63)
22.البخاري (3465)
23.مسلم (1054)
24.أخرجه ابن ماجه ( 4102 ) والحاكم ( 4/313 ) وحسنه النووي في الرياض.
25.متفق عليه.
26.الترمذي ( 2336 ) وقال: حديث حسن صحيح غريب.
27.خَضِرَة: غضَّة ناعِمَة طريَّة نضِرة كالثمرة الطيبة.
28.مسلم ( 7124 )


الأربعاء، 16 يناير 2019

دروس من صلح الحديبية


دروس من صلح الحديبية
منقولة بتصرف
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون: قال الله تعالى في محكم آياته: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)
وقال تعالى: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح: 27].
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما: "عن أَبي وَائِلٍ قَالَ كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ نَرَى قِتَالاً لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ فَقَالَ: «بَلَى». فَقَالَ أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ قَالَ «بَلَى». قَالَ فَعَلَى مَا نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. فَقَالَ «ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا» فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا. فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا. فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: «نَعَمْ».
إخوة الإسلام: في العام السادس للهجرة أراد الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- العمرة مع أصحابه، وذلك عندما رأى رؤيا أنه سيدخل مكةَ، ويطوف حول البيت، ويعتمر، فقصَّ الرؤيا على أصحابه فاستبشروا خيرًا، وجهَّزوا أنفسهم للإقبال على بيت الله؛ فقد طالت فترةُ البُعد، وزاد الاشتياقُ.
وقد وصلت الأخبار بمقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى مكة، فأبت قريشٌ أن تسمح للنبيِّ وأصحابه بأداء العمرة، وهذا الفعل يُعَدُّ جريمة كبرى في عُرْف العرب؛ إذ كيف يُصَدُّ عن البيت الحرام من جاء معظِّمًا له؟!
وحدثت مناوشاتٌ كلامية، بل وصل الأمر إلى الالتحام بالمسلمين والتحرش بهم من قِبَل عصابة من قريش، فقُبِض عليهم، وأرسلت قريش الرسلَ إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى تم الاتفاقُ على معاهدة، عُرِفت في التاريخ بـ"صلح الحديبية".
ونص الصلحُ على أن تضع الحربُ أوزارَها عشر سنين، يأمن فيها الناسُ، ويكفُّ بعضُهم عن بعض، على أنه من أتى محمدًا من قريشٍ بغير إذن وليِّه ردَّه عليهم، ومن جاء قريشًا ممَّن مع محمدٍ لم يردُّوه عليه، وأنه مَن أحَب أن يدخل في عقد محمدٍ وعهده دخَل فيه، ومن أحَبَّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأنك ترجع عنَّا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك، فدخلتَها بأصحابك فأقمتَ فيها ثلاثًا، وأصاب الصحابةَ مِن توقيع هذا الصلح همٌّ وغمٌّ، وظنوا أنهم قد بُخِسوا حقَّهم.
وتعاظم الأمرُ في نفوس الصحابة، ورأوا أن ذلك رضا بالدُّون إلى حدِّ أنهم عندما أمرَهم -صلى الله عليه وسلم- بأن ينحَروا ويحلِقوا ويتحللوا، لم يُجِبْه أحدٌ إلى ذلك، ففي صحيح البخاري قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ «قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا». قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا".
أيها المسلمون: وإن حادثةَ صلح الحديبية فيها من الدروس والعِبَر ما يعجِزُ مداد الحبر عن إحصائه، ولكن نقف على بعض الدروس لنستلهم منها العبر، فمن الدروس والعبر:
وجوبُ طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- والانقياد والتسليم لأمره، ففيه خيري الدنيا والآخرة، فعمرُ -رضي الله عنه- وبعض الصحابة كرهوا هذا الصلح، ورأوا في شروطه الظلم والإجحاف بالمسلمين، لكنهم ندموا على ذلك، وظلت تلك الحادثة درسًا لهم فيما استقبلوا من حياتهم، فكان سهل بن حنيف -رضي الله عنه- يقول: "اتهموا رأيكم، رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرددته"
وقال عمر: "فما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت، مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ".
وفي هذا الصلح المبارك ظهرت أهمية الشورى، ومكانة المرأة في الإسلام، وأهمية القدوة العملية في موقف واحد.
ومن الفوائد المهمة من صلح الحديبية أن المشركين وأهل الفجور، إذا طلبوا أمراً يعظِّمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى، أُجيبوا إليه وأُعطوه وأُعينوا عليه، فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، قال الزهري: وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم- كما في البخاري: قَالَ: "وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا».
وظهر في صلح الحديبية مدى حب الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، يعبر عن ذلك عروة في قوله لقومه كما في البخاري: "فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ، يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- مُحَمَّدًا".
ومن الحكم الباهرة من صلح الحديبية أنه كان بابا ومفتاحا لفتح مكة. بل كان فتحا للقلوب قبلها لذا فهو فتح من الله تعالى للإسلام، فقد اختلط المسلمون بالكفار – بعد عقد الصلح – وهم في أمان، ودعوهم إلى الله، وأسمعوهم القرآن، ولم يُكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ودخل في سنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك بل أكثر.. فقد خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج عام فتح مكة بعد عامين في عشرة آلاف، وهذا ما بشر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أثناء رجوعه إلى المدينة بعد عقد المعاهدة والصلح، حينما قال: فَقَالَ «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَىَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِىَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» ثُمَّ قَرَأَ (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)[الفتح:1] (صحيح البخاري). قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية".
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون: ولقد كان في الغزوةِ من الآياتِ الباهراتِ ومنها: أن الصحابةَ -رضي الله عنهم- اشتكَوْا إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قلةَ الماءِ، وكان بين يدي النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إناءٌ صغيرٌ، يتوضأُ منه، فوضع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يدَه في الإناءِ، فجعل الماءُ يفورُ من بينِ أصابعِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- كأمثالِ العيونِ، فشرِبَ الصحابةُ رضي الله عنهم وتوضؤوا.
ومن الفوائدِ: تمامُ الانقيادِ لله ورسولِه، وهذا من أعظمِ دروسِ هذه الواقعةِ، فينبغي للمؤمنِ أن يسلِّم للهِ ورسولِه -صلى الله عليه وسلم-، كما قال اللهُ تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَ-دْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)
أيها المسلمون: وكان صلح الحديبية فتحًا مبينًا كما بيَّن ربنا – تعالى -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) وتحققت نتائج صلح الحديبية التي كانت في صالح المؤمنين، والتي من أهمها:
اعتراف قريش في هذه المعاهدة بكيان الدولة المسلمة؛ فالمعاهدة دائمًا لا تكون إلا بين نِدَّين.
ومنها: أعطت الهدنة فرصةً لنشر الإسلام، وتعريف الناس به؛ ممَّا أدى إلى دخول كثيرٍ من القبائل فيه بل حتى من قريش.
ومنها: أمِن المسلمون جانب قريش، فحولوا ثقلهم إلى اليهود ومَن كان يناوئهم من القبائل الأخرى، فكانت غزوةُ خيبرَ بعد صُلح الحديبية.
ومنها: أن مفاوضات الصلح جعَلت حلفاء قريش يفقهون موقف المسلمين ويميلون إليه، فهذا الحليس بن علقمة عندما رأى المسلمين يُلَبُّون رجَع إلى أصحابه قال: "لقد رأيت البُدْنَ قد قُلِّدت وأُشعرت، فما أرى أن يُصَدوا عن البيت".
مكَّن صلحُ الحديبية النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- من تجهيز غزوة مؤتة، فكانت خطوةً جديدة لنقل الدعوة الإسلامية بأسلوب آخر خارج الجزيرة العربية.
ولقد كان صلحُ الحديبية سببًا ومقدمة لفتح مكة: يقول ابن القيم: كانت الهدنةُ مقدِّمةً بين يدي الفتح الأعظم، الذي أعز اللهُ به رسوله وجندَه، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، فكانت هذه الهدنة بابًا له ومفتاحًا ومؤذنًا بين يديه، وهذه عادة الله في الأمور العظام التي يقضيها قدرًا وشرعًا أن يوطِّئَ لها بين يديها بمقدِّمات تؤذنُ لها وتدل عليها.
ومن الدروس العزيزة درس الوفاء، فالْزَمْ جَبَلَ الوفاء، فهو الصفة التي تهش لها جميع الأفئدة على اختلاف المشارب، والوفاء مرآة صادقة على جمال باطن الوفي، وما أعز الأوفياء.
والمؤمن لا يكاد يملك دمع عينيه حين يطالع خبر إمام الأوفياء صلوات الله وبركاته عليه حين وَفَى للناقة في الحديبية جميلها، ولم يرض أن تُذمّ بما ليس فيها، فإنّها لما برَكَت به قال الناس: حَلْ حل، فَأَلَحَّتْ، فقالوا: خلأتِ القصواءُ، خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأتِ القصواءُ، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابسُ الفيل". هنا الوفاء النادر منه ﷺ للصاحب حتى وإن كانت بهيمة عجماء، فكيف بمؤمن كريم؟!  وفي فتح مكة أخذ مفتاح الكعبة ونادى: "أين عثمانَ بنَ طلحة؟" فدُعي له فقال: "هاك مفتاحُك يا عثمان، اليومُ يومُ بِرٍّ ووفاءٍ". وكل أيامه بِرٌّ ووفاء صلى الله عليه وسلم، لكن قالها تأكيدًا على تعظيم حرمَة البيت الحرام. فصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه ما سَجَتِ الغواسقُ وهَمَتِ الغَوادِقُ ودامت الخلائقُ وعددَ أنفاسِ أهلِ الجنة.