الاستعداد ليوم الرحيل
(منقولة)
الحمد لله قاهرِ المتجبرين وناصرِ المستضعفين
وقيومِ السماوات والأرضين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين،
ذلَّ لكبريائه جبابرةُ السلاطين وبطلَ أمام قدرته كيد الكائدين قضى قضاءه كما شاءه
على الخاطئين وسبق اختياره من اختاره من العالمين فهؤلاء أهل الشمال وهؤلاء أهل اليمين
ولولا ذلك ما امتلأت النار من المجرمين ولو
شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [السجدة:13]. تلك حكمته سبحانه وهو حكم الحاكين
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله العبد الصادق الوعد الأمين صلى الله عليه وسلم وصحبه الغر
الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون اعلموا أن الدنيا ليست بدار
بقاء ولا خلود، وإنما أنتم عما قليل منها تظعنون، وما هي إلا أيام وعنها ترحلون، ثم
أنتم بين يدي ربكم تحاسبون، فماذا أنتم يومئذ قائلون إذا أبدت لكم الصحف العيوب، وشهد
عليكم السمع والأبصار والجلود.
( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما
فيه ويقولون يا ويلتنا مال لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا
ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [الكهف:49]. (ويوم
يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى
إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله
الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون [فصلت:19-21].
فيا ويح ابن آدم يستخفي من الناس بالمعصية،
ويغفل عن جلده وسمعه وبصره لا يستترُ منها، ينسى أنها ستشهد عليه ( وما كنتم تستترون
أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما
تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم
فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى
لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين) .
فيا ويل الغافلين ويا ويح المفرطين، فالعجب
كلُّ العجب ممن يخشى من رقابة البشر المربوبون ولا يخشى من رقابة الحيِّ القيوم الذي
لا تأخذه سنة ولا نوم ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما
لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا)
فالحمد لله الذي وسع سمعُه الأصواتَ كلَّها،
ووسع بصرُه الموجودات جميعَها، ووسع علمُه الأشياء كلها دِقها وجِلها (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء
علما ).
تزودوا ليوم المعاد ولا تلهكم دارُ الغرور
والهوان فتنسيكُم ما كتبه الله على أهلها من الفناء ..( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون
أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع
الغرور ).. فأعدوا ليوم الدين عدته، ومن أراد الفوز والنجاة فليعمل حتى تأتيه بُغيَتَه،
فإن المولى جل وعلا أبى أن يكون الفوزُ إلا لأهل التقوى، فوعدَهم ووعدُه الحق بقوله:
( ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا
[مريم:72]. وقال عز وجل: ( إن للمتقين مفازا [النبأ:31]. وقال سبحانه: ( ومن يطع الله ورسوله
ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [النور:52].
ومن التقوى أن يستعد العبد ليوم البعث والنشور
فالتقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.
ألَا إن أهل معصية الله إنما عصوه وخالفوه
لقلة يقينهم بلقائه ووغفلتهم عن تذكر وقوفهم بين يديه (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم
يوم يقوم الناس لرب العالمين [المطففين:4-6].
فيقومون في رشْحهم وعرقهم وهولهم ورعبهم وغمهم وكربهم وبؤسهم ونكدهم خمسين ألف سنة
في انتظار فصل القضاء وللقَصاصِ بينهم في محكمة الله العادلة، لا يخاف فيها المؤمنُ
ظلما ولا هضما (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال
حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [الأنبياء:47]. فالعاقل من دان نفسه وحاسبها
وعمل لذلك اليوم (يا أيها الذين آمنوا اتقوا
الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [الحشر:18]. (وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين [النمل:74-75].
فهل أصلحت قلبك استعدادا للقاء الله (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء:88-89]. هل طهرت قلبك من الشك والرياء
. هل طهرته من الظنون ومن التعلق بغير الله أو التوكل على غير الله. هل طهرته من خوف
ما سوى الله. هل طهرته من كل محبة سوى محبة الله والحبِّ في الله. هل طهرته من أمراض
الحقد والحسد والغل لإخوانك المسلمين ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا
ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف
رحيم [الحشر:10]. فأصحاب الجنة هم أصحاب القلوب
السليمة الهينون اللينون، وقد أتاكم من مقال نبيكم صلى الله عليه وسلم قوله: ((يدخل
الجنة أناس أفئدتهم كأفئدة الطير)) رواه مسلم، وقال يزيد بن أسد: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ((أتحب الجنة؟)) قلت: نعم قال: ((فأحب لأخيك ما تحبه لنفسك))رواه
أحمد، فكونوا من أهل الإيمان الصادقين الذين سلمت قلوبهم لله وسلمت قلوبهم لإخوانهم
المؤمنين فيحبون لهم ما يحبون لأنفسهم، ويظنون بهم الخير ولا يظنون بهم السوء.
فكونوا أيها المسلمون من أهل القلوب السليمة،
قابلوا الإساءة بالإحسان، والخطيئةَ بالغفران، والغلظةَ بالرفق، والجهل بالحلم، والعبوس
بالابتسامة ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه
عداوة كأنه ولي حميم [فصلت:34]. وليس ذلك ضعفا
وليس ذلك نفاقا أو كذبا وإنما هي منزلة عظيمة لا يقوى عليها إلا الأفذاذُ الصابرون
أصحابُ النفوسِ العالية الصابرة (وما يلقاها
إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم
[فصلت:35
واحرسوا ألسُنَكم فلا تقولوا إلا خيرا
( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان
ينزغ بينهم [الإسراء:53]. (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء [المائدة:91]. والشيطان قد آيس أن يعبده المصلون
ولكن في التحريش بينهم، فانتبهوا عباد الله وأصلحوا قلوبكم، فلن تعبد الله بمثل
صلاح قلبك، فصلاح القلب هو أول عمل تستعدون به لمفارقة هذه الدار، فانظر ماهو أصلح
لقلبك فافعله قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله
وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) رواه البخلري
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
...............
الخطبة الثانية
أما بعد:
فمن الاستعداد ليوم الرحيل بعدَ إصلاح القلب
إصلاحُ اللسان (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما
توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد
إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:16-18]. وإن الرجل ليتكلم الكلمة لا يلقي لها
بالا يزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا
حصائدُ ألسنتهم.
فمن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، ومن تكلم
فيما لا يعنيه حُرم الصدق، ومِن أكثرُ الناس ذنوبا يوم القيامة أكثرهم كلاما فيما لا
يعنيهم، قال الحسن رحمه الله: من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما
لا يعنيه خذلانا من الله عز وجل.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله إن شرائع الإيمان قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به قال: ((لا يزال لسانك
رطبا بذكر الله تعالى))رواه أحمد بسند صحيح. ففي ذكر الله شغل لك يكفيك عن الكلام فيما لا ينفعك،
ويكفيك عن الغيبة والنميمة ومن الفحش والسباب واللغو والكذب ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون [المؤمنون:1-5]. فمصدر الخطر العظيم على الإنسان
فرجُه ولسانه، فهما أكثر ما يدخلُ الناسَ النار.
فغض عن المحارم منك طرفا طموحًـا يفتن الرجل الأريبا
فخائنة العيون كأسـد غـاب إذا مـا
أهملت وثبت وثوبـا ومن يغضض
فضول الطرف عنها يجد في قلبه روحا وطيبا
عباد الرحمن: واعلموا أنه لا بد من إصلاح البطن وعفافِه عن أي لقمة حرام،
ولا يتم ذلك إلا بالأكل من الطيبات وتطهير المال من الحرام والشبهات، ولا تكن ذاك الذي
يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام ومأكله حرام وغذي بالحرام
فأنى يستجاب لذلك.
اعلم رحمك الله أن الدنيا لا تستحق من الاهتمام
ذلك القدرَ الذي يوقع في المعاصي والمحرمات. بل هي كما وصفها الإمام الشافعي رحمه
الله:
وما هـي إلا جيفة مستحيلـة عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها
فازهد في الدنيا يحبُّك الله وازهد فيما
عند الناس يحبُّك الناس، وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعُدَّ نفسك من أهل
القبور، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك
ومن حياتك لموتك. فإن لكم أيها المسلمون بيوتًا تتوجهون إليها غيرَ هذه الدار، فاعبروها
ولا تعمروها. (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار [غافر:39]. فمن ذا الذي يبني على موج البحر دارا،
تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا، فإن الدنيا قد ارتحلت مدبرةً وإن الآخرة قد ارتحلت
مقبلة، ولكل منها بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم
عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل.
ولا تنسوا أن الدنيا حرامها عقاب وحلالها
حساب، فاحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير
الزاد التقوى. فالعجب كلُّ العجب ممن الدنيا مولّيةٌ عنه والآخرة مقبلة عليه يشتغل
بالمدبرة ويعرض عن المقبلة. فوالذي نفسي بيده إن أحدكم لا يدري لعله أن يبيتَ في أهل
الدنيا ويصبحُ في أهل الآخرة فكم من مستقبل ليوم لا يستكمله وكم من مؤمل لغد لا يدركه.
فلا يدعوك ما انت فيه من زهرة الدنيا وزينتها
إلى الابتهاج بها والغفلة عما بعدها ( وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في
الآخرة إلا متاع [الرعد:26].
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ
علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو
عصمة امرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا
واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر ربنا آتنا في الدنيا
حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق