إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (1) (العلم بالله)

 

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (1) (العلم بالله)

الحمد لله المحمود على كل أسمائه وصفاته وقَدَره وأفعاله كما ينبغي له، والشكر له على الدوام على آلاءٍ لا نحصيها ولا نطيق شكرها، فله الحمد والشكر ابتداءً وانتهاءً، وصلى الله وسلم وبارك على خير البرية نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان ما تحرّك في الكون من خلقٍ، وما سَكَنَ ساكنٌ، أما بعد:

 فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن شأن الافتقار إلى الله عظيم، فهو سحابة الغيث، وينبوع الإمداد، ومستمنَحُ الفوائد، ومستَدفَعُ الشرور، والموُفّقُ من وفّقه الله لطرق بابه، والولوجِ لرحابه. وعلى قدر اعتراف العبد بفقره لربه وحاجته وضرورته إليه يكون فرَجُهُ وفتحُ بابِ رزقِه وغناه، فلا بد من الاعتراف والإقرار بالضرورة التامة للخلاق العليم والرحيم الكريم. وإن أمرًا هذا شأنه وفضله ومكانته وعظمته لحقيق بنفيس العناية ووفير الهمّة وشديد الاجتهاد. وبحمد الله فقد يسر الله للخير سبله وهيأ طرائقه، فمن ذلك:

 العلم بكمال الربوبية والألوهية لله دون سواه.

قال تقي الدين رحمه الله: «فليس لشيء وجود من نفسه، وإنما وجوده من ربه، والأشياء باعتبار أنفسها لا تستحق سوى العدم، وإنما حصل لها الوجود من خالقها وبارئها فهي دائمة الافتقار إليه، لا تستغني عنه لحظة لا في الدنيا ولا في الآخرة»([1]).

فالافتقار شعور والشعور لا بد أن يسبقه العلم، ولا علم إلا ما جاء به الرسول ﷺ. فإذا كان العلم صحيحًا كان الشعور حقًّا، وعلى قدر العلم والشعور تتحرك الإرادة ويزكو الإيمان وتثمر شجرة الإحسان.

وطريقة تحصيل الافتقار المحمود هنا: أن يشهد المؤمن بقلبه أن الله وحده هو الغني المطلق وكل ما سواه فقير محتاج إليه.

فلله سبحانه كمال صفات الجلال والجمال، فله الكمال المطلق بكل وجه من الوجوه، وله الغنى التام، فهو الغني لا منتهى لغناه، الملك لا حدود لملكه وسلطانه، الحميد في كل صفاته وأفعاله، الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام، الصمد الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها اضطرارًا لفضله وجوده وإحسانه.

قال ابن القيم: «قال الله سبحانه: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) [فاطر: ١٥] فبين سبحانه في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم، كما أن كونه غنيًّا حميدًا فغناه ذاتي له، وحمده ثابت له لذاته لا لأمر أوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأمر أوجبه. فالفقير بذاته محتاج إلى الغني بذاته.

والمقصود أنه سبحانه أخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأنها فقيرة إليه سبحانه، كما أخبر عن ذاته المقدسة وحقيقته أنه غني حميد. فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هي، والغنى المطلق من كل وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي([2])، فيستحيل أن يكون العبد إلا فقيرًا، ويستحيل أن يكون الرب سبحانه إلا غنيًّا، كما أنه يستحيل أن يكون العبدُ إلا عبدًا والربُّ إلا ربًّا.

إذا عرف هذا فالفقر فقران:

فقر اضطراري: وهو فقر عام لا خروج لبرِّ ولا فاجر عنه، وهذا الفقر لا يقتضي مدحًا ولا ذمًّا ولا ثوابًا ولا عقابًا، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا ومصنوعًا.

والفقر الثاني: فقر اختياري، هو نتيجة عِلْمين شريفين:

أحدهما: معرفة العبد بربه، والثاني معرفته بنفسه. فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجتا فقرًا هو عين غناه وعنوان فلاحه وسعادته.

وتفاوت الناس في هذا الفقر([3]) بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين، فمن عرف ربه بالغنى المطلق؛ عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة؛ عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعزّ التام؛ عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة؛ عرف نفسه بالجهل.

فالله سبحانه أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئًا، ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئًا، ولا يقدر على عطاء ولا منع ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة، فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كماله أمرًا مشهودًا محسوسًا لكل أحد. ومعلوم أن هذا له من لوازم ذاته، وما بالذات دائم بدوامها.

وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبدًا فقيرًا بذاته إلى بارئه وفاطره، فلما أسبغ عليه نعمته، وأفاض عليه رحمته، وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرًا وباطنًا، وخلع عليه ملابس إنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلّمه وأقدره وصرفه وحرّكه، ومكّنه من استخدام بني جنسه، وسخّر له الخيل والإبل، وسلّطه على دواب الماء، واستنزال الطير من الهواء، وقهر الوحوش العادية، وحفر الأنهار، وغرس الأشجار، وشق الأرض، وتعلية البناء، والتحيّل على مصالحه، والتحرز والتحفظ مما يؤذيه؛ ظن المسكين أن له نصيبًا من الملك، وادّعى لنفسه ملكًا مع الله سبحانه، ورأى نفسَه بغير تلك العين الأولى، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة، حتى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج، بل كأن ذلك شخصًا آخر غيره، كما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بُسْر بن جِحَاش القرشي أن رسول الله ﷺ بصق يومًا في كفّه فوضع عليها إصبعه ثم قال: «قال الله تعالى: يا ابن آدم، أَنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتُك وعدلتُك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد([4])، فجمعتَ ومنعتَ، حتى إذا بلغت التراقي قلتَ: أتصدّقُ، وأنّى أوان الصدقة»([5]).

ومن ههنا خُذل مَن خُذل، ووُفّق من وفّق، فحُجب المخذول عن حقيقته، ونسي نفسه، فنسي فقره وحاجته وضرورته إلى ربه، فطغى وعتا، فحقّت عليه الشقوة، قال تعالى: (كلا إن الأنسان ليطغى أن رءاه استغنى) وقال: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) [الليل: ٥ - ١٠].

فأكمل الخلق أكملهم عبودية، وأعظمهم شهودًا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ولهذا كان من دعائه ﷺ: «أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك»([6]).

وكان يدعو: «يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك»([7]) يعلم أن قلبه بيد الرحمن عز وجل، لا يملك منه شيئًا، وأن الله سبحانه يصرفه كما يشاء، كيف وهو يتلو قوله تعالى: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) [الإسراء: ٧٤] فضرورته إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به وحسب قربه منه ومنزلته عنده.

وهذا أمر إنما لمن بعده منه ما يرشح من ظاهر الوعاء، ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة، وأعظمهم عنده جاهًا، وأرفعهم عنده منزلة؛ لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربه.

وكان يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبدالله ورسوله»([8]).

وذكره الله سبحانه بسِمة العبودية في أشرف مقاماته: مقام الإسراء، ومقام الدعوة، ومقام التحدي. فقال: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) وقال: (وأنه لما قام عبدالله يدعوه) وقال: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا)  [البقرة: ٢٣] وفي حديث الشفاعة: إن المسيح يقول لهم: «اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»([9]) فنال ذلك المقام بكمال عبوديته لله، وبكمال مغفرة الله له.

فتأمل قوله تعالى في الآية: (أنتم الفقراء إلى الله) [فاطر: ١٥] باسم الله دون اسم الربوبية؛ ليؤذن بنوعي الفقر، فإنه كما تقدم نوعان: فقر إلى ربوبيته، وهو فقر المخلوقات بأسرها، وفقر إلى ألوهيته، وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين، وهذا هو الفقر النافع، والذي يشير إليه القوم ويتكلمون عليه ويشيرون إليه هو الفقر الخاص لا العام. وقد اختلفت عباراتهم عنه ووصفهم له وكل أخبر عنه بقدر ذوقه وقدرته على التعبير.

بارك الله لي ولكم....

.................

الخطبة الثانية

الحمد لله...

عباد الرحمن: إن العبد مملوك ممتحن في صورة ملك متصرف، كما قال تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) [يونس: ١٤] ومن ادعى لنفسه حالةً مع الله سبحانه وُكِل إليها، ومن وُكِل إلى شيء غير الله فقد فتح له باب الهلاك والعطب، وأغلق عنه باب الفوز والسعادة، فإن كل شيء ما سوى الله باطل، ومن وكل إلى الباطل بطل عمله وضل سعيه ولم يحصل إلا على الحرمان، فكل من تعلق بغير الله انقطع به أحوج ما كان إليه، كما قال تعالى: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب) [البقرة: ١٦٦].

فالأسباب التي تقطعت بهم هي العلائق التي بغير الله ولغير الله، تقطعت بهم أحوج ما كانوا إليها، وذلك لأن تلك الغايات لما اضمحلت وبطلت اضمحلت أسبابها وبطلت، فإن الأسباب تبطل ببطلان غاياتها وتضمحل باضمحلالها، وكل شيء هالك إلا وجهه سبحانه، وكل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه، وكل سعي لغيره باطل ومضمحل.

وهذا كما يشاهده الناس في الدنيا من اضمحلال السعي والعمل والكد والخدمة التي يفعلها العبد لمتول أو أمير أو صاحب منصب أو مال، فإذا زال ذلك الذي عمل له؛ عُدِم ذلك العمل، وبطل ذلك السعي، ولم يبق في يده سوى الحرمان.

ولهذا كان المشرك من أخسر الناس صفقة، وأغبنهم يوم معاده، فإنه يُحال على مفلس كل الإفلاس، بل على عدم، والموحِّد حوالتُه على المليء الكريم، فيا بُعْدَ ما بين الحوالتين!

والمُوفّقون لا يرون لأنفسهم ملكًا حقيقيًّا، بل يرون ما في أيديهم لله عاريّةً ووديعة في أيديهم، ابتلاهم به لينظر هل يتصرفون فيه تصرف العبد أو تصرف الملاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم. فوجود المال في يد الفقير لا يقدح في فقره، إنما يقدح في فقره رؤيته لملكته، فمن عوفي من رؤية الملكة لم يتلوّث باطنه بأوساخ المال وتعبه وتدبيره واختياره، وكان كالخازن لسيده الذي ينفذ أوامره في ماله، فهذا لو كان بيده من المال أمثال جبال الدنيا لم يضرّه.

ومن لم يُعافَ من ذلك ادعت نفسه المَلَكَة، وتعلقت به النفس تعلقها بالشيء المحبوب المعشوق، فهو أكبر همه ومبلغ علمه، إن أعطي رضي وإن منع سخط، فهو عبد الدينار والدرهم، يصبح مهمومًا ويمسي كذلك، يبيت مضاجعًا له، تفرح نفسه إذا ازداد، وتحزن وتأسف إذا فات منه شيء، بل يكاد يتلف إذا توهمت نفسه الفقر، وقد يؤثر الموت على الفقر.

والأول مستغن بمولاه المالك الحق الذي بيده خزائن السموات والأرض، وإذا أصاب المال الذي في يده نائبة؛ رأى أن المالك الحق هو الذي أصاب مال نفسه، فما للعبد وما للجزع والهلع؟ وإنما تصرف مالك المال في ملكه الذي هو وديعة في يد مملوكه، فله الحكم في ماله، إن شاء أبقاه وإن شاء ذهب به وأفناه، فلا يتهم مولاه في تصرفه في ملكه، ويرى تدبيره هو موجب الحكمة، فليس لقلبه بالمال تعلق ولا له به اكتراث، لصعوده عنه وارتفاع همته إلى المالك الحق، فهو غني به وبحبه ومعرفته وقربه منه عن كل ما سواه، وهو فقير إليه دون ما سواه، فهذا هو البريء عن رؤية الملكة الموجبة للطغيان، كما قال تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى) [العلق: ٦، ٧] ولم يقل إن استغنى، بل جعل الطغيان ناشئًا عن رؤيته غنى نفسه([10]).

ولم يذكر هذه الرؤية في سورة الليل، بل قال: وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) [الليل: 8 - ١٠] وهذا والله أعلم لأنه ذكر في سورة العلق موجب طغيانه وهو رؤية غنى نفسه، وذكر في سورة الليل موجب هلاكه وعدم تيسيره لليسرى وهو استغناؤه عن ربه بترك طاعته وعبوديته، فإنه لو افتقر إليه لتقرب إليه بما أمره من طاعته فعل المملوك الذي لا غنى له عن مولاه طرفة عين، ولا يجد بدًّا من امتثال أوامره، ولذلك ذكر معه بخله وهو تركه إعطاء ما وجب عليه من الأقوال والأعمال وأداء المال، وجمع إلى ذلك تكذيبه بالحسنى، وهي التي وعد بها أهل الإحسان بقوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) [يونس: ٢٦].

والمقصود: أن الاستغناء عن الله سبب هلاك العبد وتيسيره للعُسرى، ورؤيته غنى نفسه سبب طغيانه، وكلاهما مناف للفقر والعبودية»([11]).

اللهم صل على محمد...



([1])  مجموع الفتاوى (2/ 345).

([2])  قال شيخ الإسلام: «لما كانت شواهد الافتقار في أعيان العالم واحتياجها إلى الصانع بينة ظاهرة، بل معلومة بالبديهة؛ كان معلومًا مع ذلك أن كلًّا منها مُحدَثٌ مخلوق كائن بعد أن لم يكن في فطر العامة. فإن الأمر مبني على مقدمتين:

إحداهما: أن هذا المعين مفتقر إلى فاعل، إذ هو ليس بواجب بنفسه.

والثانية: أن ما افتقر إلى فاعل لم يكن إلا مُحدَثًا، فإذا كل شيء من العالم تثبت فيه هاتان المقدمتان» الصفدية (2/ 160).

([3])  أي: الاختياري الذي ترتب عليه المدح والثناء والجزاء الحسن.

([4])  وئيد: أي صوت شدة صوت الوطء على الأرض.

([5])  أحمد (17842) وابن ماجه (2707) والحاكم (3855) وصححه، وصححه كذلك البوصيري وابن حجر. والألباني في صحيح الجامع (8144).

([6])  أحمد (20430) مطولًا، وأبو داود (5090) وحسّنه ابن حجر.

([7])  أحمد (17630) وابن ماجه (199) وغيرهما.

([8])  البخاري (3445).

([9])  البخاري (4476).

([10]) فالمال ليس مطغيًا بذاته بل بظنّ صاحبه أنه استغنى به.

([11]) طريق الهجرتين (1/ 12- 34) باختصار.

لا تنسوا العظيمتين

 

لا تنسوا العظيمتين

الحمدُ لله برحمته اهتدى المُهتدونَ، وبعدلِهِ وحكمَتِهِ ضلَّ الضَالونَ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يُسألُ عمَّا يفعلُ وهم يُسألونَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسولُه، ترَكنا على مَحجَّةٍ بَيضَاءَ لا يزيغُ عنها إلاَّ أهُلُ الأهواء ِوالظُّنونِ، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آله وأصحابِه وأتباعِه بإحسانٍ إلى يومٍ لا ينفعُ فيه مالٌ ولا بنونَ إلاَّ مَنْ أتى اللهَ بِقلبٍ سَلِيمٍ. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الفائزين بالغنى عند الله هم أفقر الناس إليه. ومن أعظم وسائل تحصيل الافتقار إلى الله تعالى، العلم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى سبحانه وبحمده.

ومن استقرأ الأسماء الحسنى وجدها مدائحَ وثناءً تقصُرُ بلاغاتُ الواصفين عن بلوغ كنهها، وتعجز الأوهام عن الإحاطة بالواحد منها. ومع ذلك فلله سبحانه محامد ومدائح وأنواع من الثناء لم تتحرك بها الخواطر، ولا هجست في الضمائر، ولا لاحتْ لمتوسمٍ، ولا سنحت في فكر. ففي دعاءِ أعرَفِ الخلق بربه، وأعلمهم بأسمائه وصفاته ومحامده: «أسألك بكل اسم هو لك، سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي»([1]).

وفي الصحيح عنه في حديث الشفاعة لمّا يسجدُ بين يدي ربه، قال: «فيفتحُ عليّ من محامده بشيء لا أحسنه الآن»([2]) وكان يقول في سجوده: «أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك»([3]).

فلا يُحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه البتة. وله أسماءٌ وأوصافٌ وحمدٌ وثناءٌ لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل. ونسبةُ ما يعلم العباد من ذلك إلى ما لا يعلمونه كنقرة عصفور في بحر([4]).

والله سبحانه مع كونه خالقَ كلِّ شيء، فهو موصوف بالرضا والغضب، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، والرحمة والانتقام. فاقتضت حكمته سبحانه أن خلق دارًا لطالبي رضاه، العاملين بطاعته، المؤثرين لأمره، القائمين بمحابّه، وهي الجنة. وجعل فيها كل شيء مرضي، وملأها من كل محبوب ومرغوب ومشتهى ولذيذ، وجعل الخير بحذافيره فيها، وجعلها محلّ كل طيّب من الذوات والصفات والأقوال.

وخلق دارًا أخرى لطالبي أسباب غضبه وسخطه، المؤثرين لأغراضهم وحظوظهم على مرضاته، العاملين بأنواع مخالفته، القائمين بما يكره من الأعمال والأقوال، الواصفين له بما لا يليق به، الجاحدين لما أخبرت به رسله من صفات كماله ونعوت جلاله، وهي جهنم. وأودعها كل شيء مكروه، وشحَنها من كل مؤذٍ ومؤلم، وجعل الشرَّ بحذافيره فيها، وجعلها محل كل خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال.

فهاتان الداران هما دارا القرار.

وخلق دارًا ثالثة هي كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزود المسافرون إليهما، وهي دار الدنيا. ثم أخرج إليها من آثار الدارين بعض ما اقتضته أعمالُ أربابهما، وما يُستدل به عليهما، حتى كأنهما رأي عين، ليصير للإيمان بالدارين ــ وإن كان غيبًا ــ وجهُ شهادة، تستأنسُ به النفوس، وتستدل به. فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات والملابس الفاخرة والصور الجميلة، وسائر ملاذ النفوس ومشتهياتها، ما هو نفحةٌ من نفحات الدار التي جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال([5]). فإذا رآه المؤمنون ذكّرهم بما هناك من الحَبْرة والسرور والعيش الرخي، كما قيل:

فإذا رآك المسلمون تيقّنوا

 

حورَ الجنان لدى النعيم الخالدِ

فشمّروا إليه، وقالوا: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة»([6]) وأحدثتْ لهم رؤيتُه عزمات وهممًا وجدًّا وتشميرًا، لأن النعيم يذكّر بالنعيم، والشيءُ يذكِّر بجنسه، فإذا رأى أحدهم ما يعجبه ويروقه ولا سبيل له إليه قال: «موعدك الجنة وإنما هي عشية أو ضحاها».

فوجودُ تلك المشتهيات والملذوذات في هذه الدار رحمة من الله، يسوقُ بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التي هي أكمل منها، وزادٌ لهم من هذه الدار إليها، فهي زادٌ وعبرة ودليل وأثر من آثار رحمته التي أودعها تلك الدار. فالمؤمن يهتزُّ برؤيتها إلى ما أمامه، ويُثير ساكن عزماته إلى تلك، فنفسُه ذوَّاقة توَّاقة، إذا ذاقت شيئًا منها تاقت إلى ما هو أكمل منه حتى تتوق إلى النعيم المقيم في جوار الرب الكريم([7]).

وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضًا من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات، ما يُستدَلُّ بجنسه على ما في دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النَّفَسَينِ الشتاء والصيف([8])، الذين أَذِنَ الله سبحانه بحكمته لجهنم أن تتنفس بهما، فاقتضى ذانِك النَّفَسَان آثارًا ظهرت في هذه الدار، كانت دليلًا عليها وعبرة. وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى ونبّه عليه بقوله في نار الدنيا: (نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين) [الواقعة: ٧٣] تذكرة تذكّر بنار الآخرة، ومنفعة للنازلين بالقَوَاء، وهم المسافرون. يقال: أقوى الرجل، إذا نزل بالقِيِّ، والقَوَاء هي الأرض الخالية. وخصّ المقوين بالذكر وإن كانت منفعتها عامة للمسافرين والمقيمين تنبيهًا لعباده ــ والله أعلم بمراده من كلامه ــ على أنهم كلهم مسافرون، وأنهم في هذه الدار على جناح سفر، ليسوا هم مقيمين ولا مستوطنين، وأنهم عابرو سبيل وأبناء سفر.

والمقصود: أنه سبحانه أشهدَهم في هذه ما أعد لأوليائه وأعدائه في دار القرار، وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما هناك من خير وشر. وجعل هذه العقوبات والآلام والمحن والبلايا سياطًا يسوق بها عباده المؤمنين، فإذا رأوها حذِروا كل الحذر، واستدلوا بما رأوه منها وشاهدوه على ما في تلك الدار من المكروهات والعقوبات. وكان وجودُها في هذه الدار وإشهادهم إياها وامتحانهم باليسير منها رحمةً منه بهم، وإحسانًا إليهم، وتذكرة وتنبيهًا.

ولما كانت هذه الدار ممزوجًا خيرُها بشرِّها، وأذاها براحتها، ونعيمها بعذابها؛ اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن خلَّص خيرَها من شرِّها، وخصّه بدار أخرى هي دار الخيرات المحضة ودار الشرور المحضة. فكتب على هذه الدار حكم الامتزاج والاختلاط، وخلط فيها بين الفريقين، وابتلى بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض فتنة. حكمةٌ بالغةٌ بهرتِ العقول، وعزةٌ قاهرة. فقام بهذا الاختلاط سوقُ العبودية كما يحبه ويرضاه، ولم تكن تقوم عبوديته التي يحبها ويرضاها إلا على هذا الوجه. بل العبد الواحد جمع فيه بين أسباب الخير والشر، وسلّط بعضه على بعض، ليستخرج منه ما يحبه من العبودية التي لا تحصل إلا بذلك([9]).

فلما حصلت الحكمة المطلوبة من هذا الامتزاج والاختلاط؛ أعقبه بالتمييز والتخليص، فميّز بينهما بدارين ومحلّين، وجعل لكل دار ما يناسبها، وأسكن فيها من يناسبها. وخلق المؤمنين المتقين المخلصين لرحمته، وأعداءَه الكافرين لنقمته، والمخلّطين للأمرين معًا. فهؤلاء أهل الرحمة، وهؤلاء أهل النقمة، وهؤلاء أهل النقمة والرحمة. وقسمٌ آخر لا يستحقون ثوابًا ولا عقابًا. ورتّب على كل قسم من هذه الأقسام الخمسة حُكمَه اللائق به، وأظهر فيه حكمته الباهرة، ليعلم العبادُ كمالَ قدرته وحكمته، وأنه يخلق ما يشاء، ويختار من خلقه من يصلح للاختيار، وأنه يضع ثوابه موضعه، وعقابه موضعه، ويجمع بينهما في المحل المقتضي لذلك، ولا يظلم أحدًا، ولا يبخسه شيئًا من حقه، ولا يعاقبه بغير جنايته.

هذا مع ما في ضمن هذا الابتلاء والامتحان من الحكم الراجعة إلى العبيد أنفسهم، من استخراج صبرهم وشكرهم وتوكلهم وجهادهم، واستخراج كمالاتهم الكامنة في نفوسهم من القوة إلى الفعل([10])، ودفْعِ الأسباب بعضها ببعض، وكسرِ كلِّ شيء بمقابله، ومصادمته بضده؛ لتظهر عليه آثارُ القهر، وسمات الضعف والعجز، ويتيقن العبدُ أن القهَّارَ لا يكون إلا واحدًا، وأنه يستحيل أن يكون له شريك، بل القهر والوحدة متلازمان.

بارك الله لي ولكم...

.........

الخطبة الثانية

الحمد لله..

عباد الرحمن: القرآن المجيد عمدتُه ومقصودُه الإخبارُ عن صفات الرب سبحانه وأسمائه وأفعاله وأنواع حمده والثناءِ عليه، والإنباءُ عن عظمته وعزّته وحكمته وأنواع صنعه، والتقدمُ إلى عباده بأمره ونهيه على ألسنة رسله، وتصديقُهم بما أقامه من الشواهد والدلالات على صدقهم وبراهين ذلك ودلائله، وتبيينُ مراده من ذلك كله. وكان من تمام ذلك الإخبار عن الكافرين والمكذبين، وذكر ما أجابوا به رسلهم وقابلوا به رسالات ربهم، ووصف كفرهم وعنادهم، وكيف كذبوا على الله، وكذّبوا رسله، وردّوا أمره ومصالحه. فكان في اجتلاب ذلك من العلوم والمعارف والبيان وضوحُ شواهدِ الحق، وقيامُ أدلته وتنوعها.

وكان موقع هذا من خلقه موقع تسبيحه تعالى وتنزيهه من الثناء عليه، وأن أسماءه الحسنى وصفاته العليا هي موضع الحمد، ومن تمام حمده تسبيحُه وتنزيهُه عما وصفه به أعداؤه والجاهلون به مما لا يليق به.

والمقصود: أن خلق الأسباب المضادة للحق، وإظهارها في مقابلة الحق؛ من أبين دلالاته وشواهده، فكان في خلقها من الحكمة ما لو فاتت لفاتت تلك الحكمة، وهي أحب إلى الله من تفويتها بتقدير تفويت هذه الأسباب، والله أعلم»([11]).

اللهم صل على محمد...

 

 



([1])  أحمد (3712) وابن حبان (972). وصححه ابن القيم في شفاء العليل (2/749) والصنعاني في الإنصاف (102).

([2])  البخاري (4712) ومسلم (194).

([3])  مسلم (486).

([4])  أخرج البخاري في صحيحه (122) ومسلم (2380) عن ابن عباس ¶ في معرض ذكره لقصة موسى عليه السلام والخضر قال: «..فجاء عصفور، فوقع على حرفها – أي السفينة - فنقر، أو فنقر في الماء، فقال الخضر لموسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مقدار ما نقر أو نقص هذا العصفور من البحر».

([5])  ثَمَّ مطلبان:

      الأول: أن حقائق الآخرة ليست كحقائق الدنيا وإن اتّحدت مسمياتها، قال ابن عباس : «ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء» أخرجه الطبراني في التفسير (534) وصححه ابن تيمية في فتاواه (5/115) والسيوطي في الجامع الصغير (7614) والألباني في الصحيحة (2188).

      الثاني: أن في الجنة نعيمًا ليس له جنسٌ في الدنيا ولا شبهٌ ولا مثلٌ ولا اسمٌ، قال تعالى: ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾ وقال في الحديث الإلهي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» رواه البخاري (4779) ومسلم (2824).

([6])  من قول النبي ﷺ في غزوة الخندق، البخاري (2961).

([7])  قال عمر بن عبد العزيز ♫: «إن لي نفسًا توّاقة، ما نالت شيئًا إلا تاقت لما هو أعلى منه، تاقت نفسي للزواج بابنة عمي فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، ثم تاقت للإمارة فوليتها، ثم تاقت للخلافة فنلتها، والآن تاقت للجنة فأرجو أن أكون من أهلها».

([8])  أخرج البخاري في الصحيح (3260) ومسلم (617) عن أبي هريرة ؓ قال: قال رسول الله ﷺ: «اشتكت النار إلى ربها، فقالت: ربِّ أكل بعضي بعضًا. فأَذِنَ لها بنَفَسَين، نَفَسٌ في الشتاء، ونفَسٌ في الصيف. فأشدّ ما تجدون من الحر، وأشدّ ما تجدون من الزمهرير».

([9])  وهي عبودية المجاهدة.

([10]) أي من القوة الكامنة فيهم للفعل المترتب عليه الثواب.

([11]) طريق الهجرتين للإمام ابن القيم (1/ 229- 237) باختصار واقتصار.