إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

لا تنسوا العظيمتين

 

لا تنسوا العظيمتين

الحمدُ لله برحمته اهتدى المُهتدونَ، وبعدلِهِ وحكمَتِهِ ضلَّ الضَالونَ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يُسألُ عمَّا يفعلُ وهم يُسألونَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسولُه، ترَكنا على مَحجَّةٍ بَيضَاءَ لا يزيغُ عنها إلاَّ أهُلُ الأهواء ِوالظُّنونِ، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آله وأصحابِه وأتباعِه بإحسانٍ إلى يومٍ لا ينفعُ فيه مالٌ ولا بنونَ إلاَّ مَنْ أتى اللهَ بِقلبٍ سَلِيمٍ. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الفائزين بالغنى عند الله هم أفقر الناس إليه. ومن أعظم وسائل تحصيل الافتقار إلى الله تعالى، العلم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى سبحانه وبحمده.

ومن استقرأ الأسماء الحسنى وجدها مدائحَ وثناءً تقصُرُ بلاغاتُ الواصفين عن بلوغ كنهها، وتعجز الأوهام عن الإحاطة بالواحد منها. ومع ذلك فلله سبحانه محامد ومدائح وأنواع من الثناء لم تتحرك بها الخواطر، ولا هجست في الضمائر، ولا لاحتْ لمتوسمٍ، ولا سنحت في فكر. ففي دعاءِ أعرَفِ الخلق بربه، وأعلمهم بأسمائه وصفاته ومحامده: «أسألك بكل اسم هو لك، سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي»([1]).

وفي الصحيح عنه في حديث الشفاعة لمّا يسجدُ بين يدي ربه، قال: «فيفتحُ عليّ من محامده بشيء لا أحسنه الآن»([2]) وكان يقول في سجوده: «أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك»([3]).

فلا يُحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه البتة. وله أسماءٌ وأوصافٌ وحمدٌ وثناءٌ لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل. ونسبةُ ما يعلم العباد من ذلك إلى ما لا يعلمونه كنقرة عصفور في بحر([4]).

والله سبحانه مع كونه خالقَ كلِّ شيء، فهو موصوف بالرضا والغضب، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، والرحمة والانتقام. فاقتضت حكمته سبحانه أن خلق دارًا لطالبي رضاه، العاملين بطاعته، المؤثرين لأمره، القائمين بمحابّه، وهي الجنة. وجعل فيها كل شيء مرضي، وملأها من كل محبوب ومرغوب ومشتهى ولذيذ، وجعل الخير بحذافيره فيها، وجعلها محلّ كل طيّب من الذوات والصفات والأقوال.

وخلق دارًا أخرى لطالبي أسباب غضبه وسخطه، المؤثرين لأغراضهم وحظوظهم على مرضاته، العاملين بأنواع مخالفته، القائمين بما يكره من الأعمال والأقوال، الواصفين له بما لا يليق به، الجاحدين لما أخبرت به رسله من صفات كماله ونعوت جلاله، وهي جهنم. وأودعها كل شيء مكروه، وشحَنها من كل مؤذٍ ومؤلم، وجعل الشرَّ بحذافيره فيها، وجعلها محل كل خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال.

فهاتان الداران هما دارا القرار.

وخلق دارًا ثالثة هي كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزود المسافرون إليهما، وهي دار الدنيا. ثم أخرج إليها من آثار الدارين بعض ما اقتضته أعمالُ أربابهما، وما يُستدل به عليهما، حتى كأنهما رأي عين، ليصير للإيمان بالدارين ــ وإن كان غيبًا ــ وجهُ شهادة، تستأنسُ به النفوس، وتستدل به. فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات والملابس الفاخرة والصور الجميلة، وسائر ملاذ النفوس ومشتهياتها، ما هو نفحةٌ من نفحات الدار التي جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال([5]). فإذا رآه المؤمنون ذكّرهم بما هناك من الحَبْرة والسرور والعيش الرخي، كما قيل:

فإذا رآك المسلمون تيقّنوا

 

حورَ الجنان لدى النعيم الخالدِ

فشمّروا إليه، وقالوا: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة»([6]) وأحدثتْ لهم رؤيتُه عزمات وهممًا وجدًّا وتشميرًا، لأن النعيم يذكّر بالنعيم، والشيءُ يذكِّر بجنسه، فإذا رأى أحدهم ما يعجبه ويروقه ولا سبيل له إليه قال: «موعدك الجنة وإنما هي عشية أو ضحاها».

فوجودُ تلك المشتهيات والملذوذات في هذه الدار رحمة من الله، يسوقُ بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التي هي أكمل منها، وزادٌ لهم من هذه الدار إليها، فهي زادٌ وعبرة ودليل وأثر من آثار رحمته التي أودعها تلك الدار. فالمؤمن يهتزُّ برؤيتها إلى ما أمامه، ويُثير ساكن عزماته إلى تلك، فنفسُه ذوَّاقة توَّاقة، إذا ذاقت شيئًا منها تاقت إلى ما هو أكمل منه حتى تتوق إلى النعيم المقيم في جوار الرب الكريم([7]).

وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضًا من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات، ما يُستدَلُّ بجنسه على ما في دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النَّفَسَينِ الشتاء والصيف([8])، الذين أَذِنَ الله سبحانه بحكمته لجهنم أن تتنفس بهما، فاقتضى ذانِك النَّفَسَان آثارًا ظهرت في هذه الدار، كانت دليلًا عليها وعبرة. وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى ونبّه عليه بقوله في نار الدنيا: (نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين) [الواقعة: ٧٣] تذكرة تذكّر بنار الآخرة، ومنفعة للنازلين بالقَوَاء، وهم المسافرون. يقال: أقوى الرجل، إذا نزل بالقِيِّ، والقَوَاء هي الأرض الخالية. وخصّ المقوين بالذكر وإن كانت منفعتها عامة للمسافرين والمقيمين تنبيهًا لعباده ــ والله أعلم بمراده من كلامه ــ على أنهم كلهم مسافرون، وأنهم في هذه الدار على جناح سفر، ليسوا هم مقيمين ولا مستوطنين، وأنهم عابرو سبيل وأبناء سفر.

والمقصود: أنه سبحانه أشهدَهم في هذه ما أعد لأوليائه وأعدائه في دار القرار، وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما هناك من خير وشر. وجعل هذه العقوبات والآلام والمحن والبلايا سياطًا يسوق بها عباده المؤمنين، فإذا رأوها حذِروا كل الحذر، واستدلوا بما رأوه منها وشاهدوه على ما في تلك الدار من المكروهات والعقوبات. وكان وجودُها في هذه الدار وإشهادهم إياها وامتحانهم باليسير منها رحمةً منه بهم، وإحسانًا إليهم، وتذكرة وتنبيهًا.

ولما كانت هذه الدار ممزوجًا خيرُها بشرِّها، وأذاها براحتها، ونعيمها بعذابها؛ اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن خلَّص خيرَها من شرِّها، وخصّه بدار أخرى هي دار الخيرات المحضة ودار الشرور المحضة. فكتب على هذه الدار حكم الامتزاج والاختلاط، وخلط فيها بين الفريقين، وابتلى بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض فتنة. حكمةٌ بالغةٌ بهرتِ العقول، وعزةٌ قاهرة. فقام بهذا الاختلاط سوقُ العبودية كما يحبه ويرضاه، ولم تكن تقوم عبوديته التي يحبها ويرضاها إلا على هذا الوجه. بل العبد الواحد جمع فيه بين أسباب الخير والشر، وسلّط بعضه على بعض، ليستخرج منه ما يحبه من العبودية التي لا تحصل إلا بذلك([9]).

فلما حصلت الحكمة المطلوبة من هذا الامتزاج والاختلاط؛ أعقبه بالتمييز والتخليص، فميّز بينهما بدارين ومحلّين، وجعل لكل دار ما يناسبها، وأسكن فيها من يناسبها. وخلق المؤمنين المتقين المخلصين لرحمته، وأعداءَه الكافرين لنقمته، والمخلّطين للأمرين معًا. فهؤلاء أهل الرحمة، وهؤلاء أهل النقمة، وهؤلاء أهل النقمة والرحمة. وقسمٌ آخر لا يستحقون ثوابًا ولا عقابًا. ورتّب على كل قسم من هذه الأقسام الخمسة حُكمَه اللائق به، وأظهر فيه حكمته الباهرة، ليعلم العبادُ كمالَ قدرته وحكمته، وأنه يخلق ما يشاء، ويختار من خلقه من يصلح للاختيار، وأنه يضع ثوابه موضعه، وعقابه موضعه، ويجمع بينهما في المحل المقتضي لذلك، ولا يظلم أحدًا، ولا يبخسه شيئًا من حقه، ولا يعاقبه بغير جنايته.

هذا مع ما في ضمن هذا الابتلاء والامتحان من الحكم الراجعة إلى العبيد أنفسهم، من استخراج صبرهم وشكرهم وتوكلهم وجهادهم، واستخراج كمالاتهم الكامنة في نفوسهم من القوة إلى الفعل([10])، ودفْعِ الأسباب بعضها ببعض، وكسرِ كلِّ شيء بمقابله، ومصادمته بضده؛ لتظهر عليه آثارُ القهر، وسمات الضعف والعجز، ويتيقن العبدُ أن القهَّارَ لا يكون إلا واحدًا، وأنه يستحيل أن يكون له شريك، بل القهر والوحدة متلازمان.

بارك الله لي ولكم...

.........

الخطبة الثانية

الحمد لله..

عباد الرحمن: القرآن المجيد عمدتُه ومقصودُه الإخبارُ عن صفات الرب سبحانه وأسمائه وأفعاله وأنواع حمده والثناءِ عليه، والإنباءُ عن عظمته وعزّته وحكمته وأنواع صنعه، والتقدمُ إلى عباده بأمره ونهيه على ألسنة رسله، وتصديقُهم بما أقامه من الشواهد والدلالات على صدقهم وبراهين ذلك ودلائله، وتبيينُ مراده من ذلك كله. وكان من تمام ذلك الإخبار عن الكافرين والمكذبين، وذكر ما أجابوا به رسلهم وقابلوا به رسالات ربهم، ووصف كفرهم وعنادهم، وكيف كذبوا على الله، وكذّبوا رسله، وردّوا أمره ومصالحه. فكان في اجتلاب ذلك من العلوم والمعارف والبيان وضوحُ شواهدِ الحق، وقيامُ أدلته وتنوعها.

وكان موقع هذا من خلقه موقع تسبيحه تعالى وتنزيهه من الثناء عليه، وأن أسماءه الحسنى وصفاته العليا هي موضع الحمد، ومن تمام حمده تسبيحُه وتنزيهُه عما وصفه به أعداؤه والجاهلون به مما لا يليق به.

والمقصود: أن خلق الأسباب المضادة للحق، وإظهارها في مقابلة الحق؛ من أبين دلالاته وشواهده، فكان في خلقها من الحكمة ما لو فاتت لفاتت تلك الحكمة، وهي أحب إلى الله من تفويتها بتقدير تفويت هذه الأسباب، والله أعلم»([11]).

اللهم صل على محمد...

 

 



([1])  أحمد (3712) وابن حبان (972). وصححه ابن القيم في شفاء العليل (2/749) والصنعاني في الإنصاف (102).

([2])  البخاري (4712) ومسلم (194).

([3])  مسلم (486).

([4])  أخرج البخاري في صحيحه (122) ومسلم (2380) عن ابن عباس ¶ في معرض ذكره لقصة موسى عليه السلام والخضر قال: «..فجاء عصفور، فوقع على حرفها – أي السفينة - فنقر، أو فنقر في الماء، فقال الخضر لموسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مقدار ما نقر أو نقص هذا العصفور من البحر».

([5])  ثَمَّ مطلبان:

      الأول: أن حقائق الآخرة ليست كحقائق الدنيا وإن اتّحدت مسمياتها، قال ابن عباس : «ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء» أخرجه الطبراني في التفسير (534) وصححه ابن تيمية في فتاواه (5/115) والسيوطي في الجامع الصغير (7614) والألباني في الصحيحة (2188).

      الثاني: أن في الجنة نعيمًا ليس له جنسٌ في الدنيا ولا شبهٌ ولا مثلٌ ولا اسمٌ، قال تعالى: ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾ وقال في الحديث الإلهي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» رواه البخاري (4779) ومسلم (2824).

([6])  من قول النبي ﷺ في غزوة الخندق، البخاري (2961).

([7])  قال عمر بن عبد العزيز ♫: «إن لي نفسًا توّاقة، ما نالت شيئًا إلا تاقت لما هو أعلى منه، تاقت نفسي للزواج بابنة عمي فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، ثم تاقت للإمارة فوليتها، ثم تاقت للخلافة فنلتها، والآن تاقت للجنة فأرجو أن أكون من أهلها».

([8])  أخرج البخاري في الصحيح (3260) ومسلم (617) عن أبي هريرة ؓ قال: قال رسول الله ﷺ: «اشتكت النار إلى ربها، فقالت: ربِّ أكل بعضي بعضًا. فأَذِنَ لها بنَفَسَين، نَفَسٌ في الشتاء، ونفَسٌ في الصيف. فأشدّ ما تجدون من الحر، وأشدّ ما تجدون من الزمهرير».

([9])  وهي عبودية المجاهدة.

([10]) أي من القوة الكامنة فيهم للفعل المترتب عليه الثواب.

([11]) طريق الهجرتين للإمام ابن القيم (1/ 229- 237) باختصار واقتصار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق