ثمرات الافتقار إلى الله تعالى (2)
الحمد لله ذي الجلال والإكرام حي لا يموت قيوم لا ينام، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الحليم العظيم الملك العلام، وأشهد أن نبينا
محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام والداعي إلى دار السلام صلى الله عليه وعلى آله
وصحبه والتابعين لهم بإحسان. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله. واعلموا أنكم في دار ابتلاء وامتحان، وأن
العبد دائم التقلب بين أطباق ثلاث:
الأول: نعم من الله تعالى تترادف عليه فقيدُها الشكر، وهو مبني
على ثلاثة أركان: الاعتراف بها باطنًا، والتحدث بها ظاهرًا، وتصريفها في مرضاة
وليها ومسديها ومعطيها. فإذا فعل ذلك فقد شكرها مع تقصيره في شكرها.
الثاني: محنٌ من الله تعالى يبتليه بها ففرضُه فيها الصبر
والتسلّي. والصبر: حبس النفس عن التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس
الجوارح عن المعصية كاللطم وشق الثياب ونتف الشعر ونحوه. فمدار الصبر على هذه
الأركان الثلاثة.
فإذا قام به العبد كما ينبغي؛
انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البليّة عطيّة، وصار المكروه محبوبًا، فإن
الله سبحانه وتعالى لم يبتله ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته. فإن لله
تعالى على العبد عبودية الضراء، وله عبودية عليه فيما يكره كما له عبودية
فيما يحب. وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن في إعطاء العبودية في
المكاره. ففيه تفاوت مراتب العباد، وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى. فالوضوء
بالماء البارد في شدة الحر عبودية، ومباشرة زوجته الحسناء التي يحبها عبودية،
ونفقته عليها وعلى عياله ونفسه عبودية.
هذا والوضوء بالماء البارد في شدة البرد
عبودية، وتركه المعصية التي اشتدت دواعي نفسه إليها من غير خوف من الناس عبودية،
ونفقته في الضراء عبودية. ولكن فرق عظيم بين العبودتين، فمن كان عبدًا لله في
الحالتين، قائمًا بحقه في المكروه والمحبوب فذلك الذي تناوله قوله تعالى: { أليس الله بكاف عبده } [الزمر: ٣٦] فالكفاية التامة مع العبودية التامة والناقصة بحسَبها،
فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. { إن
عبادي ليس لك عليهم سلطان }
عباد الرحمن: لقد كان آدم أبو البشر ﷺ
من أحلم الخلق وأرجحهم عقلًا وأثبتهم، ومع هذا فلم يزل به عدو الله حتى أوقعه فيه،
فما الظنّ بغيره، ولكن عدو الله لا يَخلُص إلى المؤمن إلا غِيلةً على غرة وغفلة،
فيوقعه، ويظن أنه لا يستقبل ربه عز وجل بعدها، وأن تلك الوقعة قد اجتاحته وأهلكته.
وفضل الله تعالى ورحمته وعفوه ومغفرته وراء ذلك كله.
فإذا أراد الله بعبده خيرا فتح له من
أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به وصدق اللجأ إليه
ودوام التضرع والدعاء، والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات ما تكون تلك السيئة به
رحمه، حتى يقول عدو الله: يا ليتني تركته ولم أوقعه!
وهذا معنى قول بعض السلف([1]): إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة، ويعمل الحسنة
يدخل بها النار. قالوا: كيف؟! قال: «يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه منه مشفقًا
وجلًا باكيًا نادمًا مستحييًا من ربه تعالى، ناكس الرأس بين يديه، منكسر القلب له؛
فيكون ذلك الذنب أنفعُ له من طاعات كثيرة، بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها
سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة.
ويفعل الحسنة، فلا يزال يمنُّ بها على
ربه، ويتكبّر بها، ويرى نفسه، ويعجب بها، ويستطيل بها، ويقول: فعلتُ وفعلتُ،
فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة؛ ما يكون سبب هلاكه.
فإذا أراد الله تعالى بهذا المسكين
خيرًا ابتلاه بأمر يكسره به، ويذلّ به عنقه، ويصغّر به نفسه عنده. وإن أراد به غير
ذلك خلّاه وعجبه وكبره، وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه.
فإن العارفين كلهم مجمعون على أن
التوفيق: أن لا يكلك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان: أن يكلك الله تعالى إلى نفسك.
فمن أراد الله به خيرًا فتح له باب الذل والانكسار ودوام اللجأ إلى الله تعالى
والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته
وجوده وبرِّه وغناه وحمده.
فالمؤمن سائر إلى الله تعالى بين هذين
الجناحين، لا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحد منهما فهو كالطير الذي فقد
أحد جناحيه.
قال شيخ الإسلام: «العارف يسير إلى الله
بين مشاهدة المنّة ومطالعة عيب النفس والعمل» وهذا معنى قوله ﷺ في الحديث الصحيح
من حديث بريدة رضي الله تعالى عنه: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت
ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت. أعوذ بك من
شر ما صنعتُ، أبوء بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا
أنت»([2]) فجمع في قوله صلي الله عليه وسلم «أبوء لك بنعمتك
عليّ، وأبوء بذنبي» مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.
فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد
والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار
والافتقار والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلسًا.
وأقرب باب دخل منه العبد على الله
تعالى هو الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالًا ولا مقامًا ولا سببًا يتعلق به، ولا وسيلة
منه يمنّ بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصِّرْف والإفلاس المحض،
دخول من كَسَر الفقر والمسكنة قلبَه، حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع.
وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل، وكمال فاقته وفقره إليه،
وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقةٌ تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك
وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين؛ هلك وخسر خسارة لا تجبر إلا أن يعود الله
تعالى عليه ويتداركه برحمته.
ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية،
ولا حجاب أغلظ من الدعوى. والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل، وذل
تام. فمن وفاهما فما أسرع ما ينعشه الله عز وجل ويجبره ويتداركه برحمته»([3]).
عباد الله؛ إنّ
ثمار الافتقار إلى الله تعالى: الانكفاف عن العصيان، خشية الخذلان وحياء من
الرحمن.
فالمؤمن يخشى الله ويتقيه، ويزع نفسه ما
اسطاع عن معاصيه، ويعلم أنه مهما احتجب عن أعين الناس فعين الله لا تُخطيه، ويعلم
أنه كادح إلى ربه كدحًا فملاقيه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في شأن الرجل
الذي يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فينزع عنها: «هذا كقوله تعالى{ وأما
من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن
الجنة هي المأوى } وقوله: { ولمن خاف مقام ربه جنتان } [الرحمن: ٤٦] قال
مجاهد وغيره من المفسرين: «هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه بين يدي الله؛
فيتركها خوفًا من الله»([4]). وهؤلاء هم أهل
الفلاح المذكورون في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } وهم
المؤمنون, وهم المتقون المذكورون في قوله تعالى { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } كما قال
في آية البر: { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } وهؤلاء هم المتبعون للكتاب
كما في قوله تعالى: { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } [طه: ١٢٣] وإذا لم يضل فهو متبع مهتد، وإذا لم يشق فهو مرحوم.
وهؤلاء هم أهل الصراط المستقيم الذين
أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليهم ولا
الضالين. فإن أهل الرحمة ليسوا مغضوبًا عليهم، وأهل الهدى ليسوا ضالين، فتبين أن
أهل رهْبةِ الله يكونون متقين لله، مستحقين لجنته بلا عذاب. وهؤلاء هم الذين أتوا
بالإيمان الواجب.
ومما يدل على هذا المعنى قوله تعالى: { إنما يخشى الله من عباده العلماء } والمعنى: أنه لا يخشاه
إلا عالم؛ فقد أخبر الله أن كل من خشي الله فهو عالم, كما قال في الآية الأخرى: {
أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [الزمر: ٩] والخشية أبدا متضمنةٌ للرجاء، ولولا ذلك لكانت قنوطًا،
كما أن الرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمنًا. فأهل الخوف لله والرجاء له هم
أهل العلم الذين مدحهم الله.
وقد روي عن أبي حيان التيمي أنه قال:
«العلماء ثلاثة، فعالم بالله ليس عالما بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالمًا
بالله، وعالم بالله عالم بأمر الله»([5]) فالعالم بالله هو الذي يخافه، والعالم بأمر الله هو الذي
يعلم أمره ونهيه. وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «والله إني لأرجو أن أكون
أخشاكم لله، وأعلمكم بحدوده»([6])»([7]).
بارك الله لي ولكم..
.................
الخطبة الثانية
الحمد لله...
أما بعد؛ فيا عباد الرحمن: اتقوا الله
تعالى، واعلموا أن من ثمرات صدق الافتقار إلى الله: سكينة القلب وزهادته في
الدنيا.
فلا تقلقله زعازع الدنيا فهو لا يراها
مستحقة لذلك الهم والغم إذ هو مُعرِضٌ بقلبه عنها وإن كانت يديه فيها، بل حاله
سكوتُ اللسان عن حديث الدنيا ذمًّا أومدحًا، فمن اهتم بأمر وكان له في قلبه موقع؛
اشتغل لسانه بما فاض على قلبه من أمره مدحًا أو ذمًّا، فإنه إن حصلت له مدَحَها،
وإن فاتته ذّمها. ومدحُها وذمُّها علامة موضعها من القلب وخطرها، فحيث اشتغل
اللسان بذمها كان بذلك لخطرها في القلب، لأن الشيء إنما يُذم على قدر الاهتمام به
والاعتناء بشفاء الغيظ منه بالذم([8]).
والله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين في
جوفه، فبقدر ما يدخل القلبَ من همّ وإرادة وحب؛ يخرج منه همٌّ وإرادةٌ وحبٌّ
يقابله، فهو إناء واحد والأشربة متعددة، فأي شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره،
وإنما يمتلئ الإناء بأعلى الأشربة إذا صادفه خاليًا، فأما إذا صادفه ممتلئًا من
غيره لم يساكنه حتى يَخرج ما فيه ثم يسكن موضعه، كما قال بعضهم:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى |
|
فصادف قلبًا خاليًا فتمكّنا([9]) |
وأين سكرُ الهوى والدنيا من سكر الخمر؟!
وكيف يوضع شراب التسنيم الذي هو أعلى أشربة المحبين في إناء ملآن بخمرِ الدنيا
والهوى، ولا يفيق من سكره ولا يستفيق؟!
ولو فارق هذا السكرُ القلبَ لطار بأجنحة
الشوق إلى الله والدار الآخرة، ولكن رضي المسكينُ بالدون، وباع حظه من قرب الله
ومعرفته وكرامته بأخسِّ الثمن صفقةَ خاسرٍ مغبون، فسيعلمُ أيَّ حظ أضاع إذا فاز
المحبون، وخسر المبطلون! »([10]).
اللهم صل على محمد..
([2]) رواه البخاري (6306) وليس عنده
لفظ:« العبد» وإن كان عند غيره، وزاد: «من قالها من النهار موقنًا بها، فمات من
يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها، فمات قبل
أن يصبح، فهو من أهل الجنة»، و«أبوء»: أعترف.
([4]) نقل البغوي في تفسيره (8/ 330) عن
مقاتل قال في الآية: «هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها».
([5]) ذكر ابن أبى حاتم في تفسيره (10/
3180) من طريق سفيان عن أبي حيان التيمي عن رجل قال: «كان يقال: العلماء ثلاثة:
عالم بالله، وعالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله
ليس بعالم بالله. فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض،
والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض،
والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق