إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 6 نوفمبر 2023

ثمرات الافتقار إلى الله تعالى (1)

ثمرات الافتقار إلى الله تعالى (1)

 

الحمد لله، أعظَمَ للمتقين العاملين أجورَهم، وشرح بالهدى والخيراتِ صدورَهم، أشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وفّق عبادَه للطاعات وأعان، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُ الله ورسوله خير من علَّمَ أحكامَ الدِّين وأبان، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه أهلِ الهدى والإيمان، وعلى التابعين لهم بإيمان وإحسان ما تعاقب الزمان، وسلّم تسليمًا. أما بعد؛ فاتقوا الله عبد الله، واعلموا أنّ لكل عمل قلب ثماره، ولما كان الافتقار من أوسع الأعمال المقربة إلى رضوان الله تعالى كانت ثماره كثيرة جليلة، فمنها:

أولًا: تحقيق العبودية لله تعالى، وتجريد التوحيد له، وصدق التوجه إليه، والإخلاص له، فالافتقار كنز من كنوز التوحيد، بل هو مادّته التي قامت فروعه على ساقها. «فبالتوحيد يَقوى ويستغني، ومن سَرِّهُ أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله؛ وبالاستغفار يُغفَر له. فلا يزول فقرُه وفاقتُه إلا بالتوحيد، لابدَّ له منه، وإلاّ فإذا لم يحصل له لم يزل فقيرًا محتاجًا لا يحصل مطلوبه معذَّبًا، والله تعالى لا يغفر أن يُشرَك به. وإذا حَصَل مع التوحيد الاستغفار حَصَل غناه وسعادته، وزال عنه ما يُعذَّب به، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهو مفتقر دائمًا إلى التوكل عليه والاستعانة به، كما هو مفتقر إلى عبادته، فلابدَّ أن يشهد دائمًا فقرَه إليه وحاجته في أن يكون معبودًا له وأن يكون معينًا له، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منه إلا إليه. قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي يخوفكم أولياءه (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)»([1]).

«وبحسب تحقيق التوحيد تكمل طاعة الله، قال تعالى: { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا } { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } [الفرقان: ٤٤] فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه فقد اتخذ إلهه هواه، أي جعل معبوده هو ما يهواه، وهذا حال المشركين الذين يعبد أحدهم ما يستحسنه. فهم يتخذون أندادًا من دون الله يحبونهم كحب الله.

ولهذا قال الخليل: { لا أحب الآفلين } [الأنعام: ٧٦] فالخليل بيّن أن الآفل يغيب عن عابده، وتحجبه عنه الحواجب، فلا يَرى عابدَه، ولا يسمع كلامه، ولا يعلم حاله، ولا ينفعه ولا يضره بسبب ولا غيره. فأي وجه لعبادة من يأفل؟!

وكلما حقق العبد الإخلاص في قول: لا إله إلا الله؛ خرج من قلبه تألّهُ ما يهواه، وتُصرف عنه المعاصي والذنوبُ، كما قال تعالى{ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } فعلّل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عباد الله المخلصين. وهؤلاء هم الذين قال فيهم: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وقال الشيطان: { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين }. [ص: ٨٢، ٨٣].

وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «من قال لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه؛ حرمه الله على النار»([2]) فإن الإخلاص ينفي أسباب دخول النار، فمن دخل النار من القائلين: لا إله إلا الله لم يحقق إخلاصها المُحرِّم له على النار، بل كان في قلبه نوع من الشرك الذي أوقعه فيما أدخله النار.

والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، ولهذا كان العبد مأمورًا في كل صلاة أن يقول: { إياك نعبد وإياك نستعين } [الفاتحة: ٥] والشيطان يأمر بالشرك، والنفس تطيعه في ذلك فلا تزال النفس تلتفت إلى غير الله، إما خوفًا منه، وإما رجاءً له، فلا يزال العبد مفتقرًا إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك»([3]).

 الثاني من ثمرات الافتقار لله تعالى: القرب من الله تعالى عبر باب الانكسار والخشوع. «فالافتقار يورث العبد ذلًّا لمولاه الحق، وخشوعًا وعبوديّة ورقًّا ورقّة وانكسارًا، فإن هذه الكسرة الخاصة لها تأثير عجيب في المحبة لا يعبر عنه. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ؓ يقول: «من أراد السعادة الأبدية؛ فليلزم عتبة العبودية».

والقصد: أن هذه الذلة والكسرة الخاصة تُدخله على الله، وترميه على طريق المحبة، فيفتح له منها باب لا يفتح له من غير هذه الطريق. وإن كانت طرق سائر الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبوابًا من المحبة، لكن الذي يفتح منها من طريق الذل والانكسار والافتقار، وازدراء النفس ورؤيتها بعين الضعف والعجز والعيب والنقص والذم، بحيث يشاهدها ضيعة وعجزًا وتفريطًا وذنبًا وخطيئة نوع آخر وفتح آخر([4]).

والسالك بهذه الطريق غريب في الناس، هم في واد وهو في واد، يسبق النائم فيها على فراشه السُّعاة([5])، فيصبح وقد قطع الطريق وسبق الركب، بينا هو يحدثك وإذا به قد سبق الطرف وفات السعاة، والله المستعان وهو خير الغافرين»([6]).

ثالثًا: تحصيل الغنى، فعلى قدر افتقار العبد الفقير لمولاه الغني يكون لطفه ومدده ورحمته. فمن أراد الغنى فليزم عتبة الغني، وليقرع بابه بيد الافتقار والانكسار والمسكنة، وليبشر بالعطاء الجزيل والمنائح الجسيمة، فليعظم الرغبة فالكريم سبحانه لا يتعاظمه شيء أعطاه.

رابعًا: ــ وهو ومن كبريات ثمراته ــ سعادة العبد التامة وسروره العظيم وفلاحه المؤكد، وذلك إنّما يكون بكمال افتقاره إلى الله.

ولما كان كل طريق فلاح موصدٌ سوى طريق الافتقار للإله الحق فلا سعادة على الحقيقة إلا به، فلا سرور ولا فرح ولا نعيم ولا فرَج ولا توفيق إلا بتحقيق الافتقار إلى الله الذي هو لُباب العبودية وقلبُها. «والعبد كلما كان أذلَّ لله وأعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له كان أقرب إليه، وأعزّ له، وأعظم لقدره. فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله.

وأما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، ولقد صدق القائل:

بين التذلل والتدلل نقطة

 

في رفعها تتحير الأفهامُ([7])

فأعظم ما يكون العبد قدرًا وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه. فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم؛ كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ــ ولو في شربة ماء ــ نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم. وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يشرك به شيء.

فالرب سبحانه: أكرمُ ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه وأفقر ما تكون إليه. والخلق: أهونُ ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم. لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم، فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم فإنهم لا يقدرون عليها، ولا يريدون من جهة أنفسهم، فلا علم ولا قدرة ولا إرادة.

والرب تعالى يعلم مصالحك ويقدر عليها، ويريدها رحمة منه وفضلًا. وذلك صفته من جهة نفسه، لا شيء آخر جعله مريدًا راحمًا، بل رحمته من لوازم نفسه، فإنه كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شيء. والخلق كلهم محتاجون، لا يفعلون شيئًا إلا لحاجتهم ومصلحتهم. وهذا هو الواجب عليهم والحكمة، ولا ينبغي لهم إلا ذلك، لكن السعيد منهم الذي يعمل لمصلحته التي هي مصلحة، لا لما يظنه مصلحة وليس كذلك.

فهم ثلاثة أصناف: ظالم، وعادل، ومحسن.

فالظالم: الذي يأخذ منك مالًا أو نفعًا ولا يعطيك عوضَه، أو ينفع نفسَه بضررك.

والعادل: المكافئُ، كالبائع لا لك ولا عليك، كل به يقوم الوجود، وكل منهما محتاج إلى صاحبه، كالزوجين والمتبايعين والشريكين.

والمحسن الذي يُحسن لا لعوض يناله منك، فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته، وهو انتفاعه بالإحسان، وما يحصل له بذلك مما تحبه نفسه من الأجر، أو طلب مدح الخلق وتعظيمهم، أو التقرب إليك، إلى غير ذلك. وبكل حال ما أحسنَ إليك إلا لما يرجو من الانتفاع. وسائر الخلق إنما يكرمونك ويعظمونك لحاجتهم إليك، وانتفاعهم بك، وعلى هذا بُني أمر العالم.

ومتى كنت محتاجًا إليهم؛ نقص الحب والإكرام والتعظيم بحسب ذلك وإن قضوا حاجتك. والرب تعالى يمتنع أن يكون المخلوق مكافيًا له أو متفضلًا عليه؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقول إذا رُفعت مائدته: «الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، غير مَكْفِيٍّ ولا مكفور ولا مودَّع ولا مستغنى عنه ربّنا» رواه البخاري من حديث أبي أمامة([8]) بل ولا يزال الله هو المنعم المتفضل على العبد، وحده لا شريك له في ذلك؛ بل ما بالخلق كلهم من نعمة فمن الله.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

................

الخطبة الثانية

الحمد لله... أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن سعادة العبد في كمال افتقاره إلى الله، واحتياجه إليه، وأن يشهد ذلك ويعرفه ويتصف معه بموجبه.

والإنسان يذنب دائمًا فهو فقير مذنب، وربُّه تعالى يرحمه ويغفر له، وهو الغفور الرحيم، فلولا رحمته وإحسانه؛ لما وُجِد خير أصلًا، لا في الدنيا ولا في الآخرة. ولولا مغفرته لما وُقيَ العبد شرّ ذنوبه. وهو محتاج دائمًا إلى حصول النعمة ودفع الضر والشر، ولا تحصل النعمة إلا برحمته، ولا يندفع الشر إلا بمغفرته، فإنه لا سبب للشر إلا ذنوب العباد، كما قال تعالى: { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [النساء: ٧٩] والمراد بالسيئات: ما يسوء العبد من المصائب. وبالحسنات: ما يسرّه من النعم. والمصائب بسبب ذنوب العباد وكسبهم، كما قال: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير }. [الشورى: ٣٠].

والمقصود: أن سعادة العبد في كمال افتقاره إلى ربه واحتياجه إليه، أي في أن يشهد ذلك ويعرفه، ويتصف معه بموجب ذلك من الذل والخضوع والخشوع، وإلا فالخلق كلهم محتاجون، لكن يظن أحدهم نوع استغناء فيطغى، كما قال تعالى: { كلا إن الإنسان ليطغى  أن رآه استغنى) ([9]).

عباد الرحمن؛ اعلموا أنه «لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه.

فالأمر كله لله، والحمد كله لله، والملك كله لله، والخير كله في يديه، لا يحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه، بل هو كما أثني على نفسه، وفوق ما يثني عليه كل أحد من خلقه.

ولهذا كان صلاح العبد وسعادته في تحقيق معنى قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) [الفاتحة: ٥] فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه. والمستعان هو الذي يُستعان به على المطلوب. فالأول([10]): من معنى ألوهيته، والثاني([11]) من معنى ربوبيته. فإن الإله هو الذي تألهه القلوب محبةً وإنابة وإجلالًا وإكرامًا وتعظيمًا وذلًّا وخضوعًا وخوفًا ورجاءً وتوكُّلًا. والرب هو الذي يُربى عبده، فيعطيه خلقَهُ ثم يهديه إلى مصالحه. فلا إله إلا هو، ولا رب إلا هو» ([12]).

اللهم صل على محمد..

 



([1])  جامع المسائل لابن تيمية (3/ 55).

([2])  البخاري (128).

([3])  مجموع الفتاوى (10/ 262) وانظرها في: (الفتاوى العراقية: 2/582-585).

([4])  وتأمل لفظ العبد الذي هو سمة أفضل الخلائق وأكمل الرسل.

([5])  أي: المجدّون السير المسرعون به.

([6])  مدارج السالكين (1/431، 442 - 444) بتصرف واختصار.

([7])  فالتذلل محمود محبوب، أما الإذلال فبخلافه.

([8])  البخاري (5458).

([9])  مجموع الفتاوى لابن تيمية (39 – 50) مختصرًا.

([10]) أي: عبادته وحده.

([11]) أي: الاستعانة به وحده.

([12]) إغاثة اللهفان (1/70-71).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق