إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 23 أغسطس 2018

الزهد في الدنيا


الزهد في الدنيا
منقولة بتصرف وتهذيب وزيادة
الحمد الله الذي أسكن عباده هذه الدار وجعلها لهم منزلة سفر من الأسفار وجعل الدار الآخرة هي دار القرار وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله سيدُ الزاهدين وإمامُ السابقين والأبرار وعلى أله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان فاستعد لدار القرار.
أما بعد: فإن الزهد في الدنيا هو الكنز الذي لا يعرف قدره سوى من وفقه الله لحيازته، فهو نعم الرفيق للدار الآخرة ونعم المواسي من لأواء الدنيا ويكفي في فضله أنه شعار الأنبياء، والزهد يا عباد الرحمن هو عبارة عن انصرافِ الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، وهو ترك راحة الدنيا طلبًا لراحة الآخرة، وأن يخلو قلبك مما خلت منه يداك.
ومما يعين العبد على ذلك علمه أن الدنيا ظل زائل وخيال زائر، فهي كما قال تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) [الحديد: 20]. وسماها الله: مَتَاع الْغُرُور، ونهى عن الاغترار بها، وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين، وحذرنا من الوقوع في مثل مصارعهم، وذم من رضي بها واطمأن إليها، وعلمنا أن وراءها دارًا أعظم منها قدرًا وأجل خطرًا وهي دار البقاء.
ومما يعين العبدَ على الزهد فيها معرفتُه وإيمانه الحق بأن زهدَه في الدنيا لا يمنعه شيئًا كُتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يُقضَ له منها، فمتى تيقّن ذلك ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، فأما ما ينفع في الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين، بل صاحبُه داخل في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [المائدة: 26].
وليس المقصود بالزهد ترك الدنيا ورفضها، فقد كان سليمان وداود -عليهما السلام- من أزهد أهل زمانهما ولهما من المال والملك والنساء ما لهما، وكان نبينا -صلى الله عليه وسلم- من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة، وكان علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان -رضي الله عنهم- من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال، وغيرهم كثير.
وقد سئل الإمام أحمد: أيكون الإنسان ذا مال وهو زاهد؟! قال: "نعم، إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصانه". وقال الحسن: "ليس الزهد بإضاعة المال ولا بتحريم الحلال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يد نفسك، وأن تكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء".
هذه هي حقيقة الزهد، وعلى هذا فقد يكون العبد أغنى الناس لكنه من أزهدهم؛ لأنه لم يتعلق قلبه بالدنيا، وقد يكون آخر أفقر الناس وليس له في الزهد نصيب؛ لأن قلبه يتقطع على الدنيا.
إذن فمدار الزهد إنما هو الرغبة في الله والدار الآخرة وجعلِ الدنيا كالجسر الموصلِ لذلك النعيم، لأن الدنيا وسيلة لا غاية وممر لا مستقر.
وكثير مما ترونه من أحقاد الناس فمرده إلى ضعف زهدهم في الدنيا وتعظيم قدر الدنيا في قلوبهم على حساب الآخرة، والله المستعان!
والزهد أنواع؛ فالزهد في الحرام فرض عين، أما الزهد في الشبهات فإن قويت الشبهة التحق بالواجب، وإن ضعفت كان مستحبًا، وهناك زهد في فضول الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره، وزهد في الناس، وزهد في النفس حيث تهون عليه نفسه في الله، والزهد الجامع لذلك كله هو الزهد فيما سوى ما عند الله، وفي كل ما يشغلك عن الله، وأفضل الزهد إخفاءُ الزهد، وأصعبه الزهد في حظوظ النفس.
عباد الله: لقد مدح الله تعالى الزهد في الدنيا وذم الرغبة فيها في غير موضع، فقال تعالى: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ) [الرعد: 26]، وقال -عز وجل-: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس: 24]، وقال سبحانه: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد: 23]، وقال تعالى على لسان مؤمن آل فرعون: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر: 39].
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة". رواه مسلم. وعن سهل بن سعد الساعدي –رضي الله عنه- قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول الله: دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "(ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك"، وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء". رواه الترمذي وصححه.
ولذلك فقد كان الأنبياء والمرسلون أزهدَ الناس، فهم قدوةُ البشر في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) [الأنعام: 90]. ومن تأمل حياة سيد الأولين والآخرين علم كيف كان -صلى الله عليه وسلم- يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، وما شبع من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض، ولربما ظل اليوم يتلوى لا يجد من الدقل -وهو رديء التمر- ما يملأ بطنه، وفي غزوة الأحزاب ربط الحجر على بطنه من شدة الجوع، ويمر على أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد في بيتهم النار، طعامهم الأسودان: التمر والماء، وكان يقول: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة"، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إنما كان فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي ينام عليه أَدَمًا  - أي جلدًا - حشوه ليف". وأخرجت -رضي الله عنها- كساءً ملبّدًا وإزارًا غليظًا فقالت: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذين؛ ولذلك فهو قدوة الناس وأسوتهم في الزهد والعبادة. قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما لي وللدنيا؟! إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل سار في يوم شديد الحر، فاستظل تحت شجرة ساعة ثم راح وتركها"رواه أحمد والترمذي.
لقد حذر الله -تبارك وتعالى- من فتنة الأموال والأولاد في هذه الحياة؛ حتى لا ينشغلَ العبدُ بها عن الاستعداد لما أراد الله منه وهو العبادة، فقال تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال: 28]. ونهى -جل وعلا- عن النظر إلى ما في أيدي الناس؛ لأن ذلك مدعاة إلى الركون إلى الدنيا والانشغال بها عن الدار الآخرة الباقية، فقال تعالى: (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجًا مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) [طه: 131].
ولقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يتخوفَ الدنيا على أصحابه أن تُبسط عليهم كما بسطت على من كان قبلهم، فيتنافسوها كما تنافسوها، فتهلكَهم كما أهلكتهم، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء". رواه مسلم.
وقال ابن مسعود –رضي الله عنه-: "الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا علم له". ولما قدم عمر -رضي الله عنه- الشام تلقاه الجنود وعليه إزار وخفان وعمامة، وهو آخذ برأس راحلته يخوض بقدميه في الماء، فقالوا: يا أمير المؤمنين: يلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالتك هذه، فقال: "إنا قوم أعزّنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله".
ودخل رجل على أبي ذر -رضي الله عنه- فجعل يقلّب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر: ما أرى في بيتك متاعًا ولا أثاثًا، فقال: "إن لنا بيتًا نوجه إليه صالح متاعنا"، فقال الرجل: إنه لا بد لكم من متاع ما دمتم ها هنا، فقال أبو ذر: "إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه".
وقال علي –رضي الله عنه-: "تزوجت فاطمة وما لي ولها فراش إلا جلدَ كبش، كنا ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح -أي: البعير- بالنهار، وما لي خادم غيرُها، ولقد كانت تعجن، وإنَّ قَصَّتَها -أي: مُقدَمَةُ شعرها- لتضرب حرف الجفنة من الجهد الذي بها". اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا وأعذنا يا ربنا من فتنتها. آمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية: الحمد لله..
عباد الله: لما حضرت معاذَ بن جبل -رضي الله عنه- الوفاة قال: "اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات -أي: قيام الليل-، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَق الذكر".
وكان كثير من السلف يعرض لهم المال الحلال، فيقولون: لا نأخذه، نخاف أن يفسد علينا ديننا.
وكان سعيد بن المسيب يتّجر في الزيت، وخلّف أربعمائة دينار، وقال: "إنما تركتها لأصون بها عرضي وديني".
وقال سفيان الثوري: "الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباءة".
والزاهد يحبه الله، فإن امتلَكتَ فاشكُر وأَخرج الدنيا من قلبك، وإن افتَقَرتَ فاصبر فقد طويت عمّن هم أفضلَ منك، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينام على الحصير حتى يؤثّرَ في جنبه، ومات وما رف أم المؤمنين عائشة سوى حفنةٍ من الشعير تأكل منها، وكان الصبيان إذا دخلوا بيوت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نالوا السقف بأيديهم، فلم يسكن القصور -صلوات الله وسلامه عليه-. وخطب عمر بن الخطاب -وهو خليفة المؤمنين- وعليه إزار به اثنتا عشرة رقعة.
لقد طويت الدنيا عنهم ولم يكن ذلك لهوانهم على الله، بل لهوان الدنيا عليه سبحانه، فهي لا تزن عنده جناح بعوضه، في الأثر: "إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي أحدكم غنمه".
إن الدنيا ظل زائل وسراب راحل، غِناها مصيره إلى فقر، وفرحُها يؤول إلى ترح، وهيهات أن يدوم بها قرار، وتلك سنة الله تعالى في خلقه، أيامٌ يداولها بين الناس؛ ليعلم الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، إنما هي منازل، فراحل ونازل، وهي بزينتها وبريقها ونعيمها إنما هي:
أحلامُ نومٍ أو كظل زائلٍ *** إنّ اللبيب بمثلها لا يخدع
وبشراكم عباد الله حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرّق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له". أخرجه أحمد.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخليقة محمد، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم البركة والتسليم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

الخميس، 16 أغسطس 2018

الاستعداد ليوم الرحيل


الاستعداد ليوم الرحيل 

(منقولة)

الحمد لله قاهرِ المتجبرين وناصرِ المستضعفين وقيومِ السماوات والأرضين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، ذلَّ لكبريائه جبابرةُ السلاطين وبطلَ أمام قدرته كيد الكائدين قضى قضاءه كما شاءه على الخاطئين وسبق اختياره من اختاره من العالمين فهؤلاء أهل الشمال وهؤلاء أهل اليمين ولولا ذلك ما امتلأت النار من المجرمين  ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين  [السجدة:13]. تلك حكمته سبحانه وهو حكم الحاكين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله العبد الصادق الوعد الأمين صلى الله عليه وسلم وصحبه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون اعلموا أن الدنيا ليست بدار بقاء ولا خلود، وإنما أنتم عما قليل منها تظعنون، وما هي إلا أيام وعنها ترحلون، ثم أنتم بين يدي ربكم تحاسبون، فماذا أنتم يومئذ قائلون إذا أبدت لكم الصحف العيوب، وشهد عليكم السمع والأبصار والجلود.
( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا  [الكهف:49]. (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون  حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون  وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون [فصلت:19-21].
فيا ويح ابن آدم يستخفي من الناس بالمعصية، ويغفل عن جلده وسمعه وبصره لا يستترُ منها، ينسى أنها ستشهد عليه ( وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون  وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين  فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين) .
فيا ويل الغافلين ويا ويح المفرطين، فالعجب كلُّ العجب ممن يخشى من رقابة البشر المربوبون ولا يخشى من رقابة الحيِّ القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا)
فالحمد لله الذي وسع سمعُه الأصواتَ كلَّها، ووسع بصرُه الموجودات جميعَها، ووسع علمُه الأشياء كلها دِقها وجِلها  (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما ).
تزودوا ليوم المعاد ولا تلهكم دارُ الغرور والهوان فتنسيكُم ما كتبه الله على أهلها من الفناء ..( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ).. فأعدوا ليوم الدين عدته، ومن أراد الفوز والنجاة فليعمل حتى تأتيه بُغيَتَه، فإن المولى جل وعلا أبى أن يكون الفوزُ إلا لأهل التقوى، فوعدَهم ووعدُه الحق بقوله: ( ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا  [مريم:72]. وقال عز وجل: ( إن للمتقين مفازا  [النبأ:31]. وقال سبحانه: ( ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون  [النور:52].
ومن التقوى أن يستعد العبد ليوم البعث والنشور فالتقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.

ألَا إن أهل معصية الله إنما عصوه وخالفوه لقلة يقينهم بلقائه ووغفلتهم عن تذكر وقوفهم بين يديه (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون  ليوم عظيم  يوم يقوم الناس لرب العالمين  [المطففين:4-6]. فيقومون في رشْحهم وعرقهم وهولهم ورعبهم وغمهم وكربهم وبؤسهم ونكدهم خمسين ألف سنة في انتظار فصل القضاء وللقَصاصِ بينهم في محكمة الله العادلة، لا يخاف فيها المؤمنُ ظلما ولا هضما (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [الأنبياء:47]. فالعاقل من دان نفسه وحاسبها وعمل لذلك اليوم  (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون  [الحشر:18]. (وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون  وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين  [النمل:74-75].
فهل أصلحت قلبك استعدادا للقاء الله  (يوم لا ينفع مال ولا بنون  إلا من أتى الله بقلب سليم  [الشعراء:88-89]. هل طهرت قلبك من الشك والرياء . هل طهرته من الظنون ومن التعلق بغير الله أو التوكل على غير الله. هل طهرته من خوف ما سوى الله. هل طهرته من كل محبة سوى محبة الله والحبِّ في الله. هل طهرته من أمراض الحقد والحسد والغل لإخوانك المسلمين ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم  [الحشر:10]. فأصحاب الجنة هم أصحاب القلوب السليمة الهينون اللينون، وقد أتاكم من مقال نبيكم صلى الله عليه وسلم قوله: ((يدخل الجنة أناس أفئدتهم كأفئدة الطير)) رواه مسلم، وقال يزيد بن أسد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتحب الجنة؟)) قلت: نعم قال: ((فأحب لأخيك ما تحبه لنفسك))رواه أحمد، فكونوا من أهل الإيمان الصادقين الذين سلمت قلوبهم لله وسلمت قلوبهم لإخوانهم المؤمنين فيحبون لهم ما يحبون لأنفسهم، ويظنون بهم الخير ولا يظنون بهم السوء.
فكونوا أيها المسلمون من أهل القلوب السليمة، قابلوا الإساءة بالإحسان، والخطيئةَ بالغفران، والغلظةَ بالرفق، والجهل بالحلم، والعبوس بالابتسامة ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم  [فصلت:34]. وليس ذلك ضعفا وليس ذلك نفاقا أو كذبا وإنما هي منزلة عظيمة لا يقوى عليها إلا الأفذاذُ الصابرون أصحابُ النفوسِ العالية الصابرة  (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم  [فصلت:35
واحرسوا ألسُنَكم فلا تقولوا إلا خيرا (  وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم   [الإسراء:53].  (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء  [المائدة:91]. والشيطان قد آيس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم، فانتبهوا عباد الله وأصلحوا قلوبكم، فلن تعبد الله بمثل صلاح قلبك، فصلاح القلب هو أول عمل تستعدون به لمفارقة هذه الدار، فانظر ماهو أصلح لقلبك فافعله قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) رواه البخلري
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
...............
الخطبة الثانية
أما بعد:
 فمن الاستعداد ليوم الرحيل بعدَ إصلاح القلب إصلاحُ اللسان  (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد  إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد  ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد  [ق:16-18]. وإن الرجل ليتكلم الكلمة لا يلقي لها بالا يزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم.
 فمن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، ومن تكلم فيما لا يعنيه حُرم الصدق، ومِن أكثرُ الناس ذنوبا يوم القيامة أكثرهم كلاما فيما لا يعنيهم، قال الحسن رحمه الله: من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه خذلانا من الله عز وجل.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن شرائع الإيمان قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به قال: ((لا يزال لسانك رطبا بذكر الله تعالى))رواه أحمد بسند صحيح.  ففي ذكر الله شغل لك يكفيك عن الكلام فيما لا ينفعك، ويكفيك عن الغيبة والنميمة ومن الفحش والسباب واللغو والكذب ( قد أفلح المؤمنون  الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون  والذين هم للزكاة فاعلون  والذين هم لفروجهم حافظون  [المؤمنون:1-5]. فمصدر الخطر العظيم على الإنسان فرجُه ولسانه، فهما أكثر ما يدخلُ الناسَ النار.
فغض عن المحارم منك طرفا           طموحًـا يفتن الرجل الأريبا
  فخائنة العيون كأسـد غـاب   إذا مـا أهملت وثبت وثوبـا                 ومن يغضض فضول الطرف        عنها يجد في قلبه روحا وطيبا
عباد الرحمن: واعلموا أنه لا بد من إصلاح البطن وعفافِه عن أي لقمة حرام، ولا يتم ذلك إلا بالأكل من الطيبات وتطهير المال من الحرام والشبهات، ولا تكن ذاك الذي يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام ومأكله حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك.
اعلم رحمك الله أن الدنيا لا تستحق من الاهتمام ذلك القدرَ الذي يوقع في المعاصي والمحرمات. بل هي كما وصفها الإمام الشافعي رحمه الله:
 وما هـي إلا جيفة مستحيلـة              عليها كلاب همهن اجتذابها

 فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها             وإن تجتذبها نازعتك كلابها
فازهد في الدنيا يحبُّك الله وازهد فيما عند الناس يحبُّك الناس، وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعُدَّ نفسك من أهل القبور، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك. فإن لكم أيها المسلمون بيوتًا تتوجهون إليها غيرَ هذه الدار، فاعبروها ولا تعمروها. (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار  [غافر:39]. فمن ذا الذي يبني على موج البحر دارا، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا، فإن الدنيا قد ارتحلت مدبرةً وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منها بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل.
ولا تنسوا أن الدنيا حرامها عقاب وحلالها حساب، فاحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى. فالعجب كلُّ العجب ممن الدنيا مولّيةٌ عنه والآخرة مقبلة عليه يشتغل بالمدبرة ويعرض عن المقبلة. فوالذي نفسي بيده إن أحدكم لا يدري لعله أن يبيتَ في أهل الدنيا ويصبحُ في أهل الآخرة فكم من مستقبل ليوم لا يستكمله وكم من مؤمل لغد لا يدركه.
فلا يدعوك ما انت فيه من زهرة الدنيا وزينتها إلى الابتهاج بها والغفلة عما بعدها ( وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع  [الرعد:26].
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة امرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

الحج وعرفة والأضحية

الحج وعرفة والأضحية
منقولة ومهذبة ومزيدة
الحمدُ للهِ العَليِّ الكَبيرِ، الجليلِ العظيمِ، الذي منَّ على المؤمنينَ بدِينِه القَويمِ، دِينًا يُهذِّبُ نُفوسَهُم، ويُجَمِّلُ أخلاقَهُم، ويُزيِّنُ تَعامُلَهُم، ويُصلِحُ ما تَنطِق به ألْسِنَتُهُم، وما تفْعَلُهُ جَوارِحُهُم، فله الحمدُ.
والصلاةُ والسلامُ على عبدِهِ ورسولِهِ محمدِ، أَحسنِ الناسِ مَنطِقًا، وأتَمِّهِمْ خُلُقًا، وأفضَلِهِم طَبْعًا، وأَجملِهِمْ تَعامُلًا، وأزْكَاهُم حَالًا، وعلى أله وصحبه، أمَّا بعدُ:
أيها المسلمونَ: اتقوا اللهَ ربَّكُم حقَّ التقوَى؛ فإنَّ تقوى اللهِ خيرُ لِباسٍ لكُم وزَادٍ، وأفضلُ وسيلةٍ إلى رِضَا رَبِّ العِبادِ، فقدْ قالَ اللهُ -تعالى- مُبشِّرًا لكُم ومُسْعِدًا: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطَّلَاقِ: 2-3].
أيها المسلمونَ: بَقِيَ مِن عَشْرِكُمْ أَيامٌ قَليلةٌ، مِنهَا يَومٌ فَاضلٌ عَظِيمٌ مِن أَفضَلِ أَيامِ السَّنةِ، أَكمَلَ اللهُ فيهِ المِلَّةَ، وأَتمَّ بهِ النِّعمَةَ، إنَّكُم مُقبِلونَ عَن قَريبٍ على يَومِ عَرَفَةَ، وما أدْرَاكُمْ مَا يَومُ عَرفةَ، إنَّه يومُ الرُّكنِ الأكبرِ لِحجِّ الحُجَّاجِ، ويومُ تَكفيرِ السيئاتِ، والعِتقِ من النَّارِ، اليومُ الذي خَصَّهُ اللهُ بالأجرِ الكَبيرِ والثَّوابِ العَظيمِ، اجتماعٌ عظيمٌ لتعظيمِ اللهِ -تعالَى- وذِكْرِهِ وشُكرِهِ وعِبَادتِهِ.
يَومُ عَرفةَ، يَومٌ يَجتمِعُ فيهِ الحَجِيجُ علَى صَعيدِ عَرفَاتٍ في أَكبرِ تَجمُّعٍ سَنويٍّ دَورِيٍّ للمُسلِمينَ في العَالَمِ؛ إِذ لا يُمكِنُ للمُسلِمِينَ أَبدًا أَن يَجتمِعُوا ويَحتشِدُوا بهَذا العَددِ في وَقتٍ وَاحدٍ وفي مَكانٍ وَاحدٍ يُلبُّونَ تَلبِيةً وَاحدةً ويَلبسُونَ ثِيابًا وَاحدةً إلا علَى صَعيدِ عَرفاتٍ.
عبادَ اللهِ: عظموا عشركم ومنها يوم عرفة، ومن تعظيمه:
التَّفرُّغُ التامُّ للعبادةِ في هذا اليومِ.
ثانيًا: صِيامُ هذا اليومِ؛ فقدْ خَصَّهُ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمزيدِ عنايةٍ؛ حَيثُ خصَّهُ مِنْ بينِ أَيامِ العَشرِ، وبيَّنَ ما تَرتَّبَ على صِيامهِ مِنَ الفضلِ العَظِيمِ؛ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ” (رواهُ مُسلمٌ).
والحذرَ الحذرَ مِنَ التَّفرِيطِ في صِيامِ هذا اليَومِ، فإنَّ صِيامَهُ سُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ، يُكفِّرُ اللهُ فيهِ السِّيئاتِ، ويَرفعُ اللهُ بهِ الدَّرَجاتِ، ويَنبغِي حَثُّ الأهلِ والأولادِ على صِيامِ هذا اليَومِ وإدْرَاكِهِ.
ومِنهَا: الإِكثارُ منَ التَّهلِيلِ والتَّسبِيحِ والاستِغفَارِ في هذا اليومِ العَظِيمِ؛ فعنِ ابنِ عُمرَ -رضيَ اللهُ عنهما- قالَ: “كنَّا معَ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غَدَاةِ عَرَفةَ، فمِنَّا المُكَبِّرُ ومِنَّا المُهَلِّلُ” (رواهُ مُسلمٌ).
ومِنهَا: التَّكبِيرُ، حيثُ يَبدأُ التَّكبِيرُ المُقيَّدُ لغَيرِ الحَاجِّ عَقِبَ صَلاةِ الفَجرِ مِنْ هذا اليومِ إلى آخِرِ أيَّامِ التَّشرِيقِ، وأما التكبير المطلَق فَلا يَزالُ مِن أَولِّ الشَّهرِ مُستمِرًّا حتى مغيب شمس الثالثِ عشر.
هذا وللدُّعَاءِ في يَومِ عَرفةَ مَزِيَّةٌ علَى غَيرِهِ، فإنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: “خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ” (رواهُ التِّرمِذيُّ). ولْيَحرِصِ المُسلِمُ على الدُّعاءِ في هذَا اليومِ العَظِيمِ اغتنامًا لفِضلِهِ ورَجاءً للإجابةِ والقَبُولِ، وأنْ يَدعوَ لنفسِهِ ووالِدَيْهِ وأَهلِهِ وللإِسلامِ والمسلِمِينَ. وكم من دعوة تقبلها الله في ذلك اليوم العظيم من أيام الله ونفحاته وهباته ورحماته.
ومِنهَا: الإكثارُ مِنْ شهادةِ التوحيدِ في هذا اليومِ: فإنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: “خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفة، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (رواهُ التِّرمِذيُّ).
عبادَ اللهِ: إنَّ تَقرِيبَ القَرِابِينِ وذَبحَ الأَضَاحِي للهِ -عزَّ وجَلَّ- شَعِيرةٌ مِن الشَّعَائِرِ القَدِيمةِ، وعِبادَةٌ مِن العِبادَاتِ الأُولَى للبشر، لهذَا لَمْ تَخْلُ منها شَرِيعةٌ مِن الشَّرَائعِ الإِلهيَّةِ في وقتٍ مِن الأَوقاتِ، وقَارِئُ القُرآنِ يُدرِكُ قِدَمَ هذهِ العِبَادةِ في قَولِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا)[الْمَائِدَةِ: 27]، وقولِه -تعالى-: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)[الْحَجِّ: 34].
أيها المؤمنونَ: شُرِعَتِ الأُضحِيةُ في السَّنةِ الثَّانيةِ للهِجرَةِ، وكانَ يُدَاوِمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَى فِعلِ الأُضحِيةِ، وقد استَمرَّ على ذَلكَ عشرَ سِنينَ مُنذُ أنْ قَدِمَ المدينةَ.
وهذِهِ العِبادةُ تَأتِي شُكرًا للهِ على نِعَمه، وإحياءً لسُنَّةِ إبراهيمَ الخليلِ، وتذكيرًا للمُسلمِ بصَبرِ إبراهيمَ وإسماعيلَ، وإيثَارِهِمَا طَاعةَ اللهِ ومحبَّتِهِ على محبَّةِ الوالدِ والوَلدِ، كمَا وتَأتِي تَوسِعةً على النَّفسِ وأَهلِ البيتِ، ونَفعًا للفَقِيرِ، وأَجرًا لِمَنْ تَصدَّقَ بهَا.
قال ابنُ بازٍ -رحمهُ اللهُ-: “الأُضحِيةُ سُنةٌ مُؤكَّدةٌ، تُشرَعُ للرجلِ والمرأةِ، وتُجزئُ عَنِ الرَّجلِ وأهلِ بَيتِهِ، وعنِ المرأةِ وأهلِ بيتِهَا؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانَ يُضَحِّي كلَّ سَنَةٍ بكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، أحدُهُمَا عَنه وعنْ أهلِ بيتِهِ، والثَّانِي عَمَّنْ وَحَّدَ اللهَ مِن أُمَّتِهِ“.
 وعلَى المُسلِمِ أنْ يَعتَنِيَ باختِيارِ الأُضحِيَةِ، وكلَّمَا كانتِ الأضحيةُ أَكْمَلَ في ذَاتِهَا وصِفَاتِهَا وأحسنَ مَنظَرًا وأغْلَى ثَمنًا فهِي أَحَبُّ إلى اللهِ وأعظمُ لأجرِ صَاحِبِهَا، قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ: “والأجرُ في الأُضحيةِ على قَدْرِ القِيمَةِ مُطْلقًا” اهـ.
ولقدْ كانَ المسلمونَ في عَهدِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُغَالُونَ في الهَدْيِ والأضَاحِي، ويختارونَ السَّمِينَ الحَسَنَ، قالَ أَبو أُمَامَةَ بنُ سَهْلٍ: “كُنَّا نُسَمِّنُ الأُضْحِيةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ“. (رواهُ البخاريُّ مُعَلَّقًا).
عبادَ اللهِ: بيَّنَ سُبحانه الحكمةَ مِن ذَبحِ الأضَاحِي والهَدايَا بقولِهِ: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)[الْحَجِّ: 37]، قال السَّعدِيُّ -رحمهُ اللهُ-: “ليسَ المقصودُ منها ذَبْحَهَا فَقَطُ. ولا يَنالُ اللهَ مِن لُحُومِهَا ولا دِمائِهَا شَيءٌ؛ لِكونِهِ الغَنيَّ الحميدَ، وإنَّما يَنالُهُ الإخلاصُ فيهَا، والاحتِسَابُ، والنِّيَّةُ الصَّالِحةُ، ولهَذا قالَ: (وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)[الْحَجِّ: 37]، ففي هذا حَثٌّ وتَرغِيبٌ على الإِخلاصِ في النَّحْرِ، وأنْ يكُونَ القَصدُ وَجهَ اللهِ وحْدَهُ، لا فَخرًا ولا رِياءً، ولا سُمعَةً، ولا مُجرَّدَ عَادةٍ، وهكَذا سَائِرُ العِباداتِ إنْ لم يَقتَرِنْ بها الإِخلاصُ وتَقوى اللهِ، كانتْ كالقُشُورِ الذي لا لُبَّ فيهِ، والجَسَدِ الذي لا رُوحَ فيهِ“. اهـ.
ومِنْ أَهمِّ مَقاصدِ الأضحيةِ -أيها المؤمنونَ- تَوحيدُ اللهِ -سُبحانهُ وتعالَى-، وإخلاصُ العبادةِ لهُ وحدَهُ؛ وذلكَ بذِكْرِهِ وتكبِيرهِ عندَ الذَّبحِ، قالَ تعالَى عنِ الأضاحِي: (كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ)[الْحَجِّ: 37].
وإِلى الذِينَ عَجَزوا عَن شِرَاءِ الأُضحيةِ، نَقُولُ لَهُم: هَنِيئًا لكُمُ البُشْرى؛ فقَدْ ضَحَّى عنكُم رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ضَحَّى عَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِن أُمَّتِهِ، فإنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما قَضَى خُطبَتَه ونَزَلَ مِن مِنْبَرِه أُتِيَ بِكَبْشٍ فذَبَحَهُ بيدِهِ، وقالَ: “بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي“.
نَسألُ اللهَ العظيمَ ربَّ العرشِ العظيمِ أن يُوفِّقَنَا وإيَّاكُم لتعظِيمِ شَرَائعِه وشَعَائِرِه، وأَن يجْعَلَنَا مِنَ المؤمِنِينَ المُخْبِتِينَ المسلمينَ التَّائِبِينَ العَابِدِينَ القَانِتِينَ.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفرُوه، إنَّه هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
........
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ… أما بَعدُ:
أيها المؤمنونَ: اتقوا الله تعالى واعلموا أن من أعظم أعمال العشر حج بيت الله العتيق، وهو الركن المكمل للإسلام فمن مات ولم يحج فرضه مع قدرته فذنبه عظيم، أما متابعة الحج فهي من تعظيم شعائر الله وهي من أعظم أسباب غفران الذنوب، فالسعيد من كان لله حاجًا مقبولًا.
واعلموا أن أعمال الحج تكون على ثلاثة أقسام : ( الأول ) أركان لا يصح الحج أو لا يتم إلا بها: وهي ( الإحرامُ، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والسعي بين الصفا والمروة).
 (الثاني ) واجباتٌ، وهي: ( الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس لمن وقف نهاراً ، والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل لمن وافاها قبل ذلك ، ورمي الجمار ، والحلق ، أو التقصير، والمبيت بمنى لياليَ أيام التشريق لمن استطاع ، وطوافُ الوداع على غير الحائض والنفساء).
 (الثالث) مستحبات وهي : ما عدا هذه الأركانِ والواجبات ، فمن ترك ركناً من أركان الحج فإن كان الإحرامُ أو الوقوفُ بعرفة لم يصحَّ حجُّه ، وإن كان غيرهما لم يتم الحجُّ إلا به. ومن ترك واجباً فعليه دم ، ومن ترك سنة فلا شيء عليه.
واعلموا أن آخِر هذِه العَشْرِ الفَاضلَةِ، هوَ أَعظمُ الأيَّامِ عِندَ اللهِ، عِيدُ الأَضحَى فهو أَفضَلُ الأيامِ على الإطلاقِ، كمَا صحَّ عنهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قَالَ: “إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ” (رواه الإمامُ أَحمدُ.
والفَرَحُ فِيهِ مِنْ مَحَاسِنِ هذَا الدِّينِ وشَرَائِعِهِ؛ فعَنْ أَنسٍ -رِضيَ اللهُ عَنهُ- قالَ: قَدِمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأهلِ المَدِينةِ يَومَانِ يَلعَبُونَ فِيهمَا في الجَاهِليةِ، فقالَ: “قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَلَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ يَوْمَيْنِ خَيْرًا مِنْهُمَا، يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ” (رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنسائيُّ).
ويُسَنُّ الإِمسَاكُ عَنِ الأَكلِ في عِيدِ الأَضحَى حتى يُصلِّيَ، لِيأكُلَ منْ أُضحِيَتِهِ. بخلافِ عِيدِ الفِطرِ.
ويشرعُ للمُسلمِ التَّجَمُّلُ في العيدِ بلُبسِ الحَسَنِ مِنَ الثيابِ والتطيُّبِ.
ويُستَحَبُّ لهُ الخروجُ مَاشيًا إنْ تَيسَّرَ، ويُكثِرُ مِنَ التَّكبِيرِ حتى يَحضُرَ الإمامُ، ويَرجِعُ مِنْ طَريقٍ آخَرَ. هكَذا كانَ يَفعَلُ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
ومِن أَعظَمِ شَعائِرِ الإِسلامِ في هذا اليومِ، أَداءُ صَلاةِ العِيدِ، وقَد صَلاَّهَا النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودَاوَمَ علَى فِعلِهَا هو وأَصحَابُهُ والمسلمونَ.
وكَذا الجُلُوسُ لِسمَاعِ خُطبَةِ العِيدِ، وعَدمُ الانِشغالِ عَنها بشيءٍ كالتهنِئةِ أَو رَسائِلِ الهَاتِفِ الجَوَّالِ أَو غَيرِ ذَلكَ.
تَقبَّلَ اللهُ مِن الجَميعِ صَالحَ العَملِ وأعَانَ ويَسَّرَ الفَوزَ بهذِه الأيامِ المبَاركَةِ.
هذَا وصَلُّوا وسلِّموا -رحِمَكمُ اللهُ- على النبيِّ المصطفَى، والحبيبِ المُجتَبَى، كما أمرَكُم بذلكَ ربُّكم -جلَّ وعلا-، فقالَ تعالى قولًا كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ صلَّى عليَّ صَلاةً صلَّى اللهُ عليهِ بِهَا عَشْرًا“.