إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 28 أبريل 2016

موقف المؤمن من حاسديه وشانئيه

موقف المؤمن من حاسديه وشانئيه
21/7 /1437
الحمد لله خالقُ الدُّجى والصباح، ومسبِّب الهدى والصلاح، ومقدِّر الغموم والأفراح. عزَّ وارتفع، وفرَّق وجمع، ووصل وقطع، وحرَّم وأباح. مَلَكَ وقدَّر، وطوى ونشر، وخلق البشر، وفَطَر الأشباح. رفع السماء، وأنزلَ الماء، وعلَّم آدَمَ الأسماء، وذَرَى الرِّياح. أعطى ومنح، وأنعم ومدح، وعفا عمَّنِ اجْتَرَح، وداوى الجراح. علم ما كان ويكون، وخلق الحركة والسكون، وإليه الرجوع والركون في الغد والرَّوَاح. يتصرَّف في الطُول والعرض، وينصب ميزان يوم العرض: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾.
أحمده سبحانه وأستعينه وأتوكَّل عليه، وأسأله التوفيق لعمل يقرِّب إليه، وأشهد بوحدانيته في ألوهيته وربوبيته. وأن محمدًا عبدُه المقدَّم، ورسوله المعظم، وحبيبُه المكرَّم، تفديه الأرواح. صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
عباد الله: إن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وأسألوه سلامة الصدور وطهارة القلوب، فالفائز عند الله غذًا هو من سلم صدره اليوم.
وإياكم والحسد فإنه آكل الحسنات، وموبِقُ إبليسَ في أسحق الدركات، ومن ابتلي بخوف من حسد فعليه بالتالي: قال ابن القيم رحمه الله: "ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرةِ أسباب:
 أحدها: التعوذُ بالله تعالى من شره، واللجوء والتحصن به، واللجوء إليه، والله تعالى سميع لاستعاذته عليم بما يستعيذ منه، والسمع هنا المراد به سمع الإجابة، لا السمع العام، فهو مثل قوله سمع الله لمن حمده.
السبب الثاني: تقوى الله وحفظُه عند أمره ونهيه، فمن اتقى الله تولى اللهُ حفظَه ولم يكله إلى غيره، قال تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك" رواه الترمذي بسند صحيح. فمن حفظ الله حفظه الله ووجده أمامه أينما توجه، ومن كان الله حافظه وأمامه فمّمن يخاف وممن يحذر؟
 السبب الثالث: الصبر على عدوه، وألا يقاتله ولا يشكوه ولا يحدّث نفسه بأذاه أصلًا، فما نُصِر على حاسده وعدوّه بمثل الصبر عليه والتوكل على الله، ولا يستطل تأخيره وبغيَه، فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جندًا وقوة للمبغيٍّ عليه المحسود، يقاتل به الباغي نفسه وهو لا يشعر، فبغيه سهام يرميها من نفسه.
 ولو رأي المبغي عليه ذلك لسرّه بغيه عليه، ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي دون آخره ومآله، وقد قال تعالى: (ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله) فإذا كان الله قد ضمن له النصر مع أنه قد استوفى حقه أولًا، فكيف بمن لم يستوف شيئًا من حقه، بل بُغى عليه وهو صابر؟! وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم، وقد سبقت سنة الله أنه لو بغى جبل على جبل جعل الباغي منهما دكًّا.
السبب الرابع: التوكلُ على الله (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وهو من أقوى الأسباب في ذلك، فإن الله حسبه أي كافية ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش، وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدًا.
 وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يتشفّى به منه.
قال بعض السلف: جعل الله تعالى لكل عمل جزاءً من جنسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده، فقال: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) ولم يقل: نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكل العبد على الله تعالى حق توكله وكادته السماوات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجًا من ذلك وكفاه ونصره.
والتوكل من أجل مقامات العارفين وكلما علا مقام العبد كانت حاجاته إلى التوكل أعظم وأشد، وعلى قدر إيمان العبد يكون توكله.
السبب الخامس: فراغُ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له، فلا يلتفت إليه ولا يخافه ولا يملأ قلبه بالفكر فيه.
 وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره، فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوُّه ليمسكه ويؤذيه فلم يتعرض له ولا تماسك هو وإياه، بل انعزل عنه فلم يقدر عليه عدوه، فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به؛ بقي الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضًا، فإن الحسد كالنار فإذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضًا.
 وهذا باب عظيم النفع لا يُلقّاه إلا أصحابُ النفوس الشريفة والهمم العالية، والكيّس الفطن بذلك يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه، لأنه يرى أن من أعظم عذاب القلب والروح اشتغاله بعدوّه وتعلّق روحه به، ولا يرى شيئًا ألم لروحه من ذلك، ولا يصدق بهذا إلا النفوس المطمئنة اللينة، التي رضيت بوكالة الله لها، وعلمت أن نصره لها خير من انتصارها هي لنفسها، فوثقت بالله وسكنت إليه واطمأنت به، وعلمت أن ضمانَه حق ووعده صدق، وأنه لا أوفى بعهده من الله ولا أصدقَ منه قيلًا، فعلمت أن نصره لها أقوى وأثبتُ وأدومُ وأعظم فائدة من نصرها هي لنفسها أو نصر مخلوق مثلها لها. ولا يقوى على هذا إلا بالسبب السادس.
السبب السادس: وهو الإقبال على الله والإخلاص له وجعل محبته ومرضاته والإنابة إليه في محل خواطر نفسه وأمانيها، فتدب فيها دبيب الخواطر شيئًا فشيئًا حتى يقهرَها ويغمرها ويذهبها بالكلية فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محابّ الرب والتقرب إليه وتملقه وترضّيه واستعطافه وذكره كما يذكر المحب التام المحبة لمحبوبه المحسن إليه الذي قد امتلأت جوانحه من حبه، فما أعظم سعادة من دخل هذا الحصن، لقد آوى إلى حصن لا خوف على من تحصّن به، ولا ضيعة على من آوى إليه، ولا مطمع للعدو في الدنو إليه منه، وذلك (فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)
 السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه، فإن الله تعالى يقول: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) وقال لخير الخلق وهم أصحاب نبيه دونه: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مما علمه وعمله أضعاف ما يذكره!
وفي الدعاء المشهور: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لم لا أعلم" صححه الألباني، فما يحتاج العبدُ إلى الاستغفار منه مما لا يعلمُه أضعافَ أضعافِ ما يعلمُه، فما سُلّط عليه مؤذ إلا بذنب.
 ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه فقال له: قف حتى أدخلَ البيت ثم أخرجَ إليك، فدخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب وأناب إلى ربه ثم خرج إليه فقال له: ما صنعت؟ فقال: تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به عليّ.
 وليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، فإذا عُوفي من الذنوب عوفي من موجباتها، فليس للعبد إذا بُغي عليه وأوذي وتَسَلّط عليه خصومُه شيء أنفع له من التوبة النصوح.
 وعلامةُ سعادته أن يعكس فكرَه ونظره على نفسه وذنوبِه وعيوبه فيشتغلَ بها وبإصلاحها، وبالتوبة منها، فلا يبقى فيه فراغ لتدبّر ما نزل به، بل يتولى هو التوبةَ وإصلاحَ عيوبِه، واللهُ يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه ولا بد.
 فما أسعده من عبد، وما أبركها من نازلة نزلت به، وما أحسن أثرها عليه، ولكن التوفيقَ والرشد بيد الله، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، فما كلُّ أحد يوفق لهذا لا معرفة به ولا إرادة له ولا قدرة عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
 الحمد لله الذي لا أوَّل لوجوده، ولا آخر لجوده، لا إله إلا هو،  وصلى الله على خير مبعوث بشرائعه وحدوده، وعلى الصحابة وأزواجه وجنوده، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد عباد الرحمن:
اتقوا الله تعالى حق التقوى، واغسلوا قلوبكم من حوبات الذنوب وطهروا صدوركم من نجاسات الأحقاد والشحناء والحسد والبغضاء. ومن توكل على ربه وفوض إليه أمره أوشك أن يصل بإذنه ورحمته.
 السبب الثامن من أسباب السلامة من كيد الحاسدين: الصدقةُ والإحسان ما أمكنه، فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد، ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأمم قديمًا وحديثًا لكفى به، فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملًا فيه باللطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبة الحميدة.
 فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته، عليه من الله جُنّة واقية وحصن حصين، وبالجملة فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببًا لزوالها.
 والحاسد والعائن لا يفتر ولا يني ولا يبرد قلبه حتى تزول النعمة عن المحسود، فحينئذ يبرد أنينه وتنطفيء ناره - لا أطفأها الله - فما حرسَ العبدُ نعمةَ الله تعالى عليه بمثل شكرها، ولا عرّضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله وهو كفران النعمة، وهو بابٌ إلى كفران المنعم.
 فالمحسن المتصدق يستخدم جندًا وعسكرًا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه، فمن لم يكن له جند ولا عسكر وله عدو فإنه يوشك أن يظفر به عدوه وإن تأخرت مدة الظفر والله المستعان.
 السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقّها عليها ولا يوفق له إلا من عظُم حظُّه من الله؛ وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه. فكلما ازداد أذى وشرًّا وبغيًا وحسدًا ازددت إليه إحسانًا وله نصيحة وعليه شفقة، وما أظنك تصدّق بأن هذا يكون، فضلًا عن أن تتعاطاه، فاسمع الآن قوله عز وجل: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وأما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) وقال: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرأون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون)
 وتأمل حال النبي الذي حكى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم أنه ضربه قومه حتى أدموه فجعل يسلت الدم عنه ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" متفق عليه، كيف جمع في هذه الكلمات أربعَ مقامات من الإحسان قابل بها إساءتهم العظيمة إليه: أحدُها عفوُه عنهم، والثاني استغفارُه لهم، الثالث اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون، الرابع استعطافه لهم بإضافتهم إليه فقال: (اغفر لقومي) كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به: هذا ولدي، هذا غلامي، هذا صاحبي فهبه لي.
واسمع الآن ما الذي يسهل هذا على النفس ويطيبه إليها وينعمها به:
 اعلم أن لك ذنوبًا بينك وبين الله تخافُ عواقبَها وترجوه أن يعفوَ عنها ويغفرَها لك ويهبَها لك، ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله، فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابل به إساءتك فما أولاك وأجدرَك أن تعاملَ به خلقه وتقابل به إساءتهم ليعاملك الله هذه المعاملة، فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاء وفاقًا، فانتقم بعد ذلك أو اعف وأحسن أو اترك فكما تدين تدان، وكما تفعل مع عباده يفعل معك.
 فمن تصوّر هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى ما أساء إليه هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيّته الخاصة كما قال النبي للذي شكى إليه قرابته وأنه يحسن إليهم وهم يسيئون إليه فقال: "لا يزال معك من الله ظهيرٌ ما دمت على ذلك" رواه مسلم.
هذا مع ما يتعجلَه من ثناء الناس عليه ويصيرون كلهم معه على خصمه، فإنه كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير وهو مسيء إليه وجد قلبه ودعاءه وهمته مع المحسن على المسيء، وذلك أمر فطري فطر الله عباده فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكرًا لا يعرفهم ولا يعرفونه ولا يريدون منه إقطاعًا ولا شكرًا.
 وفي الجملة ففي هذا المقام من الفوائد ما يزيد على مئة منفعة للعبد عاجلةً وآجلة.
 السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كله وعليه مدار هذه الأسباب وهو تجريدُ التوحيد والترحّلُ بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم.
 والعلم بأن هذه آلاتٌ بمنزلة حركات الرياح وهي بيد محركها وفاطرها وبارئها، ولا تضرّ ولا تنفع إلا بإذنه، فهو الذي يحسن عبده بها وهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه، قال تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله)
 وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك" فإذا جرد العبدُ التوحيدَ فقد خرج من قلبه خوفُ ما سواه، وكان عدوّه أهونَ عليه من أن يخافَه مع الله تعالى، بل يُفردُ الله بالمخافة وقد أمنه منه وخرج من قلبه اهتمامه به واشتغاله به وفكره فيه، وتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلًا واشتغالًا به عن غيره، فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده".

اللهم صل على محمد...

الجمعة، 22 أبريل 2016

أسباب التشاحن بين المؤمنين


أسباب التشاحن بين المؤمنين
15/ 7 /1437
 الحمد لله..
عباد الله لقد وصاكم الله بالأُلفة ونهاكم عن البغضاء والقطيعة، واعلموا أن الشيطان لا يريد بكم خيرًا بل هو ساع في التحريش بينكم. قال ربنا تعالى آمرًا عباده بانتقاء القول الحسن والكلام اللطيف والأسلوب الرفيق مع بعضهم لأن الشيطان يدخل بينهم على وجه الإفساد وتقسية القلوب : (وقل لعبادي يقولوا التي هي احسن) وليس الحسنُ فقط بل الأحسن، ثم حذر من كيد عدوهم المفسدِ ذاتَ بينِهم (إن الشيطان ينزغ بينهم) والنزغ هو الإلقاء الخفي للشر في القلوب، ثم ذكر حاله الدائم مع المؤمنين: (إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا } أي ظاهر العداوة قديم الكيد ضاري الشر.
وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم". رواه مسلم.
والتحريش: هو الإفساد وتغيير قلوبهم وتقاطعهم. قال القاضي: والتحريش الإغراء على الشيء بنوع من الخداع، وقد انتشر الآن تلبيسُه في البلاد والعباد والمذاهب والأعمال، فعلى العبد أن يقف عند كل همّ يخطر له ليعلم أنه لمّةُ ملك أو لمة شيطان، وأن يُمضي النظرَ فيه بنور البصيرة والهدى لا بهوى من الطبع (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون).
وبالجملة فمائدة الشيطان هي التحريش وإثارة نعرات الفرقة في المسلمين، وطعامُه دينهم وأعراضهم ودماؤهم، والموفق من كان حريصًا على أُلفتهم واجتماعهم، والمخذول المشؤوم من أوقد مراجل فرقتهم ونبش أسباب شرهم ونشرها، والله المستعان.
ومن أسباب الشحناءِ الغضبُ، قال جعفر بن محمد: الغضب مفتاح كل شر. وصدق رحمه الله فالغضب شعبة من الجنون، وأنقص ما يكون عقل المرء إذا غضب، ويوشك عدوه الرجيم أن يظفر به في ساعة غضب ما يهدم سنوات خير كان يعمرها!
وقال بعض السلف: أقرب ما يكون العبد من غضب الله عز وجل، إذا غضب.
واعلم أن لتسكين الغضب إذا هجم أسبابًا يستعان بها على الحلم منها:
 أن يذكر الله عز وجل فيدعوه ذلك إلى الخوف منه، ويبعثُه الخوف منه على الطاعة له، فيرجع إلى أدبه ويأخذ بندبه. فعند ذلك يزول الغضب. قال الله تعالى: { واذكر ربك إذا نسيت } قال عكرمة: يعني إذا غضبت
وقد وصى صلى الله عليه وسلم باجتناب موجبات الغضب وبكظم الغيظ عند استفحاله، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه
 فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه وصية وجيزة جامعة لخصال الخير ليحفظها عنه خشية ألا يحفظها لكثرتها، ووصاه النبي ألا يغضب، ثم ردد هذه المسألة عليه مرارًا والنبي صلى الله عليه وسلم يردد عليه هذا الجواب، فهذا يدل على أن الغضب جماع الشر وأن التحرز منه جماع الخير، ولعل هذا الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه هو أبو الدرداء كما عند الطبراني.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من غضب بتعاطي أسباب تدفع عنه الغضب وتسكنه، ويمدح من ملك نفسه عند غضبه، ففي الصحيحين عن سليمان بن صُرَدٍ رضي الله عنه قال: كنت جالسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ورجلان يستبّان، وأحدهما قد احمر وجهه، وانتفخت أوداجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ذهب منه ما يجد".
ومَن غضب فليسكت، وما أحسن قول مورق العجلي رحمه الله: ما امتلأتُ غضبًا قط، ولا تكلمت في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت.
والوضوء نافع عند الغضب، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِن الغضبَ مِن الشيطان، وإِن الشيطان خُلق من النار، وإِنما تُطفأ النارُ بالماء، فإِذا غَضِبَ أحدُكم فليتوضأ" رواه أحمد بسند حسن.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تعدون الصُّرَعةَ فيكم؟" قلنا: الذي لا تصرعه الرجال. قال: "ليس ذلك ولكنه الذي يملك نفسه عن الغضب"
 وكظم الغيظ فضيلة يحبها الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كظم غيظًا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء" رواه أبو داود.
عباد الله، ومن أسباب التشاحنِ النميمة بين المؤمنين، ويكفي من شؤمها تحريمُ الجنة على صاحبها قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمام" متفق عليه.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "مَرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قبرين، فقال: أما إنَّهما ليعذَّبان، وما يعذَّبان في كبير، ثم قال: بلى، أمَّا أحدهما: فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر: فكان لا يستتر من بوله، قال: فدعا بَعسِيب رَطْب، فشَقَّه باثنين، ثم غرس على هذا واحدًا، وعلى هذا واحدًا، ثم قال: لعله أن يُخفَّف عنهما ما لم يَيْبَسَا". متفق عليه.
ومن أسبابها الحسد وهو آكل الحسنات، ولقد تأملت سيءَ الأخلاق فما رأيت أشأم من خَصلتي الكبر والحسد، ثم تأملتها في القرآن فوجدتهما سبب إبلاس إبليس في الشر وارتكاسه في الخذلان ووقوعه في اللعنة والرجم.
لقد حسد آدم وتكبّر عليه، فأخلِق بمن تشبّه به في سواد قلبه أن يمتنع الخير عن قلبه ومن قلبه، فحبُّ الخيرِ للناس محتاج لقلب واسع طاهر ونيّةٍ طيبة حسنة، وقبل ذلك لمحض توفيق من الرحمن.
 والشيطان حريص على تلويث قلوب العباد بسواد خبثه وقتار شؤمه، ولم يجد من رواحله كالحسد والكبر. فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه: أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "دَبَّ إليكم دَاءُ الأُممِ قَبلَكم: الحسدُ والبغضاءُ، وَهي الْحَالِقةُ أمَا إنَّي لا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعْرَ، ولكن تَحْلِقُ الدَّينَ، والَّذي نَفْسي بِيدِه لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حتَّى تُؤمِنوا، ولا تُؤمِنُون حتى تَحابُّوا، أَلا أدُّلكم على مَا تَتَحَابُّونَ بِهِ؟ افْشُوا السلامَ بينَكم" رواه أحمد.
ومن أسبابها المراء والجدال. قال مالك: المراء يقسي القلوب ويورث الضغائن.
وتاركه موعود بقصر في الجنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا زعيمٌ ببيت في رَبَض الجَنَّة لمن ترك المِراء وإن كان مُحِقّا، وببيت في وَسَط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حَسنَ خُلُقَهُ". رواه أبو داود.
ومن أكثر ما يفرّق بين الإخوان المماراة، فيقول الأول شيئًا فيخالفُه صاحبه، فيدلي كلًّا بحجج تدعم مذهبه ورأيه، ثم يتعصب له وترتفع الأصوات، ثم يتحول محور الحديث لنقد ذات الشخص لا لقوله ورأيه، ثم تُستحضر المواقف البعيدة والقريبة، مع تلوينها بسوء الظنون وإظهارها بأقسى الألفاظ وأوحش التشبيهات، فتكون النهاية المؤسفة الفرقة والقطيعة والتسبب في عدم رفع الأعمال مع حرمان بركة الاجتماع ورحمته.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ضَلَّ قَوْمٌ بعدَ هُدى كانوا عليه إلا أُوتُوا الجَدَال، ثم تَلاَ { ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلا جَدَلا ، بلْ هُمْ قومٌ خَصِمُون } رواه الترمذي.
واعلم أن المراءَ داءُ الفضلاء، فحتى أهلُ العلمِ والفضل لم يسلموا من وضر تلك الإحنةِ النفسانية – ومرجعها الحسد – فترى في ردود بعضهم على بعض – مع أهميتها - انتصار ظاهر للنفس وهضم قبيح لحق أخيه وإشاعة لعيبه الذي لا علاقة له بما رُدَّ عليه فيه، وتزَيّد وتكبّر ورتعُ عرضٍ حرام. ولو راجع الفقيه نفسه لرأى أنه منتصر لهواه لا لهداه، والله الحافظ الهادي المستعان.
عباد الله، ومنها الهوى. والهوى يهوي بصاحبه في الهاوية قال تعالى: { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ }  وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوًى متبع، وإعجابُ المرء بنفسه. وثلاث منجيات: خشيةُ الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، والعدل في الغضب والرضا". حسنه الألباني. فمن عُصم من شر هواه فقد عصم من الشر كله.
ومن الأسباب: البغيُ عند الخلاف ولم يسلم من ذلك سوى أقل الناس. ومنها التعصب لغير الحق. سواء لمذهب أو قبيلة أو غير ذلك من دهاليز الهوى، وهي آفةٌ سوداء في ثوب المؤمن، وهي تابعة للهوى، ودالة على ضعف التسليم لله ووهن الإسلام في القلب، فالإسلام عقد على الاستسلام لله واتباع دينه جملة وتفصيلًا، وفي الساعة التي يولّي المرء ظهره للحق معنقًا في طِوَل باطله فقد أطلق بعض ما عقَده من شعب الإيمان، وبحسب إطلاقه وحنثه وخُلفِه يكون بعده وخذلانه وخيبته.
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه: قال: قالَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَن قُتِلَ تحت راية عِمِّيَّة يَدْعُو عَصَبيَّة، أو ينصر عَصَبيَّة، فَقِتْلة جَاهِليَة". رواه مسلم والعِميّة: الجهالة والضلالة، أي فقتله قتل جاهلي.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا في غزاة - قال سفيان: يرون أنها غزوة بني المصطلق-  فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال المهاجري: يالَلمهاجرين! وقال الأنصاري: ياللأنصار!
فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بالُ دعوى الجاهلية؟!" قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلًا من الأنصار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة" رواه الترمذي وصححه الألباني.
ومن نصب شخصًا - كائنا من كان - فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو { من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } الآية.
ومن أسباب الشحناء: سوء الظن. ومن هذا التنور انقدح شررُ نيرانِ العداوات بين كثير من عباد الله، والله تعالى قد ربّانا ووعظنا بقوله الأعز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) فنهى الله عباده عن كثير من الظن، وهو التهمة في غير محلها؛ لأن بعض ذلك يكون إثما محضًا، فليجتنبَ كثيرا منه احتياطًا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" متفق عليه. وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملًا.
ومن ساء عملُه ساء ظنه، فهو يرى غيرَه بعين طبعه لا عينِ إنصافه.
إِذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ ... وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ
بارك الله لي ولكم.....
...................
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
عباد الله، ومن أسباب الشحناء: التنافسُ على الدنيا. وبما أن معيارَ الغنيمةِ عند بعض من خُذلوا حطامٌ فانٍ، فلا عجبَ إذن من تهالك الفراش على نارها، فالقلوبُ غير المحفوظة بحب الله والدار الآخرة هي كالفراش التائه حول ضرام الموقدة، والله المستعان.
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا فتحت عليكم فارس و الروم، أيّ قوم أنتم؟" قيل: نكون كما أمر الله، قال: "أو غير ذلك! تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون، ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض" رواه مسلم.
أنها الدنيا الحطامُ الفاني والحظ الزائل، حلالها حساب وحرامها عقاب، من تركها تبعته، ومن تبعها تركته، فتنة لكل مفتون، وعون على طاعة الله لكل موفق منيب.
وما هي إلا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همّهنّ اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلمًا لأهلها ...  وإن تجتذبها نازعتك كلابها
ومن الأسباب: حب الرئاسة. وحب الرئاسة من فروع حب الدنيا، وهو آخرُ ما يسقط من رؤوس الصدّيقين، فترى الرجل من أزهد الناس في المال والمتاع حتى إذا هزهزه منصب أو رئاسة تهالك على تحصيله ونسي ما كان يوعظ به، والله المستعان.
قال الفضيل: ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحدا بخير.
ومن الأسباب: اختلاف الصفوف في الصلاة. فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوّي صفوفنا حتى كأنّما يسوّي بها القداح – أي خشب السهام - حتى إذا رأى أنا قد عقلنا عنه. ثم خرج يومًا فقام حتى كاد أن يكبّر فرأى رجلا باديًا صدره، فقال: "عباد الله، لتسوّنّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم". رواه مسلم، فتأمل شؤم المخالفة في الصف بالوعيد بأن يختلفوا في وجوههم ويتعادون.
ومن الأسباب: النجوى بين المؤمنين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَينَّ اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يحزنه". رواه مسلم.
ومنها: كثرةُ المزاح. والمزاح لا بأس به على الندرة أو في المرّة تلو المرّة، بحيث لا يكون طبعًا معتادًا، ولا يكون كذبًا ولا مشتملًا على محرم ولا أذى، وقد كان صلى الله عليه وسلم يفاكه أصحابه ويداعبهم ويمازحهم لكنه لا يقول إلا حقًّا وصدقًا وبإدخال السرور والفرح بلا أذية. وكم من كلمة أراد بها صاحبها المفاكهة والممازحة نتجت حربًا وقتلًا، والعاقل من اتعظ بغيره.
وبالجملة فالمزاح لا بد أن يكون بقدر، وأن تحفظ له آدابه وأوقاته وأشخاصه، فليس كل وقت يصلح له ولا كل شخص يتقّبله ولا كل حال يكون مناسبًا له. وبالله التوفيق.
وذَكر خالدُ بن صفوان المزاح فقال: يصكُّ أحدُكم صاحبَه بأشدِّ من الجندل، وينشِّقه أحرقَ من الخردل، ويفرغ عليه أحرّ من المرجل، ثم يقول: إنما كنت أمازحك!
ومن الأسباب: المعصية. وشؤم الذنوب لا حدّ له، ومن هتك ستر محارم الله فهو حري بنقص معية ربه له بحفظه وعنايته وتيسير الخير له، ومن الثمار المرّة للمعصية الجفوة في قلوب العباد للعاصي حتى وإن لم يعلموا معصيته، فيحسون بنوع نفرة منه، كذلك فالعاصي قاسي القلب فيركب المعصية غير مبال بسوء العاقبة فلا يرعى حرمة قطع رحمه أو هجر مسلم لدنيا ولا يهمه تغليظ الوعيد على من فعل ذلك.
كذلك فالمعاصي بذاتها سبب للتشاحن، ولو تأملت قضايا الشحناء بين الناس لرأيت كثيرًا منها كان شرره معصية، والله المستعان.
وما نزل بلاء إلا بذنب ولا ارتفع إلا بتوبة، ومن البلاء المشاحنة والخصومات بين المؤمنين. قال أحد السلف: إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي.

اللهم صل على محمد..

الخميس، 14 أبريل 2016

سلامة الصدر

سلامة الصدر
7/7/ 1437
الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، العزيز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، والعالم بتقلُّبها وأحوالها، المانّ عليهم بتواتر آلائه، المتفضِّل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي أنشأ الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وخلق البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئتُه، ونفذت فيهم بعزته إرادتُه، وعلى تشعُّب أخلاقهم يدورون، وفيما قضى وقدر عليهم يهيمون، ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [ المؤمنون: 35].
وأشهد أن لا إله إلا الله، فاطر السماوات والعلا، ومنشئ الأرضين والثَّرى، ولا معقِّب لحكمه، ولا رادَّ لقضائه، لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يسألون.
وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبدُه المجتبى، ورسوله المُرتَضى، بعثه بالنور المضيء والأمر المرضي على حين فترةٍ من الرسل، ودروسٍ من السبل، فدمغ به الطغيان، وأكمل به الإيمان، وأظهره على كل الأديان، وقمع به أهل الأوثان.
فصلى الله عليه وسلم ما دار في السماء فَلَك، وما سبّح في الملكوت مَلَك، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله..
لقد فاز من ولد آدم من كان سليم الصدر، نقي القلب على المؤمنين. ألا ما أعظمه من خلق وأجملها من صفه وأجلّها من نعمة.
إن سلامة الصدر: هي نقاء النفس من خَبَث الأخلاق الغضبية التي تكدّر صفاء الروح من الغل والحقد والحسد وما أشبهها فقلبه طاهر من كل ما يشينه تجاه ربه وسليم تجاه الناس فلا يحمل عليهم لأجل دنيا.
فالمؤمن يغضب لله ويكره لله ويقوم لله لا لدنيا مهما استدارت به خطوبها ومظالمها وزينتها.
سلامة الصدر منحة من الله تعالى ومحض فضل من لدنه، يختص به من أراد توفيقه من خاصة عباده، فالقلبُ قُلَّبٌ مالم يعصمه مولاه والصدر ضيّق ما لم يفسحه الله، والهم ملازم ما لم يرفعه الله.
إن سالم الصدر على عباد الله يعيش بين الناس وجنته في صدره وبستانه في قلبه وسعادته وسكينته في روحه، ينظر إليهم بعيني قلبه السليم وصدره الناصح الناصع الواسع فلا يرى شيئًا من نكدهم عليه يستحق ذلك المقابل فينقلب إليهم سليم الصدر حسن الظن محبًّا لهم كل خير يطيقه مسديًا لهم كل فائدة يسطِيعها لعلمه أنه لم يُخلق لحمل هموم دنيا وغموم فانية.
إنه فقط يحمل هم آخرته ويسعى لتحصيل رضى مولاه، فإن صادفه ظلم له أو أذى لم يتكدّر تكدّر الهلوعين ولم تضق نفسه بأمر هو عند الناس عظيم وعند الأتقياء تافه. فما كل ما راجت عند الناس عظمته عظيمًا وما كل ما تهالك الناس على تحصيله يستحق ولا كل ما حمل الناس هم إزاحته واجتنابه حقيق بذلك، فالميزان هو ميزان الآخرة، والمعوّل على رضوان الرحمن.
فالمؤمن قلبه سليم وصدره سليم ونصحه للناس صاف متدفق، يحب لهم ما يحب لنفسه من خيري الآخرة والدنيا.
وصدره سالم من سواد الحسد ورماد الكره وقترة الحقد ودخان الضغينة، فهو سليم كقلب الطير البريء، طَهَرَ قلبُه من نتن معصيةٍ وقبح خطيئة وضرام بغضاء لمسلم، ومثل هذا موعود برحمة ربه وجزيل هباته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثلُ أفئدة الطير" رواه مسلم، قال النووي: قيل: مثلُ قلوب الطير في رقتها وضعفها كالحديث الآخر: "أهل اليمن أرقّ قلوبًا وأضعف أفئدة".
والمؤمن لا يحمل غلًّا لمؤمن بل يحبه ويحوطه بدعوته وخيره ورفده، وقد علّمنا الله تعالى ذلك بقوله في وصف عباده المرضيين: ( ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ( ( الحشر : 10 ) على أنه إذا عرض ما يوجب تكدر الخاطر فإن القول الحسن يزيل ما في نفس القائل من الكدر، ويرى للمقولِ له الصفاءَ فلا يعامله إلا بالصفاء.
وتأمل حديث النصح حتى تجعلَه معيارًا لك وميزانًا لسلامة صدرك وسلامة نصحك للناس فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه، وزاد البزار: قال أنس: فخرجت أنا والرجلُ إلى السوق فإذا سلعة تباع فساومته فقال: بثلاثين، فنظر الرجل فقلت: قد أخذتها بأربعين فقال صاحبها: ما يحملك على هذا وأنا أعطيكها بأقل من هذا؟ ثم نظر أيضًا فقلت: قد أخذتها بخمسين فقال صاحبها: ما يحملك على هذا وأنا أعطيكها بأقل من هذا؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يؤمن عَبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وأنا أرى أنه صالحًا بخمسين.
فقوله ( لا يؤمن أحدكم ) أي إيمانا كاملا ( حتى يحب لأخيه ) أي المسلم ( ما يحب لنفسه ) أي مثل جميع ما يحبه لنفسه.
قال ابن الصلاح رحمه الله: وهذا قد يُعد من الصعب الممتنع وليس كذلك، إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الاسلام مثل ما يحب لنفسه، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها، بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئًا من النعمة عليه، وذلك سهل على القلب السليم، وإنما يعسر على القلب الدغل، عافانا الله وإخواننا أجمعين.
وإنما يحب الرجل لأخيه ما يحب لنفسه إذا سلم من الحسد والغل والغش والحقد، وذلك واجب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا" رواه مسلم، فإذا أحب المؤمن لنفسه فضيلةً من دين أو غيره أحب أن يكون لأخيه نظيرَها من غير أن تزول عنه كما قال ابن عباس: إني لأمرّ بالآية من القرآن فأفهمها فأود أن الناس كلهم فهموا منها ما أفهم . وقال الشافعي: وددت أن الناس كلهم تعلموا هذا العلم ولم ينسب لي منه شيء.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: "فمَن أحبَّ أن يُزحزح عن النار ويُدخل الجنَّة، فلتأته منيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتَى إليه" وقال الله عزَّ وجلَّ: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يخسرون).
أيها المؤمنون: نبيّنا صلى الله عليه وسلم هو المثال الكامل لمكارم الأخلاق ومعالي الأمور، فقد أكمل الله فيه كل أخلاق البشر الطيبة ونقّاه وحفظه من كل أضداداها ثم جلله بمديحته: (وإنك لعلى خلق عظيم) فهو القدوة والأسوة الكاملة.
لقد كان أسلم ولد آدم صدرًا، وكان يعمل على حراسة نقاء صدره على عباد الله فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئًا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر" رواه أبو داود.
وتأمل قصّته صلى الله عليه وسلم مع ثقيف ثم مع ملك الجبال في وادي نخله وتفكر في طهارة قلبه وسلامة صدره للناس. فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبدِ ياليلَ بنِ عبدِ كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، وإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني، فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم.
 فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين" -والأخشبان هما الجبلان المحيطان بمكة- ". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا" متفق عليه.
 وتأمل حال النبي الذي حكى عنه نبينا "أنه ضربه قومه حتى أدموه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" رواه الشيخان.
وتأمل رعاك الله: كيف جمع في هذه الكلمات أربعَ مقامات من الإحسان قابل بها إساءتهم العظيمة إليه.
 أحدها: عفوه عنهم، والثاني: استغفاره لهم، الثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون، الرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه فقال: "اغفر لقومي".
وقال عبدة بن أبي لُبَابة، عن مجاهد ولقيته فأخذ بيدي فقال: إذا تراءى المتحابان في الله، فأخذ أحدهما بيد صاحبه، وضحك إليه، تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر. قال عبدة: فقلت له: إن هذا ليسير! فقال: لا تقل ذلك؛ فإن الله تعالى يقول: { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } !. قال عبدة: فعرفت أنه أفقه مني. وفي رواية: إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما.
وعن عمير بن إسحاق قال: كنا نتحدث أن أول ما يرفع من الناس الألفة.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
عباد الرحمن: إن سلامة الصدر خلق شريف يتحلى به أهل النفوس السامية والرغائب العظيمة في فلاح الدار الآخرة، وكان السلف يحفظون لسالم الصدر هذه الخصلة ويحمدونه عليها.
قال اياس بن معاوية: كان أفضلهم عندهم أسلمهم صدورًا وأقلهم غيبة.
وعن سفيان بن دينار قال: قلت لأبي بشير: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا ويؤجرون كثيرًا. قال قلت: ولم ذلك؟ قال: لسلامة صدورهم.
وتأمل حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا يومًا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة" قال: فاطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، قد علق نعليه في يده الشمال، فسلّم، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل على مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأول.
 فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحيتُ أبي - أي راددته في الكلام - فأقسمتُ ألا ادخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت. قال: نعم.
 قال أنس: كان عبد الله يحدّث أنه بات معه ثلاث ليال فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعارّ انقلب على فراشه وذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر. قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا فلما مضت الثلاث وكدت أحتقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي هجرة ولا غضب، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثلاث مرات: "يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة" فاطلعت ثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي بك، فلم أرك تعمل كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: ما هو إلا ما رأيت. قال: فانصرفت عنه، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي على أحد من المسلمين غشًّا ولا أحسده على ما أعطاه الله إياه إليه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك هي التي لا نطيق. -وهذا من تواضعه وهضم نفسه رضي الله عنه-.
وعن محمد بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول من يدخل عليكم رجل من أهل الجنة فدخل عبد الله بن سلام، فقام إليه ناس فأخبروه وقالوا له: أخبرنا بأوثق عملك في نفسك؟ قال: إن عملي لضعيف، وأوثق ما أرجو به سلامة الصدر وتركي ما لا يعنيني.
وعن ابن بريدة الأسلمي قال: شتم رجل ابن عباس فقال ابن عباس: إنك لتشتمني وفيّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله عز وجل فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم منها، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلي لا أقاضي إليه أبدًا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح ومالي به من سائمة.
وعن زيد بن أسلم أنه دخل على أبي دجانة وهو مريض وكان وجهه يتهلل فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين، أما إحداهما: فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وأما الأخرى: فكان قلبي للمسلمين سليمًا.
وعن أبى حبيبة مولى طلحة قال: دخلت على علي رضى الله عنه مع عمران بن طلحة بعد ما فرغ من أصحاب الجمل قال: فرحّب به وأدناه وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله عز وجل: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين)
عباد الله: احذروا تحريش الشيطان بينكم فهو لا يريد لكم خيرًا، قال ربنا تعالى آمرًا عباده بانتقاء القول الحسن والكلام اللطيف والأسلوب الرفيق مع بعضهم لأن الشيطان يدخل بينهم على وجه الإفساد وتقسية القلوب: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) وليس الحسن فقط بل الأحسن، ثم حذر من كيد عدوهم المفسد ذات بينهم (إن الشيطان ينزغ بينهم) والنزغ هو الإلقاء الخفي للشر في القلوب، ثم ذكر حاله الدائم مع المؤمنين: (إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا } ظاهر العداوة قديم الكيد ضاري الشر.

وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم" رواه مسلم. والتحريش: هو الإفساد وتغيير قلوبهم وتقاطعهم.