سلامة الصدر
7/7/ 1437
الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، العزيز
بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، والعالم بتقلُّبها وأحوالها، المانّ
عليهم بتواتر آلائه، المتفضِّل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي أنشأ الخلق حين أراد بلا
معين ولا مشير، وخلق البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئتُه،
ونفذت فيهم بعزته إرادتُه، وعلى تشعُّب أخلاقهم يدورون، وفيما قضى وقدر عليهم يهيمون،
﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [ المؤمنون: 35].
وأشهد أن لا إله إلا الله، فاطر السماوات
والعلا، ومنشئ الأرضين والثَّرى، ولا معقِّب لحكمه، ولا رادَّ لقضائه، لا يُسأل عمَّا
يفعل وهم يسألون.
وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبدُه المجتبى، ورسوله
المُرتَضى، بعثه بالنور المضيء والأمر المرضي على حين فترةٍ من الرسل، ودروسٍ من السبل،
فدمغ به الطغيان، وأكمل به الإيمان، وأظهره على كل الأديان، وقمع به أهل الأوثان.
فصلى الله عليه وسلم ما دار في السماء فَلَك،
وما سبّح في الملكوت مَلَك، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله..
لقد فاز من ولد آدم من كان سليم الصدر، نقي القلب على المؤمنين. ألا
ما أعظمه من خلق وأجملها من صفه وأجلّها من نعمة.
إن سلامة الصدر: هي نقاء النفس من خَبَث الأخلاق الغضبية التي تكدّر
صفاء الروح من الغل والحقد والحسد وما أشبهها فقلبه طاهر من كل ما يشينه تجاه ربه
وسليم تجاه الناس فلا يحمل عليهم لأجل دنيا.
فالمؤمن يغضب لله ويكره لله ويقوم لله لا لدنيا مهما استدارت به
خطوبها ومظالمها وزينتها.
سلامة الصدر منحة من الله تعالى ومحض فضل من لدنه، يختص به من أراد
توفيقه من خاصة عباده، فالقلبُ قُلَّبٌ مالم يعصمه مولاه والصدر ضيّق ما لم يفسحه
الله، والهم ملازم ما لم يرفعه الله.
إن سالم الصدر على عباد الله يعيش بين الناس وجنته في صدره وبستانه في
قلبه وسعادته وسكينته في روحه، ينظر إليهم بعيني قلبه السليم وصدره الناصح الناصع
الواسع فلا يرى شيئًا من نكدهم عليه يستحق ذلك المقابل فينقلب إليهم سليم الصدر
حسن الظن محبًّا لهم كل خير يطيقه مسديًا لهم كل فائدة يسطِيعها لعلمه أنه لم
يُخلق لحمل هموم دنيا وغموم فانية.
إنه فقط يحمل هم آخرته ويسعى لتحصيل رضى مولاه، فإن صادفه ظلم له أو
أذى لم يتكدّر تكدّر الهلوعين ولم تضق نفسه بأمر هو عند الناس عظيم وعند الأتقياء
تافه. فما كل ما راجت عند الناس عظمته عظيمًا وما كل ما تهالك الناس على تحصيله
يستحق ولا كل ما حمل الناس هم إزاحته واجتنابه حقيق بذلك، فالميزان هو ميزان
الآخرة، والمعوّل على رضوان الرحمن.
فالمؤمن قلبه سليم وصدره سليم ونصحه
للناس صاف متدفق، يحب لهم ما يحب لنفسه من خيري الآخرة والدنيا.
وصدره سالم من سواد الحسد ورماد الكره
وقترة الحقد ودخان الضغينة، فهو سليم كقلب الطير البريء، طَهَرَ قلبُه من نتن
معصيةٍ وقبح خطيئة وضرام بغضاء لمسلم، ومثل هذا موعود برحمة ربه وجزيل هباته، فعن أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الجنة أقوام أفئدتهم
مثلُ أفئدة الطير" رواه مسلم، قال النووي: قيل: مثلُ قلوب الطير في رقتها وضعفها
كالحديث الآخر: "أهل اليمن أرقّ قلوبًا وأضعف أفئدة".
والمؤمن لا يحمل غلًّا لمؤمن بل يحبه ويحوطه بدعوته وخيره ورفده، وقد علّمنا الله تعالى ذلك بقوله في
وصف عباده المرضيين: ( ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ( ( الحشر : 10 ) على أنه
إذا عرض ما يوجب تكدر الخاطر فإن القول الحسن يزيل ما في نفس القائل من الكدر، ويرى
للمقولِ له الصفاءَ فلا يعامله إلا بالصفاء.
وتأمل حديث النصح حتى تجعلَه معيارًا لك وميزانًا لسلامة صدرك وسلامة
نصحك للناس فعن أنس
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه
ما يحب لنفسه" متفق عليه، وزاد البزار: قال أنس: فخرجت أنا والرجلُ إلى السوق
فإذا سلعة تباع فساومته فقال: بثلاثين، فنظر الرجل فقلت: قد أخذتها بأربعين فقال صاحبها:
ما يحملك على هذا وأنا أعطيكها بأقل من هذا؟ ثم نظر أيضًا فقلت: قد أخذتها بخمسين فقال
صاحبها: ما يحملك على هذا وأنا أعطيكها بأقل من هذا؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "لا يؤمن عَبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وأنا أرى أنه
صالحًا بخمسين.
فقوله
( لا يؤمن أحدكم ) أي إيمانا كاملا ( حتى يحب لأخيه ) أي المسلم ( ما يحب لنفسه ) أي
مثل جميع ما يحبه لنفسه.
قال ابن الصلاح رحمه الله: وهذا قد يُعد
من الصعب الممتنع وليس كذلك، إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الاسلام
مثل ما يحب لنفسه، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها،
بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئًا من النعمة عليه، وذلك سهل على القلب السليم، وإنما
يعسر على القلب الدغل، عافانا الله وإخواننا أجمعين.
وإنما يحب الرجل لأخيه ما يحب لنفسه إذا
سلم من الحسد والغل والغش والحقد، وذلك واجب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا" رواه مسلم، فإذا أحب
المؤمن لنفسه فضيلةً من دين أو غيره أحب أن يكون لأخيه نظيرَها من غير أن تزول عنه
كما قال ابن عباس: إني لأمرّ بالآية من القرآن فأفهمها فأود أن الناس كلهم فهموا منها
ما أفهم . وقال الشافعي: وددت أن الناس كلهم تعلموا هذا العلم ولم ينسب لي منه شيء.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص
رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: "فمَن أحبَّ أن
يُزحزح عن النار ويُدخل الجنَّة، فلتأته منيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت
إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتَى إليه" وقال الله عزَّ وجلَّ: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ
(1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ يخسرون).
أيها المؤمنون: نبيّنا صلى الله عليه
وسلم هو المثال الكامل لمكارم الأخلاق ومعالي الأمور، فقد أكمل الله فيه كل أخلاق
البشر الطيبة ونقّاه وحفظه من كل أضداداها ثم جلله بمديحته: (وإنك لعلى خلق عظيم)
فهو القدوة والأسوة الكاملة.
لقد كان أسلم ولد آدم صدرًا، وكان يعمل
على حراسة نقاء صدره على عباد الله فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئًا، فإني أحب أن أخرج
إليكم وأنا سليم الصدر" رواه أبو داود.
وتأمل قصّته صلى الله عليه وسلم مع ثقيف ثم مع ملك الجبال في وادي
نخله وتفكر في طهارة قلبه وسلامة صدره للناس. فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي
صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك،
وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبدِ ياليلَ بنِ عبدِ كلال،
فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب،
فرفعت رأسي، وإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني،
فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره
بما شئت فيهم.
فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد إن
الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، فما
شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين" -والأخشبان هما الجبلان المحيطان بمكة- ".
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله
وحده لا يشرك به شيئًا" متفق عليه.
وتأمل حال النبي الذي حكى عنه نبينا "أنه
ضربه قومه حتى أدموه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"
رواه الشيخان.
وتأمل رعاك الله: كيف جمع في هذه الكلمات
أربعَ مقامات من الإحسان قابل بها إساءتهم العظيمة إليه.
أحدها: عفوه عنهم، والثاني: استغفاره لهم، الثالث:
اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون، الرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه فقال: "اغفر
لقومي".
وقال عبدة بن أبي لُبَابة، عن مجاهد ولقيته
فأخذ بيدي فقال: إذا تراءى المتحابان في الله، فأخذ أحدهما بيد صاحبه، وضحك إليه، تحاتت
خطاياهما كما يتحات ورق الشجر. قال عبدة: فقلت له: إن هذا ليسير! فقال: لا تقل ذلك؛
فإن الله تعالى يقول: { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ } !. قال عبدة: فعرفت أنه أفقه مني. وفي رواية: إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما.
وعن عمير بن إسحاق قال: كنا نتحدث أن أول
ما يرفع من الناس الألفة.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
عباد الرحمن: إن سلامة الصدر خلق شريف يتحلى به أهل النفوس السامية
والرغائب العظيمة في فلاح الدار الآخرة، وكان السلف يحفظون لسالم الصدر هذه الخصلة
ويحمدونه عليها.
قال اياس بن معاوية: كان أفضلهم عندهم أسلمهم صدورًا وأقلهم غيبة.
وعن سفيان بن دينار قال: قلت لأبي بشير: أخبرني عن أعمال من كان
قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا ويؤجرون كثيرًا. قال قلت: ولم ذلك؟ قال: لسلامة
صدورهم.
وتأمل حديث أنس بن مالك رضي الله عنه
قال: كنا يومًا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يطلع عليكم الآن
من هذا الفج رجل من أهل الجنة" قال: فاطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه،
قد علق نعليه في يده الشمال، فسلّم، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل
ذلك، فطلع ذلك الرجل على مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله
عليه وسلم مثل مقالته أيضًا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأول.
فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله
بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحيتُ أبي - أي راددته في الكلام - فأقسمتُ ألا ادخل عليه
ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت. قال: نعم.
قال أنس: كان عبد الله يحدّث أنه بات معه ثلاث ليال
فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعارّ انقلب على فراشه وذكر الله وكبر حتى
يقوم لصلاة الفجر. قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا فلما مضت الثلاث
وكدت أحتقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي هجرة ولا غضب، ولكني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثلاث مرات: "يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة"
فاطلعت ثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي بك، فلم أرك تعمل كبير عمل،
فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: ما هو إلا ما رأيت. قال: فانصرفت عنه،
فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي على أحد من المسلمين
غشًّا ولا أحسده على ما أعطاه الله إياه إليه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك هي
التي لا نطيق. -وهذا من تواضعه وهضم نفسه رضي الله عنه-.
وعن محمد بن كعب رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول من يدخل عليكم رجل من أهل الجنة فدخل عبد الله بن
سلام، فقام إليه ناس فأخبروه وقالوا له: أخبرنا بأوثق عملك في نفسك؟ قال: إن عملي لضعيف،
وأوثق ما أرجو به سلامة الصدر وتركي ما لا يعنيني.
وعن ابن بريدة الأسلمي قال: شتم رجل ابن
عباس فقال ابن عباس: إنك لتشتمني وفيّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله
عز وجل فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم منها، وإني لأسمع بالحاكم من حكام
المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلي لا أقاضي إليه أبدًا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب
البلد من بلاد المسلمين فأفرح ومالي به من سائمة.
وعن زيد
بن أسلم أنه دخل على أبي دجانة وهو مريض وكان وجهه يتهلل فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟
فقال: ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين، أما إحداهما: فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني،
وأما الأخرى: فكان قلبي للمسلمين سليمًا.
وعن أبى حبيبة مولى طلحة قال: دخلت على
علي رضى الله عنه مع عمران بن طلحة بعد ما فرغ من أصحاب الجمل قال: فرحّب به وأدناه
وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله عز وجل: (ونزعنا ما في صدورهم
من غل إخوانا على سرر متقابلين)
عباد الله: احذروا تحريش الشيطان بينكم فهو لا يريد لكم خيرًا، قال
ربنا تعالى آمرًا عباده بانتقاء القول الحسن والكلام اللطيف والأسلوب الرفيق مع
بعضهم لأن الشيطان يدخل بينهم على وجه الإفساد وتقسية القلوب: (وقل لعبادي يقولوا
التي هي أحسن) وليس الحسن فقط بل الأحسن، ثم حذر من كيد عدوهم المفسد ذات بينهم
(إن الشيطان ينزغ بينهم) والنزغ هو الإلقاء الخفي للشر في القلوب، ثم ذكر حاله الدائم مع
المؤمنين: (إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا } ظاهر العداوة قديم الكيد ضاري
الشر.
وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب،
ولكن في التحريش بينهم" رواه مسلم. والتحريش:
هو الإفساد وتغيير قلوبهم وتقاطعهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق