"موعظة
القبر"
الحمد لله رب العالمين...
كان أبو بكر الصديق يقول في خطبته: أين
الوضاءة الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم، الذين كانوا لا يعطون الغلبة في مواطن
الحرب، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان، قد تضعضع بهم وصاروا في ظلمات
القبور، الوحا الوحا النجا النجا.
وعن
الحسن أنه مر به شاب وعليه بردة له حسنة فقال: ابن آدم معجب بشبابه، معجب بجماله،
كأن القبر قد وارى بدنك، وكأنك لاقيت عملك، ويحك ذا وقلبك، فإن حاجة الله إلى
عبادة صلاح قلوبهم.
وعن عبد الله بن العيزار قال: لابن آدم بيتان:
بيت على ظهر الأرض وبيت في بطن الأرض، فعمد للذي على ظهر الأرض فزخرفه وزينه وجعل
فيه أبوابًا للشمال وأبوابًا للجنوب، وصنع فيه ما يصلحه لشتائه وصيفه. ثم عمد إلى
الذي في بطن الأرض فأخربه.
فأتى عليه آت فقال: أرأيت هذا الذي أراك قد
أصلحته كم تقيم فيه؟ قال: لا أدري. قال: فالذي قد أخربته كم تقيم فيه؟ قال: فيه مقامي.
قال: تقر بهذا على نفسك وأنت رجل يعقل؟!
وعن الحسن قال: يومان وليلتان لم تسمع الخلائق
بمثلهن قط:
ليلة تبيت مع أهل القبور ولم تبت ليلة قبله،
وليلة صبيحتها يوم القيامة. ويوم يأتيك البشير من الله تعالى إما بالجنة أو النار،
ويوم تعطى كتابك إما بيمنك وإما بشمالك.
وعن عمر بن ذر أنه كان يقول في مواعظه: لو علم
أهل العافية ما تضمنته القبور من الأجساد البالية لجدّوا واجتهدوا في أيامهم
الخالية خوفًا من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار.
وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: القبر منزل
بين الدنيا والآخرة، فمن نزله بزاد وارتحل به إلى الآخرة، إن خيرًا فخير وإن شرًّا
فشر.
وعن الحسن قال: أُوذَنوا بالرحيل وجلس أولهم على
آخرهم وهم يلعبون.
وقال رجل لبعض السلف: أوصني، فقال: عسكر الموتى
ينتظرونك.
وكان أبو عمران الجوني يقول: لا يغرنكم من ربكم
طول النسيئة وحسن الطلب، فإن أخذه أليم شديد، حتى تبقى وجوهُ أولياءِ الله بين
أطباق التراب، إنما هم محبوسون لبقية آجالهم حتى يبعثهم الله إلى جنته وثوابه.
وشهد الحسن جنازة فاجتمع عليه الناس فقال:
اعملوا لمثل هذا اليوم - رحمكم الله - فإنما هم إخوانكم يَقدمونكم وأنتم بالأثر.
أيها المخلف بعد أخيه: إنك الميت غدًا والباقي
بعد والموتى في أثرك أولًا بأول حتى توافوا جميعًا، قد عمكم الموت واستويتم جميعًا
في كُرَبِهِ وغُصصه، ثم تخليتم إلى القبور، ثم تنشرون جميعًا، ثم تعرضون على ربكم
عز وجل.
وقال صفوان بن عمرو: ذَكَروا النعيم فسَمّوا
أناسا فقال: أنعمُ الناس أجسادًا في التراب هو من قد مات وبقي ينتظر الثواب.
وقال مسروق: ما من بيت خيرٍ للمؤمن من لحدِه قد
استراح من أمر الدنيا ومن عذاب الله.
وقال بشر بن الحارث: نعم المنزل القبر لمن أطاع
الله.
وقال الفضل بن غسان: مر رجل بقبر محفور فقال:
المقيلُ للمؤمن هذا.
ونظر إلى قبر فقال: أصبح هؤلاء زاهدين فيما نحن
فيه راغبون.
وعن عقبة البزار قال: رأى أعرابي جنازة فأقبل
يقول: هنيئًا يا صاحبها. فقلت: علام تهنئه؟ قال: كيف لا أُهنئ من يذهب إلى حبسِ
جواد كريم نُزُلُهُ عظيم عفوه جسيم. قال: كأني لم أسمع القول إلا تلك الساعة.
وعن
أبي معاوية قال: ما لقيني مالك بن مغول إلا قال لي: لا تغرنك الحياة واحذر القبر،
إن للقبر شأنًا.
وقل أبو العتاهية:
يا
حسان الوجوه سوف تموتون ... وتبلى الوجوه تحت التراب
ولابن السماك:
تمرُّ أقاربي جنبات قبري ... كأن أقاربي لا
يعرفوني
وذووا الأموال يقتسمون مالي ... ولا يألون إن
جحدوا ديوني
قد أخذو سهامهم وعاشوا ... فبالله ما أسرع ما
نسوني (1)
وقال عمرو بن عتبة بن فرقد سألت الله ثلاثا
فأعطاني اثنتين وأنا أنتظر الثالثة. سألته أن يزهدني في الدنيا فما أبالي ما أقبل
وما أدبر، وسألته أن يقويني على الصلاة فرزقني منها، وسألته الشهادة فأنا أرجوها.
وكان طلحة بن مصرف يقول في دعائه: اللهم
اغفر لي ريائي وسمعتي.
وقال خليد العصري: كلنا قد أيقن بالموت وما
نرى له مستعدًّا، وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملًا، وكلنا قد أيقن بالنار
وما نرى لها خائفًا، فعلام تعرّجون، وما عسيتم تنتظرون، الموت فهو أول وارد عليكم
من الله بخير أو بشر.
يَجِدُّ بِنَا صَرْفُ الزَّمَانِ
وَنَهْزُلُ ... وَنُوقَظُ بِالأَحْدَاثِ فِيْهِ وَنَغْفُلُ
وَمَا النَّاس إِلاَّ ظَاعِنٌ ومُوَدِّعٌ
... وَمُسْتَلَبٌ مُسْتَعْجَلٌ أَوْ مُؤْجَّلُ
وَمَا هَذِهِ الأَيَّام إِلاَّ مَنَازِلٌ
... إِذَا مَا قَطَعنَا مَنْزِلاً بَانَ مَنْزلُ
فَنَاءٌ مُلِحٌ مَا يُغِبُ جَمِيْعَنَا ...
إِذَا عَاشَ مِنَّا آَخِرٌ مَاتَ أَوَّلُ
وَكَم صَاحِبٍ لِي كُنْتُ أَكْرَهُ
فَقْدَهُ ... تَسَلَّمَهُ مِنِّي الفَنَاءُ الْمُعَجَّلُ
اسمعوا عظة الزمان إن كنتم تسمعون، وتأملوا
تقلب الأحوال إن كنتم تبصرون.
وقال يحيى بن معاذ: لو سمع الخلائق صوت
النياحة على الدنيا من ألسنة الفناء لتساقطت القلوب منهم حزنًا. (2)
(1) أهوال القبور (1 / 244) مختصرًا.
(2) مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار (3 /
265)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق