إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 1 يونيو 2020

التعلق بالله وحده


التعلق بالله وحده
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم لنا النعمة وجعل أمتنا ولله الحمد خير أمة وبعث نبينا رسولا منا يتلوا علينا آياته ويزكينا ويعّلمنا الكتاب والحكمة، الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبا مباركا فيه على ما أنعم علينا برجوعنا لإقامة شعائر دينه في بيوته، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك فيا ربنا لا تجعل مصيبتنا في ديننا إله الحق، واجعلنا من أهل الصبر والصلاة والقرآن والذكر والإحسان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أله وصحبه.
 عباد الله، إن الله تبارك وتعالى قد يبتليَ العباد ويمتحنهم؛ ليعلموا فقرهم وحاجتهم إليه، وأنه لا غنى لهم عنه، مع ما تقدّموا فيه من علم الدنيا، وما وصلوا إليه من الطب، فإن ذلك كله يبقى حائلًا دون كشف الكربات وقضاء الحاجات، فلا يكشف الضر إلا الله، ولا يدفع البلاء إلا الله، ولا يشفي من المرض إلا اللهُ القائل: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام: 17]، ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: 80]، ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾
عباد الله؛ أوصيكم  ونفسي بتقوى الله وبالرضا عن الله.
عباد الرحمن: ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة، فتوبوا إلى الله واستغفروه وأنيبوا إليه ولا تكفروه، (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير).
يا عبد الله: مهما يكن مُصابُك فعليك أن ترضى عن الله، فوالله ما رضي عبد عن الله إلا أرضاه الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ عِظَم الجزاء مع عظم البلاء، وإنّ الله تعالى إذا أحبّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السَّخط". فمن رضي عن الله أرضاه الله في دنياه وأخراه.
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، يوصيه ويذكر له تلك الوصية النافعة؛ فاستفتح كتابه رضي الله عنه بقوله: "أما بعد: فاعلم أن الخير كله في الرضا عن الله".
اعلم أخي في الله! أنه إذا أصابك البلاء فرضيتَ عن الله أرضاك الله في الدنيا والآخرة، وأقرّ الله عينك وأثلج صدرك، فكم من مصيبة عادت نعمة على العبد إذا رضي عن الله تبارك وتعالى، وكم من بلايا رضي أصحابها فزادتهم من الله قربًا ومن الله رضًا وحبًّا.
واعلم رحمك الله أنّ الرضا عن الله دلائل: أولُها: طيبُ الكلام، وحسنُ الظن بالله تبارك وتعالى، ومن ثمّ قال العلماء: "إن العبد إذا رضي عن الله وهبه اليقينَ في مصيبته".
فإذا كان الإنسان راضيًا عن الله تبارك وتعالى، وعنده الإيمانُ واليقينُ ثبّت الله جنانه. فكلما كان اليقين في قلب العبد وجدتَّه أثبتَ جنانًا، وأشرحَ لله عز وجل صدرًا، وما رضي عبد عن الله إلا جعل له من كل همٍ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا.
واعلم يا عبد الله أنه لا يدفع البلاء إلا الله. كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه؛ فأوصى البراء بن عازب رضي الله عنه إذا أوى إلى فراشه أن يقول: "إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجّهت وجهي إليك، وفوّضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيّك الذي أرسلت. فإنك إن متّ من ليلتك متّ على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيرًا".  متفق عليه، وفي رواية في الصحيحين: "واجعلهنّ آخرَ ما تقول".
ويا عبد الله: اضرع لربك وألحّ عليه بدعائك وارفع له حوائجك. فالله منه العوض، ما رجاه أحد فخاب، ولا أيقن عبد بربه فضيّعه. وإذا أراد الله أن يجمع للعبد بين المصيبتين؛ ابتلاه وسلبه اليقين. والعياذ بالله. فإذا ابتلى اللهُ العبد ولم يلتجئ إلى الله بعد البلاء فاعلم أنه مُستدرَج، ولذلك فالبلاء كلُّ البلاء أنما يكون على الكافر الذي إذا أصابته المصيبة لا يدري أين يذهب، ولا يدري أين يتجه، ولكنّ المؤمنَ له بابٌ يقرعه وربّ لا يخيّب من رجاه ودعاه.
ويا عبد الله: أحسن الظن بربك، وكيف لا تُحسن الظن بمن لا يأتي الخيرُ إلا منه تبارك وتعالى، وكيف لا تطمئن ومستقبلُك يصنعه من هو أرحم بك من أمك، فثق بالله وتوكل عليه وأحسن به وتب إليه فإنك إليه راجع.
والله ما أحسنَ عبدٌ ظنّه بربه إلا كان الله عند حسنِ ظنه، إذا أصابتك المصيبة فأحسن الظن بالله، وقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار، اللهم اجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها.
وأَحرصُ ما يكون الشيطانُ في بداية المصيبة أن يسيء ظنك بالله عز وجل، ولذلك إذا جاءت المصيبة في النفس، أو جاءت في المال، أو جاءت في الولد، جاءك الشيطان فقال لك: لو كان الله يحبك ما ابتلاك! ولو كان الله يحبك ما أصابك بابنك فلْذةِ كبدك! ولو كان الله يحبك ما أفقدك مالك على كبر سنك! ولو كان الله ولو كان الله.. فهو أحرص ما يكون على أن تكون على سوء ظن بالله عز وجل.
فالله الله! أن يسوء ظنك بالله عز وجل، بل قل: الحمد الله، وليكن قلبك مطمئنًا بالفرج من الله تبارك وتعالى، فمن اتقى الله جعل له من كل همٍّ فرجًا ومن كل ضيقٍ مخرجًا ومن كل بلاء عافية.
أخي! المُلْك لمن؟ والكون لمن؟ والتدبير لمن؟ من الذي يجير ولا يجار عليه؟ ومن الذي يغيث ولا مغيث سواه؟ عز جاره وجل جلاله ولا إله غيره.
قال الشنقيطي رحمنا الله وإياه: "والله لو علم المكروب سعةَ رحمة الله عز وجل ما تألّم من كربه، ولو أيقن المكروب بحلم الله به لا يمكن أن يصيبَهُ بلاء في نفسه، وأضرب لك مثلًا يسيرًا: لو أنك يومًا من الأيام سُئلت عن أرحم الناس بك وأحلمهم عليك؟! لقلت: أبي وأمي، ولكان في قلبك يقينٌ أن لا أرحم في الناس من أبيك وأمك، والله ثم والله لرحمةُ والديكَ بك لا تأتي مثقالَ ذرة في رحمة الله عز وجل بك، ولَلُطفُ الله عز وجل وحنانُه وحلمُه ورحمتُه وأنت تقاسي الآلامَ وتكابدُ الأسقام، أشدّ من رحمة والديك بك، ولكن يريد أن يرفعَ درجتك، ويحطُّ عنك خطيئتك، ويريد أن تخرج من هذه الدنيا وأنت نقيٌّ من السيئات والخطايا، حتى إذا وافيتَه وافيتَه بوجه أبيضَ مشرقٍ من تلك البلايا، وإنَّ من عباد الله من هو والله حبيب لله، لا يبتليه اللهُ عز وجل إلا لكي يدنو منه، يبتليه لكي يسمع صوته: يا رب! يا رب! إلهي سيدي مولاي، والله يسمع إخباته وإنابته، فتكونَ أصدقَ شاهدٍ على توحيده لله تبارك وتعالى.
ويا عبد الله: تفكّر في سرّ ابتلاء الله تعالى لعباده. فهذه البلايا والرزايا بُسطت لك لكي تكون سلّمًا إلى رحمة الله عز وجل، شعرت أو لم تشعر، ولكن إذا دخل اليقين إلى القلوب هانت عليها البلايا والخطوب، إذا دخل اليقين إلى الأفئدة تعلقت بالله وحده لا شريك له، ما ابتلاك الله لكي تفزع إلى زيد وعمرو لا والله، وما ابتلاك بالأسقام حتى تتعلق بغيره سبحانه وتعالى، فوالله لو صُبّت البلايا على العبد لا يمكن أن يجد الفرج والمخرج إلا بالله سبحانه وتعالى، فلذلك يكون الإنسان على يقين بالله تعالى، فلا ملجأ ولا منجى من الله تبارك وتعالى إلا إليه.
وقع أحد الناس في ضائقة واشتدت عليه هذه الضائقة، كان مبتلى بمسّ، وكان هذا المسُّ يقلقه ويزعجه ويؤلمه واشتد عليه ذلك الخطب، وفي يوم من الأيام جاء إلى أحد طلاب العلم واشتكى إليه مما يجده، وقال: والله يا شيخ قد عظم علي البلاء وإني أصبحت مضطرًا أفلا يجوز لي أن أذهب إلى إنسان يفكّ عني هذا البلاءَ الذي أجدُه؟! ألا تُرخّص لي في ساحرٍ أو كاهنٍ يعلم ما أصابني فيكشف عني ما أصابني؟! فوفّق الله طالب العلم فذكره بالله تعالى وأمره بتقواه والاستغاثة به وتوحيده، ثم قال: إني لأرجو من الله عز وجل إن استعنت بأمرين أن يفرّج عنك الكرب والبلاء: أحدُهما الصبر والثاني الصلاة. (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) يقول الرجل: فقمت من عنده بيقين قوي في الله عز وجل فصليت ركعتين أحسست أني مكروب، وأنه قد أحاطت بي الخطوب، فاستعذت بالله واستجرت، وإذا بي في سجودي أُحسّ بحرارة شديدة في قدمي، وما إن سلّمت إلا وكأنه لم يكُ بي من بأس. (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)
أحبتي في الله! هل الساحر يغيثك من دون الله؟! هل الكاهن يجيرك من دون الله؟! الأمر أمره، والقدر قدره، خطّ عليك هذا البلاء قبل أن تكون وقبل أن توجد { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر:49-50].
كتب الله البلايا قبل أن يخلق العباد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوّل ما خلق الله القلم قال: اكتب! قال: يا رب! ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن وما يكون إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما هو كائن وما يكون إلى قيام الساعة". رواه أبو داود وصححه الألباني. ولذلك ركب عبد الله بن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهديه هدية، وأن يمنحه تلك العطية فقال عليه الصلاة والسلام: "يا غلام؛ ألا أعلمك كلمات؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجَاهَك، إذا استعنت فاستعن بالله، وإذا سألت فاسأل الله، واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفّت الصحف". رواه الترمذي وصححه الألباني.
يا عباد الله: لقد أرانا الله تعالى ضعف البشر ونقصهم ويأسهم في جائحة كورونا مهما أوتوا من مظاهر العظمة الزائفة الخادعة.
عبد الله: اللهَ الله! أن ينظر الله عز وجل عليك في البلاء، وقد رفعت كفك إلى غير الله.
الله الله! أن ينظر الله إليك في البلاء وقد تعلقت بغيره جل في علاه.
الله الله! أن ينظر الله إليك في البلاء وقد صرفت شعبةً من شعب قلبك تعتقد فيها في أحدٍ سواه.
الله الله! أن ينظر الله إليك في البلاء وقد تعلّقت بغيره وعُذت بأحد سواه. وكم من أقوام استعاذوا واستجاروا بغير الله ففرّج الله عنهم الكربات امتحانًا واختبارًا، واستدرجهم منه علمًا وحكمةً واقتدارًا، ثم ابتلاهم بالبلاء الذي هو نهايتهم من حيث لا يحتسبون!
عبد الله: إن فَقدَّتَ الأموال فإنك لم تفقد ربَّها، وإن فقدت الأبناء والبنات فإنك لم تفقد من أوجدها ومن خلقها، وإن فقدت الآباء والأمهات، فإنك لم تفقد من جَبَل قلوبهم إلى الحنان فأحسنوا إليك ووهبوا يد المعروف إليك.
فالله الله! أن يَخِيب ظنُّك في رجائه، أو تكون من عباده الذين ضلّ سعيهم بالرجاء في غيره".
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، ونسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، ونسألك قلوبا سليمة، وألسنة صادقة، ونسأل من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب. اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا همّا إلا فرّجته، ولا كربا لا نفَّسته، ولا ضرّا إلا كشفته، ولا ديْنا إلا قضيته، ولا عدوّا إلا أهلكته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

الخميس، 5 مارس 2020

الابتلاء بالأسقام


الابتلاء بالأسقام
الحمد لله حمدًا يليق بجميل فضله وعميم جوده وسابغ إحسانه، والصلاة والسلام والبركة على خيرته من خلقه ومصطفاه من عباده وخليله وكليمه نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنه ليس للمؤمنِ مندوحةٌ عن التّفقُّه في سنن الابتلاء، وأنّ الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، وأنّ أمرَ المؤمن كلَّه خير، فالحكيم سبحانه يبتلي عباده حتى يستخلص خُلاصتهم لخُلاصة كرامته. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ عِظَم الجزاء مع عظم البلاء، وإنّ الله تعالى إذا أحبّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط". وهذا صريح في حصول الابتلاء لمن أحبه الله تعالى. وكم من عبوديةٍ يحبها الله غرسها وأصلحها في قلب عبده بسبب مصيبة في دنياه. وحسبُكَ داءً أن تَصِحّ وتَسْلما.
وعن أبي يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيرًا له". فعليك براحلتَي الشكر والصبر -باركك الله تعالى-.
عباد الرحمن: الحياةُ كلُها ابتلاء لقياس صلاحية الإنسان لسكنى الجنة أم لا، فالجنة هي لأحباب الله المؤمنين الصادقين الصابرين، فإذا ضعف أحدهم بخطيئة في دار الامتحان؛ ابتلاه ربه بتكديرٍ يرفأُ شقّ ثوبِ إيمانه، وبمصيبةٍ ترفعُ درجته، وتكفّر خطيئته، وتُنَبِّه قلبَه من غفلته. ففي كل عثرة في حياتك، ‏ومنعطفٍ من عمرك، ‏وخيبةِ أملٍ فيمن حولك؛ ‏اهتف بنفسك: هذا ابتلاءٌ من ربك: (لننظر كيف تعملون) فتأملها جيدًا، فإن في طيّ المحنِ مِنحًا، وأتونُ الكَيْرِ يَفْرُزُ صِدقَ اللجينِ من زيف النحاس، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وكل أمرٍ قرّبك من ربك فهو خير، وكما قيل: يا بن آدم لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك. فتفاءل بالله وأحسن الظن به، واعلم أنه أشدّ من المصيبة انتظارها. وكثيرًا ما تكون النهايةُ عبارةً عن بداية جديدة، فالمتفائلُ يجعلها دَرَجًا لمجده، والمتشائم يُصيُّرُها قبرًا لهِمّته. ومن أجمل ما كتبه ابن القيم رحمه الله عبارة تستحق الوقوف الطويل في محراب تأملها: "يا بن آدم، كلٌّ يريدك لنفسه، إلا الله، فإنه يريدك لنفسك".
وكم لله من لُطْفٍ خفيٍّ ...  يَدِقّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ
وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ...  فَفَرَّجَ كُرْبَة َ القَلْبِ الشَّجِيِّ
وكم أمرٍ تساءُ به صباحًا ... وَتَأْتِيْكَ المَسَرَّة ُ بالعَشِيِّ
إذا ضاقت بك الأحوال يومًا ...  فَثِقْ بالواحِدِ الفَرْدِ العَلِيِّ
عباد الله: ومن أنواع الابتلاء الأمراض والأسقام التي يقدرها الله على من رحم من عباده، فالمريضُ المؤمنُ المدنف، ساكنُ النفس، لاهجٌ بحمد ربه بإِنعامه عليه بهذا البلاء! ولكنّ غير الواثقين بربهم لا يعلمون حقائق كنوز الرضى وذخائرَ الثقة. إنه يقرأ في منشور فلاحه وصفًا للمرضيِّ عنهم: (العابدون الحامدون السائحون) ويتدبر قول ربه: (والله يحب الصابرين) فتهفو نفسه الواثقة لمزيد من اليقين حتى يكون الخبر كالمعاينة. وكم من مريض أو مكروب أو مضرور يفتح الله له بابًا لمناجاته والأنس به حال كربه ومرضه، حتى إذا زال كرْبُه؛ فَقَدَ معه كثيرًا من موارد ذلك الأنس والسرور والمناجاة.
والمؤمن يرى الأمراض نعمًا لا عذابًا، هو لا يطلبُها بل يسألُ ربّه العافية، لكن إن نزلت به صبر ورضي وشكر. فأسقامُ الجسد على ثلاثة أنحاء:
فمنها العارض وأعظمه الحُمّى -أمُّ مِلْدَمٍ -فهي تدخل كل عضو وتفورُ في كل مفصل، فهي كفارة طيّبة للخطيئات.
 الثاني: أمراضٌ ملازمة تحل معه وترتحل، لا تفارقه في فراشه ولا طعامه ولا لذته ولا عبادته كالسكَر والضغط والعاهة ونحو ذلك من الأسقام التي يسمُّونها: الدائمة، فهي نِعْمَ الصَّاحبُ والرفيقُ في الطريق للآخرة، فالجسدُ يتأقلمُ ويتعايش معها على طول السنين، فلا يتأذى بها كشِدَة العارض النازل، مع ذلك فهي تنظّفُ صحيفته وتُنقّيها على مرّ الأيام من الذنوب، حتى إذا وافى العبدُ ربَّه إذْ الكثيرُ من خطاياه قد زالت بسبب تلك الأسقام في دنياه.
والثالث: الأسقام المُفضيةُ للوفاة بإذن الله تعالى، فمنها ما هو شهادةٌ لصاحبها، ومنها دون ذلك، وكلها خير ونعمة لمن احتسب الأجر ورضي بالله ربًّا مدبِرًا، وحمدَهُ على كل حال، وشكره على كل فضل. وبالجملة: فالمؤمن يعلم أنّ المصيبة كفارة للسيئات ورفعة للدرجات، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة. وقال إبراهيم المقري وقد رفسته بغلته فكسرت رجله: "لولا مصائب الدنيا؛ قدمنا على الله مفاليس".
والمرضُ لا يُقرّبُ الأجلَ، ولا الصحةُ تدفعُهُ، إنما هي أسبابٌ مجرّدة، أما المُسَبِّبُ الخَلّاقُ الذي يُنزل الداء ويرفعُهُ ويُحيي ويُميت فهو الله وحده، فالمؤمن يبذل السبب وقلبه معلّق بالله تعالى. حتى من أصيب بمرض خطير كالسرطان فهو بين إحدى الحسنيين؛ شفاء أو شهادة بإذن الله، لأنّه إن لم يدخل فيه بالنص كالطاعون والمبطون ومريض ذات الجنب؛ فهو داخل بالمعنى للعلل التي ذكرها العلماء في توصيفهم لأمراض الشهادة.
ومن رحمة الله بعبده أن تأتيه رسلُ ربه كالأمراض الخطيرة، فتُلمحُ له بقرب رحيله إليه، فيستعد للقاء الله ويشتاق بتوبة وعمل، ويتخفّف من كدر الدنيا لراحة الآخرة، وينفض عن ظهره أوزار الخطايا ومظالم العباد، إنما الفاجعة بموت الفجأة للمفرطين الغافلين، والله المستعان.
عباد الله: المؤمن يفرح بالله ويرضى بقضائه، وإن السعيدَ من ولد آدم هو من كان عظيمَ الإيمان راسخَ اليقين رخيَّ البال بالقناعة، وهي الحياة الطيبة، والمؤمن ينتظر من الله أجر صبره وحمده، فعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس، يخرُّ رجالٌ من قامتهم في الصلاة من الخَصاصة -أي من الجوع، وهم أصحاب الصفة - حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين. فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم، فقال: "لو تعلمون ما لكم عند الله تعالى، لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة". رواه الترمذي وصححه.
والله تبارك وتعالى يبتلي أولياءه حتى إذا ضاقت أمورهم فرّجها برحمته، وإن تعسّرت أحوالهم يسّرها بفضله، وإن أظلمت نفوسهم نوّرها بهُداه، وإن انقطعت سُبُلهم وصلها بإحسانه، فهو طبيب عباده يبتليهم ليرفع درجتهم ويطهّرهم، وفرجه لهم عند حاجتهم أقرب إليهم من رمش عيونهم، فليس مع الله ضيعة. وغمسةٌ في الجنة تُنسي شقاء الدنيا كله!
يا صاحب الهم إن الهم منفرج... أبشر بخير فإن الفارج الله
وإذا بُليت فثق بالله وارض به.... إن الذي يكشف البلوى هو الله
والله ما لك غير الله من أحد... فحسبك الله في كل لك الله
فالبلاء إن نزل معه الصبر والرضا فهو رحمة ونعمة، فإن قابله بجزع وتسخّطٍ فهو عذاب إلى عذاب. فكلُّ مصيبة ليست في الدين فهي نعمة في الحقيقة.
 وأولياء الله مهما اشتدت بهم البلايا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وبالجملة؛ فالمبتلى في دنياه إن رُزِق الثقة فلا عليه ما يفوتُه من الحطام، ولْيعلم أنّ الفرج أقرب له من مارِنِ أنفه، وكفى بالإيمان حظًّا، "ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم".
فاشدُد يديك بحبل الله معتصمًا  ...  فإنّه الركن إن خانتك أركانُ
وليس على المؤمن أن يتمنى البلاء، بل عليه أن يسألَ الله العافية، فإن نزل بلاء صَبَرَ ورضيَ وحمد وشكر، فهو متوكل على ربه وراضٍ عنه قبل وقوع البلاء وأثنائه وبعد زواله، لا تزيده الابتلاءاتُ إلا يقينًا، ولا المصيباتُ إلا صبرًا، ولا المسرات إلا شكرًا وزُهدًا، وهو على الدوام يسأل ربَّه عونَهُ وتوفيقه وحفظه، والله لا يخلف وعده بإجابة من دعاه. وفي دعائكَ ربّك: لا تنس: اليقين.
وليس كلّ من ظنّ بنفسه الصبر والرضى وقت السعة والرخاء يكون كذلك وقت الضيق والشدة، فالنيّة قُلّبٌ، والعزائم تنفسخ، والعقل يعزُب، والعزيمة تخور، والنفس تضعف، إن لم يكن الله تعالى معه بلطفه وحفظه. فاستودِعْ نفسَك ومن تحبّ من لا تضيع لديه الودائع، وذلك الله وحده.
 ولمّا بثّ الله الخلائق اختار لك هذا الزمان وهذا المكان ليكونا محل الابتلاء الإلهي لك، فكن خيرَ ذاكرِ صابر حامد شاكر تائب مستغفر. واعلم أنّ للمؤمن بحرٌ لا تكدره مصائب الزمان، إنه بحر الرضى بالله تعالى، فاغمِسْ كلَّ همّ لك في بحر الرضى بالله، حينها تنطفئ نيران المصيبة ببرد السلام. فليس مرادُهُ أن يُعذِّب، ولكن يَبتلي ليُهَذّب.
دعِ المقاديرَ تجري في أعَنّتِها  ...   ولا تبيتنّ إلا خالي البالِ
ما بين غمضةِ عينٍ وانتباهتها   ...  يغيّر الله من حالٍ إلى حالِ
 واعلم أنّ قدرَك إنْ لم تذهب إليه؛ جاء إليك. فكن لله، وبالله، ومع الله، وإلى الله؛ فهو الغاية وما سواه هباء، وهو الباقي وما سواه فناء، وهو الحقُّ وما سواهُ باطل، قال سبحانه: (وأن إلى ربك المنتهى) وقال: (وأن إلى ربك الرجعى) فمهما سلكتَ من دروب الحياة خيرًا أو شرًّا، سرورًا أو حزنًا، صحة أو سقمًا، شوقًا أو خوفًا؛ فإليه وحدهُ المنتهى.
بارك الله لي ولكم...
.................
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد؛ فاتق الله يا عبد الله، واحمد الله تعالى واشكره كثيرًا على أن فضّلك على غيرك تفضيلًا بالعلم به والفرح به والأنس به في وقتٍ ترى فيه من يفرّ من الله حال شدته وكربته، فلا يفزع للصلاة والدعاء، بل لسفر أو لهو أو مسكر (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
ويامن ابتلاك الله بسقم في جسدك عليك بالتالي:
أولًا: الرضى بمُرّ القضاء، فمن آمن بالله ربًّا؛ رضي بمقاديره عليه، وتيقّنَ أنّه يتقلّب في قدرته وحكمته ورحمته ولطفه، وأنّه منتظر للفرجِ في الدنيا وللأجر في الآخرة.
ثانيًا: الإلحاحُ على الله تعالى في الدعاء، فهو من أنزل الداءَ وهو وحده القادر على رفعه. قال تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله). والتوحيد والتوكّل والدعاء هي أعظم علاج بإذن الله، قال ربنا: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي كافيه عما سواه.
ثالثًا: الرقيةُ الشرعية بالقرآن وبما صح من أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله تعالى عن القرآن: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعا من خشية الله) فكيف بلحم ودم وروح. واعلم أن القرآن شفاءٌ لكل مرض بلا استثناء: جسديًّا كالحمى والسرطان أو روحيّا كالعين والسحر. ولكن لا بد أن تتيقّن من أنّ القرآن شفاء، لا أن تأخذه على سبيل التجربة، والله تعالى قد قال في كتابه: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) فقد وصفه بالشفاء المُوجِب للعافية بإذن الله، ولم يصفه بالدواء الذي قد ينفع وقد لا ينفع، فالقرآن كله شفاء، وبعضُ آياته أبلغُ في الشفاء كالفاتحةِ وآيةِ الكرسي والمعوِّذات.
والأفضلُ والأكمل أن يرقيَ المريضُ نفسَه فهي أبلغ وأقوى وأخلص. ومن صفات السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب أنهم "لا يسترقون". أي لا يطلبون الرقية من غيرهم بل يرقون أنفسهم.
رابعًا: على المؤمن أن يأخذ بأسباب الشفاء من الأدوية المباحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: "عباد الله تداووا ولا تداووا بحرام).
 وفي الأمراض الوبائية ينبغي اتخاذ الأسباب التي أمر بها الشرع، فمن كان في البلد المطعون فلا يخرج منه فرارا منه، ومن كان خارجَه فلا يدخله، مع التوكل التام على الله تعالى في كل الأمور.
ولا بد للمؤمن في كل أمره من حراسة كنز إيمانه ويقينه وتعلقه بربه تبارك وتعالى، والدنيا بلا إيمان خراب بلقع، مهما تعطّفت ملذاتها، واشمخرّ ترفها، أما الإيمان فهو السبيل الوحيدُ الموصل لطيب العيش وسكينة الأبد وسعادة الخلود. وتذكّر أن الذنوب جراحات، ورب جرح وقع في مقتل. وإنّ الدنيا بطمعها وشدتها فانية نافدة، أما الذي عند الله من أجرٍ ورضوانٍ وجنة وكذلك من نار وعذاب؛ فهو الباقي الذي لا نفاد له، (ما عندكم ينفد وما عند الله باق).
تَفنى اللَذاذَةُ مِمَّن نالَ صَفوَتَها ...  مِنَ الحَرام وَيبقى الإثم وَالعارُ
تُبقي عواقِبُ سُوءٍ في مَغَبَّتِها ... لا خَيرَ في لَذة مِن بَعدِها النارُ
اللهم صل على  محمد..

الخميس، 27 فبراير 2020

وباء كورونا


وباء كورونا
منقولة بنصرف
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ), (ياَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَلأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً), (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن تعالى يبتلي عباده بما شاء من البلايا ويمتحنهم بما أراد من الرزايا اختبارًا لإيمانهم وتمحيصاً لنفوسهم وقرعًا لأفئدتهم ليثوبوا إلى أخذ العُدّة لدار القرار.
عباد الرحمن: يتردَّد كثيرًا في مجالس النّاس هذه الأيام حديثٌ عن مرض يتخوَّفون منه ويخشون من انتشاره والإصابة به، وهو ما يسمى بكورونا، والواجب على المسلم في كلِّ حالٍ ووقت، ومع كلِّ نازلة ومصيبة أن يعتصم بالله جلّ وعلا وأن يكون انطلاقُه في الحديث عنها أو معالجتِها قائمًا على أسسٍ شرعيَّة وأصولٍ مرعيّة وخوفٍ من الله جلّ وعلا ومراقبةٍ له.
وهـذه وقفات حول هـذا الموضوع الذي يشكِّلُ في حياة النَّاس هـذه الأيَّام أهمِّيةً بالغةً:
*الوَقْفَةُ الأُولَى: الواجب على كلٍّ مسلمٍ أن يكون في أحواله كلها معْتصمًا بربِّه جلّ وعلا متوكِّلاً عليه معتقدًا أنّ الأمور كلّها بيده *(مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)* [التغابن:11]، فالأمور كلُّها بيد الله وطوْع تدبيره وتسخيره؛ فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا عاصم إلَّا الله *(قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً)* [الأحزاب:17]، *(إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ)* [الزمر:38]
وفي الحديث *«وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ»*، وفي الحديث *«كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»*، وفي الحديث *«إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَة»*.
فالواجب على كلّ مسلم أن يفوض أمره إلى الله راجيًا طامعًا معتمدًا متوكِّلاً، لا يرجو عافيته وشفاءه وسلامتَه إلَّا من ربِّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فلا تزيدُه الأحداثُ ولا يزيدُه حلول المصاب إلا التجاءً واعتصامًا بالله *(وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)*
 *الوَقْفَة الثَّانِيَة: إنّ الواجب على كلِّ مسلم أن يحفظ اللهَ -جلّ وعلا- بحفْظِ طاعته امتثالاً للأوامر واجتنابًا للنواهي، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصيّته لابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: *«احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ»*؛ فإن أُصيب بمصيبة أو نزلت به ضرّاء فلن تكون إلاَّ رفعة له عند الله، وفي هـذا يقول نبيُّنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: *«عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»*؛ فالمؤمن في سرّائه وضرّائه وشدّته ورخائه من خيرٍ وإلى خيرٍ، وذلك كما قال نبيّنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: *«وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ».
 *الوَقْفَة الثَّالِثَة: إنّ شريعة الإسلام جاءت ببذْل الأسباب والدّعوة إلى التّداوي، وأنّ التَّداوي والاستشفاء لا يتنافى مع التّوكّل على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والتّداوي الذي جاءت به شريعة الإسلام يتناول نوعي الطّب: الطّبّ الوِقَائي الذي يكون قبل نزول المرض، والطّبّ العِلاجي الذي يكون بعد نزوله؛ وبكلِّ ذلكم جاءت الشَّريعة. وما من داء إلا وقد جعل الله له دواء خلا الموت، فهو حتم لا بد منه.
ففي مجال الطِّبّ الوقائي يقول نبيُّنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: *«مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِى صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِى لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَىْءٌ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ـ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ـ فَيَضُرُّهُ شَىْءٌ» وقال: "مَن قال حينَ يُصْبِحُ وحينَ يُمْسي: أعوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِن شرِّ ما خلَق لم يضُرَّه شيءٌ".
والله تعالى هو الحافظ, وهو الحفيظ: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا), (وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ), وإذا كان الله -تبارك وتعالى-: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا), فكيف بك أيها المخلوق الضعيف؟!
 وجاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّه قال: *«مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِى لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ»* أي من كلِّ آفةٍ وسوءٍ وشرٍّ، وجاء في حديث عبد الله بن خُبَيْب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: *خَرَجْنَا فِى لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى لَنَا - قَالَ - فَأَدْرَكْتُهُ فَقَالَ «قُلْ». فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ «قُلْ». فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا. قَالَ «قُلْ». قُلْتُ مَا أَقُولُ قَالَ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِى وَتُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ»*، وجاء عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ كما في حديث عبد الله بن عمر أنّه كان لا يدع هـؤلاء الدّعوات حين يصبح وحين يمسي: *«اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِى دِينِى وَدُنْيَاىَ وَأَهْلِى وَمَالِى، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِى، وَآمِنْ رَوْعَاتِى، اللَّهُمَّ احْفَظْنِى مِنْ بَيْنِ يَدَىَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي»؛* وفي هـذه الدّعوة تحصينٌ تامّ وحِفْظٌ كامل للعبد من جميع جهاته.
وفي مجال الطبِّ العِلاجيِّ جاء عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ إرْشادات عظيمة وتوجيهات كريمة وأَشْفِيَة متنوّعة جاءت مبيَّنةً في سنّته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ يطول المقامُ بذكرها أو الإشارة إليها، وينظر في هذا بسط هذا الموضوعِ الواسع في كتاب زاد المعاد والطب النبوي لابن القيم.
*الوَقْفَة الرابعة: أنَّ المصائب التي تُصيب المسلمَ سواءً في صحّته أو في أهله وولده أو في ماله وتجارته أو نحو ذلك إن تلقَّاها بالصَّبْر والاحتساب فإنها تكون له رِفْعَة عند الله جلّ وعلا، قال الله تعالى: *(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)* [البقرة:155-157]، فالله تبارك وتعالى يبتلي عبده ليسمع شكواه وتضرعه ودعاءه وصبره ورضاه وحمده وشكره بما قضاه عليه.
 *الوَقْفَة الخامسة: أنَّ أعظم المصائب المصيبة في الدين فهي أعظم مصائب الدنيا والآخرة، وهي نهاية الخسران الذي لا ربح معه والحرمان الذي لا طمع معه، فإذا ذكر المسلم ذلك عند مصابه في صحته أو ماله حمد الله على سلامة دينه.
الوقفة السادسة: الطواعينُ والأمراض والأوبئة ليست من الأمور الجديدة, وإنما عرفها الناس منذ القدم, وقد عدّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كثرةَ وقوعِ ذلك من أشراط الساعة, وعلاماتِ قرب قيامها, فعن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ: "اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ مُوتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ المَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لاَ يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ العَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ، فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: "المُوتَانُ هُوَ المَوْتُ الْكَثِيرِ الْوُقُوعِ، وَشَبَّهَهُ بِقُعَاصِ الْغَنَمِ، وَهُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْغَنَمَ لَا يُلْبِثُهَا إِلَى أَنْ تَمُوتَ. وَقِيلَ: هُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ فِي الصَّدْرِ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَوْبِئَةِ تُؤَثِّرُ فِي الرِّئَةِ، وَتَحْبِسُ النَّفَسَ، حَتَّى يَمُوتَ المَوْبُوءُ".
الوقفة السابعة: الوباء قد يكونُ عقوبةً وقد يكون ابتلاءً, قد يكون عقوبة على انتشار المعاصي وفشوها, كما أخبر الحبيب -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق: "لم تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ في قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "مَا ظَهَرَ الْبَغْيُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ المُوتَان". والله -تبارك وتعالى- يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ). فتكون عقوبة ليرتدع الباغي عن بغيه, ويفيق الغاوي من غيه, وينال العاصي جزاء عصيانه.
وقد تكون هذه الأمراض والأسقام ابتلاءً من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين؛ ليزيد في درجاتهم ويمحصهم، وفي الحديث: "ما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ما عليه خطيئة", وقالت عائشة -رضي الله عنها-: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَنِي "أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
الوقفة الثامنة: الحذر من التسرع في نشر الأخبار, وإشاعة الإشاعات, ونقل الرسائل التي تصلك دون التثبت منها, فكثير من تلك الرسائل والأخبار كذب محض لا أصل له, وفي نفس الوقت تبث الرعب في قلوب الناس, وتصيب المجتمع بالإرجاف.
والعاقل اللبيب لا يتكلم في شيء إلا إذا تثبَّت من صحته؛ فإذا ثبت لديه ذلك نَظَرَ في جدوى نشره؛ فإن كان في نشره حفز للخير، واجتماعٌ عليه نَشَره، وإن كان خلاف ذلك أعرض عنه، وطواه. ولقد جاء النهي الصريح عن أن يحدث المرء بكل ما سمع, قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع".
اللهم إنا نسألك أن تحفظنا بحفظك, وأن تكلأنا برعايتك, وأن تدفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا وَإِمَامِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله عباد الله وتذكروا أنم في شهر معظم حرام، قال الله تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} قال قتادة: العمل الصالح أعظم أجراً في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً. قال ابن رجب : احذروا المعاصي فإنها تحرم المغفرة في مواسم الرحمة .
واعلموا رحمكم الله أن تعظيم هذا الشهر هو عام لكل الطاعات بلا تخصيص طاعة  معينة ولا ميقات معين في  هذا الشهر الفضيل، فلا يشرع تخصيص شيء من أيامه بالصيام ولا شيء من لياليه بالقيام كليلة سبع وعشرين وغيرها.  وكلُّ خير في اتباع من سلف.
اللهم صل على محمد..

الخميس، 13 فبراير 2020

العربية لغة القرآن الكريم


العربية لغة القرآن الكريم
منقولة بتصرف
الحمد لله أنزل الذِّكرى بلسان عربي وحفظه، ودَلَّ عبده على طريق الهدى وبَشَّرَه وأنذره ووعظه، له الملكُ وله الحمد، بسط الآمال ونشرها، وطوى الآجال وسترها، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وَسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، وقَدَّرَ المقادير حكمةً وحكمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تقي النَّدَامة يوم الحسرة، وتنجي صاحبها ساعة العسرة.
وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، بَلَّغَ الرسالة، وأَوْضَحَ الدَّلالة، صَلَّى الله وسلم وباركَ عليه وعلى آله وأصحابه السَّادةِ الأبرار، والتَّابعين ومَنْ تبعهم بإحسانٍ ما تعاقَبَ اللَّيل والنَّهار، وسَلَّم تسليمًا كثيرًا. أمَّا بعدُ:
فأوصيكم - أيُّها النَّاس ونفسي بتقوى الله - عَزَّ وجَلَّ. فاتقوا الله - رحمكم الله - واحذروا اتِّباع الهوى وطول الأمل، فاتِّباع الهوى يصدُّ عن الحق، وطول الأمل يُنسي الآخرة، ومَن صَبَر على مخالفة هوى نفسه أوصله الله مقام أُنسه، ومَن استغرقَ في المَلَذَّات دخل في لُجَّة النَّدامات، ومَن غلبت عليه شهواته بَعُد عليه التَّوفيق ومقاماته، فالهَوى - رحمكم الله - يُردي، والخوف منَ الله يُقَرِّب ويُغني: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41].
أيها المسلمون: أمَّةُ الإسلام خير أمَّة أخرجت للنَّاس، تأمُر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، لها مكانتُها، ولها دورها الحضاري، وفي الأزمنة المتأخِّرة أصابها ما أصابها، وأحاط بشعوبها ما أحاط من عند أنفسهم ومن خارج أنفسهم.
ومن أعظم أسباب ذلكَ: أنَّ الأمَّة لا تَتَبَنَّى مشروعًا للإصلاح ينهض بها على الأصعدة كافَّة، يَتَّفق مع مبادئها، ويراعي خصائصها، وينسجم مع عصرها، ويوظف مستجدات زمانها، وهذا حديثٌ عن ركن من أركان البناء الحضاري، لا يُتصور بناء حقيقي وإشادة كيان مُستقل بدونه، حديث عن عنصر قال عنه أهل الاختصاص والمُنَظِّرون: إنَّه قرين الذات، وهو لازم الهُوية، وركن الحضارات. إنَّه صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، بوجوده تَتَمَيَّز الأمة قائمةً بخصائصها، وتتَّحد به الأمة في صورة تفكيرها؛ بل قالوا: إنَّه أعظم عوامل الوَحدة وأهم أسبابها بعد دينها وعقيدتها.
أتدرون ما هذا الركن الركين - حفظكم الله - وما هذا العنصر الأساس؟ إنَّه - حفظكم الله - لغة الأمَّة ولسانها.
اللغة هي الوعاء الحامل لحضارة الأمة الحافظ لتاريخها وعطائها.
واللغة هي مرآة العقل وأداة التفكير، لغة الأمَّة هي التي تحتضن مخزونها الثقافي ومخزونها العاطفي؛ لتُكَوِّن عقلية أهلها الذين يَتَحَدَّثون بها ويتعلمون بها، وتسوغ نفسياتهم وطريقة تفكيرهم، فاللغة فكرٌ ناطقٌ، والتفكير لغةٌ صامتةٌ.
أيُّها الإخوة: فإذا كانت هذه بعض الإشارات لِمَنزلة اللغة وموقعها في بناء الأمة والحضارة؛ فكيف إذا كان الحديث عن لغة الوحي ولغة التنزيل، لغة القرآن الكريم، أقدم اللغات الحيَّة على وجه الأرض، محفوظةٌ بحفظ كتاب الله في بقائها، وبنائها، وتركيبها، وقواعدها، وتصريفها؟!!
لم يمر بالعربية حَدَث أعظم من الإسلام ونزول القرآن على محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - تَحَوَّلَ فيها لسان العرب إلى شعرٍ يتنافس فيه أهل الإسلام في ديارهم كافة: درسًا وعنايةً، تعلمًا وتعليمًا، لا لنُفوز سياسيٍّ ولا لسبق حضاري؛ ولكن دين وقربة.
الإسلام جعل للعربية الصدارة والاهتمام تكلُّمًا وتعلمًا، يغار عليها كل مسلم، ويطمح إلى إتقانها كل مصلٍّ ومتعبد.
لقد بلغت اللغة ما بلغه الإسلام دارًا وانتشارًا، واستوعبت ما أتت عليه الحضارات السابقة قبلها، وصاغتها حضارة واحدة إسلاميَّة الصبغة، عالمية المنزع، إنسانيَّة الرؤية، لغة عظيمة حملت حضارة العالم أكثر من أربعة عشر قرنًا.
يقول خبراء اللغة: لأول مرَّة في تاريخ البشريَّة - على ما يُعلم مِنَ التاريخ الموثوق به - أن يُكتب للسانٍ طبيعيٍّ أن يعمَّر ما يزيد على سبعة عشر قرنًا، محتفظًا بمنظومته الصَّوتيَّة والصرفيَّة والنَّحويَّة، فيطوِّعها جميعًا ليواكب التَّطَوُّر في الدَّلالات، دون أن يتزعزع نظامه من داخله. بينما المعهود في تاريخ اللِّسانيات والتاريخ اللغوي المقارن أن أربعة قرون هي الحد الأقصى الذي يدخل بعده التغيير التدريجي لمكونات المنظومة اللغويَّة!! واللُّغة العربية بدأت على غاية الكمال، فليس لها طفولةٌ ولا شيخوخة!
عباد الله: إن رُقِيَّ المجتمع المسلم العربي وجلاء هويته يكمنان في اعتزازه بدينه، وتمسكه بلغته، فإن دين المرء ولغته هما أُسَّانِ للانتماء الحقيقي وقُطْبَانِ، فالدين قلبه، واللغة لسانه، ولما كان اللسان غشاء القلب وبريده، فإن اللغة فرع عن الدين، المبني على الكتاب العربي المبين، وسُنَّة أفصح مَنْ نطق بالضاد سيد المرسلين -صلوات الله وسلامه عليه-، ومن المقرَّر بداهةً أنه لا توجد أُمَّة دون لغة، ولا لغة دون أمة، وإن شرف اللغة العربية؛ لغة الكتاب العربي المبين بين اللغات كشرف دين الإسلام بين الأديان، وإذا كان نور فؤاد الأمة دينها، فإن نور لسانها لغتها العربية؛ لأن اللغة العربية لغة قرآن وسُنَّة، لغة عبادة وعلم، وفِكْر وأدب وثقافة وحضارة وسياسة، وهي لسان مشترك يجمع أكثر من مليار مسلم ونصف المليار على وجه الأرض، لا يقرأون القرآن إلا بها مهما نطقوا بغيرها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “إن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون“.
ألا فاعلموا -رعاكم الله- أن المرء مهما قلَّب بصرَه وأرخى سمعه فلن يجد أعذب من اللغة العربية، ولا أمتنَ منها ولا أعمقَ، ولن تستطيع لغة في الوجود مقاربتَها فضلا عن مجاراتها، بل إن كثيرا من لغات العالم تحوي كلمات ذات أصل عربي، كيف لا وقد تميزت بحروف متكاملة مصنَّفة على مخارج نقطها من الحلق إلى الشفتين، يُضاف إلى ذلكم تميُّزُها بأحرف لا توجد في لغة أخرى غيرها.
 قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “وليس أثر اعتياد اللغة الفصحى مقصورا على اللسان، بل يتعمق حتى يؤثر في العقل والخُلُق والدين تأثيرا قويًّا بيِّنًا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتُهم تزيد العقلَ والدينَ والخُلُقَ“.
وقد أحسن ابن القيم -رحمه الله- في بيان فضلها حيث قال: “وإنما يَعرف فضلَ القرآن مَنْ عرف كلامَ العرب، فعرف علم اللغة، وعلم العربية، وعلم البيان، ونَظَرَ في أشعار العرب وخُطَبِها ومقاولاتها في مواطن افتخارها ورسائلها“.
وإذا طلبتَ من العلومِ أجلَّها  ...   فأجلُّها منها مُقيمُ الألسُنِ
عباد الله: لقد كان للمشارَكة الحضارية والثورة التقنية دور رئيس في انكماش اللغة العربية وتهميشها حتى تحوَّل مَنْحَاها فانحرفت عن مسارها وسياقها الصحيح، وظهر على إثر ذلك سلبياتٌ في التواصل اللغوي للمجتمع العربي الواحد، والأمة العربية برمتها، مع أن لغتها هي المكوِّن الرئيس في تشكيل هويتها، وإذا ما وقع ذلكم فحدِّثوا حينذاك ولا حرج؛ عن شرخ الهوية وهَجِين اللغة المُفرِزَينِ اختلالا ثقافيا وضَعْفا علميا؛ لأن المجتمعات كالوعاء، تصب فيه كل الثقافات غير أن إيجابيات تلك الثقافات وسلبياتها مرهونة بموقع اللغة العربية من ذلك التفاعل صعودا ونزولا؛ لأن اللغة العربية تقوم على ثلاث وظائف في تكوين المجتمع، تتجلى في كونها أداة للتفكير ووسيلة للتفاهم والتواصل الاجتماعي، وعنوانا لهوية الفرد والمجتمع، بيدَ أن غفلة كثير من الناس عن استحضار هذا الأساس بلغت بهم إلى تهميش ظاهر، وتسطيح مُقلِق؛ فأحلوا غيرَها محلَّها في كثير من استعمالاتهم؛ فإن ذا البصيرة يشاهد ويسمع طغيان الحديث بغير العربية بين أهلها أنفسهم؛ يظهر ذلك جليًّا في تسمياتٍ غيرِ عربيةٍ، ومحادَثات بغيرها دون حاجة، في الدُّور والسُّوق وبتسميات لأعلام ومؤسسات ومصطلحات ومَحالِّ تجارةٍ وغير ذلكم، حتى أصيب محبوها بهاجس من الغربة والانكسار أدى ببعض المحافظين منهم عليها إلى أن يلوكوا ألسنتَهم بالعربية على استحياء خشيةَ التعيير أو التندر أو الاستهجان، هذا إن سَلِمُوا من سهام اللمز بهم، والتقليل من شأنهم، ووصفهم بالجامدين الذي لا يُحسنون الرطانةَ الوافدةَ، ولم يتَّشحوا بوشاحها البراق على حد وهمهم.
 يقول عمر: "تعلموا العربية فإنها من الدين، وقال: تفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي".". وكان شعبة يقول: "تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل"، وقال الثعالبي: "من أحبّ الله أحبّ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومن أحبّ النبي العربي أحبّ العرب، ومن أحبّ العرب أحبّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب".
والله الموفِّق وهو الهادي إلى سواء السبيل، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفورا رحيما.

الخطبة الثانية:
الحمد لله العظيمِ شأنُه، القاهرِ سلطانُه، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا شأن عن شأن يُشغِلُه، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله، عزَّ مقامه، وعَلَت فضائله - صَلَّى الله وسَلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، صدقوا الله فأنجز لهم ما وعدهم، والتابعين ومَنْ تبعهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، ثم اعلموا -يا رعاكم الله- أن الذين يستبدلون العجمة بالعربية ظنًّا منهم أنها علامة الرقي ومكمن الافتخار، فظنُّهم -لَعَمْرو اللهِ ظنٌّ مقلوب، واستسمانٌ لذي ورم، نعم قد يبلغ التعامل بغير العربية مبلغ الضرورة أو الحاجة أو التحسين، ولا حرج في ذلكم؛ كما فعل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا احتاج إلى مثل هذا؛ حيث أمر زيد بن ثابت -رضي الله تعالى عنه- أن يتعلم اللغة السريانية. (رواه أحمد).
ولغة القرآن تعلو ولا يعلى عليها، (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[الزُّمَرِ: 28].
هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيَّه بكم -أيها المؤمنون- فقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفِّسْ كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْنَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانتَه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد. اللهم آتِ نفوسَنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنتَ وليها ومولاها.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.