إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 26 مارس 2023

مفهوم الحرية في الإسلام


مفهوم الحرية في الإسلام

محمد المنجد

 

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

مفهوم الحرية في الإسلام

عباد الله: لقد خلق الله الإنسان حراً، وخلق بني آدم أحراراً، ليسوا بعبيد للعبيد، وهذا هو الأصل فيهم، والله U أعطى الإنسان إرادة، ومشيئة، واختياراً، فليس العبد مجبوراً على عمل، وإنما هو حر في اختياره ومشيئته، وبناء على هذه الحرية في الاختيار والمشيئة؛ يحاسبه الله U، فلو كان العبد مكرهاً مجبراً لا حرية له في الاختيار، فإن الله لا يؤاخذه على أفعاله: إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليهفإذا فقد العبد حريته في العمل، ومشيئته في الاختيار، فصار مجبراً مكرهاً، لا يؤاخذه الله، فيكون الإكراه عذراً له في هذه الحالة فلا يأثم، وأما ما عمله باختياره، وحريته، ومشيئته، فإن الله تعالى يحاسبه عليه، وقد جاء الشرع بتحريم بيع الحر، ومن الكبائر أن يبيع الإنسان حراً فيأكل ثمنه.

وقد جعلت الشريعة للرق أسباباً معينة، ومسارات خاصة، فمن تعداها فباع حراً فإنما يأكل في بطنه نار جهنم، وقد استعبد بعض البشر بعضاً عبر التاريخ، كما فعل فرعون مع بني إسرائيل، وقد امتن الله على بني إسرائيل لما نالوا الحرية بعد استعبادهم، وقد ذاقوا ذل العبودية لفرعون وقومه فقال سبحانه: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌسورة البقرة49، وكان فرعون يمن على موسى أنه لم يستعبده كما استعبد قومه، فكان رد موسى، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَسورة الشعراء22 فأنا واحد، وقومي هؤلاء جميعاً، فأين منتك عليَّ في أن لم تستعبدني، وأنا فرد واحد، واستعبدت قومي على كثرتهم وعددهم.

وجاءت الشريعة الإسلامية بوضع الآصار والأغلال، فهي شريعة تخفيف، ورفع للقيود الشاقة، ولذلك نجد فيها تخفيفاً في أحكام المكره كما قال Uمَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِسورة النحل106 ولا تستقيم حياة الإنسان إلا إذا كان عبداً لشيء واحد وهو الله U، قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِسورة الأنعام19 وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِسورة الذاريات56 فالعبودية لله تعالى فقط، وعندما يصبح الإنسان عبداً لله يتحرر من أسر المخلوقات، وعندما يصبح عبداً لله فإنه يكون في غاية الحرية في نفسه، وكذلك فإن الصحابة لما خرجوا لفتوحات البلدان كان قائلهم يقول: "لقد ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"، وقال عمر t"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، وقال علي t: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً".

ونعى الله على أهل الكتاب أن يكونوا عبيداً لأحبارهم فقال: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِسورة آل عمران64؛  ولذلك كان أعظم البشر الأنبياء، وقد مدحهم الله بالعبودية له فقال: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَسورة ص17 وقال عن أيوب: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًاسورة ص44، وهكذا عباد الله المتقون، عباد الله الأخيار، ونبينا ﷺ رأسهم، وصفه الله بالعبودية له، فقال: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِسورة الفرقان41 الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَسورة الكهف1، وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُسورة الجن19.

صور للحريات التي أعطاها الإسلام للإنسان

وهكذا، فالحرية التي أعطاها الله للإنسان أعطاه إياها ليختار ما يشاء من هذه المباحات، فيأكل ما يشاء، ويلبس ما يشاء، ويتنقل حيث يشاء، ويمتهن ما يشاء من المهن، ويعمل ما يشاء من الأعمال، وكذلك يبيع ما يشاء، ويشتري ما يشاء، ويستأجر ما يشاء، ويؤجر ما يشاء، من سائر التصرفات، وهذه الحرية، وهذا الاختيار أيضاً نجده للذكر والأنثى: فالإنسان يتزوج من يشاء، وكذلك المرأة ترضى بمن تشاء، فمن شاءت وافقت على الزواج منه، ومن شاءت أن تأبى الزواج منه أبت، ولها الحرية في ذلك، قال ﷺ: لا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: كيف أذنها؟ قال: أن تسكتوقال سبحانه: وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِسورة النساء19، وهذه الحريات التي أعطاها الله للبشر ثابتة، ومقررة وهي من العيش الكريم، وغصب الإنسان على أكلة لا يريدها أو زيجة لا يريدها ظلم، وجاء الإسلام بحرية الابتكار، فهذا الإنسان مسموح له أن يكتشف، وأن يخترع، وأن يركب، وأن يصنع، إنها أشياء مفتوحة بحرية للناس، إنه حر أن يتكلم بما في نفسه، وأن يعبر عن رأيه، وهكذا وجوه الحرية كثيرة واضحة.

العبوديات وصور معاصرة لها

ولكن من الناس من يختار أنواعاً من العبودية غير العبودية للبشر الصريحة، ولما فطن أعداء الله إلى الكيفية التي يستعبدون بها البشر أوقعوهم في أنواع من العبوديات غير قضية أن يكون في رقبته غل، ويساق بالسلاسل ليعمل في مزرعة فلان، وحقل فلان، ومصنع فلان، تلك كانت صور سابقة، كانت مشهورة بالعبودية، ولكن ابتكر هؤلاء طرقاً جديدة في فتح أبواب العبودية، بأن يكون الناس عبيداً لأفكارهم بما يهيمنون عليه من وسائل البث مفهوم الحرية عند أعداء الدين، وهكذا انتشرت حريات هي في الحقيقة عبوديات، فصار بعض الناس عبيداً للشهوات، فالشهوة هي التي تحركه وتقيمه وتقعده وتؤزه وتسكنه، وسائل البث، عبيداً لشهواتهم بما يثيرونه فيهم من الغرائز، عبيداً للدرهم والدينار بما يجذبونهم إليه من ألوان، استعباد المال لصاحبه، وهكذا انتشرت حريات هي في الحقيقة عبوديات، حرية الغريزة فصار بعض الناس عبيداً للشهوات، فالشهوة هي التي تحركه، هي التي تقيمه، وهي التي تقعده، وهي التي تؤزه، وهي التي تسكنه، وهي التي تجعله يدفع، وتجعله يحجم، فأطلقوا للبشر عناناً في أنواع المحرمات والشهوات، فصار هذا عبداً لامرأة، وهذا عبداً لكأس ومخدر يدفع من أجله شبابه وثروته، بل ويسرق لأجل تحصيله، فصار هنا عبيد للنساء، وهناك عبيد للمخدرات والمسكرات، وفي ذاك التوجه عبيد للمال، وقد قال نبينا ﷺ: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، وهنالك من هو عبد للثياب والقماش: تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة وهنالك من هو عبد لشخص إذا عشقه وهويه فصار معشوقه، فهو الذي يحركه، فهو يذكره في قيامه، وقعوده، وأكله، وحتى يراه في نومه، فهذه عبودية خطيرة، عبودية العشق، فيظن هذا الإنسان أنه حر ليس بعبد لأنه ليس ملكاً لفلان يسوقه من رقبته بسلسلة، ولكنه في الحقيقة عبد لهذه الشهوة، وهذه المادة.

من فوائد العبودية لله

ومن فوائد العبودية لله: أنها تحرر الناس من هذه العبوديات لغير الله، فإذا صرت عبداً لله تحررت من عبودية الشهوة، وإذا صرت عبداً لله تحررت من عبودية الدرهم والدينار، فصار الدرهم والدينار يخدمك لا أنت الذي تخدمه، ولما سئل بعض أهل العلم عن متى يكون الإنسان عبداً للدرهم والدينار ومتى لا يكون؟ فقال: إذا كان المال عنده بمثابة الحمار الذي يركبه، وبيت الخلاء الذي يدخله، فليس عبداً للدرهم والدينار، فكلهم يحتاج إلى دابة ينتقل عليها، وبيت خلاء يدخل فيه ليقضي حاجته، لكن هل الإنسان الذي يدخل بيت الخلاء والمرحاض يحب المرحاض، ويهيم به، ويفتتن به، ويعيش معه حضراً، وسفراً، ليلاً، ونهاراً في أحواله؟ كلا، إنه يحتاجه فيدخله وقت الحاجة، ثم يخرج منه، وقلبه غير متعلق به، وإذا كان له دابة يركبها فإنه يحتاجها ويتخذها ولا بد له منها، لكن قلبه ليس متعلقاً بحماره الذي يركبه، ليس يهواه، ويتيه به، ويهيم، فأما إذا صار المال بالنسبة له هو الذي يرضى من أجله، ويسخط من أجله، ويحب من أجله، ويبغض من أجله، ويعطي من أجله، ويمنع من أجله، ويعيش لأجله، فعند ذلك يكون عبداً له؛ ولذلك فإن العبودية لله تخلص شاباً من فتاة عشقها، والعبودية لله تخلص مدمناً من مخدر سقط في وحله، والعبودية لله تخلص سكراناً من خمر قد لعب بكليته ودخل في جسده، والعبودية لله تخلص الناس من التعلق بغير الله، فتجعلهم أحراراً، ولو كان بلالاً الحبشي، أو سلمان الفارسي، أو صهيباً الرومي، أو غير ذلك ممن استعبدوا في يوم من الأيام.

عباد الله: إن مفهوم العبودية لله ينبغي أن يكون حقاً في أنفسنا، فنحب لله، ونبغض لله، ونعطي لله، ونمنع لله، ونعيش لله، ونموت في سبيل الله، وهكذا.

نسأل الله I أن يجعلنا من عباده الأخيار، وجنده الأبرار، ومن الذاكرين له آناء الليل وأطراف النهار، إنه هو الرحيم الغفار.

أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو الملك الحق المبين، سبحانه خلق فسوى، وقدر فهدى، لا إله إلا الله يفعل ما يشاء، لا إله إلا الله الحي القيوم، لا إله إلا الله، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الأمين مصطفاه من خلقه، وأمينه على وحيه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم صل وسلم، وبارك على عبدك ونبيك محمد إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، والشافع المشفع يوم الدين، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه، وذريته الطيبين، وخلفائه الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

مفهوم الحرية عند أعداء الدين

عباد الله: قد نفخ أعداء الإسلام في بعض الناس باسم الحرية ما يجعلونهم بذلك عبيداً لشهواتهم، وأهوائهم، ومبادئ الغرب والشرق، وهذه الأطروحات الباطلة التي يأتون بها ليلاً ونهاراً؛ ولذلك فإن الله لما أعطى للبشر حرية في التصرفات -كما قلنا- بيعاً، وشراء، واستئجاراً، وكفالة، ورهناً، وحوالة، ونحو ذلك، وأعطاهم الحرية في الطعام، واللباس، والنكاح، فإنه I جعل لذلك قيوداً، وفهم القيود مهم جداً لمعرفة بطلان مبدأ الحرية المطلقة.

أولاً: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْسورة الأحزاب36، فإذا هوي الإنسان شيئاً، ومال إليه، وأراد الله ورسوله عكس هذا فيجب عليه الانقياد لما أراده الله ورسوله: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَاسورة النور51؛ ولذلك من المبادئ الإسلامية العظيمة لا حرية في فعل المعصية، ويجب التفريق بين الحرية وبين الحرام، قال ﷺ: إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوهانتهينا؛ ولذلك فلا يمكن أن يقال: أن هناك حرية في سب الله، أو أنبيائه ورسله، أو التطاول على ثوابت الدين وأحكامه وشرائعه، وليس هناك حرية في انتقاد أحكام الميراث، أو أحكام الولاية في الإسلام، أو انتقاد أحكام الطلاق، أو أحكام النكاح، ليس هناك حرية في انتقاد ما جاءت به الشريعة من الحدود؛ كحد السرقة، أو حد الزنا، ونحو ذلك، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تترك عقوبة الزاني إذا كان راضياً بفعله هو والزانية؛ لأن الله ليس براض، ولا يمكن أن يكون الربا حلالاً إذا كان المرابي والذي يدفع إليه الربا الآخذ والمعطي راضيين، لا يمكن أن يكون حلالاً إذا كانا راضيين؛ لأن الله ليس براض، ولا يمكن أن تكون المرأة حرة في طريقة خروجها، ولباسها، وتبدي ما تشاء من الزينة، وتتبرج، وتتعطر، وتمر على من تشاء من الرجال، وتمشي بأي طريقة في الأسواق، وتخلو بمن تشاء، وتفعل ما تشاء بحجة أنها حرية شخصية؛ لأن الله لا يرضى عن هذا.

قيود الحرية في الإسلام

وبعض الناس يفهم في ضوابط الحرية شيئاً واحداً، وهو أنك لا تضر بالآخرين، ويقول لك: حريتك تقف عند ضرري، فالتدخين عنده يمكن أن يفهم على أنه ممنوع إذا كان يضر بالآخرين؛ ولذلك يتحدثون عن التدخين السلبي، ويقول لك بالتالي: إذا كنت في بيتك وحدك فدخن أنت حر، لكن لا تدخن أمامي لأنك تضرني بأنفاسك، والخطأ في هذا أنه قال له مقراً: إذا كنت في بيتك وحدك دخن أنت حر، فهذه عبارة خاطئة شرعاً، فلا يجوز لك أن تدخن لا في بيتك، ولا خارج بيتك، لا عند الناس، ولا وحدك؛ لأن التدخين محرم، وأنت تضر نفسك.

فكثير من الناس لا يفهمون في قضية الحرية الشخصية أن الشرع يحرم ما يضر بنفس الإنسان، ويقولون: ما دام هو يضر نفسه فله أن يفعل ما يشاء، وبناء عليه إذا أغلق عليه بابه، وأخذ إبرة مخدر، وبقي في بيته لا يؤذي أحداً، ولا يخرج إلى الناس حتى يذهب مفعول المخدر، ويقوم، ويسوق السيارة بعقله فعندهم أنه حر.

وهذا والله الذي لا إله إلا هو، إنها من أكبر مكائد إبليس، ومن أبطل الباطل؛ لأنه ليس حراً، والملكان يقيدان عليه ما يفعله في قعر بيته، وحسابه عند الله يوم القيامة، وعلى من ولاه الله أمر المسلمين أن يأخذ على يديه، ولو كان يفعل ذلك؛ لأن السفيه إذا كان لا يعرف أن يقف عند حده بنفسه، ولو كان الضرر على نفسه، فإن الله يولي عليه من يوقفه عند حده، ولو كان ضرره على نفسه فقط؛ ولذلك فمن الانحرافات الحديثة أن تجد من يقول: لا تكفر أمامي، لا تسب الأنبياء والصحابة أمامي، اذهب أغلق على نفسك البيت وسب من تشاء، سب الرب، سب الدين، سب الصحابة، سب الأنبياء، افعل ما تشاء، هذا من أبطل الباطل، فكيف يقر، ويسمح له أن يسب الله، أو الدين، أو الأنبياء، أو الصحابة في بيته إذا كان لا يسمعه أحد، فلا يجوز أن يقر على ذلك؛ لأن هذا السماح بالكفر حرام، ولو كان الإنسان يفعله وحده، فالكفر لا يقر، والمعصية لا تقر حتى لو كان العاصي يفعلها وحده في بيته، أنت لا تراه لست مسئولاً عنه، ولكن لو سئلت: ما يفعله فلان في بيته الآن من المعصية، هل هي حرية شخصية؟ تقول: لا، ليس حراً أن يعمل ذلك في بيته وحده أبداً، أنت لا تدري عنه، وأنت لا تحاسبه، وله رب يحاسبه، نعم، لكن ما حكمه؟ حرام، وهل يحق له أن يفعل ذلك وحده؟ لا يحق له ذلك شرعاً، بل هو حرام، وهو آثم، ومعاقب عند الله.

وبالمناسبة لا يوجد معصية لا تتعدى إلى الغير، هذا لا بد أن يكون في قلبه نكتة سوداء، ستظهر في معاملته للناس بعدما يخرج من بيته.

عباد الله: لا حرية مطلقة في الإسلام، وإلا ما كان للعبودية لله معنى؛ لأن الحرية المطلقة تقتضي ألا تقيد بأي قيد لما قالت الشريعة: لا ضرر ولا ضرار، ما معنى ذلك؟

لا ضرر بالنفس، ولا ضرار بالغير، وبعض الناس يفهم النصف الثاني فقط: لا ضرار يعني: لا يجوز أن تضر غيرك.

وقوله: لا ضرر يعني: لا يجوز أن تضر بنفسك حتى لو كنت مع نفسك وحدك أين تذهب بهذا؟

ولذلك فإن الحرية في الإسلام مقيدة، فمن أبطل الباطل قول: الحرية المطلقة، نريد الحرية المطلقة، فنقول: لا حرية مطلقة في الإسلام، وإلا ما كان للعبودية لله معنى؛ لأن الحرية المطلقة تقتضي ألا تقيد بأي قيد، فكيف يبتلي الله الناس، هذا عبد صالح أو لا، إذا كان لم يقيد حريتهم، فمبدأ القيود على الحرية هي التي تبين هل هذا عاص، أو طائع، وكيف ستتبين قضية الصلاح والمعصية والطاعة بدون قيود.

القيود هذه لما يقال لك: لا تزني، ولا تتعامل بالربا، ولا تشرب الخمر، ولو كنت وحدك، ولا يجوز لك أن تأكل الخنزير، لو قال: آكل الخنزير وحدي أنا في البيت ما أضر أحداً، فلا يجوز ذلك، ولو كان وحده، والعبودية لله هنا تظهر أن يمتنع الإنسان عما قيده الله به، فهذه الحدود ليست فقط أشياء تضر بالغير، فالحدود أشياء تضر بالنفس أيضاً، فلو شرب الخمر في بيته، هذه حدود لله، انتهك حد الله، ولو زنا وإياها برضاها ورضاه انتهك حد الله، ولو سب الأنبياء وحده في البيت انتهك حد الله.

إذن هذا الانتهاك لحد الله يحاسب عليه الإنسان، والحريات الغربية لا تقول بهذا أبداً، فالحريات الغربية فقط تقيد بالإضرار بالآخرين، إذا أضررت بالآخرين فحريتك تنتهي، وإذا ما أضررت بالآخرين بزعمهم على تعريفهم للإضرار بالآخرين فحريتك مطلقة.

ولذلك يقولون: حرية الاعتقاد، اعتقد بما تشاء، اعتقد بحجر، بشجر، عمود كهرباء، اعتقد بما تشاء، بلا دين، تكون يهودياً، نصرانياً، بوذياً، سيخياً، هندوسياً، كن ما شئت، حرية اعتقاد، هذا غير موجود في دين الإسلام، فالإسلام يوجب على الناس أن يعبدوا الله ويسلموا له: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَسورة آل عمران85، والله عاقب أقواماً على أنهم أشركوا به، وكفروا، فعاقب قوم عاد، وثمود، وقوم لوط، وشعيب.

وكثير من الناس يتكلمون عن حرية الرأي، ويدخلون فيها حرية الكفر، ويخلطون بين حرية الفكر، وحرية الكفر، ويسمحون بحرية الكفر ضمن حرية الفكر، وأن تعتقد ما تشاء من المذاهب الضالة، ولذلك عندهم مشكلة حقيقة في حد الردة، وفي حديث:  من بدل دينه فاقتلوهوالمقصود بدينه دين الإسلام، كما بين العلماء في شرح الحديث، فيقولون: من أراد أن يخرج من الدين فليخرج، ولكن في الإسلام الذي يخرج من الدين يقتل، وإلا يصبح الدين بوابة بلا بواب، ولا راع، ولا حارس، ويجترئ الناس على ترك الدين، وعلى ترك الإسلام، وهكذا يصبح الدين ألعوبة، من شاء دخل، ومن شاء ترك.

فإن قال قائل: فما معنى قول الله Uلاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِسورة البقرة256؟

الجواب: معناه على ضوء الأحاديث والآيات الأخرى، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُسورة آل عمران85وعلى ضوء حديث النبي ﷺ:  أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، أن من أراد من غير المسلمين، ومن أهل الكتاب تحديداً، أن يبقى على دينه مقابل أن يدفع الجزية، ولا يدخل في الإسلام فله ذلك، لكن يقال له: إذا مت على هذا، فأنت في النار، فيجب أن تدخل،  والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار.  

فالحرية في الإسلام قيدها أيضاً ألا تضر بنفسك، والضرر يبينه الكتاب والسنة.

وهذا موضوع يطول أيها الأحباب، والمقصود بيان ما هو مفهوم الحرية في الإسلام؟ وما هي قيود وضوابط الحرية في الشريعة، لأن بيان هذا الآن مهم جداً، في وقت قد ارتفعت فيه الأصوات في أنحاء مختلفة من العالم، تنادي بالحريات، فالحرية التي نريدها هي الحرية التي جاء بها الإسلام، فهناك حرية، ولكن لها ضوابط وقيود، إنها في كتاب ربنا، وفي سنة نبينا ﷺ، وليست في دساتير الغرب أن الحرية قيدها فقط ألا تضر بالآخرين، فالحرية في الإسلام قيدها أيضاً ألا تضر بنفسك، والضرر يبينه الكتاب والسنة.

اللهم إنا نسألك أن تحيينا مسلمين، وأن تتوفانا مؤمنين، وأن تلحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، اللهم اهد ضآلنا، واشف مريضنا، واقض ديوننا، واستر عيوبنا، وارحم موتانا، واشف مرضانا، اللهم إنا نسألك الأمن والإيمان لبلدنا هذا وبلاد المسلمين، من أراد بلدنا بسوء فامكر به، واجعل كيده في نحره، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وعمل مبرور، وسعي مشكور، يا رب العالمين كن معنا ولا تكن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، واهدنا ويسر هدانا إلينا، أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

1 - رواه ابن ماجه2043 وصححه الألباني في الجامع الصغير1731 

2 - رواه البخاري6970 

3 - رواه البخاري2887

4 - رواه البخاري7288 

5 - رواه ابن ماجه2341 وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 7517

6 - رواه البخاري3017 

7 - رواه البخاري393

8 - رواه مسلم153

 

فضل الصحابة وآل البيت

 

فضل الصحابة وآل البيت

 

نبذة مختصرة عن الخطبة:

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "فضل الصحابة وآل البيت"، والتي تحدَّث فيها عن بيت الله الحرام وشوق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى الحج والعمرة، ثم تكلم عن دولة الإسلام ونبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، وتطرَّق للكلام عن صحابته الكرام - لا سيما أهل بيته - رضي الله عنهم أجمعين -، وما يجب على كل مسلم من توقيرهم واحترامهم وإنزالهم منازلهم.

 

الخطبة الأولى

الحمد لله طاعته أشرف مُكتَسَب، وطاعته أعلى نسب، سبحانه وبحمده لا مانع لما أعطى، ولا مُعطي لما سَلَب، وأشكره على مِنَحه العُظمى، ونعمه الكبرى تفوق عدَّ العادِّين وحساب من حَسَب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أرجو بها النجاة يوم تشتد الكُرَب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله عليُّ المقام وعالي الرُّتَب، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار، وأصحابه المتقين الأبرار، ومن إلى دين الحنيفية انتسَب، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد:

فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله - فالموعد يوم المعاد، والحشر يوم التناد، يوم يُنفخ في الصور، ويُنقَر في الناقور، أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرَّم الله، وصدق النية فيما عند الله، والسعيد من وُعِظ بغيره، والمال قد يجمعه غير آكله، ويأكله غير جامعه، والقوي من داوَم على طاعة الله، والضعيف من غلَبَته محارم الله، ورأس التقوى مخافة الله، ورأس الفضائل حفظ اللسان، ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 152].

 

معاشر المسلمين، حُجَّاج بيت الله الحرام:

في هذه الأيام تتوافَدُ وفود الرحمن وضيوفه إلى حرم الله، وإلى مسجد رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث تلتهب الأشواق إلى مهبط الوحي، وإلى طيبة الطيبة، إلى هذه البِقاع الطاهرة، والمشاعر المُعظَّمة، بقاعٍ ومشاعر قدَّسها الله وعظَّمَها، وخصَّها برسالته، ومتنزَّل وحيه، ومولد نبيه ومرباه، ومبعثه ومُهاجَره.

 

تتوافد هذه الحشود من كل بقاع الدنيا، من مشارق الأرض ومغاربها، يحملها البر والبحر والجو إلى مكة المكرمة: بيت الله، والمدينة المصطفوية: مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهنيئًا لهم الوفادة، وهنيئًا لهم الكرامة، وبُشراهم القبول.

 

وإن إخوانكم وأهلكم في بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية ليُسعِدهم ويُشرِّفهم استقبالكم وخدمتكم والعناية بكم، فقادة البلاد، وولاة الأمر فيها، ورجال الدولة، وشعب المملكة يُرحِّبون بكم، ويهنِّئونكم، تستقبلكم القلوب قبل البقاع، فالخدمات موفورة، والاستعدادات - ولله الحمد - تامة، والجهود مبذولة، فعلى الرحب والسعة.

 

إن أشواقكم هي أشواق كل مؤمن، ومقصدكم أعظم مقصد، فيسَّر الله مجيئكم، وسهَّل الله أمركم، وتقبَّل سعيَكم، وأحسَن مُنقلبَكم، ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ ﴾ [الحج: 27، 28].

 

ضيوف الرحمن، أيها المسلمون:

إن مستقبل الأمة الإسلامية لا يصنعه - بإذن الله - إلا المسلمون، وإذا استقام الطريق وصحَّ المنهج فإن الزمن جزءٌ من العلاج طالَ الزمن أو قصُر، ذلكم أن دين الإسلام حقٌّ بذاته، برهانه من داخله، وحُجَّته في نصوصه وتطبيقاته، دينٌ وسِعَ نوره الأرجاء، وعمَّ ضياؤه الآفاق، وربط نظامُه المشرق بالمغرب، والأقصى بالأدنى.

 

ومن هنا - معاشر المسلمين والحُجَّاج - فإننا نقول بثقةٍ مقرونة بقوة، وقناعةٍ مُنبثقة الحُجة: إن البشرية ليست بحاجة إلى مبادئ جديدة، أو أنظمةٍ جديدة، ولكنها بحاجة إلى مصداقية في تطبيق العدل والقسط، والنظر في المصالح الحقيقية للأفراد والشعوب.

 

ألم تنظروا وتتأملوا فيما نملكه نحن أهل الإسلام من خيرٍ وما نختصُّ به من كنوز، ونستأثر به من مبادئ ومُنطلقات، ألم تمتد دولة محمد - صلى الله عليه وسلم - في أقل من قرن من جدار الصين إلى بحر الظلمات - المحيط الأطلسي.

 

أشرقت دولة الإسلام حِقَبًا عديدة، ودهورًا مديدة، بنور الحق، ودين الفضل، ومبادئ النُّبْل، وضياء الهدى، فلم يترك دينُ الله بيتَ مَدَرٍ ولا حجرٍ إلا دخله بالغًا ما بلغ الليل والنهار، دين الحق قبِلَته وقبِلَت لغتَه الأرواح قبل الأشباح، تتبعُ فتوحاته الحضارةُ والمدنية، والعدل والرحمة، والعلوم النقلية والعقلية والكونية، على أيدي هذه الأمة الأمية حديثة العهد بالعلم.

 

قد زكَّاها القرآن وعلَّمها أن صلاح الإنسان يتبعه صلاح العالم، ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 151، 152]، سبحانك ربنا عزَّ شأنُك، وهل يكون هذا الخير، وهذا النور، وهذا الحق إلا بوحيٍ من لدن حكيمٍ عليم، ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].

 

معاشر الإخوة:

نفوس المسلمين وأنفاسهم تتدفَّق مع مجاري دمائهم، تربط الروح بالجسد، والدين بالدنيا، والأمل بالعمل، في تلاحُمٍ أخَّاذ بين الفكر والجوارح، والبدن والروح، في اتصالٍ من غير فِصال، دينٌ يؤكِّد كرامة البشرية، وقيمة الحياة الإنسانية، وحقوق الحرية الإنسانية الحقة، فلا عبودية لبشرٍ على بشر، ولكن عبوديةٌ للواحد الأحد.

 

معاشر الإخوة، حُجَّاج بيت الله:

أما نبي الإسلام محمد - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم -، فهو المختار المصطفى، والنبي المُجتبى، صادق اللهجة إذا تحدَّث، طَلق اليد إذا بَذَل، واسع الحلم إذا أُوذِي، عظيم النفس، راجح العقل، قد امتلأ رحمةً وبِرًّا، وحكمةً وحِجَى، لم يُخالط شيئًا من سيرته شائبةُ عبثٍ أو لهو، إخلاصٌ شديد، وجِدٌّ راسخ، لم يُؤثَر عنه قولٌ ولا عمل يدل على حبٍّ في الرئاسة، أو تطلُّع إلى زعامة، منحه ربُّه من العقل والفهم والإدراك في تدبير بواطن الخلق وظواهرهم، وسياستهم العامة والخاصة، مع عجيب شمائله، وبديع سيرته، علوٌّ في الذات، وعلوٌّ في القدر، ومقامٌ أرفع في خُلُقٍ كريم، وسيرةٍ حميدة، ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113]، ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].

 

إخوة الإسلام:

وليزداد منكم العَجَب فيما نكتنزه من مجد، وننطلق به من مبادئ، ويتجلَّى لكم فيه سرٌّ من أسرار الاصطفاء الإلهي لهذا النبي الأمي، فارقبوا محمدًّا - صلى الله عليه وسلم - في آل بيته - رضوان الله عليهم -، لقد آثَر محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في بيته ومع آل بيته حياة الزهد والقناعة والبذل والإيثار لأهله إلى يوم القيامة، وكان من دعائه: «اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتًا»، وقال لهم جميعًا: «لا أُغني عنكم من الله شيئًا».

 

إن محمدًا - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - لم يخُصَّ آل بيته بوسائل التنعُّم الأسرية، ولم يجعل لهم مزايا دنيوية خاصة؛ بل رباهم على حياة الزهد والقناعة والإيثار، حتى إنه لم يرضَ أن يتخذ عليٌّ وفاطمة - رضي الله عنهما - خادمًا، وأرشدهم إلى الاستعانة بذكر الله والتسبيح والتحميد، ولقد فقِهَ آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم وأرضاهم -، فقهوا عن نبيهم وأبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فكانوا في سيرهم وتاريخهم - رضوان الله عليهم - كانوا بعيدين كل البعد عن كسب الدنيا بانتسابهم وأنسابهم.

 

لقد كانوا غيارى على الرَّحِم الذي يصِلُهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما كانوا يستغلُّون هذا النسب لمصالح دنيوية، شأن المعتاد في أبناء أسر الوجهاء والكُبَراء، يقول جويرية بن أسماء - وهو من أخص خَدَم سيدنا علي بن الحسين المعروف بزين العابدين - رضي الله عنه وعن آبائه - يقول جويرية: ما أكل عليُّ بن الحسين بقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - درهمًا قط.

 

وفضل أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المعلوم بالاضطرار عند أهل الإسلام في سيادتهم، وفضلهم، وفُضلائهم، وحسن سيرهم، وأخلاقهم، وعلو هممهم وعزائمهم، فهم السادة أهل البيت، أسباط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأولاد أسد الله وأسد رسوله الإمام الخليفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه وكرم وجهه، ورضي عن العترة الطاهرين، وعن الصحابة الأكرمين أجمعين -.

 

أهل البيت لهم مكانتهم في مرتبتهم الدينية ومقامهم العلمي، فالأمة تحفظ لهم الحب والتقدير، والاحترام والمودة، على حد قوله - سبحانه -: ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ [الشورى: 23]، هذا هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهؤلاء هم آل بيته سرٌّ من أسرار هذا الدين وبقائه، وحفظه، وعلوه، وحُجَّته، وبرهانه.

 

وبعد:

فالإسلام دين الله، ومحمد رسول الله، ورسالته خاتمة الرسالات، تولَّى الله حفظ الدين، وتكفَّل بخلود كتابه، وحاط مبادئه وشعائره ومقاصده بحياطته الصمدية، وحفِظَها ويسَّرها غضَّةً سليمة، سهلةً تبهر الناس بكمالٍ لا يُدانيه كمال، وصلاحية لا يُخالطها بِلَى، وتجدُّدٍ لا يُنازعه تقادُم.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 43، 44].

 

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله مُجيب من دعاه، وهادي من استهداه، أحمده وأشكره على جزيل مِنَحه ووافر عطاياه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره، ولا رب لنا سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا رسول الله وخليله ومُصطفاه، صلى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن والاه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم أن نلقاه.

 

أما بعد، فيا أيها المسلمون:

كما تتجلَّى خيراتنا وكنوزنا ومنطلقاتنا وبراهيننا وحُججنا في أولئك الكوكبة الذين اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ليتلقوا الوحي غضًّا طريًّا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليكونوا المُبلِّغين الأوائل عن الله وعن رسوله، إنهم القوم الذين سعِدوا بتربية المصطفى - عليه الصلاة والسلام -، إنهم جيلٌ لم يكن للإنسانية به عهد، دُعُوا إلى الإسلام فقَبِلوه، وقرأوا القرآن فأحكموه وحكَّموه، واستُنفِروا للجهاد فسلُّوا السيوف من أغمادها، فأخذوا بأطراف الأرض زحفًا زحفًا، وساروا إلى الهيجاء صفًّا صفًّا، لا يُبشَّرون بالأحياء، ولا يُعزَّون في الموتى، بِيض العيون من البكاء، خُمص البطون من الصيام، على وجوههم صلاح الخاشعين، وعملهم عملُ الوجِلين.

 

حفَظَة الدين وأمناؤه، رعيل الإسلام الأول، قلَّ نظيرهم، وعزَّ مثيلهم، أوفياء لله ولرسوله، محوا رسوم الجهل، وهدموا أنصاب الكهانة، هجروا الديار والأموال، وتبوءوا الدار والإيمان، ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9]، استقامةٌ على الدين، ولزوم المنهج، ومحاسبةٌ للنفس، في تربيةٍ نبوية لا تطاولها تربية الحكماء، ولا خبراء التعليم، ولا معلمي الأخلاق، ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29].

 

رضي الله عنهم ورضوا عنه، بلغوا المستوى الأعلى في درجات الرُّقيِّ الإنساني؛ بل يقول بكل أمانةٍ وثقةٍ: كانوا في أدنى المستوى الإنساني، ثم رفعهم محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى أعلى درجات الرُّقيِّ الإنساني.

 

نعم، أيها المسلمون، ونعم، معاشر الحجيج، لم يكن المسلمون هم الذين صنعوا عظمة الإسلام، ولكن الإسلام هو الذي صنع عظمة المسلمين، وكذلك يفعل ديننا في قديم الزمان وحديثه، وفي شرق العالم وغربه، وفي أقصاه وفي أدناه، ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10].

 

نعم، الإسلام هو الذي يصنع عظمة المسلمين، ويحفظ مكانتهم، ويُعلي قدرهم، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، العزة للمؤمنين بإيمانهم، ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].

 

وبلاد الحرمين الشريفين قبلة المسلمين، وحاضنة مُقدَّساتهم، وخادمتها، وراعيتها، وفي مقدمتهم ولاة أمرها يشرُفون بذلك، ويعتزُّون به خدمةً ورعايةً وعنايةً، يبذُلون الغالي والنفيس من أنفسهم ومواردهم، ويأتي ولي أمرنا مليكنا وإمامنا خادم الحرمين الشريفين: الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله بحفظه، وأعزَّه بدينه -، ليشهد له العالم بهذه المكانة، وليتبوأ هذه المنزلة، ويعترف بقوته وتأثيره ومكانته في صدقه ومُنجَزاته وخدمته لأمته، وقربه من شعبه، واستمساكه بدينه، وأخذه بركاب العلم، والمشاركة الفاعلة في صناعة القرارات الدولية التي تنشُد السلم والحق والعدل، وجمع الكلمة، ومكافحة الإرهاب، ومحاربة الفقر، والمبادرات المخلصة لإحقاق الحق، فهو في المقاييس العالمية يُمارس مسؤولياته ببراعة ومصداقية ونزاهة ومحبة، وبأسلوب فعَّال، وإدارة حازمة، دينًا، واقتصادًا، وسياسةً، وعلمًا.

 

فلله الحمد والمنة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، والحمد لله على ما أعطى، والشكر له على ما أولى.

 

هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في محكم تنزيله، وهو الصادق في قيله، قال قولاً كريمًا﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

 

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملة والدين.

 

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.

 

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر، وأحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة.

 

اللهم من أرادنا وأراد ديننا وديارنا وأمننا وأمتنا وولاة أمورنا وعلماءنا واجتماع كلمتنا بسوءٍ اللهم فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا رب العالمين.

 

اللهم عليك باليهود الغاصبين المُحتلين، اللهم عليك باليهود الصهاينة الغاصبين المحتلين فإنهم لا يُعجزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسك الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.

 

اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا، ودعاءنا، وأصلح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتب علينا، واغفر لنا وارحمنا، يا أرحم الراحمين.

 

اللهم يسِّر للحُجَّاج حجَّهم، اللهم واجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبهم مغفورًا، اللهم وأحسِن مُنقلَبَهم، وأعِدهم إلى ديارهم سالمين غانمين مقبولين بمنِّك وجودك يا أكرم الأكرمين.

 

﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].

 

عباد الله:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].

 

فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 



رابط الموضوعhttps://www.alukah.net/sharia/0/61629/%D8%AE%D8%B7%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AC%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D9%85-28-11-1431%D9%87%D9%80-%D9%81%D8%B6%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D9%88%D8%A2%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%AA/#ixzz7x5o2UdW1