إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 4 أبريل 2024

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (4)(مطالعة النعم)

 

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (4) (مطالعة النعم)

الحمد لله ذي الجلال والإكرام حي لا يموت قيوم لا ينام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الحليم العظيم الملك العلام، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام والداعي إلى دار السلام صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان . أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من طرق تحصيل الافتقار المحبوب إلى الله الممدوح من لدنه مشاهدة الأسماء والصفات وبخاصة اسم الحميد.

«وقد نبّه سبحانه على شمول حمده لخلقه وأمره بأن حمد نفسه في أول الخلق وآخره، وعند الأمر والشرع، وحَمِدَ نفسَه على ربوبيته للعالمين، وحمد نفسه على تفرده بالإلهية وعلى حياته. وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاةِ أحدٍ من خلقه لحاجته إليه. وحمد نفسَه على علوّه وكبريائه، وحمد نفسه في الأولى والآخرة. وأخبر عن سَريان حمده في العالم العلوي والسفلي. ونبَّه على هذا كله في كتابه، وحمد نفسه عليه؛ فنوّعَ حمدَه وأسبابَ حمدِه، وجمعَها تارة، وفرقها أخرى، ليتعرّف إلى عباده، ويعرِّفهم كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه، وليتحبّبَ إليهم بذلك، ويحبهم إذا عرفوه وأحبوه وحمدوه.

قال تعالى: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) وقال تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) وقال تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا)

 وأخبر عن حمدِ خلقِه له بعد فصلِه بينهم، والحكم لأهل طاعته بثوابه وكرامته، والحكم لأهل معصيته بعقابه وإهانته: ( وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين)

 وأخبر عن حمدِ أهل الجنة له، وأنهم لم يدخلوها إلا بحمده، كما أن أهل النار لم يدخلوها إلا بحمده، فقال عن أهل الجنة: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) و (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)

وبالجملة: فكل صفة عليا واسم حسن وثناء جميل، وكل حمدٍ ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عز وجل على أكملِ الوجوه وأتمها وأدومها. وجميعُ ما يُوصف به ويُذكر به ويخبر عنه به فهو محامدُ له وثناءٌ وتسبيح تقديس. فسبحانه وبحمده لا يحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يُثنِي به عليه خلقُه. فله الحمدُ أولًا وآخرًا حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لكرم وجهه، وعِزِّ جلاله، ورفيع مجده، وعلو جَدِّه.

فهذا تنبيه على أحد نوعي حمده وهو حمد الصفات والأسماء.

والنوع الثاني: حمدُ النعم والآلاء، وهذا مشهودٌ للخليقة: برِّها وفاجرِها، مؤمنها وكافرها، من جزيل مواهبه، وسَعة عطاياه، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وحسن معاملته لعباده، وسعة رحمته لهم، وبره ولطفه وحنانه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كربات المكروبين، وإغاثة الملهوفين، ورحمته للعالمين، وابتدائه بالنعم قبل السؤال، ومن غير استحقاق، بل ابتداء منه بمجرد فضله وكرمه وإحسانه، ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها، وصرفها بعد وقوعها، ولطفه تعالى في ذلك بإيصاله إلى من أراده بأحسن الألطاف، وتبليغه من ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال، وهدايته خاصَّتَه وعبادَه إلى سبيل دار السلام، ومدافعته عنهم أحسن الدفاع، وحمايتهم عن مراتع الآثام.

وحبب إليهم الإيمان وزينة في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين، وكتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وسمّاهم المسلمين قبل أن يخلقهم، وذَكَرَهم قبل أن يذكُروه، وأعطاهم قبل أن يسألوه، وتحبّب إليهم بنعمة مع غناه عنهم، وتبغُّضُهم إليه بالمعاصي مع فقرِهم إليه.

ومع هذا كله فاتخذ لهم دارًا، وأعدّ لهم فيها من كل ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين، وملأها من جميع الخيرات، وأودعها من النعيم والحَبْرَةِ والسرور والبهجة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

ثم أرسل إليهم الرسلَ يدعونهم إليها، ثم يسَّرَ لهم الأسباب التي توصلهم إليها، وأعانهم عليها، ورضي منهم باليسير في هذه المدة القصيرة جدًّا، بالإضافة إلى بقاء دار النعيم.

وضَمِنَ لهم إن أحسنوا أن يثيبهم بالحسنة عشرًا، وإن أساؤوا واستغفروه أن يغفر لهم، ووعدهم أن يمحو ما جنَوه من السيئات بما يفعلونه بعدها من الحسنات.

وذكّرهم بآلائه، وتعرف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمة منه بهم وإحسانًا، لا حاجة منه إليهم. ونهاهم عما نهاهم عنه حماية وصاينة لهم، لا بخلًا منه عليهم. وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه، ونصحهم بأحسن النصائح، ووصّاهم بأكمل الوصايا، وأمرهم بأشرف الخصال، ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال. وصرّف لهم الآيات، وضرب لهم الأمثال، ووسّع لهم طرق العلم به ومعرفته، وفتح لهم أبواب الهداية، وعرّفهم الأسباب التي تدنيهم من رضاه وتبعدهم عن غضبه.

ويخاطبهم بألطف الخطاب، ويسمّيهم بأحسن أسمائهم، كقوله: (يا أيها الذين آمنوا)، (وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون)، (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم)، (قل لعبادي)، (وإذا سألك عبادي عني)

 فيخاطبهم بخطاب الوداد والمحبة والتلطف، كقوله: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)، (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون)، (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)، (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك)، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)، (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون)، (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) [الكهف: ٥٠].

فتحت هذا الخطاب: إني عاديتُ إبليسَ، وطردته من سمائي، وباعدته من قربي، إذ لم يسجد لأبيكم آدم، ثم أنتم يا بنيه توالونه وذريته من دوني وهم أعداء لكم! فليتأمل اللبيبُ مواقع هذا الخطاب، وشدةَ لصوقه بالقلوب، والتباسه الأرواح. وأكثر القرآن جاء على هذا النمط من خطابه لعباده بالتودد والتحنن واللطف والنصيحة البالغة.

بارك الله لي ولكم..

...........

الخطبة الثانية

الحمد لله...

عباد الرحمن، لقد أعلمَ الله تعالى عباده أنه لا يرضى لهم إلا أكرم الوسائل، وأفضل المنازل، وأجل العلوم والمعارف، قال تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) وقال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (52) وقال: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقال تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)

وقال في الأضاحي والهدايا: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) وقال عقيب أمرهم بالصدقة ونهيهم عن إخراج الرديء من المال: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بإخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد) [البقرة: ٢٦٧] يقول سبحانه: إني غني عما تنفقون أن ينالني منه شيء، حميد مستحق للمحامد كلها. فإنفاقكم ليس له فيه حاجة، ولا يوجب له حمدًا، بل هو الغني بنفسه، الحميد بنفسه وأسمائه وصفاته، وإنفاقُكم إنما نفعهُ لكم، وعائدته عليكم.

ومن المتعيّن على من لم يباشر قلبه حلاوة هذا الخطاب وجلالته ولطف موقعه وجذبه للقلوب والأرواح ومخالطته لها؛ أن يعالج قلبه بالتقوى، وأن يستفرغ منه المواد الفاسدة التي حالت بينه وبين حظه من ذلك، ويتعرّض إلى الأسباب التي يناله بها، من صدق الرغبة، واللجأ إلى الله أن يحيي قلبه ويزكيه، ويجعل فيه الإيمان والحكمة. فالقلب الميّت لا يذوق طعم الإيمان، ولا يجد حلاوته، ولا يتمتع بالحياة الطيبة لا في الدنيا ولا في الآخرة.

ومن أراد مطالعة أصول النعم؛ فليدم سَرْحَ الفكرِ في رياض القرآن، وليتأمل ما عدّد الله فيه من نِعَمِهِ، وتعرّف بها إلى عباده من أول القرآن إلى آخره، حتى خلق النار، وابتلاءهم بإبليس وحزبه، وتسليط أعدائهم عليهم، وامتحانهم بالشهوات والإرادات والهوى؛ لتعظُم النعمة عليهم بمخالفتها ومحاربتها([1]). فلله على أوليائه وعباده أتمُّ نعمة وأكملها في كل ما خلقه من محبوب ومكروه، ونعمة ومحنة، وفي كل ما أحدثه في الأرض من وقائعه بأعدائه وإكرامه لأوليائه، وفي كل ما قضاه وقدّره. وتفصيلُ ذلك لا تفي به أقلام الدنيا وأوراقها، ولا قُوى العباد، وإنما هو التنبيه والإشارة.

اللهم صل على محمد..

 

 



([1])  أي بإعانة الله لهم وتوفيقهم لذلك.

الأربعاء، 3 أبريل 2024

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (3) (معرفة حقيقة النفس)

 

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (3) (معرفة حقيقة النفس)

الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى، وأسعد وأشقى، وأضل بحكمته وهدى، ومنع وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليّ الأعلى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى، والرسول المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن العبد لا ينفك ضرورة عن افتقاره للغني سبحانه.

وإذا أكمل العبد مراتب الافتقار إلى الحي القيوم، وشهد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقرًا تامًّا إليه من جهة كونه ربًّا، ومن وجهة كونه إلهًا معبودًا، لا غنى له عنه، كما لا وجود له بغيره، فقد وصل إلى الفقر الأعلى، الذي دارت عليه رحى القوم، بل هو قطب تلك الرحى، وإنما يصحّ له هذا بمعرفتين لا بد منهما: معرفة حقيقة الربوبية والإلهية، ومعرفة حقيقة النفس والعبودية. فهنالك تتم له معرفة هذا الفقر.

فإن أعطَى هاتين المعرفتين حقهما من العبودية؛ اتصف بهذا الفقر حالًا، فما أغناه حينئذ من فقير، وما أعزّه من ذليل، وما أقواه من ضعيف، وما آنسه من وحيد. فهو الغنيُّ بلا مال، القويُّ بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفيُّ بلا عتاد. قد قرّت عينه بالله، فافتقر إليه الأغنياء والملوك([1]).

فمتى اجتمع له هذا الشهود الصحيح إلى شهود الاضطرار في حركاته وسكناته، والفاقة التامة إلى مقلب القلوب، ومن بيده أزمة الاختيار، وأنه لا هادي لمن أضله ولا مضل لمن هداه، وأنه هو الذي يحرك القلوب بالإرادات، والجوارح بالأعمال، وأنها مدبرة تحت تسخيره، مذللة تحت قهره، وأنها أعجز وأضعف من أن تتحرك بدون مشيئته، وأن مشيئته نافذة فيها.

فهنا يتحقق الفقر والفاقة والضرورة التامة إلى مالك الإرادات وربِّ القلوب ومصرِّفها كيف شاء، فما شاء أن يزيغه منها أزاغه، وما شاء أن يقيمه منها أقامه. (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) [آل عمران: ٨].

وحكم هذا الفقير المضطر إلى خالقه في كل طرفة عين وكل نفس؛ أنه إن حُرِّك بطاعة أو نعمة؛ شكرها، وقال: هذا من فضل الله ومَنِّه وجوده، فله الحمد، وإن حُرّك بمبادئ معصيته؛ صرخ ولجأ واستغاث وقال: «أعوذ بك منك»([2])، «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»([3])، «يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك»([4]).

فإن تم تحريكه بالمعصية؛ التجأ التجاءَ أسير قد أسره عدوه، وهو يعلم أنه لا خلاص له من أسره إلا بأن يفّكه سيده من الأسر، ففكاكه في يد سيده ليس في يده منه شيء البتة، ولا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، فهو في أسر العدوّ، ناظرٌ إلى سيده وهو قادر على تخليصه، قد اشتدت ضرورته إليه، وصار اعتماده كله عليه. قال سهل: «إنما يكون الالتجاء على معرفة الابتلاء» يعني على قدر الابتلاء تكون المعرفة بالمبتلي.

ومن عرف قوله ﷺ: «وأعوذ بك منك»([5]) وقام بهذه المعرفة، وأعطاها حقّها من العبودية؛ فهو الفقير حقًّا. ومدار الفقر الصحيح على هذه الكلمة.

فهو سبحانه الذي ينجي من قضائه بقضائه، وهو الذي يعيذ بنفسه من نفسه، وهو الذي يدفع ما منه بما منه. فالخلق كله له، والأمر كله له، والحكم كله له، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وما شاء لم يستطع أن يصرفه إلا مشيئتُه، وما لم يشأ لم يمكن أن يجلبه إلا مشيئته. فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا يهدي لأحسن الأعمال والأخلاق إلا هو، ولا يصرف سيئها إلا هو. (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله) [يونس: ١٠٧].

والتحقق بمعرفة هذا يوجب صحّة الاضطرار، وكمال الفقر والفاقة، ويحول بين العبد وبين رؤية أعماله وأحواله والاستغناء بها، والخروج عن ربقة العبودية إلى دعوى ما ليس له. وكيف يدّعي مع الله حالًا أو مَلَكَةً أو مقامًا من قلبه؛ وإرادتُه وحركاته الظاهرة والباطنة بيد ربه ومليكه، لا يملك هو منها شيئًا، وإنما هي بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء.

فالإيمان بهذا والتحقق به نظام التوحيد، ومتى انحلّ من القلب انحلّ نظام التوحيد. فسبحان من لا يُوصل إليه إلا به، ولا يطاع إلا بمشيئته، ولا ينال ما عنده من الكرامة إلا بطاعته، ولا سبيل إلى طاعته إلا بتوفيقه ومعونته. فعاد الأمر كلُّه إليه، كما ابتدأ الأمر كله منه، فهو الأول والآخر. (وإن إلى ربك المنتهى) [النجم: ٤٢]»([6]).

«فلله العظيم أعظمُ حمدٍ وأتمُّه وأكملُه على ما مَنَّ به من معرفته وتوحيده والإقرار بصفاته العليا وأسمائه الحسنى، وإقرار قلوبنا بأنَّه الله الذي لا إله إلا هو، عالمُ الغيب والشهادة، ربُّ العالمين، قيومُ السموات والأرضين، إلهُ الأولين والآخرين. لم يزل ولا يزالُ موصوفًا بصفات الجلال، منعوتًا بنعوت الكمال، مُنزَّها عن أضدادها من النقائص والتشبيه والمثال.

فهو الحي القيوم الذي لكمال حياته وقيوميّته لا تأخذه سنة ولا نوم، مالكُ السموات والأرض الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، العالم بكل شيء الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم، فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه، يعلم دبيب الخواطر في القلوب حيث لا يطلع عليها المَلَك، ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلع عليه القلب.

البصيرُ الذي لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة وأعضائها ولحمها ودمها ومخّها وعروقها، ويرى دبيبها على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى ما تحت الأرضين السبع كما يرى ما فوق السموات السبع.

السميعُ الذي قد استوى في سمعه سرُّ القول وجهرُه، وسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه أصوات الخلق ولا تشتبه عليه، ولا يشغله منها سمع عن سمع، ولا تغلّطهُ المسائل، ولا تُبرمه كثرة سؤال السائلين، قالت عائشة: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات. لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله ﷺ وإني ليخفى علي بعض كلامها، فأنزل الله عز وجل: (قد سمع الله قول التي تجاد لك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) [المجادلة: ١]»([7]).

القديرُ الذي لكمال قدرته يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويجعل المؤمنَ مؤمنًا والكافرَ كافرًا، والبرَّ برًّا، والفاجرَ فاجرًا. وهو الذي جعل إبراهيمَ وآلِهِ أئمةً يدعون إليه ويهدون بأمره، وجعل فرعونَ وقومَه أئمةً يدعون إلى النار. ولكمال قدرته لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء أن يُعلِّمه إيّاه. ولكمال قدرته خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسّه من لغوب. ولا يُعجزِه أحدُ من خلقه ولا يفوته، بل هو في قبضته أين كان، فإن فرَّ منه فإنما يطوي المراحل في يديه، كما قيل:

وكيف يفر المرء عنك بذنبه

 

إذا كان يطوي في يديك المراحلا

ولكمالِ غناهُ استحالَ إضافةُ الولد والصاحبة والشريك والظهير والشفيع بدون إذنه إليه. ولكمالِ عظمته وعلوّه وَسِع كرسيه السموات والأرض، ولم تسعْهُ أرضُه ولا سماواته، ولم تُحِطْ به مخلوقاته، بل هو العالي على كل شيء، الظاهر فوق كل شيء، وهو بكل شيء محيط.

ولا تنفدُ كلماتُه ولا تبيدُ، ولو أن البحر يمدُّه من بعده سبعةُ أبحرٍ مدادٌ، وأشجارُ الأرض أقلامٌ، فكُتب بذلك المداد وبتلك الأقلام لنفد المداد وفنيت الأقلام ولم تنفد كلماتُه، إذ هي غير مخلوقة، ويستحيل أن يفنى غيرُ المخلوق بالمخلوق([8]).

وهو سبحانه يحبُّ رسلَه وعبادَه المؤمنين ويحبونه، بل لا شيء أحبّ إليهم منه، ولا أشوق إليهم من لقائه، ولا أقرّ لعيونهم من رؤيته، ولا أحظى عندهم من قربه.

بارك الله لي ولكم..

................

الخطبة الثانية

الحمد لله...

اعلموا عباد الله أنه سبحانه له الحكمة البالغة في خلقه وأمره، وله النعمة السابغة على خلقه، وكل نعمة منه فضلٌ، وكل نقمة منه عدل.

وأنه أرحمُ بعباده من الوالدة بولدها. وأنه أفرحُ بتوبة عبده من واجد راحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقدها واليأس منها.

وأنه سبحانه لم يكلّف عباده إلا وسعهم، وهو دون طاقتهم([9])، فقد يطيقون الشيء ويضيق عليهم، بخلاف وسعهم، فإنه ما يسِعُونَهُ ويسْهل عليهم، وتَفْضُلُ قُدَرُهُم عنه، كما هو الواقع.

وأنه سبحانه لا يعاقب أحدًا بغير فعلِه، ولا يعاقبه على فعل غيره، ولا يعاقبه بترك ما لا يقدر على فعله، ولا على فعلِ ما لا قدرة له على تركه.

وأنه حكيم كريم جواد ماجد محسن ودود صبور شكور، يُطاع فَيشكُر، ويُعصى فيَغفر. لا أحدَ أصبرُ على أذًى سمعه منه، ولا أحدَ أحبُّ إليه المدح منه، ولا أحدَ أحبُّ إليه العُذر منه. ولا أحدَ أحبُّ إليه الإحسانُ منه، فهو محسنٌ([10]) يحبّ المحسنين، شكورٌ يحب الشاكرين، جميل يحب الجمال، طيّب يحب كل طِيّب، عليمٌ يحب العلماء من عباده، كريمٌ يحب الكرماء، قويٌّ والمؤمنُ القوي أحبّ إليه من المؤمن الضعيف، بَرٌّ يحب الأبرار، عدل يحب أهل العدل، حييٌّ سِتّير([11]) يحب أهل الحياء والستر، غفورٌ عفو يحبُّ من يعفوَ عن عباده ويغفرَ لهم، صادقٌ يحب الصادقين، رفيقٌ يحبّ الرفق، جوادٌ يحب الجود وأهلَه، رحيمٌ يحب الرحماء، وِتْرٌ يحب الوترَ.

ويحب أسماءه وصفاتِه، ويُحب المتعبدين له بها، ويحب من يسألَه ويدعوه بها، ويحب من يعرفها ويعقلها، ويثني عليه بها، ويحمده ويمدحه بها، كما في الصحيح([12]) عن النبي ﷺ: «لا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ من الله([13])، من أجل ذلك أثنى على نفسه. ولا أحدَ أغيرُ من الله، من أجلِ ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحدَ أحبُّ إليه العذرُ من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين».

وفي حديث آخر صحيح: «لا أحدَ أصبرُ على أذى يسمعُه من الله، يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم»([14]).

ولمحبتِه لأسمائه وصفاته أمر عباده بمُوجِبِها ومقتضاها، فأمرهم بالعدل والإحسان والبِرِّ والعفو والجود والصبر والمغفرة والرحمة والصدق والعلم والشكر والحلم والأناة والتثبت. ولما كان سبحانه يحبّ أسماءَه وصفاتِه كان أحبَّ الخلق إليه من اتصف بالصفات التي يحبُّها، وأبغضَهم إليه من اتصف بالصفات التي يكرهُها. فإنما أبغض من اتّصف بالكبر والعظمة والجبروت لأن اتصافَه بها ظلمٌ، إذ لا تليقُ به هذه الصفاتِ ولا تَحْسُنُ منه، لمنافاتها لصفات العبيد، وخروجِ من اتصف بها من ربقة العبودية، ومفارقتِه لمنصبه ومرتبته، وتعديه طورَه وحدَّه. وهذا خلافُ ما تقدَّمَ من الصفات كالعلم والعدل والرحمة الإحسان والصبر والشكر، فإنها لا تُنافي العبودية، بل اتّصافُ العبد بها من كمال عبوديتِه، إذِ المتصفُ بها من العبيد لم يتعدّ طورَه، ولم يَخرجْ بها من دائرة العبودية([15]).

والمقصود: أنه سبحانه لكمالِ أسمائه وصفاته موصوفٌ بكل صفة كمال، منزهٌ عن كل نقص. له كلُّ ثناءٍ حسن، ولا يَصدرُ عنه إلا كل فعل جميل، ولا يُسمّى إلا بأحسن الأسماء، ولا يُثنَى عليه إلا بأكمل الثناء. وهو المحمود المحبوب المُعَظَّمُ ذو الجلال والإكرام على كلِّ ما قدَّرَه وخلَقَه، وعلى ما كل أمر به وشرعه»([16]).

اللهم صل على محمد..

 

 



([1])  وقد نبه ابن القيم ؒ بعد ذكر ما سبق شرطًا مهمًّا غفل عنه بعض المريدين للخير فقال: «ولا يتم له ذلك إلا بالبراءة من فرث الجبر ودمه، فإنه إن طرق باب الجبر انحلّ عنه نظام العبودية، وخلع ربقة الإسلام من عنقه، وشهد أفعاله كلها طاعات للحكم القدري الكوني. وإذا قيل له: اتق الله، ولا تعصه، يقول: إن كنت عاصيًا لأمره؛ فأنا مطيع لحُكمه وإرادته. فهذا منسلخ من الشرائع، بريء من دعوة الرسل، شقيق لعدو الله إبليس.

بل وظيفة الفقير في هذا الموضوع وفي هذه الضرورة مشاهدة الأمر والشرع، ورؤية قيامِهِ بالأفعال وصدورها منه كسبًا واختيارًا، وتعلّق الأمر والنهي بها طلبًا وتركًا، وترتّب الذم والمدح عليها شرعًا وعقلًا، وتعلق الثواب والعقاب بها آجلًا وعاجلًا». الطريق (1/ 54 - 55).

([2])  مسلم (486).

([3])  أحمد (17630) والترمذي (3522) وصححه الألباني.

([4])  مسلم (2654).

([5])  مسلم (486).

([6])  طريق الهجرتين (1/35 - 59)باختصار وتصرف.

([7])  أحمد (24195) والنسائي (6/168) وابن ماجه (188). وصححه ابن حجر في تغليق التعليق (5/339) والأرناؤوط في تخريج المسند.

([8])  وهذا منحىً لطيف متين.

([9])  لأن الوُسع من السعة وهي القدرة والراحة والقوة، بخلاف الضيق وهو نقص القدرة مع الشدة والتعب فهو يطيقه ولكن بمشقة.

([10]) يوصف الله سبحانه بالإحسان، أما تسميته بالمحسن ففيه خلاف قديم، ولم يثبت فيه نص من آية أو حديث، وعليهما المعوّل لا غير، فالأسماء توقيفية، ولا يُسمّى الله تعالى إلا بما سمّى به نفسه في كتابه أو على لسان نبيه ﷺ. وعليه فالراجح أن المحسن ليس من أسماء الله تعالى، إنما هو من صفاته، وبالله التوفيق.

([11]) وقد صح حديث تسميته بالستير، كما عند أبي داود (4014) وغيره وصححه الألباني: «إن الله عز وجل حييٌّ سِتِّيرٌ، يحبَ الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر» أما السَّتَّار فليس من أسمائه الحسنى.

([12]) البخاري (4634) ومسلم (2760) من حديث ابن مسعود ؓ.

([13]) وحمده والثناء عليه وذكره من مَدْحِهِ تبارك وتعالى، وللعلم فالحمد والمدح متفقان في الاشتقاق الأوسط (وهو الاتفاق في الحروف دون الترتيب) ومن دلالات ذلك قرب المعنيين من بعضهما لوحدة الاشتقاق، ومن ذلك: جبذ وجذب، أما الاشتقاق الأصغر فهو الاتفاق في الحروف والترتيب كنصر من النصر، أما الأكبر فهو ــ على القول به ــ الاتفاق في مخرج حروف الحلق أو الشفة مثل: نعق وثلم من النهيق والثلب. والله أعلم.

      هذا وإن علم الاشتقاق من أشرف علوم العربية وأدقّها وأنفعها، فمدار التصريف في معرفة الأصلي من الزائد عليه، حتى قالوا: لو حُذفت المصادر وارتفع الاشتقاق من كل كلام؛ لم توجد صفة لموصوف ولا فعل لفاعل. وانظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار (1/65).

([14]) مسلم (2804).

([15]) وهذا ضابط حسن مضطرد.

([16]) طريق الهجرتين (1/268 – 288) مختصرًا.