كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (2) (الإقرار بالافتقار)
الحمد لله أنشأ الكون من عدم وعلى العرش استوى، أرسل الرسل
وأنزل الكتب تبياناً لطريق النجاة والهدى، أحمده -جل شأنه- وأشكره على نعم لا حصر
لها ولا منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يرتجى، ولا ند له يبتغى،
وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله الحبيب المصطفى والنبي المجتبى,
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على النهج واقتفى. «والإقرار بالافتقار من أجلى الأدلة على التوحيد وحقيقة
الإيمان، والخلاف فيه بين الكافر والمؤمن من أعظم ما يميز كلًا منهما عن الآخر، ثم
هو مما يميز الذاكرين الصابرين عن الغافلين الهلعين من المؤمنين.
أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله،
واعلموا أن من أعظم وسائل تحصيل الافتقار لله تعالى: الإقرار بالافتقار إلى
الله تعالى.
فالمؤمن مقر بافتقاره إلى الله في كل لحظة عين، شاكرًا
لأنعُمِهِ، ذاكرًا لآلائه في حال الرخاء والشدة معًا، يأكل الأكلة فيحمده عليها
ويشرب الشربة فيحمده عليها، ولا يمل دعاءه ولو لأدنى حاجاته.
وبالجملة هو مشاهد لحقيقة افتقاره إلى
مولاه يدعوه صباحًا ومساءً بما أوصى به النبي ﷺ ابنته فاطمة ▲: «يا حيّ يا قيوم
برحمتك استغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين»([1]).
بل إن المؤمن ليستشعر ذلك في أعزّ ساعات
الانتصار والتمكين. وقد قصّ الله تعالى من حال أنبيائه في القرآن ما فيه بيان
وقدوة؛ فهذا يوسف عليه السلام في اللحظة التي تمّ فيها تحقيق رؤياه: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ
سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ
جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ
وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي
وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ). [يوسف: ١٠٠].
في هذه اللحظة نزع يوسف عليه السلام
نفسه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر،
كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ
تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ). [يوسف: ١٠١].
وكذلك نبي الله سليمان عليه السلام وقد
رأى عرش ملكة سبأ حاضرًا بين يديه، من وراء آلاف الأميال، من قبل أن يرتد إليه
طرفه: (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ
قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ). [النمل:
٤٠].
وهكذا فعل النبي ﷺ حين دخل مكة فاتحًا
منصورًا؛ فإنه دخلها وهو يقرأ سورة الفتح يُرجّع([2])، ونزل بيت أم هانئ فصلى فيه ثماني ركعات([3])، وظلّ مكثرًا من التسبيح والاستغفار إلى أن توفاه الله
تأويلًا لقوله تعالى: («إِذَا جَاءَ
نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ
اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ
تَوَّابًا») [النصر: ١ - ٣]. فهذا حال المؤمنين في حال النعمة وذروة الطمأنينة.
وأما الكافر فإنه مستكبر على ربّه،
متمرّد عليه حال الرخاء والنعمة، يكفره ولا يشكره، يستخدم آلاءه في معاصيه، يطغى
إذا استغنى ويفسق إذا أترف. حتى إذا ما نزلت به نازلة وأحدقت به كربة وأحاطت به
مصيبة سقط من عرش كبريائه الوهمي، وانهار الزيف أمام الواقع، وانكشف الغيم عن
الفطرة المكبوتة، فأيقن حينئذ أنه لا يملك حولًا ولا طولًا، وضلّت عنه الأرباب
المزعومة التي كان يتعلق بها من قبل، وأخلص لله الدعاء وأظهر له من الافتقار
والضراعة مالم يكن ليخطر له ببال حال الأمن والعافية»([4]).
عباد الرحمن: ومن وسائل تحصيل الافتقار
لله تعالى: مشاهدة حرج النفس واضطرابها وقلقها حال الكربة والشدة.
فلربما يغفل المؤمن فينبهه الله تعالى
ببعض الشدائد حتى يثوب لافتقاره وعبوديته لربه وإلهه.
ورُوى أن نبيًّا من الأنبياء عليهم
السلام رأى مبتلى، فقال: «اللهم ارحمه» فقال الله تعالى: «كيف أرحمه مما
به أرحمه»([5]).
وفي أثر إلهي يقول الله تعالى: «أهلُ
ذكري أهل مُجالستي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل معصيتي لا
أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم
بالمصائب؛ لأطهرهم من المعايب»([6]).
عباد الله: ومن وسائل تحقيق الافتقار
إلى الله تعالى: عبودية الله تعالى بأسمائه الحسنى ومنها: الأول والآخر والظاهر
والباطن والمحيط.
فإن الفقه في كل ما ورد من الأسماء
الحسنى والصفات العلى مؤثّرٌ حقًّا ونافع جدّا للمؤمن الحريص على تحصيل عبودية
الافتقار واستشعارها والعيش بها ولها ومعها، والعالم بها هو العالم بالله حقًّا،
وهو أحق الناس بالشرف والأجر والمحمدة والثواب، فالأسماء الحسنى ومعانيها كالنّفَس
للعبد المؤمن تريحه وتعينه، وهذا أنفس علمٌ وأزكاه، فشرف العلم وأهميته بشرف
متعلقه، فلا أشرف وأعلى وأعظم من علم يهدي صاحبه للتعرف على ربه تعالى من أوسع
الأبواب وأجلها وأجملها وهو علم أسماء الله وصفاته تبارك وتعالى.
فالعلم النافع للقلب كالغيث العميم
للأرض الطيبة، فلا يستغني المؤمن عن تعلّم ما يرفع جهله حتى يوارى ثرى رمسه «قال
تعالى: ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له
نورا يمشى به فى الناس كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها ) [الأنعام:
١٢٢] فهذا وصف المؤمن كان ميتًا في ظلمة الجهل فأحياه الله
بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورًا يمشي به في الناس. وأما الكافر فميت
القلب في الظلمات.
وسمى الله تعالى رسالته رُوحًا،
والرُّوحُ إذا عدم فقد فُقدت الحياة، قال الله تعالى: ( وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا
الايمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا ) [الشورى: ٥٢] فذكر هنا الأصلين وهما: الروح والنور، فالروح الحياة،
والنور النور([7]).
وكذلك يضرب الله الأمثال للوحى الذي
أنزله حياةً للقلوب ونورًا لها بالماء الذى ينزله من السماء حياة للأرض وبالنار
التي يحصل بها النور، وهذا كما في قوله تعالى: ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا
رابيا ومما يوقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله
الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض كذلك يضرب
الله الأمثال ) [الرعد: ١٧].
فشبّه العلم بالماء المنزل من السماء،
لأن به حياة القلوب، كما أن بالماء تكون حياة الأبدان، وشبه القلوب بالأودية،
لأنها محل العلم كما أن الأودية محل الماء، فقلب يسع علمًا كثيرًا وواد يسع ماءً
كثيرًا، وقلب يسع علمًا قليلًا وواد يسع ماء قليلًا.
وأخبر تعالى أنه يعلو على السيل من
الزبد بسبب مخالطة الماء، وأنه يذهب جفاء، أي يُرمى به ويخفى، والذى ينفع الناس
يمكث في الأرض ويستقر، وكذلك القلوب تخالطها الشهوات والشبهات، فإذا ترابى فيها
الحق ثارت فيها تلك الشهوات والشبهات، ثم تذهب جفاءً ويستقر فيها الإيمان والقرآن
الذى ينفع صاحبه والناس.
وقال: ( ومما يوقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله
كذلك يضرب الله الحق والباطل ) فهذا المثل الآخر وهو الناري, فالأول للحياة
والثاني للضياء.
ونظير هذين المثالين المثالان المذكوران في سورة
البقرة في قوله تعالى: ( مثلهم كمثل الذى استوقد نارا ) إلى قوله ( او كصيب من
السماء ) [البقرة: ١٩] إلى آخر الآية، وأما الكافر ففي ظلمات الكفر والشرك غير
حي، وإن كانت حياته حياة بهيمية فهو عادم الحياة الروحانية العلوية التي سببها سبب
الإيمان، وبها يحصل للعبد السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، فإن الله
سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، وتكميل
ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبُعثوا جميعًا بالدعوة إلى الله، وتعريف الطريق
الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه»([8]).
عباد الرحمن: ومن أمثلة تحصيل ثمرة
الافتقار بالفقه في الأسماء والصفات مشاهدة معاني أسماء الله تعالى التي في سورة
الحديد (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) [الحديد: ٣] ويجمعها اسم المحيط أي: محيط بكل زمان ومكان. وهذه
الأسماء إشارة إلى غيرها ومثال لها، وإلا فلكل اسم وصفة أثرهما المباشر على حياة
القلب وسكينته وأنسه وافتقاره لربه وغناه به.
«فعلى قدر افتقار العبد لمولاه
وإحساسه بحاجته واضطراره لسيده ومالكه يكون تحقيق العبودية، فإذا انضاف لذلك زيادة
علمه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ودعاه بها وتضرع إليه بذكرها فإن التحقيق يكون
أتمّ وأكمل، فالله تعالى قد تعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته وأمرهم أن يدعوه
ويتعبدوا إليه بها فقال سبحانه: (ولله الأسماء
الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه)
ومن أسمائه سبحانه المتعلقة بإحاطته
بالعبد قدرة وعلمًا وربوبيةً وزمانًا ومكانًا الأسماء الأربعة التي صدّر بها أوائل
سورة الحديد بقوله الكريم: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) [الحديد: ٣] وقد فسرها رسول الهدى صلوات الله عليه وسلامه وبركاته([9]) «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس
بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء»([10]).
فعبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد من
مطالعة الأسباب والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله
ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد، إذ لا وسيلة له في العدم
قبل وجوده، وإنما هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا.
فمنه سبحانه الإعداد ومنه الإمداد،
وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده، لم تكن بوسائل أخرى، فمن
نزّل اسمه الأول على هذا المعنى أوجب له فقرًا خاصًّا وعبوديةً خاصةً.
وعبوديته باسمه الآخِر تقتضي أيضًا عدم
ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها، فإنها تنعدم لا محالة وتنقضي بالآخريّة،
ويبقى الدائم الباقي بعدها. فالتعلق بها تعلقٌ بعدم وينقضي، والتعلق بالآخر سبحانه
تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيق أن لا يزول ولا ينقطع، بخلاف
التعلق بغيره مما له آخر يفنى به.
وكما نظر المؤمن إليه بسبق الأولية حيث
كان قبل الأسباب كلها، فكذلك نظره إليه ببقاء الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها،
فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه.
فتأمل عبودية هذين الاسمين، وما يوجبانه
من صحة الاضطرار إلى الله وحده، ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه، وأن الأمر
ابتدأ منه وإليه يرجع، فهو المبتدئُ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإليه تنتهي
الأسباب والوسائل، فهو أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه
وبارئه؛ فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إلا بأن يكون وحده
غايته ونهايته ومقصوده.
فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات،
والآخر الذي انتهت إليه عبوديتها وإرادتها ومحبتها، فليس وراء الله شيء يقصد
ويعبد ويتأله، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ، فكما كان واحدًا في إيجادك؛
فاجعله واحدًا في تألّهك إليه لتصح عبوديتك. وكما ابتدأ وجودك وخلْقك منه؛ فاجعله
نهاية حبك وإرادتك وتألهك إليه، لتصح لك عبوديته باسمه الأول والآخر.
وأكثر الخلق تعبدوا له باسمه الأول،
وإنما الشأن في التعبد له باسمه الآخر، فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو رب
العالمين وإله المرسلين سبحانه وبحمده.
بارك
الله لي ولكم في القرآن العظيم...
..........
الخطبة
الثانية
الحمد لله... أما بعد:
عباد الله، وأما عبوديته باسمه الظاهر،
فكما فسره النبي ﷺ بقوله: «وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك
شيء»([11]) فإذا تحقق العبد علّوه المطلق على كل شيء بذاته،
وأنه ليس فوقه شيء البتة، وأنه قاهر فوق عباده، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم
يعرج إليه (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح
يرفعه) [فاطر: ١٠] صار لقلبه أَمَمًا([12]) يقصده، وربًّا يعبده، وإلها يتوجه إليه، بخلاف من لا
يدري أين ربه([13]) فإنه ضائع مشتت القلب، ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها، ولا
معبود يتوجه إليه قصده.
والتعبد باسمه الظاهر يجمع القلبَ
على المعبود، ويجعل له ربًّا يقصده، وصَمَدًا يَصمُدُ إليه في حوائجه، وملجأ يلجأ
إليه، فإذا استقر ذلك في قلبه وعرف ربه باسمه الظاهر؛ استقامت له عبوديته، وصار له
معقل وموئل يلجأ إليه، ويهرب إليه، ويفر كل وقت إليه.
وأما تعبده باسمه الباطن فبمعرفة
إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السموات السبع
والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد([14])، قال تعالى: (وإذ قلنا لك إن
ربك أحاط بالناس) وقال: (والله من ورآئهم محيط) ولهذا يقرن سبحانه بين هذين
الاسمين الدالين على هذين المعنيين: اسم العلو الدال على أنه الظاهر وأنه لا شيء
فوقه, واسم العظمة الدال على الإحاطة وأنه لا شيء دونه, كما قال تعالى: (وهو العلي
العظيم) وقال تعالى: (وهو العلي الكبير) وقال: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا
فثم وجه الله إن الله واسع عليم) وهو تبارك وتعالى كما أنه العالي على خلقه بذاته
فليس فوقه شيء, فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء, بل ظَهَرَ على كل شيء فكان فوقه,
وَبَطَنَ فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه, وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه, وكل
شيء في قبضته, وليس شيء في قبضة نفسه, فهذا أقرب لإحاطة العامة.
وأما القرب المذكور في القرآن والسنة فقرب خاص
من عابديه وسائليه وداعيه, وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن, قال الله تعالى:
(وإذا سألك عبادى عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) فهذا قربه من داعيه.
وفي الصحيح عن النبي قال: «أقرب ما
يكون العبد من ربه وهو ساجد»([15]) و«أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل»([16]) فهذا قرب خاصّ غير قرب الإحاطة.
وفي الصحيح من حديث أبي موسى أنهم كانوا
مع النبي ﷺ في سفر فارتفعت أصواتهم بالتكبير فقال: «أيها الناس، اربعوا على
أنفسكم([17])، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إن الذي تدعونه سميع
قريبٌ، أقرب الى أحدكم من عُنُق راحلته»([18]) فهذا قربه من داعيه وذاكره، يعني: فأي حاجة بكم إلى رفع
الأصوات، وهو لقربه يسمعها وإن خفضت، كما يسمعها إذا رفعت، فإنه سميع قريب.
وهذا القرب هو من لوازم المحبة، فكلّما
كان الحبّ أعظم؛ كان القرب أكثر.
فَسَبَقَ كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل
شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه، فلا تواري منه سماءٌ
سماءً، ولا أرضٌ أرضًا، ولا يحجب عنه ظاهرٌ باطنًا، بل الباطنُ له ظاهر، والغيبُ
عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية.
فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان
التوحيد، فهو الأول في آخريته، والآخر في أوليته، والظاهر في بطونه، والباطن في
ظهوره، لم يزل أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق
ما يريد، فمن أقبل إليه تلقاه من بعيد، ومن تصرف بحوله وقوته ألانَ له الحديد، ومن
ترك لأجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد مراده الديني أراد ما يريد.
اللهم صل على محمد...
([2]) خرّجه البخاري في الصحيح (4281)
ومسلم (794) من حديث عبد الله بن مغفّل قال: «رأيت رسول الله ﷺ يوم فتح
مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يُرِجِّعُ. وقال: لولا أن يجتمع الناس حولي
لرجّعت كما رجّع» والترجيع هو ترديد المدّ بلطف في التلاوة بلا تكلّف لغرض تحسين
الصوت بها.
([8]) مجموع الفتاوى (19/ 94-96) وانظر:
(18/ 310) ولأمثلة أخرى: جامع المسائل لابن تيمية (6/ 80 – 81).
([10]) روى مسلم (2713) بسنده عن سُهَيل
قال: كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام: أن يضطجع على شقه الأيمن، ثم
يقول: «اللهم ربّ السموات وربّ الأرض وربّ العرش العظيم، رَبَّنَا وربّ كل شيء،
فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت
آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت
الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من
الفقر» وكان يروي ذلك، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ.
([13]) لما ضلّ المتكلمون فقالوا: إن
الله لا داخل العالم ولا خارجه...إلخ، قالت الحلولية والاتحادية: إذن فهو حال في
العالم أو هو ذات العالم! ﴿ظلمات بعضها فوق بعض﴾.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق