إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 4 أبريل 2024

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (4)(مطالعة النعم)

 

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (4) (مطالعة النعم)

الحمد لله ذي الجلال والإكرام حي لا يموت قيوم لا ينام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الحليم العظيم الملك العلام، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام والداعي إلى دار السلام صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان . أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من طرق تحصيل الافتقار المحبوب إلى الله الممدوح من لدنه مشاهدة الأسماء والصفات وبخاصة اسم الحميد.

«وقد نبّه سبحانه على شمول حمده لخلقه وأمره بأن حمد نفسه في أول الخلق وآخره، وعند الأمر والشرع، وحَمِدَ نفسَه على ربوبيته للعالمين، وحمد نفسه على تفرده بالإلهية وعلى حياته. وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاةِ أحدٍ من خلقه لحاجته إليه. وحمد نفسَه على علوّه وكبريائه، وحمد نفسه في الأولى والآخرة. وأخبر عن سَريان حمده في العالم العلوي والسفلي. ونبَّه على هذا كله في كتابه، وحمد نفسه عليه؛ فنوّعَ حمدَه وأسبابَ حمدِه، وجمعَها تارة، وفرقها أخرى، ليتعرّف إلى عباده، ويعرِّفهم كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه، وليتحبّبَ إليهم بذلك، ويحبهم إذا عرفوه وأحبوه وحمدوه.

قال تعالى: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) وقال تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) وقال تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا)

 وأخبر عن حمدِ خلقِه له بعد فصلِه بينهم، والحكم لأهل طاعته بثوابه وكرامته، والحكم لأهل معصيته بعقابه وإهانته: ( وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين)

 وأخبر عن حمدِ أهل الجنة له، وأنهم لم يدخلوها إلا بحمده، كما أن أهل النار لم يدخلوها إلا بحمده، فقال عن أهل الجنة: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) و (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)

وبالجملة: فكل صفة عليا واسم حسن وثناء جميل، وكل حمدٍ ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عز وجل على أكملِ الوجوه وأتمها وأدومها. وجميعُ ما يُوصف به ويُذكر به ويخبر عنه به فهو محامدُ له وثناءٌ وتسبيح تقديس. فسبحانه وبحمده لا يحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يُثنِي به عليه خلقُه. فله الحمدُ أولًا وآخرًا حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لكرم وجهه، وعِزِّ جلاله، ورفيع مجده، وعلو جَدِّه.

فهذا تنبيه على أحد نوعي حمده وهو حمد الصفات والأسماء.

والنوع الثاني: حمدُ النعم والآلاء، وهذا مشهودٌ للخليقة: برِّها وفاجرِها، مؤمنها وكافرها، من جزيل مواهبه، وسَعة عطاياه، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وحسن معاملته لعباده، وسعة رحمته لهم، وبره ولطفه وحنانه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كربات المكروبين، وإغاثة الملهوفين، ورحمته للعالمين، وابتدائه بالنعم قبل السؤال، ومن غير استحقاق، بل ابتداء منه بمجرد فضله وكرمه وإحسانه، ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها، وصرفها بعد وقوعها، ولطفه تعالى في ذلك بإيصاله إلى من أراده بأحسن الألطاف، وتبليغه من ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال، وهدايته خاصَّتَه وعبادَه إلى سبيل دار السلام، ومدافعته عنهم أحسن الدفاع، وحمايتهم عن مراتع الآثام.

وحبب إليهم الإيمان وزينة في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين، وكتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وسمّاهم المسلمين قبل أن يخلقهم، وذَكَرَهم قبل أن يذكُروه، وأعطاهم قبل أن يسألوه، وتحبّب إليهم بنعمة مع غناه عنهم، وتبغُّضُهم إليه بالمعاصي مع فقرِهم إليه.

ومع هذا كله فاتخذ لهم دارًا، وأعدّ لهم فيها من كل ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين، وملأها من جميع الخيرات، وأودعها من النعيم والحَبْرَةِ والسرور والبهجة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

ثم أرسل إليهم الرسلَ يدعونهم إليها، ثم يسَّرَ لهم الأسباب التي توصلهم إليها، وأعانهم عليها، ورضي منهم باليسير في هذه المدة القصيرة جدًّا، بالإضافة إلى بقاء دار النعيم.

وضَمِنَ لهم إن أحسنوا أن يثيبهم بالحسنة عشرًا، وإن أساؤوا واستغفروه أن يغفر لهم، ووعدهم أن يمحو ما جنَوه من السيئات بما يفعلونه بعدها من الحسنات.

وذكّرهم بآلائه، وتعرف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمة منه بهم وإحسانًا، لا حاجة منه إليهم. ونهاهم عما نهاهم عنه حماية وصاينة لهم، لا بخلًا منه عليهم. وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه، ونصحهم بأحسن النصائح، ووصّاهم بأكمل الوصايا، وأمرهم بأشرف الخصال، ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال. وصرّف لهم الآيات، وضرب لهم الأمثال، ووسّع لهم طرق العلم به ومعرفته، وفتح لهم أبواب الهداية، وعرّفهم الأسباب التي تدنيهم من رضاه وتبعدهم عن غضبه.

ويخاطبهم بألطف الخطاب، ويسمّيهم بأحسن أسمائهم، كقوله: (يا أيها الذين آمنوا)، (وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون)، (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم)، (قل لعبادي)، (وإذا سألك عبادي عني)

 فيخاطبهم بخطاب الوداد والمحبة والتلطف، كقوله: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)، (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون)، (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)، (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك)، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)، (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون)، (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) [الكهف: ٥٠].

فتحت هذا الخطاب: إني عاديتُ إبليسَ، وطردته من سمائي، وباعدته من قربي، إذ لم يسجد لأبيكم آدم، ثم أنتم يا بنيه توالونه وذريته من دوني وهم أعداء لكم! فليتأمل اللبيبُ مواقع هذا الخطاب، وشدةَ لصوقه بالقلوب، والتباسه الأرواح. وأكثر القرآن جاء على هذا النمط من خطابه لعباده بالتودد والتحنن واللطف والنصيحة البالغة.

بارك الله لي ولكم..

...........

الخطبة الثانية

الحمد لله...

عباد الرحمن، لقد أعلمَ الله تعالى عباده أنه لا يرضى لهم إلا أكرم الوسائل، وأفضل المنازل، وأجل العلوم والمعارف، قال تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) وقال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (52) وقال: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقال تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)

وقال في الأضاحي والهدايا: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) وقال عقيب أمرهم بالصدقة ونهيهم عن إخراج الرديء من المال: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بإخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد) [البقرة: ٢٦٧] يقول سبحانه: إني غني عما تنفقون أن ينالني منه شيء، حميد مستحق للمحامد كلها. فإنفاقكم ليس له فيه حاجة، ولا يوجب له حمدًا، بل هو الغني بنفسه، الحميد بنفسه وأسمائه وصفاته، وإنفاقُكم إنما نفعهُ لكم، وعائدته عليكم.

ومن المتعيّن على من لم يباشر قلبه حلاوة هذا الخطاب وجلالته ولطف موقعه وجذبه للقلوب والأرواح ومخالطته لها؛ أن يعالج قلبه بالتقوى، وأن يستفرغ منه المواد الفاسدة التي حالت بينه وبين حظه من ذلك، ويتعرّض إلى الأسباب التي يناله بها، من صدق الرغبة، واللجأ إلى الله أن يحيي قلبه ويزكيه، ويجعل فيه الإيمان والحكمة. فالقلب الميّت لا يذوق طعم الإيمان، ولا يجد حلاوته، ولا يتمتع بالحياة الطيبة لا في الدنيا ولا في الآخرة.

ومن أراد مطالعة أصول النعم؛ فليدم سَرْحَ الفكرِ في رياض القرآن، وليتأمل ما عدّد الله فيه من نِعَمِهِ، وتعرّف بها إلى عباده من أول القرآن إلى آخره، حتى خلق النار، وابتلاءهم بإبليس وحزبه، وتسليط أعدائهم عليهم، وامتحانهم بالشهوات والإرادات والهوى؛ لتعظُم النعمة عليهم بمخالفتها ومحاربتها([1]). فلله على أوليائه وعباده أتمُّ نعمة وأكملها في كل ما خلقه من محبوب ومكروه، ونعمة ومحنة، وفي كل ما أحدثه في الأرض من وقائعه بأعدائه وإكرامه لأوليائه، وفي كل ما قضاه وقدّره. وتفصيلُ ذلك لا تفي به أقلام الدنيا وأوراقها، ولا قُوى العباد، وإنما هو التنبيه والإشارة.

اللهم صل على محمد..

 

 



([1])  أي بإعانة الله لهم وتوفيقهم لذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق