العربية لغة القرآن الكريم
منقولة بتصرف
الحمد لله أنزل الذِّكرى بلسان عربي وحفظه، ودَلَّ عبده على طريق
الهدى وبَشَّرَه وأنذره ووعظه، له الملكُ وله الحمد، بسط الآمال ونشرها، وطوى
الآجال وسترها، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وَسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً
وعلمًا، وقَدَّرَ المقادير حكمةً وحكمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، شهادة تقي النَّدَامة يوم الحسرة، وتنجي صاحبها ساعة العسرة.
وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، بَلَّغَ الرسالة،
وأَوْضَحَ الدَّلالة، صَلَّى الله وسلم وباركَ عليه وعلى آله وأصحابه السَّادةِ
الأبرار، والتَّابعين ومَنْ تبعهم بإحسانٍ ما تعاقَبَ اللَّيل والنَّهار، وسَلَّم
تسليمًا كثيرًا. أمَّا بعدُ:
فأوصيكم - أيُّها النَّاس ونفسي بتقوى الله - عَزَّ وجَلَّ. فاتقوا
الله - رحمكم الله - واحذروا اتِّباع الهوى وطول الأمل، فاتِّباع الهوى يصدُّ عن
الحق، وطول الأمل يُنسي الآخرة، ومَن صَبَر على مخالفة هوى نفسه أوصله الله مقام
أُنسه، ومَن استغرقَ في المَلَذَّات دخل في لُجَّة النَّدامات، ومَن غلبت عليه
شهواته بَعُد عليه التَّوفيق ومقاماته، فالهَوى - رحمكم الله - يُردي، والخوف منَ
الله يُقَرِّب ويُغني: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}
[النازعات: 37 - 41].
أيها المسلمون: أمَّةُ الإسلام خير أمَّة أخرجت للنَّاس، تأمُر
بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، لها مكانتُها، ولها دورها الحضاري، وفي
الأزمنة المتأخِّرة أصابها ما أصابها، وأحاط بشعوبها ما أحاط من عند أنفسهم ومن
خارج أنفسهم.
ومن أعظم أسباب ذلكَ: أنَّ الأمَّة لا تَتَبَنَّى مشروعًا للإصلاح
ينهض بها على الأصعدة كافَّة، يَتَّفق مع مبادئها، ويراعي خصائصها، وينسجم مع
عصرها، ويوظف مستجدات زمانها، وهذا حديثٌ عن ركن من أركان البناء الحضاري، لا
يُتصور بناء حقيقي وإشادة كيان مُستقل بدونه، حديث عن عنصر قال عنه أهل الاختصاص
والمُنَظِّرون: إنَّه قرين الذات، وهو لازم الهُوية، وركن الحضارات. إنَّه صورة
وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، بوجوده تَتَمَيَّز الأمة قائمةً
بخصائصها، وتتَّحد به الأمة في صورة تفكيرها؛ بل قالوا: إنَّه أعظم عوامل الوَحدة
وأهم أسبابها بعد دينها وعقيدتها.
أتدرون ما هذا الركن الركين - حفظكم الله - وما هذا العنصر الأساس؟
إنَّه - حفظكم الله - لغة الأمَّة ولسانها.
اللغة هي الوعاء الحامل لحضارة الأمة الحافظ لتاريخها وعطائها.
واللغة هي مرآة العقل وأداة التفكير، لغة الأمَّة هي التي تحتضن
مخزونها الثقافي ومخزونها العاطفي؛ لتُكَوِّن عقلية أهلها الذين يَتَحَدَّثون بها
ويتعلمون بها، وتسوغ نفسياتهم وطريقة تفكيرهم، فاللغة فكرٌ ناطقٌ، والتفكير لغةٌ
صامتةٌ.
أيُّها الإخوة: فإذا كانت هذه بعض الإشارات لِمَنزلة اللغة
وموقعها في بناء الأمة والحضارة؛ فكيف إذا كان الحديث عن لغة الوحي ولغة التنزيل،
لغة القرآن الكريم، أقدم اللغات الحيَّة على وجه الأرض، محفوظةٌ بحفظ كتاب الله في
بقائها، وبنائها، وتركيبها، وقواعدها، وتصريفها؟!!
لم يمر بالعربية حَدَث أعظم من الإسلام ونزول القرآن على محمد - صلى
الله عليه وعلى آله وسلم - تَحَوَّلَ فيها لسان العرب إلى شعرٍ يتنافس فيه أهل
الإسلام في ديارهم كافة: درسًا وعنايةً، تعلمًا وتعليمًا، لا لنُفوز سياسيٍّ ولا
لسبق حضاري؛ ولكن دين وقربة.
الإسلام جعل للعربية الصدارة والاهتمام تكلُّمًا وتعلمًا، يغار عليها
كل مسلم، ويطمح إلى إتقانها كل مصلٍّ ومتعبد.
لقد بلغت اللغة ما بلغه الإسلام دارًا وانتشارًا، واستوعبت ما أتت
عليه الحضارات السابقة قبلها، وصاغتها حضارة واحدة إسلاميَّة الصبغة، عالمية
المنزع، إنسانيَّة الرؤية، لغة عظيمة حملت حضارة العالم أكثر من أربعة عشر قرنًا.
يقول خبراء اللغة: لأول مرَّة في تاريخ البشريَّة - على ما يُعلم
مِنَ التاريخ الموثوق به - أن يُكتب للسانٍ طبيعيٍّ أن يعمَّر ما يزيد على سبعة
عشر قرنًا، محتفظًا بمنظومته الصَّوتيَّة والصرفيَّة والنَّحويَّة، فيطوِّعها
جميعًا ليواكب التَّطَوُّر في الدَّلالات، دون أن يتزعزع نظامه من داخله. بينما
المعهود في تاريخ اللِّسانيات والتاريخ اللغوي المقارن أن أربعة قرون هي الحد
الأقصى الذي يدخل بعده التغيير التدريجي لمكونات المنظومة اللغويَّة!! واللُّغة العربية بدأت على غاية
الكمال، فليس لها طفولةٌ ولا شيخوخة!
عباد الله: إن رُقِيَّ المجتمع المسلم العربي وجلاء هويته يكمنان في
اعتزازه بدينه، وتمسكه بلغته، فإن دين المرء ولغته هما أُسَّانِ للانتماء الحقيقي
وقُطْبَانِ، فالدين قلبه، واللغة لسانه، ولما كان اللسان غشاء القلب وبريده، فإن
اللغة فرع عن الدين، المبني على الكتاب العربي المبين، وسُنَّة أفصح مَنْ نطق
بالضاد سيد المرسلين -صلوات الله وسلامه عليه-، ومن المقرَّر بداهةً أنه لا توجد
أُمَّة دون لغة، ولا لغة دون أمة، وإن شرف اللغة العربية؛ لغة الكتاب العربي
المبين بين اللغات كشرف دين الإسلام بين الأديان، وإذا كان نور فؤاد الأمة دينها،
فإن نور لسانها لغتها العربية؛ لأن اللغة العربية لغة قرآن وسُنَّة، لغة عبادة
وعلم، وفِكْر وأدب وثقافة وحضارة وسياسة، وهي لسان مشترك يجمع أكثر من مليار مسلم
ونصف المليار على وجه الأرض، لا يقرأون القرآن إلا بها مهما نطقوا بغيرها، كما قال
شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “إن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله،
واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون“.
ألا فاعلموا -رعاكم الله- أن المرء مهما قلَّب بصرَه وأرخى سمعه فلن
يجد أعذب من اللغة العربية، ولا أمتنَ منها ولا أعمقَ، ولن تستطيع لغة في الوجود
مقاربتَها فضلا عن مجاراتها، بل إن كثيرا من لغات العالم تحوي كلمات ذات أصل عربي،
كيف لا وقد تميزت بحروف متكاملة مصنَّفة على مخارج نقطها من الحلق إلى الشفتين،
يُضاف إلى ذلكم تميُّزُها بأحرف لا توجد في لغة أخرى غيرها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
-رحمه الله-: “وليس أثر اعتياد اللغة الفصحى مقصورا على اللسان، بل يتعمق حتى يؤثر
في العقل والخُلُق والدين تأثيرا قويًّا بيِّنًا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه
الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتُهم تزيد العقلَ والدينَ والخُلُقَ“.
وقد أحسن ابن القيم -رحمه الله- في بيان فضلها حيث قال: “وإنما يَعرف
فضلَ القرآن مَنْ عرف كلامَ العرب، فعرف علم اللغة، وعلم العربية، وعلم البيان،
ونَظَرَ في أشعار العرب وخُطَبِها ومقاولاتها في مواطن افتخارها ورسائلها“.
وإذا طلبتَ من العلومِ أجلَّها ... فأجلُّها منها مُقيمُ الألسُنِ
عباد الله: لقد كان للمشارَكة الحضارية والثورة التقنية دور رئيس في
انكماش اللغة العربية وتهميشها حتى تحوَّل مَنْحَاها فانحرفت عن مسارها وسياقها
الصحيح، وظهر على إثر ذلك سلبياتٌ في التواصل اللغوي للمجتمع العربي الواحد،
والأمة العربية برمتها، مع أن لغتها هي المكوِّن الرئيس في تشكيل هويتها، وإذا ما
وقع ذلكم فحدِّثوا حينذاك ولا حرج؛ عن شرخ الهوية وهَجِين اللغة المُفرِزَينِ
اختلالا ثقافيا وضَعْفا علميا؛ لأن المجتمعات كالوعاء، تصب فيه كل الثقافات غير أن
إيجابيات تلك الثقافات وسلبياتها مرهونة بموقع اللغة العربية من ذلك التفاعل صعودا
ونزولا؛ لأن اللغة العربية تقوم على ثلاث وظائف في تكوين المجتمع، تتجلى في كونها
أداة للتفكير ووسيلة للتفاهم والتواصل الاجتماعي، وعنوانا لهوية الفرد والمجتمع،
بيدَ أن غفلة كثير من الناس عن استحضار هذا الأساس بلغت بهم إلى تهميش ظاهر،
وتسطيح مُقلِق؛ فأحلوا غيرَها محلَّها في كثير من استعمالاتهم؛ فإن ذا البصيرة
يشاهد ويسمع طغيان الحديث بغير العربية بين أهلها أنفسهم؛ يظهر ذلك جليًّا في
تسمياتٍ غيرِ عربيةٍ، ومحادَثات بغيرها دون حاجة، في الدُّور والسُّوق وبتسميات
لأعلام ومؤسسات ومصطلحات ومَحالِّ تجارةٍ وغير ذلكم، حتى أصيب محبوها بهاجس من
الغربة والانكسار أدى ببعض المحافظين منهم عليها إلى أن يلوكوا ألسنتَهم بالعربية
على استحياء خشيةَ التعيير أو التندر أو الاستهجان، هذا إن سَلِمُوا من سهام اللمز
بهم، والتقليل من شأنهم، ووصفهم بالجامدين الذي لا يُحسنون الرطانةَ الوافدةَ، ولم
يتَّشحوا بوشاحها البراق على حد وهمهم.
يقول عمر: "تعلموا العربية فإنها من الدين، وقال: تفقهوا في السنة، وتفقهوا في
العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي".". وكان شعبة يقول: "تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل"،
وقال الثعالبي: "من أحبّ الله أحبّ رسوله -صلى الله
عليه وسلم-، ومن أحبّ النبي العربي أحبّ العرب، ومن أحبّ العرب أحبّ العربية التي
بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب".
والله الموفِّق وهو الهادي إلى سواء السبيل، أقول قولي هذا وأستغفر
الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه وتوبوا
إليه، إن ربي كان غفورا رحيما.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العظيمِ شأنُه، القاهرِ سلطانُه، أحمده سبحانه وأشكره،
وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا شأن عن شأن يُشغِلُه،
وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله، عزَّ مقامه، وعَلَت فضائله -
صَلَّى الله وسَلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، صدقوا الله فأنجز لهم ما
وعدهم، والتابعين ومَنْ تبعهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، ثم اعلموا -يا رعاكم الله- أن
الذين يستبدلون العجمة بالعربية ظنًّا منهم أنها علامة الرقي ومكمن الافتخار،
فظنُّهم -لَعَمْرو اللهِ ظنٌّ مقلوب، واستسمانٌ لذي ورم، نعم قد يبلغ التعامل بغير
العربية مبلغ الضرورة أو الحاجة أو التحسين، ولا حرج في ذلكم؛ كما فعل النبيُّ
-صلى الله عليه وسلم- لَمَّا احتاج إلى مثل هذا؛ حيث أمر زيد بن ثابت -رضي الله
تعالى عنه- أن يتعلم اللغة السريانية. (رواه أحمد).
ولغة القرآن تعلو ولا يعلى عليها، (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي
عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[الزُّمَرِ: 28].
هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد
الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته
المسبِّحة بقدسه، وأيَّه بكم -أيها المؤمنون- فقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور،
والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن
سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى
يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم
أعز الإسلام والمسلمين، واخذل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك
وعبادك المؤمنين. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين،
ونفِّسْ كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْنَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى
المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة
أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا
قيوم، اللهم أصلح له بطانتَه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده
لما فيه صلاح البلاد والعباد. اللهم آتِ نفوسَنا تقواها وزكها أنت خير من
زكاها، أنتَ وليها ومولاها.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، سبحان
ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق