"وقل رب
ارحمهما"
الحمد لله رب
العالمين...
قال صلى الله عليه وسلم
عن أويسٍ القَرَني: "له والدة هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبره" فبرُّه بأمه جعله مستجاب الدعوة.
وبرُّ الوالدين من أعظم
أسباب الغفران.. قال الإمام أحمد : بِرُّ الوالدين كفارةٌ للكبائر.
وفي المسند أنَّ رجلاً أتى
النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، إني أصبتُ ذنباً عظيماً،
-أي من الكبائر- فهل لي من
توبة؟ قالَ: "هل لك مِنْ أمٍّ؟" قالَ: لا، قالَ: "فهل لك من خالةٍ؟"
قال: نعم، قال: "فبِرَّها" قلتُ: لأن الخالة هي بقيّة الأم.
وقال رجل لعمر: قتلتُ نفساً،-
وهو اعظم ذنب بعد الشرك - قال: أمُّك حية؟
قال: لا، قال: فأبوك؟ قال: نعم، قال: فبِرَّه وأحسن إليه. ثم قال عمر: لو كانت أمُّه
حيَّةً فبرَّها وأحسن إليها، رجوتُ أنْ لا تَطعَمهُ النارُ أبداً. وعن ابن عباس بمعناه
أيضاً.
ألم تعلم أن برّ والديك أحبّ إلى الله من الجهاد، ففِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ
ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: "قُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا"
قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ" قُلْت: ثُمَّ
أَيُّ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ".
وفي حديث آخر لم يذكرِ الوالدين فقال العلماء لأنه لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ
وَالِدَانِ. فاحمد الله الذي أعطاك ما حرم منه غيرَك.
ألا ما أعظم حقَّ الوالدين. ويكفي أن الله تعالى
قد قُرِنَ حَقّهما بحقِّه: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) "ومن أدرك أبويه
أو أحدَهما فلم يدخلاهُ الجنةَ فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين"
وَلمُسْلِمٌ: أَقْبَلَ رَجُلٌ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أُبَايِعُك عَلَى
الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ لِيَبْتَغِيَ الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: "فَهَلْ
مِنْ وَالِدَيْك أَحَدٌ حَيٌّ"؟ قَالَ: نَعَمْ بَلْ كِلَاهُمَا حَيٌّ. قَالَ: "فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ
مِنْ اللَّهِ"؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَارْجِعْ إلَى وَالِدَيْك
فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا". الله أكبر ولله الحمد. وقال: لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ
إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ".
وعند أحمدَ بسند صحيح أن
رجلًا قال: إني جئت لأبايعُك وتركتُ أبويّ يبكيان قال: "فارجع إليهما فأضحكهما
كما أبكيتَهما"
والعجب أنّ لهما حقًّا وإن كانا مشركين فكيف بالمؤمنَين
الحنيفَين. يالَله ألهذا الحدّ وصل أمرُ البِرّ.
وتأمّل فقه مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْكَدِرِ في قوله: بِتُّ أَغْمِزُ رِجْلَيْ أُمِّي، وَبَاتَ عَمِّي يُصَلِّي لَيْلَتَهُ،
فَمَا سَرَّنِي لَيْلَتَهُ بِلَيْلَتِي. وقيل للحسن: إني أتعلم القرأن، وإن أمي تنتظرني
بالعشاء، قال الحسن: "عشاء مع أمك تُقِرُّ به عينَها، أحب إلي من حجة تحجها تطوعاً".
ولمن رحل والده: ادعُ له
واستغفر له وصِل أصحابه.. مرّ رجل من الأعراب بابن عمر فسلّم عليه عبدُ الله، وحملَه
على حمار كان يركبُه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه. فسُئل فقال: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر
بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أبرَّ البرِ صلةُ
الولدِ أهلَ وُدِّ أبيه" رواه مسلم.
فبرهما باب للجنة وعقوقُهما حفرةٌ إلى النار قال صلى
الله عليه وسلم: "ملعونٌ من عقَّ والديه" رواه أحمد.
ولمن ثقُل عليه البر
أقولُ: تَطْلُبُ الْجَنَّةَ بِزَعْمِك وَهِيَ تَحْتَ أَقْدَامِ أُمِّك، حَمَلَتْك فِي
بَطْنِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَأَنَّهَا تِسْعُ حِجَجٍ، وَكَابَدَتْ عِنْدَ وَضْعِك
مَا يُذِيبُ الْمُهَجَ، وَأَرْضَعَتْك مِنْ ثَدْيِهَا لَبَنًا، وَأَطَارَتْ لِأَجْلِك
وَسَنًا، وَغَسَلَتْ بِيَمِينِهَا عَنْك الْأَذَى وَآثَرَتْك عَلَى نَفْسِهَا بِالْغِذَاءِ،
وَلَوْ خُيِّرَتْ بَيْنَ حَيَاتِك وَمَوْتِهَا لَآثَرَتْ حَيَاتَك بِأَعْلَى صَوْتِهَا.
هَذَا وَكَمْ عَامَلْتهَا بِسُوءِ الْخُلُقِ مِرَارًا
فَدَعَتْ لَك بِالتَّوْفِيقِ سِرًّا وَجِهَارًا، فَلَمَّا احْتَاجَتْ عِنْدَ الْكِبَرِ
إلَيْك جَعَلْتهَا مِنْ أَهْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَيْك، وَقَدَّمْت عَلَيْهَا أَهْلَك
وَأَوْلَادَك فِي الْإِحْسَانِ وَقَابَلْت أَيَادِيهَا بِالنِّسْيَانِ، وَصَعُبَ لَدَيْك
أَمْرُهَا وَهُوَ يَسِيرٌ، وَطَالَ عَلَيْك عُمُرُهَا وَهُوَ قَصِيرٌ، وَهَجَرْتهَا
وَمَا لَهَا سِوَاك نَصِيرٌ.
ألا تخشَ أن تُعَاقَبُ فِي
دُنْيَاك بِعُقُوقِ البنات والْبَنِينَ وَتخزى فِي أُخْرَاك بِالْبُعْدِ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ، يا هذا تذكر الوعيد (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ
لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)
لِأُمِّك
حَقٌّ لَوْ عَلِمْت كَبِيرُ ... كَثِيرُك
يَا هَذَا لَدَيْهِ يَسِيرُ
فَكَمْ
لَيْلَةٍ بَاتَتْ بِثِقَلِك تَشْتَكِي
... لَهَا مِنْ جَوَاهَا أَنَّةٌ وَزَفِيرُ
وَفِي
الْوَضْعِ لَوْ تَدْرِي عَلَيْهَا مَشَقَّةٌ ... فَمِنْ غُصَصٍ مِنْهَا الْفُؤَادُ
يَطِيرُ
فَآهٍ
لِذِي عَقْلٍ وَيَتّْبَعُ الْهَوَى ... وَآهٍ لِأَعْمَى الْقَلْبِ وَهُوَ بَصِيرُ
فَدُونَك
فَارْغَبْ فِي عَمِيمِ دُعَائِهَا ... فَأَنْتَ
لِمَا تَدْعُو إلَيْهِ فَقِيرُ
لا تجعل أمَّك مستودعًا لأحزانك، فأخبرها بما يسرّك لا
ما ساءك فحزنها عليك أضعافُ أضعافِ حزنِك على نفسك.. فارحمها رحمك الله.
واعلم أن بر الوالدين ليس في طاعتهما فقط، بل البر
الحقيقي هو فنُّ إدخالِ السرور عليهما بأي شيء كان.
وتذكّر أن غيرك قد حُرم من نعيم لقياهما، بموت أو غربة
أو غيرها وودّ لو دفع سنة من عمره بالجلوس معهما ساعة من ليل أو نهار. فاعرف – يا
رعاك الله – قدر نعمة الله عليك بوالديك.
وإني موصيك ببرِّهما برًّا خاصًّا لا يسبِقُكَ إليه
سابق ولا يلحَقُكَ فيه لاحق.. دلّلهما وأظهر لهما بصدق حبَّك وشوقَك ولهفتك.. ولتكن بَهجة لقلبيهما وسرورًا وسعادة وأمنًا
وكفاية.
لا تحزنهما بالانشغال عنهما بجوال أو غيره. أشركهما في
كل دعوة صالحة، بل خصَّهما دونَك بدعَوات، ولا تنس في كل سجود أن تضرع لربك: رب
ارحمهما كما ربّياني صغيرًا.
وثق أنك مهما فعلت وأحببت فلن تستطيعَ أن تصل لمستوى
حبهما لك.. فحب الوالد لولده هو من النوع الذي لا يقاس ولا يوزن لأنه لا حدّ له.
وسيأتيك يومٌ لن يبق من والديك سوى الذكريات، فافعل
اليوم ما تريد أن تتذكّره غدًا.
وإذا أردت أن
تعرف قدر الوالدين فاسأل من فقدهما!
إبراهيم الدميجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق