تعظيم الله تعالى
منقولة بتصرف
الحمد لله العظيم المتعال، ذي العظمة والكبرياء والجلال، له الأسماءُ الحسنى
والصفاتُ العليا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ذو العطاء والفضل، وأشهد
أن محمداً عبده ورسوله طيِّبُ الشمائل كريم الخصال؛ صلى الله وسلم عليه وعلى الصحب
والآل. أما بعد: أيها المؤمنون:
اتقوا الله تعالى حق تقواه، وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه
ويراه، وعظِّموا -أيها المؤمنون – ربَّكم بقلوبكم؛ فإن تعظيم الله جل وعلا من أعظم
العبادات القلبية، وهو من أجلّ وأشرف أعمال القلوب.
ألا وإن القلب المعظِّم لله الذي يَقْدُر ربه حق قدره؛ ويعظّمه سبحانه
وتعالى حق تعظيمه؛ هو ذلك القلبُ الذي تحقق فلاحه ونجاحه وسعادته في دنياه وأُخراه،
وإذا كان القلب معظِّماً لله فإن صاحب هذا القلب يعظم شرعَ الله، ويعظّم دينَ الله،
ويعرف مكانةَ رُسُلِ الله، وعرف أحقية الله عز وجل بالذل والخضوع له؛ والخشوع والانكسار
بين يديه.
والله -جل وعلا- عظيم قد جاوزت عظمته -عز وجل- حدود العقول، ومن معاني
عظمته -تعالى- أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يعظَّم كما يعظَّم الله، قال الله -تعالى:
(تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ
هَدًّا) [مريم:90]
أيها المسلمون، لقد ذم الله -تعالى- من لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق
معرفته، ولا وصفه حق صفته، قال -تعالى-: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)
[نوح:13]، أي: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته؟! إن روح العبادة هو الإجلال والمحبة،
فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت العبادة.
أيها الإخوة: إن تعظيم الله يعود على العبد بفوائد كثيرة، منها أن المسلم
الذي امتلأَ قلبه بعظمة الله لديه ثقة مطلقة بالله، فتجده هادئ البالِ، ساكنَ النفس،
مهما ضاقت به السبل. كما أنّ استشعارَ عظمة الله تملأ القلب رضًا وصبرًا.
إنّ معرفتنا بعظمةِ الله تورث القلبَ الشعورَ بمعيّته -سبحانه-، وتمنحنا
الطمأنينة في المحن، والبَصيرة في الفتن؛ كما أنّ استشعارَ عظمةِ الله ومعيّته تبعَث
في النفس معنى الثبات والعزّة, وتقوّي العزائم حتى في أشدّ حالات الضّعف.
ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: (( جاء حَبر
من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل
السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجرَ على إصبع، والماءَ والثرى على إصبع،
وسائرَ الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك. فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى
بدت نواجذه تصديقاً لقول الْحَبر؛ ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
﴾ [الزمر: 67] )).
إخوة الإيمان: ألا وإن من أعظم ما يعين العبدَ على تحقيق عبودية التعظيم
للرب جل جلاله: أن يتفكّر في مخلوقاته العظيمة وآياته الجسيمة؛ الدالة على عظمة مبدعها
وكمال خالقها. إنها آياتٌ عِظام وشواهدٌ جسام على عظمة المبدع وكمال الخالق ﴿ إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي
الأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران:190].
إنَّ تَفَكُّرَ المؤمنِ وتأمُّلَه في آيات الله العظيمة ومخلوقاته الباهرة
تهدي قلبَه وتسوقُه إلى تعظيم خالقه، تفكر - أيها المؤمن - في هذه الأرض التي تمشي
عليها وما خلق الله فيها ستُحِسُّ من خلال تأملك لها أنها مخلوق عظيم؛ في عظمة باهرة
تبهر القلوب وتشدُّها، فإذا نظرت إلى ما علمنا عن مخلوقات عظيمة بين الأرض والسماء
ازدادت لديك معرفة عظمة هذا الكون الفسيح، فإذا ما وسّعتَ النظر ونظرت فيما هو أعظم
من ذلك وتأملت في السماوات السبع صغرت الأرض وما حولها أمام هذه السماوات المحيطة بها،
ثم إذا تأملت في ذلكم المخلوق العظيم الذي قال الله عنه في أعظم آية في كتاب الله
- قال جل شأنه -: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ [البقرة:255]: أي
أحاط بها؛ فتتضاءل عظمة السماوات وعظمة الأرض أمام عظمة هذا الكرسي الذي هو مرقاة العرش،
ثم تتضاءل هذه العظمة إذا تأمل العبد في النسبة بين عظمة الكرسي وعظمة العرش المجيد
أوسعِ المخلوقات وأعظمِها، ثبت عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: ((ما بين السماء
الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء
السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، والعرش فوق السماء، والله تبارك وتعالى فوق العرش
وهو يعلم ما أنتم عليه)).
وثبت في المسند من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - مرفوعا أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال: ((ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلَقة ملقاة بأرض فلاة،
وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلَقة)). هذه عظمة مخلوقات تأخذ بالقلوب وتشد
النفوس، فإذا كانت هذه المخلوقات بهذا العظم فكيف الشأن بمبدعها!! وكيف الأمر بخالقها
جل شأنه وعظم سلطانه وكمل في أسمائه وصفاته عز وجل!!
إذن ما بال الإنسان يتغافل ويتجاهل وينسى هذه الحقائقَ العظيمةَ والبراهينَ
الساطعة!! ثم يكون غافلا عن تعظيم ربه وخالقه ومولاه بتوحيده وعبادته ورجائه والخوف
منه.
إنَّ القلوب إذا عظّمت الله عظُم في النفوس شرعُ الله، وعظُمت حرمات الله،
وصلحت أحوال العباد ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى
الْقُلُوبِ ﴾ [الحج:32].
عباد الله: إن حالَ رسولنا في تعظيمه لربه لا يوصف، فمن ذلك أنه لما قال
له رجل: فإنا نستشفع بالله عليك، - وهذا كمن يقول اليوم: جاه الله عليك! ووجه الله
عليك! وأسوق الله عليك! - فقال النبي: "سبحان الله! سبحان الله!"، فما زال
يسبّح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: "ويحك! أتدري ما الله؟! إن شأن الله
أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه".
يا من يرى مدَّ البعوض جناحها *** في ظلمة الليل البهيم
الأليَل
ويرى نياط عروقها فِي نَحرها *** والمخَّ في تلك العظامِ
النحَّل
اغفر لعبد تاب من فرطاته *** ما كان منه في الزّمان
الأوّل
اللهم وفقنا إلهنا لتعظيمك وتعظيم شرعك، واهدنا إليك صراطا مستقيما. أقول
هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه
هو الغفور الرحيم.
..............
الخطبة الثانية
الحمد لله عظيمِ الإحسان، واسعِ الفضل والجود والامتنان؛ وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله
وصحبه أجمعين.. أما بعد، ثبت في الحديث الصحيح عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه
كان يقول في ركوعه وسجوده: ((سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ
وَالْعَظَمَةِ))، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ
الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وأما السجود فادعوا ))، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في
ركوعه: ((سُبْحَانَ رَبِّىَ الْعَظِيمِ))، ويقول في سجوده: ((سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى))،
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ
فِى الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ
اللَّهِ الْعَظِيمِ)) وذكر الله جل وعلا تعظيما له سبحانه وتكبيرا وتوحيدا وتقديسا
وتنـزيها هو عمارة حقيقية للقلوب، وهو الشفاء لأمراضها، وبه تتحقق به تقوى العبد لربه
جل وعلا، ألا فلنكثر - أيها المؤمنون - من ذكر الله وعبادته؛ معظمين له جل وعلا مكبرين
له سبحانه مقدسين موحدين. ولنعظم كتابه وسنة نبيه وشرعه، لِنُعظّمْ شعائره، ولنعظم
حرماته، ولنربي على ذلك أهلينا ومن تحت أيدينا، حتى يرضى الله عنا؛ فنسعد في دنيانا
وأخرانا.
أيها المسلمون: الله وحده لا غيرَهُ يستحق منا التعظيمَ والإجلال، وإن
من تعظيمه -جل وعلا- أن يُتَّقى حقَّ تقاته، فيطاعَ فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر
فلا يكفر.
فليتك تَحلو والْحياة مريرةٌ *** وليتك ترضى والأنام
غضَابُ
وليت الذي بينِي وبينك عامر *** وبيني وبين العالَمين
خرَاب
إذا صح منك الودُّ يا غاية المنى *** فكلُّ الذي فوق
التراب تراب
اللهم بك آمنا وعليك توكلنا وإليك أنبنا.
عباد الرحمن: صَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمّد بن عبد الله كما
أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً(
[الأحزاب:56] ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا)) ، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، و بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت
على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد.
وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين .. الأئمة المهديين، وارض اللهم عن
الصحابة أجمعين ، وعن أزواجه أمهات المؤمنين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين ، وعنا معهم بمنـِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمّر أعداء الدين
، واحمِ حوزة الدين يا رب العالمين .. اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة
أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين ، اللهم وفق ولي
أمرنا لهداك واجعل عمله في طاعتك وارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا ذا الجلال والإكرام
.
اللهم أعنا ولا تعن علينا ، وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا تمكر
علينا ، واهدنا ويسر الهدى لنا ، وانصرنا على من بغى علينا .. اللهم اجعلنا لك شاكرين
؛ لك ذاكرين ؛ إليك أواهين منيبين ؛ لك مخبتين ؛ لك مطيعين .اللهم تقبل توبتنا ، واغسل
حوبتنا ، وثبت حجتنا ، واهد قلوبنا ، وسدد ألسنتنا واسلل سخيمة صدورنا .. اللهم وأصلح
ذات بيننا وألّف بين قلوبنا واهدنا سبل السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، وبارك
لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأوقاتنا واجعلنا مباركين أينما
كنا .
اللهم اغفر لنا ذنبنا كله دقه وجله .. أوله وآخره ، سره وعلنه ، اللهم
اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا ، وما أسررنا وما أعلنا ، وما أنت أعلم به منا ، أنت المقدِّم
وأنت المؤخر لا إله إلا أنت .. اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين
والمؤمنات الأحياء منهم والأموات .
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق