جفَّ القلمُ بما هو كائنٌ
الحمد لله بيده مفاتيح الفرج، شرع
الشرائع وأحكم الأحكام وما جعل علينا في الدين من حرج، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، قامت على وحدانيته البراهين والحجج، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا
عبد الله ورسوله، هو المفدى بالقلوب والمهج، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله
وأصحابه ساروا على أقوم طريق وأعدل منهج، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله،
واستمسكوا بدينه، واعلموا أن أن الركن السادس من أركان الإيمان هو
الإيمان بالقضاء والقدر، وهو أصل عظيم به افترق المؤمنون عن الكفار.
ومن جمال الإيمان بالقدر أن الكفار المؤمنين
بالقدر – مع شركهم وكفرهم وتشويش مفهوم القدر في قلوبهم – هم أطيب عيشًا وأهنأ
حياة وأجلد صبرًا من غير المؤمنين به، فالإيمان بالقدر سلوان للنفوس وعزاء للقلوب
وريحان للأرواح، بل إنه مورث للشجاعة مُوقدٌ للإقدام. حتى إن مُنظّري فكرهم ينادون
بأهميّة ذلك الإيمان حتى وأن لم يكن تحته حقيقة – تعالى الله عما يقولون – وذلك
لرؤيتهم أثره في الحياة، من احتمال الرزايا واقتحام الشدائد.
فإذا
كان هذا أثره الطيّب في حياتهم؛ فكيف يكون مع أهل الإسلام والإيمان والإحسان
والملّة المحمّدية المهديّة، فبالإيمان بقضاء وقدَرِ الله اتّسعت صدورهم وقرّت
عيونهم وانقطعت عنهم واردات آلام فوائت الرغائب وغموم حلول المصائب، وأقدموا على
الكريهات والمَخوفات إقدام الكماة البواسل، لا يخشون إلا الله ولا يرجون سواه ولا
يتوكلون إلا عليه، ويعلمون أنّه المدبّر القاضي للأمور: (ألا إلى الله تصير الأمور)،
(وإلى الله ترجع الأمور)، (وأن إلى ربك المنتهى)، وذلك لعقد قلوبهم على
الإيمان بأن ما قضاه الله كان وما لم يقضه لن يكون، قال تعالى: (إنا كل شيء خلقناه
بقدر)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: "يا غلام، ألا أعلّمك كلمات ينفعك الله بهن؟" فقلت:
بلى. فقال: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إليه في
الرخاء يعرفْك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جفّ
القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله
عليك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضرّوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا
عليه، واعلم أنّ في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن
الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا". (1)
عَسَى فَرَجٌ يَأْتِي بِهِ الله
إِنَّهُ ... لَهُ كُلّ يَوْمٍ فِي خَلِيقَتِهِ
أَمْرُ
قال
الإمام الطحاوي رحمه الله: "ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم، فلو
اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن؛ ليجعلوه غير كائن لم
يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه؛ ليجعلوه كائنًا
لم يقدروا عليه، جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن
ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه.
وعلى
العبد أن يعلم أنّ الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدّر ذلك تقديرًا محكمًا
مبرمًا، ليس فيه ناقض ولا معقّب، ولا مزيل ولا مغيّر، ولا ناقص ولا زائد من خلقه
في سماواته وأرضه، وذلك من عَقْدِ الإيمان، وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله
تعالى وبربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: (وخلق كل شيء فقدره تقديرا) وقال تعالى:
(وكان أمر الله قدرا مقدورا). فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيمًا، وأحضر
للنظر فيه قلبًا سقيمًا". (2)
فكل شيء قضاه الله في أزلٍ ... طُرًّا وفي
لوحِهِ المحفوظِ قد سُطرَا
عباد
الرحمن؛ القدر سِرُّ الله تعالى وغيبه الذي لم يُطْلِعْ عليه مَلَكٌ مقرب ولا نبي
مرسل. ولهذا أمر نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بأنه إذا ذُكِرَ القَدَرْ أمسكنا،
فقال صلى الله عليه وسلم: "وإذا ذكر القَدَرْ فأمسكوا". (3)
واللوح
قد ذكره الله تعالى في كتابه في غير ما آية كقوله تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ
مَجِيدٌ(21)فِي لَوْحٍ مَحْفُوظ). وسمّاه سبحانه كتابًا مكنونًا فقال تعالى: (فِي
كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78) لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ). وسمّاه أم الكتاب
فقال سبحانه: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ
الْكِتَابِ). وسُمِّيَ لوحًا لما فيه من البهاء والنور والإضاءة لأنه يَلُوحُ
بمعنى أنه يظهر ويبين لما فيه من النور. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قدّر
اللهُ مقادير الخلائق (4) قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين
ألف سنة، وكان عرشه على الماء". (5) فالقلم متعلقة كتابتُه في اللوح
المحفوظ بما هو كائن إلى قيام الساعة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوّلُ
ما خلق الله القلم قال له: أكتب. فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة". (6)
عباد
الله؛ إن الإيمان بالقدر من ثمرات الإيمان التام بربوبية الله تعالى، فإنَّ المؤمن
بالربوبية، بأنَّ الله تعالى هو الرب المتصرف في ملكه، هو السيد المطاع، هو الذي
لا معقّب لحكمه ولا رادّ لأمره، هو الذي ما شاء كان، هو الذي لا يُغالَب في ملكه،
هو الذي يعطي ويمنع ويخلق ويرزق ويميت ويحيي، سبحانه وبحمده.
وشجرة الإيمان في قلب المؤمن تثمر
اليقين بالقدر، وتنفي حرج النفس عند ثوران الوساوس، وتدفع وَحَر الصدر عند نزول
أقضية الرب تعالى شرعية كانت أو كونية، ولا يزال مِن يقينٍ إلى يقين حتى يلقى ربه
حق اليقين، قال قتادة رحمه الله تعالى: "المؤمنون هم العجّاجون بالليل
والنهار، والله ما زالوا يقولون: ربنا ربنا؛ حتى استجيب لهم".
بارك الله لي ولكم..
.............
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على
توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه
ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله،
واعلموا أن العرش حق لأنَّ الله تعالى ذكره في كتابه في آيات كثيرة فقال تعالى:
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) ووَصَفَ العرش بأنه عظيم، فقال: (رَبُّ
العَرْشِ العَظِيمِ) ووصف عرشه بأنه مجيد، وبأنه يُحْمَلْ فقال سبحانه: (الذِينَ
يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ)، ووصف عرشه أيضًا بأنَّهُ يستوي عليه،
وأنَّ عرشه موصوف بصفات العظمة التي فاق بها سائر العروش. وجاء في السنة مزيد في
وصفه بأنَّ العرش له قوائم تحمله الملائكة، كما قال عليه الصلاة والسلام "يُصعق
الناس فأكون أول من يُفيق، فإذا بموسى باطشٌ -أو قال آخذٌ- بقائمة من قوائم العرش".
(7)
فالعرش
إذًا مخلوق من مخلوقات الله تعالى العظيمة، ومن عِظَمِهْ أنه قال فيه: "مثل
السماوات السبع للعرش كمثل حلقة ألقيت في فلاة، ومثل الكرسي للعرش كذلك".(8)
يعني كحلقة ألقيت في فلاة.
عباد
الله؛ لقد وصف الله تعالى العرش في القرآن بأنه مجيد؛ يعني أنه ذو سَعَةْ، وأنه ذو
جمال، وبأنه عظيم؛ يعني أنه أعظم من غيره، وبأنه كريم؛ يعني أنه فاق جنس العروش
والمخلوقات في البهاء والحُسْنِ والعظمة. وقد جاء في السنة وصفه بأن له قوائم،
وأنه يُدَار(9) حوله من الملائكة، وأنه مُقَبَّب كالقبة فوق السماوات، كما جاء في
الحديث الذي في السنن بأنَّ "عرشه على سماواته لَهكذا" وأشار
بيديه مثل القُبّة. (10) وفي صحيح البخاري (11) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى
الجنة، وفوقُه عرش الرحمن». وقال صلى الله عليه وسلم: «فإن الناس
يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري
أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور». (12) وقال عبد الله بن رواحة رضي الله
عنه:
شهدتُّ بأنّ وعد الله حقٌّ... وأنّ النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طافٍ... وفوق العرش ربُّ العالمينا
وتحمله ملائكة شدادٌ... ملائكةُ الإله مُسوّمِينا
عباد
الرحمن؛ إن للإيمان بالعرش والكرسي أثر عظيم، فالمؤمن إذا آمن بأنَّ عرش الله
تعالى حق، وأنَّ عرش الله عظيم جدًّا، وأنه مجيد وأنه كريم، وأنَّ النبي صلى الله
عليه وسلم حَدَّثَ عن أحد حملة العرش بأنَّ مسيرةَ ما بين عاتقه إلى شحمة أذنه
مسيرة سبعمئة عام، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: «أُذِنَ لي أن أُحدِّث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش،
إنّ ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمئة عام». (13)
عباد
الله؛ إنَّ السموات بالنسبة للكرسي كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وأنَّ الكرسي
بالنسبة إلى العرش كذلك، فما أعظ الله تبارك وتعالى. (14) وإذا تأمل الإنسان في
نفسه التي يُعَظِّمُهَا، وكيف هو على هذه الأرض العظيمة جدًّا وهو صغير جدًّا
جدًّا، هذه الأرض، حتى إنَّ المدن الكبار إذا صعدت بالطائرة تراها صغيرة جدًّا وهي
تحوي ملايين الناس، فكيف بالفرد؟! والأرض هذه بالنسبة للسماوات صغيرة، والسماوات
السبع على سعتها وعِظم ما فيها من الأفلاك والنجوم والسيارات بالنسبة للكرسي صغيرة
كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، والكرسي بالنسبة إلى العرش كذلك، والله تعالى فوق
العرش مستغن عن العرش، وكل شيء محتاج إليه، والله سبحانه محيط بكل شيء إحاطة سعةٍ
وقدرةٍ وذاتٍ وشمولٍ، جلّت صفاته وتقدّست أسماؤه، فإنَّ المرء ولا شك يصيبه نوعٌ
عظيم من الذل لله تعالى، ونوع عظيم من احتقار النفس ومعرفة قدر الإنسان كيف هو،
وأنه شُرِّفَ أعظم تشريف أَنْ جعله الله تعالى عبدًا له سبحانه، ولهذا ينظر المرء
إلى عِظَمْ المخلوقات هذه ويؤمن بها فيُعَظِّمْ الله تعالى.
حقيقةً
الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته يُثْمِرُ ثمراتٍ عملية في القلب من وَجَلِ
القلوب، من إجلال الله تعالى، وحبّ القلوب لجمال الله تعالى، وأنواع ما يحدث في
القلب من الإيمان، ومدارج الإيمان التي تتصل بالإيمان بالأسماء والصفات، كذلك
الإيمان بالجنة والنار، كذلك الإيمان بالعرش والكرسي لمن تأمّله فإنه يجعل القلب خاضعًا
لربّنا ويجعل القلب مُخْبِتًا مُنِيبًا لله تعالى، فإنْ غَفَلَ جاءه تعظيمه
وإيمانه وعقيدته بالإنابة السريعة بالاستغفار الحقّ. (15)
إن
الحديث عن عظمة الله تبارك وتعالى من خلال بيان عظمة مخلوقاته يصُبُّ في القلب
المهابة والإجلال وتمام الرضا بالله ربًّا خالقًا مالكًا مدبّرًا وإلهًا مفردًا
بالعبادة، فإذا انعقد القلب على ذلك امتلأ بالتعظيم والإجلال والمهابة والحياء
والزهد فيما سوى الله والدار الآخرة، حينها لا تسل عن رضاه التام وراحته الكبرى
وسعادته السابغة بتدبير مولاه الحق مهما نهنهت نفسه ببعض لوازم ضعفها الإنساني،
ومهما تعثّر في حياته بالمشاقّ وطُرِحَت في دربه العقبات فمسيره لربّه ثابت ساكنٌ
مطمئن بالإيمان، ذلك أنّه يُحَدِّث قلبه على الدوام أنّ هذه الدنيا بأسرها محض
ابتلاء وتمحيص، فما دامت المصائب قد تخطّت دينه فإنّه لا يعدّها مصائب، بل رحمات وألطاف،
فهي بين درجة ترفعه وخطيئة تكفّرها وحسنةِ صبر يُحصّلها، ويعلم أن الجنة هي ميعاد
المحبين المؤمنين.
اللهم
صل على محمد...
..................
1. أحمد
(2803) وصححه محققوه. وصححه الألباني في السلسلة (1076)
2. العقيدة
الطحاوية، مع تخريج الألباني (1/53)
3. الطبراني
في معجمه الكبير (1427) عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا
ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذُكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذُكر القدر فأمسكوا". قال
الألباني في تخريج الطحاوية (1 / 50): "وهو حديث صحيح، روي عن جمع من
الصحابة، وقد خرجته في الصحيحة ( 34 ) يعني: أمسكوا عن الخوض فيه بما لم تُوقَفُوا
فيه على علم".
4. أي:
كتب أقدار الخلائق.
5. مسلم
(2653)
6. المسند
(22759) وصححه محققوه، مصنف ابن أبي شيبة (35922)
7. البخاري
(4/187 ، 6/74و9/16و154)
8. ابن
حبان (361) وصححه الألباني في الصحيحة" (109) بلفظ: قال أبو ذر: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسيّ في العرش إلا كحلقة من
حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض". ورواه المستدرك (2/ 282)
موقوفًا، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال شيخنا الجبرين رحمه الله في
شرح العقيدة الطحاوية (2 / 179): "قال الشارح رحمه الله: "وأما الكرسي
فقال تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) وقد قيل: هو العرش،
والصحيح أنه غيره، نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، روى ابن أبي شيبة في
كتابه صفة العرش والحاكم في مستدركه وقال: إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه، عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ ) أنه قال: "الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله
تعالى"، وقد روي مرفوعًا، والصواب أنه موقوف على ابن عباس. وقال السدي:
"السماوات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش". وقال ابن
جرير: قال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما
الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض". وقيل:
كرسيّه علمُه، وينسب إلى ابن عباس، والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة كما تقدم،
ومن قال غير ذلك فليس له دليل إلا مجرد الظن، والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم،
كما قيل في العرش.
وإنما
هو كما قال غير واحد من السلف: "بين يدي العرش كالمرقاة إليه". هذا
الكلام على الكرسي الذي ذكر الله أنه وسع السماوات والأرض، وهو كالمرقاة بين يدي
العرش، أو أن الكرسي موضع القدمين، وبكل حال فهو مخلوق، وقد ذكر الله أنه وسع
السماوات بأكملها: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]،
فإذا كان الكرسي قد وسع السماوات والأرض؛ فكيف بالعرش؟ هذا هو القول الصحيح: وهو
أن الكرسي مخلوق، وأنه غير العرش. وهناك قول بأن الكرسي هو العرش، والصحيح أنه
غيره؛ هذا هو المشهور، فالكرسي مقدمة العرش أو مرقاة بين يديه. وهناك قول ثالث
ولكنه ضعيف: وهو أن الكرسي هو العلم، (وسع كرسيه) أي: علمه، وهذا القول -وإن روي
عن ابن عباس- فإنه لا يثبت عنه، والصحيح القول الأول عنه، ولعل هذا من أقوال بعض
المبتدعة الذين يريدون أن يُأولوا الأشياء بغير ظواهرها، فلما أوّلوا العرش
بأنه الملك، أوّلوا الكرسي بأنه العلم؛ حتى يبطلوا الصفات التي وردت في النصوص،
والتي تتعلق بالعرش والكرسي، والتي الإيمان بها من الإيمان بالغيب".
9. أي:
يطاف حوله كالكعبة.
10. أبوداود
(4726) عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: «أتَى رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أعْرَابيٌّ فقال: يا رسولَ اللَّهِ، جَهِدَتِ الأنفُسُ، وَضَاعَتِ العِيَالُ،
وَنُهِكَتِ الأمْوالُ، وَهَلَكَتِ الأنْعَامُ، فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا،
فَإِنَّا نَستَشْفِعُ بِكَ على اللَّهِ، ونَستَشْفِعُ باللهِ عَلَيكَ، قال رسولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَيْحَكَ، أَتَدْري ما تَقُولُ؟" وسَبَّحَ
رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا زالَ يُسَبِّحُ، حَتى عُرِفَ ذلك في وجوه
أصحابِهِ، ثم قال: "إنّه لا يُستَشْفَعُ بالله على أحدٍ من خلقه،
شَأنُ الله أعْظمُ من ذلك، ويحكَ، أتدري مَا اللَّهُ؟ إنّ عَرشَهُ على
سَمَاوَاتِهِ لَهكَذَا"، وقال بِأصبعِهِ مثل القُبْةِ عليه "وإنَّهُ
لَيَئِطُّ أطِيطَ الرَّحلِ بالرَّاكِبِ». وضعفه الألباني في تخريج
الطحاوية (310) من جهة تدليس ابن إسحاق، وقد عنعن.
ولكن
وإن ضعف هذا الحديث فيغني عنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري
(7423) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا سألتم الله فسلوه
الفردوس، فإنّه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجّر أنهار
الجنة". قال شيخ الإسلام مبيّنًا ذلك: "والأوسط لا يكون الأعلى إلا
في المستدير... وقال إياس بن معاوية: السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ
الْقُبَّةِ". الرسالة العرشية لابن تيمية (1 / 13) وانظرها في مجموع الفتاوى
(6 / 556)
11. البخاري
(4/28)
12. البخاري (4/187) (3217)
13.
أبو داود (4727) وسكت عنه. وصحح سنده الذهبي في العلو (97) وقال الحافظ في الفتح
(8/ 665): إسناده على شرط الصحيح، وصححه الألباني.
14. قال
شيخ الإسلام: يجب أن يُعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في
غاية الصغر، كما قال تعالى: { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم
القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون }. وفي الصحيحين عن أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقبض الله
تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين
ملوك الأرض؟". وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقبض الله تبارك وتعالى
الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك
الأرض؟". وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم
يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك؛ أين الجبارون؛ أين المتكبرون؟ ثم يطوي
الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك؛ أين الجبارون؛ أين المتكبرون؟". وفي
لفظ في الصحيح عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "يأخذ الله سماواته وأرضه بيده، ويقول: أنا
الملك"، ويقبض أصابعه ويبسطها: "أنا الملك"، حتى
نظرت إلى المنبر يتحرّك من أسفل شيء منه حتى إنّي أقول: أساقط هو برسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ وفي لفظ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو
يقول: "يأخذ الجبار سماواته وأرضه". وقبض بيده وجعل
يقبضها ويبسطها ويقول: "أنا الرحمن، أنا الملك، أنا القدوس، أنا
السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا العزيز، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الذي
بدأت الدنيا ولم تكن شيئًا، أنا الذي أعدتها. أين المتكبرون؟ أين الجبارون". وفي
لفظ: "أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟"، ويميل رسول الله
صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء
منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والحديث مروي في
الصحيح والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدّق بعضها بعضًا. وفي بعض ألفاظه قال: قرأ على
المنبر: { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة } الآية، قال: "مطويّة في
كفّه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة" وفي لفظ: "يأخذ
الجبار سماواته وأرضه بيده، فيجعلها في كفّه، ثم يقول بهما هكذا كما تقول الصبيان
بالكرة: أنا الله الواحد". وقال ابن عباس: "يقبض الله عليهما
فما ترى طرفاهما بيده" وفي لفظ عنه: "ما السماوات السبع
والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم".
وهذه الآثار معروفة في كتب الحديث.
وفي
الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم
رجلٌ من اليهود فقال: يا محمد؛ إن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع،
والجبال على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيهزّهنّ،
فيقول: أنا الملك، أنا الملك، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه
تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ: { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم
القيامة والسماوات مطويات بيمينه } الآية.
ففي
هذه الآية والأحاديث الصحيحة المفسرة لها المستفيضة التي اتفق أهل العلم على صحتها
وتلقيها بالقبول ما يبيّن أن السماوات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمة الله
تعالى أصغر من أن تكون مع قبضه لها إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا حتى يدحوها كما
تُدحَى الكُرَة". مجموع الفتاوى (6 / 559- 560)
15. شرح
العقيدة الطحاوية، صالح آل الشيخ (1 / 257- 264 مختصرًا وبتصرف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق