إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 2 يونيو 2022

إثبات صفة الرِّضا لله تبارك وتعالى

 

إثبات صفة الرِّضا لله تبارك وتعالى

 

الحمد لله أنشأ الكون من عدم وعلى العرش استوى، أرسل الرسل وأنزل الكتب تبياناً لطريق النجاة والهدى، أحمده -جل شأنه- وأشكره على نعم لا حصر لها ولا منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يرتجى، ولا ند له يبتغى، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله الحبيب المصطفى والنبي المجتبى, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على النهج واقتفى. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أنّ شرفُ كل علم بمتعلّقه، لذلك فعلم الأسماء والصفات لله تعالى هو أشرف العلوم، لتعلقه بأسماء الله تعالى وصفاته المقدّسة، والقرآن العظيم من كلام الله تعالى، وأعظم الهُدى هو هُدى الله عبدَه إليه، فيعلم العبدُ أسماءَ ربه وصفاته وأفعاله، وحقوقَه التي هي الدين الذي خلقه لإقامته ووعده معونته إن صدق معه. وعليه فالضلال في هذا الباب خذلان عظيم وخيبة كبيرة؛ لأنه لم يهتد لأعظم أمر وهو أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله وحقوقه.

عباد الرحمن؛ إن القرآن العظيم والسنة المطهرة مليئان بذكر تفاصيل هذا الباب الشريف، فالأسماء والصفات والأفعال متعلقة بحُسن التصوّر وسلامة الاعتقاد من العبد لربه تعالى ابتداء، أما الحقوق فمتعلّقها مع صحّة الاعتقاد حُسن التعبّد لله جل جلاله.   

ولما كان حُسن المعتقد وسلامته هو أصل الأصول فقد دارت في ميدانه رحى الحرب بين أولياء الرحمن وجند الشيطان، فأخذ العدو الرجيم يفتل قلائد كيده حول أعناق قلوب أهل الإيمان، ويعقد عُقد شبهه وأباطيله في صدورهم، وينفث فيها بكل شبهة وشهوة وجهل وخرافة وقرمطة وسفسطة؛ فراجت أباطيله على فئام من المسلمين كُثُر، إذ فتحوا عقولهم للشبهات، ولم يستضيئوا بنور الوحي المنزل، ولم يكتفوا بما فيه من علم وعصمة وغناء للقلب والعقل والروح. فإن عرضت لهم شبهة عرضوها على أصولٍ خائبة ليست من الوحي المعصوم في شيء، فانهارت بهم أصولهم لقعر الضلالة وحَوبة الغواية! (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد).

أما أهل العلم والإيمان والفطر السليمة فقد كفروا بالطاغوت وآمنوا بالله واستمسكوا بالعروة الوثقى لا انفصام لها، فحفظَهُم ربُّهم لمّا حفظوا أسباب هدايتهم له، وآثروا صفاء وحيه على ضلالات أراء البشر. فآمنوا بالكتاب كله ولم يضربوا بعضه ببعض، وردُّوا متشابهه لمحكمه، واعتصموا بهدايته عن أوهام العقول وأخطاء العلوم وزلّات الأفهام، قال سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ }.

وعليه؛ فزمانُ التكليفِ حالكُ الظُّلمةِ، خَطِرُ المسارب، مفتوح على كلّ سابلةٍ لا تبلغ غايتَها بصائرُ المُكلَّفين، بيد أنّ الربَّ كريمٌ في عظمته، رحيمٌ في تكليفه، حكيمٌ في تشريعه.

أهبط الإنسان للميدان الذي منه تعرج ساميةً مضيئةً أعمالُ أوليائه منهم، وتتحطم في ساحها أكثرُ أحلام بني آدم، (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)، إذ خذلتهم أمانيهم، وكَذَبهم من ظنُّوه حليفَ صدقٍ وناصرَ هدى!

إنّ زماننا ينوءُ بأمواجِ فتنِ شبهاتٍ وشهواتٍ أعشت بصائرَ  من كانوا حكماء، وفلّت عزائم من كانوا أقوياء. قد احتار فيها الحلماء وقَلَقَ من أجلها العلماء. عمّ شرُّها وطار شررُها.. بيد أنها لم تكن ببدعٍ من خلائق الأمم واحتدام مدافعة الفريقين، (فريق في الجنة وفريق في السعير).

عباد الرحمن؛ مر زمانٌ قد حسحست نار الجهل واصطلمت حنادسُ الظُلَمِ بقاع الأرض؛ فلم تَذَرْ لراجِ الهُدى دربًا للسلامة إلا أوحادًا أوحادًا على بقايا آثار أنبياءٍ ضاعت في بيد السنين رسالاتهم.. حتى أَذِن الحكيم الرحيم بالفجر الصادق والشعاع المضيء أركانَ المعمورة وسقائفَ المرفوعة؛ فبعث عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم للمرسلين خاتمًا وللعالمين سراجًا منيرًا. فكان من أراد قبسًا من هُدى في طريق سيره لتحقيق عِلّة الخليقة رَشف بروحه وقلبه وعلمه من معين وحي التنزيل كتابًا وسنة، فانبلجت لِعَينِ بصيرته يقينات العلم فرسخ فيه وانتفع.

 وشاء العليم الحكيم إقامة ناموسه الأعظم على سُنّة المدافعة بين الحق الهادي والباطل الهاذي، وجعل الأيام دولًا بين عدوِّه ووليِّه. وَعَدَ مطيعه بالرضا والجنان، وأوعد عاصيه بغضبه والنيران، وجعل من دلائل حسن عبادته تعظيم شرعه وإجلال وحيه، ومن براهين ذلك: الثقة الكاملة بالوحي، فهو دينٌ كامل لا نقص فيه، وعلمٌ مُترعٌ صحيحٌ لا جهل معه، ويقينٌ راسخٌ ثبوتًا ودلالة لا ظنٌّ متزعزعُ، وحقيقةٌ صريحةٌ لا مجازٌ وتعطيلٌ، وإشباعٌ تامٌّ منسجم متكاملٍ لرغائب الروح وحاجات النفس وغرائز الجسد وجَوْعَة العقل، لا تناقض فيه البتة، ولا يحتاج أهلُه لمائدةٍ سواه، (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرا)، (وما كان ربك نسيا). وكتب ربنا جل وعلا أنّ قواعد دينه ومباني شريعته محفوظة محروسة بمن اصطفى تعالى من صالحي عباده وصادقي أوليائه، (ولن تجد لسنة الله تبديلًا).

 ومن رحمته تعالى بعباده أن كتب ألا يجمع الأمة على ضلالة أبدًا، فسارت الأمة على ذلك المنهاج القويم، وهي موعودة بالوصول عبر لُجج البحر لبرِّ الأمان وفي الآخرة دار السلام، مهما تساقط من سفينة فلاحها من شاء الله تبارك وتعالى.

والأصل النافع والخط الدافع هو منهج أهل السنة الصافي الأصيل، دون الدعي الدخيل، مهما تزيّف بشمع علم أو تلفّع بحجاب حكمة، سواء كان من الأقدمين أو المحدثين.

ومذهب أهل السنة والجماعة - وهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان- في باب الأسماء والصفات: هو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه الله تعالى عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، بلا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل ولا تحريف.

فلا يمثلون الله بغيره ولا يمثلون غيره به، (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) ولا يكيفون صفاته، أي أنهم ينفون العلم بالكيفيّة، أما أصل معنى الصفة فمعلوم، وهو المعنى الأوّلي المتبادر للذهن حيالها، كالوجه واليد والرحمة والغضب والاستواء والنزول ونحو ذلك، ولكن كيفيّتها مجهولة، كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله لما سئل عن الاستواء: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه". (1) أي السؤال عن الكيف وليس المعنى.

فما أثبته الله في كتابه وسنة رسوله أثبتناه، وما نفاه نفيناه، وعلى هذا؛ فمن صفاته تبارك وتعالى التي نطق بها كتابه وسنّةُ رسوله صلى الله عليه وسلم صفةُ الرضا. فهي صفة ثابتة لله تعالى، قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وقال الله سبحانه: {* لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربَّنا وسعديك، والخيرُ في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأيُّ شيءٍ أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخطُ عليكم بعده أبدًا". (2) وقال صلى الله عليه وسلم: "إِن اللَّه ليرضى عن العبدِ يأْكل الأَكْلَةَ فيحمَده عليها، ويشرب الشَّربةَ فيحمَده عليها". (3)

وقال صلى الله عليه وسلم: "فمن رضي فله الرضا"، (4) أي: من الله تعالى، والرضا قد وصف الله تعالى به نفسه في مواضع من كتابه، كقول الله تعالى: { جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [البينة:8]، ومذهب السلف وأتباعهم من أهل السنة إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، فإذا رضي الله تعالى عنه حصل له كل خير، وسلم من كل شر".

بارك الله لي ولكم..

..........

1-    شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي ( 3/398)، والأسماء والصفات للبيهقي (408-409)، وشرح السنة للبغوي (1/171)

2-    البخاري 8/142 (6549)، ومسلم 8/144 (2829) (9)

3-    مسلم (2734)

4-    البخاري 7/109 ( 5470 ) ومسلم 6/174 ( 2144 ) ( 23 )

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق