إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 2 يونيو 2022

فضلُ الرِّضا بالله تعالى (1)

 

فضلُ الرِّضا بالله تعالى (1)

 

الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى، وأسعد وأشقى، وأضل بحكمته وهدى، ومنع وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليّ الأعلى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى، والرسول المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن السعادة في الرضا به.

فقلتُ للفكر لمّا صار مضطربًا   ...   وخانني الصبرُ والتفكيرُ والجَلَدُ

دَعْهَا سماويةً تجري على قَدَرٍ  ...  لا تعترضْها بأمرٍ منك تنفسِدُ

فحَفّني بخفيّ اللطفِ خالقُنا  ...  نعم الوكيلُ ونعم العونُ والمَدَدُ

عباد الرحمن؛ إن الرضا هو البحر الهائل الذي ينغمر فيه كل ألم، وتضمحل فيه كل مشقة، وتذوب فيه كل كريهة. ذلك أن الرضا التام بالله تعالى يثمر سربال الصبر وثلج اليقين وبرد الحمد، فمهما هبَّت على القلب رياح الألم وادلهمّت على النفس كبار الخطوب وتصاكّت على الصدر ألوية الهموم والغموم؛ فإن الرضا بالله تعالى ربًّا مدبرًا حافظًا ناصرًا رازقًا، والرضا به إلهًا معبودًا؛ يصيّر تلك الأمور الصاخبة المزعجة لأحوال أخرى طيبة ساكنة وادعة مريحة، (وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد).

  فالراضي بربه يعلم علم يقين أنه بيد من هو أرحم به من والديه ومن نفسه التي بين جنبيه، فحينها لا يأتيه شغل القلب وكدره وهمه وبلاؤه إلا حين يغفل الفؤاد لحظات عن هذه المعاني الهائلة الجميلة، فهو حال لطيف تستلذه نفوس العلماء بربهم وإن قلّ علمهم بأحكام شرعه ودلائله، ومعنًى جميلٌ تميل النفوس بأعماقها إليه، وتلقي القلوب بأزمّتها عليه، سلكنا الله جميعًا في سلك من رضي عنهم ورضوا عنه.

والرضا بالله تعالى سهل يسير بحمد الله جلّ وعز، فهو يقين وثبات وسكينة وطمأنينة. وقد يظنّ بعض العُبّاد مشقّته في ابتداء الأمر، فما هو إلا أن يسيروا في أفيائه قليلًا حتى تتكشّف لهم سهولة الجادّة وجمال الطريق، ثمّ لا تلبث حقيقته الناصحة الرضيّة السهلة أن تلوح في بصائرهم مشرقة ناصعة بيّنة. ولقد أحسن أيّما إحسان من سمّى الرضا: حسن الخلق مع الله.

إنّ الرضا بالله تعالى يشدُّ ما وَهى من أعمدة بنيان الإيمان، ويبنى ما انهدّ من جدران الثقة، ويحرس أرجاء بيضة اليقين، ويا رب هل إلا عليك المعوّلُ.

فالقلب يبحر في بحر الرضا حاملًا معه علمَه التام ويقينه الراسخ بأن اختيار الله له خير له من اختياره لنفسه، وحينها يباشر الإيمان شغاف قلبه ويملؤها سعادة وسكينة وطمأنينة وراحة، مصداقًا لقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "ذَاقَ طَعمَ الْإِيمَانِ مَن رَضِيَ بِالله رَبًّا، وَبِالإِسلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا". (1)

وتدبّر كيف وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالرضا لا بغيره لأنه غاية وصول المؤمنين فقال جل وعلا: (ولسوف يعطيك ربك فترضى). ومن أرضى الله أرضاه الله، قال الله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤف بالعباد (207)، وتدبر شرط الآية الكريمة إخلاص العمل لمرضاة الله لا غيره، فالعبد يبتغي وجه الله ورضوانه معرضًا عن كل ما يشوّش نيته ويكدّر إخلاصه، حريصًا كل الحرص على عبادة الرضا بالله تعالى ابتغاء رضوانه، قال تعالى: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير (265) فمرضاة الله غاية السابقين، قال تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما (114) قال التابعي الصالح أبي قلابة رحمه الله تعالى: "إذا أحدث الله لك علمًا؛ فأحدث لله عبادة، ولا يكن همّك أن تُحدِّثَ  به الناس". (2) ونعمة العلم بالله تعالى والرضا به مُستحِقّتان على العبد أعلى مراتب الشكر لربه تعالى.

ألا وإن الله تعالى قد امتن علينا بأتم نعمة وأعظم منّة وأكبر كرامة وهي الإسلام العظيم، قال الله تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، وقال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (55)، فيا لَسعادة وفوز وكرامة أهل الإسلام الذين اعتنقوا ورضوا ما رضيه ربهم لهم سلمًا لمرضاته تبارك وتعالى.

عباد الرحمن؛ من تطلّب مرضاة ربه فهو المهديّ حقًا والفائز صدقًا، قال الله تعالى: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم).

وكيف لا يكون الرضوان هو غاية الغايات ومنتهى المطالب بعد رؤية وجهه تبارك وتعالى في الجنة، فمن رضي الله عنه فلا تسل عن سعادته وحبوره وسروره ونعيمه، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا". (3) قد ابيضت وجوههم لما رأوا محبوبهم، ونَظِرت لمّا نَظَرت.

لا تَسأَلِ المَرءَ عَن خَلائِقِهِ   ...  في وَجهِهِ شاهِدٌ عَنِ الخَبَرِ

ويا خيبة من لم يك عن ربه راضيًا ولا له مُرضيًا، فتعجّل الحطام الخسيس وباع الباقي النفيس: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) فأين تعزب عقولهم عن إدراك وتيقّن واعتقاد أن الله تعالى هو الأحق أن يرضوه، ومرضاة رسوله تبع لمرضاته، قال ابن الجوزي رحمه الله: "إذا كان معنى فعل الاثنين واحد جاز أن يذكر أحدهما ويكون المعنى لهما، كقوله تعالى: ( والله ورسوله أحق أن يرضوه)، وقوله: (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى)". (4) وقال البغوي رحمه الله: "قال الله تعالى: (والله ورسوله أحق أن يرضوه) ولم يقل: (يرضوهما) لأن رضا الرسول داخل في رضا الله تعالى". (5) وهذا من دقائق التوحيد؛ لأن مرضاة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما شرعت لمرضاة الله تعالى استقلالًا، فمرضاة الله تعالى هي المقصودة، أما مرضاة الرسول صلى الله عليه وسلم فتبع لها، وهي مقصودة كذلك، فما لا يرضاه الرسول لا يكون مرضيًّا لله تعالى. ورسول الله صلى الله عليه وسلم عبدٌ لا يُعبد، ورسول لا يُكذّب، بل يطاع ويتبع، ولا يوصَلُ إلى مرضاة الله تعالى – بعد بعثته - إلا عن طريقه، فما جاء به فهو الهُدى الموصل إلى الرضوان، وما لم يأتِ به فهو الضلال المبين والخسران المقيم، وتأمل قول الله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم)، وقوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس). والمقصود أن مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم دين وشرع وعبادة لله تعالى ومطلوبة من كل مؤمن، وهي عينها مرضاة لله تعالى، لأنّ الله تعالى – وهو المقصود بالإرضاء – قد عصم رسوله أن يرضيه ما لا يرضي الله تعالى، فعاد الأمر كله إلى إرضاء الله تعالى، وكل مرضاة لرسوله صلى الله عليه وسلم فهي عائدة إلى مرضاة الله جل جلاله.

بارك الله لي ولكم..

.............

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واحمدوه واشكروه وارضوا به ربًّا وإلها ومدبّرًا عليما حكيما برا رحيما.

عباد الله؛ الدين المرضيُّ أُسُّهُ ثابت وقواعده راسخه، أما غيره من الأديان فسبيلُ الشقوة والخسران وطريق الضيعةِ والهوان، قال ربنا تعالى: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين). وقال سبحانه: (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير).

والصادق حقًّا هو من أسلم وجهه لله ابتغاء مرضاته وفضله: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون).

ومن رضي الله عنه فلا عليه ما فاته من حطام الدنيا وما عليها من ظل زائل، واستمع بقلبك لهذا النبأ العظيم من لدن العزيز العليم: (قل أأنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد) فليس وراء رضوان الله لأولي الألباب غاية!

فإن سألتَ من هو المتّبع رضوان الله؛ فهو المُقدِّم مرضاة ربه على رغائب  ورهائب الخلق؛ نفسِه ومَن ومَا بعدها، (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم (172) الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173) فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) فتلمّحْ وتَسمَّعْ وتبَصّرْ شأنهم عند ربهم، نسأل الله الكريم من واسع فضله وكريم نواله، قال الله تعالى: (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم)، وقال تعالى: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم (21)خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم)، وقال تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم)، وقال تعالى: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم). فلا أكبرَ من رضوان الله تبارك وتعالى وتقدّس.

اللهم نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار.

اللهم صل على محمد....

.................

1-    مسلم (34)، والترمذي (2623)

2-    فتح المغيث (3/ 294)

3-    البخاري 8/142 (6549)، ومسلم 8/144 (2829)

4-    زاد المسير (1 / 70)

5-    تفسير البغوي (1 / 89)

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق