إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 1 يونيو 2022

الرِّضا بالله ربًّا وإلهًا (1)

 

الرِّضا بالله ربًّا وإلهًا (1)

 

الحمد لله على جزيل النعماء، والشكر له على ترادف الآلاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إمام المتقين، وسيد الأولياء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء، وأصحابه الأتقياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أنه

فللإيمان بالله خُلِقنا، ولأجل تحقيق عبادته أُوجِدْنا، ومعيار الفوز والخسار يوم الدين على وفق ذلك، (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). والرضا بالله متأكد أكثر من الرضا عن الله؛ لأنه مُصحِّحُ الإيمان ولا يصدر إلا من مؤمن، فقد يرضى الكافر بالقضاء، ولكن لا يرضى بالله إلا مؤمن موحد، ومن رضي بالله لزم أن يرضى عن الله، فاستحقّ أن يرضى عنه الله.

وإنّ للإيمان حلاوة وطلاوة ونعيمًا ولذة لا تشبه سواها من لذائذ العقل ومشتهيات الجسد ومتع الروح، يجدها من ذاقها، فنهل وعبّ من بحر الرضا بالله وبدينه وبرسوله صلى الله عليه وسلم.

وإنّ رضا العبد بربّه موصل لرضا ربه عنه سبحانه، فمن رضي بالله ربًّا أذاقه الله تعالى إيمانًا يجد حلاوته في قلبه. قال رسول صلى الله عليه وسلم: "ذَاقَ طَعمَ الْإِيمَانِ مَن رَضِيَ بِالله رَبًّا، وَبِالإِسلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا". (1) قال ابن القيم رحمه الله: "فالرضا بإلهيته: يتضمن الرضا بمحبته وحده وخوفه ورجائه والإنابة إليه والتبتل إليه وانجذاب قوى الإرادة والحب كلها إليه فعل الراضي بمحبوبه كل الرضا، وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له.

والرضا بربوبيته: يتضمن الرضا بتدبيره لعبده، ويتضمن إفراده بالتوكل عليه والاستعانة به والثقة به والاعتماد عليه، وأن يكون راضيًا بكل ما يفعل به. فالأول: يتضمن رضاه بما يُؤمر به، والثاني: يتضمن رضاه بما يُقدِّر عليه.

 وأما الرضا بنبيّه رسولًا: فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقّى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكِمُ إلا إليه، ولا يُحَكِّمُ عليه غيرَه، ولا يرضى بحكم غيره البتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه. لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم، وأحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور.

 وأما الرضا بدينه: فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى: رضي كل الرضا ولم يبق في قلبه حرج من حكمه وسلّم له تسليمًا، ولو كان مخالفًا لمراد نفسه أو هواها أو قول مقلّده وشيخه وطائفته.

 وههنا يوحشك الناس كلهم إلا الغرباء في العالم، فإيّاك أن تستوحش من الاغتراب والتفرّد، فإنّه والله عينُ العزّة والصحبة مع الله ورسوله وروح الأنس به والرضا به ربًّا وبمحمد رسولًا وبالإسلام دينًا.

 بل الصادق كلّما وجد مسّ الاغتراب وذاق حلاوته وتنسّم روحه قال: اللهم زدني اغترابًا ووحشة من العالم وأنسًا بك. وكلّما ذاق حلاوة هذا الاغتراب وهذا التفرّد؛ رأى الوحشةَ عينَ الأنسِ بالناس، والذلَّ عين العزّ بهم، والجهلَ عين الوقوف مع آرائهم وزبالة أذهانهم، والانقطاع عين التقيد برسومهم وأوضاعهم.

 فلم يؤثر بنصيبه من الله أحدًا من الخلق، ولم يبع حظه من الله بموافقتهم فيما لا يجدي عليه إلا الحرمان، وغايته: مودة بينهم في الحياة الدنيا، فإذا انقطعت الأسباب وحقّت الحقائق وبُعثر ما في القبور وحصّل ما في الصدور وبليت السرائر ولم يجد من دون مولاه الحق من قوة ولا ناصر؛ تبيّن له حينئذ مواقع الربح والخسران، وما الذي يخف أو يرجح به الميزان، والله المستعان وعليه التكلان.

والرّضا بالله ربًّا: أن لا يتّخذ ربًّا غير الله تعالى يسكن إلى تدبيره وينزل به حوائجه، قال الله تعالى: (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء) الأنعام : 164 قال ابن عباس رضى الله عنهما: "سيدًا وإلهًا". يعني فكيف أطلب ربًّا غيره وهو ربّ كل شيء. وقال في أول السورة: (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض) الأنعام : 14 يعني معبودًا وناصرًا ومعينًا وملجأً، وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة. وقال في وسطها: (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا) الأنعام : 114 أي أفَغيرَ الله أبتغي من يحكم بيني وبينكم فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه وهذا كتابه سيد الحُكّام، فكيف نتحاكم إلى غير كتابه وقد أنزله مفصلًا مبيّنًا كافيًا شافيًا؟!

 وأنت إذا تأملت هذه الآيات الثلاث حقّ التأمل؛ رأيتها هي نفس الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا، ورأيت الحديث يترجم عنها ومشتق منها، فكثير من الناس يرضى بالله ربًّا ولا يبغي ربًّا سواه لكنه لا يرضى به وحده وليًّا وناصرًا، بل يوالي مِن دونه أولياء ظنًّا منه أنهم يقرّبونه إلى الله، وأنّ موالاتهم كموالاة خواص الملك، وهذا عين الشرك! بل التوحيد ألا يتخذ من دونه أولياء.

 والقرآن مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء. وهذا غير موالاة أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين فيه، فإنّ هذا من تمام الإيمان، ومن تمام موالاته. فموالاة أوليائه لونٌ واتخاذ الوليّ من دونه لون. ومن لم يفهم الفرقان بينهما فليطلب التوحيد من أساسه، فإنّ هذه المسألة أصل التوحيد وأساسه.

 وكثير من الناس يبتغي غيره حكمًا يتحاكم إليه ويخاصم إليه ويرضى بحكمه، وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد: ألا يتخذ سواه ربًّا ولا إلهًا ولا غيره حكمًا.

 وتفسير الرضا بالله ربًّا: أن يسخط عبادة ما دونه. (2) هذا هو الرضا بالله إلهًا، وهو من تمام الرضا بالله ربًّا، فمن أعطى الرضا به ربًّا حَقُّه سُخْطُ عبادةَ ما دونه قطعًا؛ لأن الرضا بتجريد ربوبيته يستلزم تجريد عبادته، كما أن العلم بتوحيد الربوبية يستلزم العلم بتوحيد الإلهية.

ولا بدّ أن يكون الله عز وجل أحبَّ شيء إلى العبد. وهذه تُعرف بثلاثة أشياء:

 أحدها: أن تسبق محبته إلى القلب كل محبة، فتتقدم محبته المحابَّ كلها.

 الثاني: أن تقهر محبته كل محبة فتكون محبته إلى القلب سابقة قاهرة، ومحبة غيره متخلفة مقهورة مغلوبة منطوية في محبته.

 الثالث: أن تكون محبة غيره تابعة لمحبته، فيكون هو المحبوب بالذات والقصد الأول، وغيره محبوبًا تبعًا لحبه، كما يطاع تبعًا لطاعته، فهو في الحقيقة المطاع المحبوب. وهذه الثلاثة في كونه أولى الأشياء بالتعظيم والطاعة أيضًا.

 فالحاصل: أن يكون الله وحده المحبوب المُعظَّم المطاع، فمن لم يحبه ولم يطعه ولم يعظمه فهو متكبر عليه. ومتى أحبّ معه سواه وعظم معه سواه وأطاع معه سواه فهو مشرك، ومتى أفرده وحده بالحب والتعظيم والطاعة فهو عبد موحد.

والرضا بالله آكدُ من الرضا عن الله؛ فإن الرضا بالقضاء يصحّ من المؤمن والكافر، وغايته التسليم لقضاء الله وقدره، فأين هذا من الرضا به ربًّا وإلهًا ومعبودًا؟!

 وأيضًا فالرضا به ربًّا فرض، بل هو من آكد الفروض باتفاق الأمة، فمن لم يرض به ربًّا لم يصح له إسلام ولا عمل ولا حال، وأما الرضا بقضائه فأكثر الناس على أنه مستحب وليس بواجب، وقيل: بل هو واجب، وهما قولان في مذهب أحمد.

 فالفرق بين الدرجتين فرقُ ما بين الفرض والندب، وفي الحديث الإلهي (3) الصحيح: "يقول الله عز وجل: "ما تقرّبَ إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه". (4) فدل على أن التقرب إليه سبحانه بأداء فرائضه أفضل وأعلى من التقرب إليه بالنوافل.

بارك الله لي ولكم..

.............

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الرضا به ربًّا يتضمن الرضا عنه ويستلزمه، فإن الرضا بربوبيته هو رضا العبد بما يأمره به وينهاه عنه ويقسمه له ويقدّره عليه ويعطيه إياه ويمنعه منه، فمتى لم يرض بذلك كله لم يكن قد رضي به ربًّا من جميع الوجوه وإن كان راضيًا به ربًّا من بعضها، فالرضا به ربًّا من كل وجه يستلزم الرضا عنه ويتضمّنه بلا ريب.

 وأيضًا فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم علّق ذوق طعم الإيمان بمن رضي بالله ربًّا، ولم يعلقه بمن رضي عنه، كما قال: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولًا".(5) فجعل الرضا به قرين الرضا بدينه ونبيّه، وهذه الثلاثة هي أصول الإسلام التي لا يقوم إلا بها وعليها.

 وأيضًا فالرضا به ربًّا يتضمّن توحيده وعبادته والإنابة إليه والتوكل عليه وخوفه ورجاءه ومحبته والصبر له وبه، والشكر على نعمه يتضمّن رؤيةَ كلّ ما منه نعمة وإحسانًا وإن ساء عبده، فالرضا به يتضمن شهادة أن لا إله إلا الله والرضا بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا يتضمّن شهادة أن محمدًا رسول الله، والرضا بالإسلام دينًا يتضمن التزام عبوديته وطاعته وطاعة رسوله، فجمعت هذه الثلاثة الدين كله.

 وأيضًا فالرضا به ربًّا يتضمّن اتخاذه معبودًا دون ما سواه واتخاذه وليًّا ومعبودًا وإبطال عبادة كل ما سواه، وقد قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: (أفغير الله أبتغي حكما) وقال: (أغير الله اتخذ وليا) وقال: (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء) فهذا هو عين الرضا به ربًّا.

 وأيضًا فإنه جعل حقيقة الرضا به ربًّا أن يسخط عبادة ما دونه، فمتى سخط العبد عبادة ما سوى الله من الآلهة الباطلة حبًّا وخوفًا ورجاء وتعظيمًا وإجلالًا فقد تحقق بالرضا به ربًّا الذي هو قطب رحى الإسلام.

 وإنما كان قطب رحى الدين لأن جميع العقائد والأعمال والأحوال إنّما تُبني على توحيد الله عز وجل في العبادة وسخط عبادة ما سواه، فمن لم يكن له هذا القطب لم يكن له رحى تدور عليه، ومن حصل له هذا القطب ثبتت له الرحى ودارت على ذلك القطب، فيخرج حينئذ من دائرة الشرك إلى دائرة الإسلام، فتدور رحى إسلامه وإيمانه على قطبها الثابت اللازم.

 وأيضًا فإنه جعل حصول هذه الدرجة من الرضا موقوفًا على كون المرضيِّ به ربًّا سبحانه أحبّ إلى العبد من كل شيء وأَولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء بالطاعة، ومعلوم أن هذا يجمع قواعد العبودية وينتظم فروعها وشعبها.

اللهم اجعلنا ممن رضي بك فكفيته واستهداك فهديته.

اللهم صل على محمد..

..........

1.    رواه مسلم (34)، والترمذي (2623)

2.    دونه: أي غيره وسواه.

3.    يسمّى حديث إلهي وقدسي وربَّاني لإضافته إلى الله تبارك وتعالى.

4.    البخاري 8/131 ( 6502 ) وهو حديث الولي المشهور، وللحافظ ابن رجب فيه رسالة لطيفة.

5.    مسلم (34)، والترمذي (2623)

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق