فضل علم السلف
الحمد لله المحمود على كل حال، ونعوذ
بالله من حال أهل الضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير
المتعال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله جبله ربه على جميل الفعال وكريم
الخصال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى
يوم المآل. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن
علم السلف هو خلاصة الإسلام ولُبَابُ الشريعة، وطريقة السلف أعلم وأسلم وأحكم
وأتقى وأورع. فهي المهيع القويم والجادة المستقيمة والسبيل الأمثل لدرك الحق
وتحقيق العلم.
بُعثَ النبيُّ
وأوتي التنزيلا ... طلع الصباحُ فأطفئوا القنديلا
شمسُ الهداية
أشرقت من نوره ... لا تذكروا التوراة والإنجيلا
نزلت على الرسل
الكرام وبعدهم ... قد حُرَّفتْ وتبدلت تبديلا
وكثير
من الناس يظنون أن عبارة "مذهب السلف" أن لهم بذلك طريقة خاصة بهم غير
طريقة عامة المسلمين، وأن لهم أوضاعًا وتراتيب مشابهة لتراتيب الطرقية ونحوها،
وهذا باطل، فطريقة السّلف هي محض الإسلام، فمن عمل بالقرآن والسنة فهو
سلفي صميم وسنّي مستقيم، فهو لا ينتسب سوى للإسلام (هو سماكم المسلمين)، وكانت
الأمة جمعاء على ذلك الطريق حتى حدثت البدع وخرج فئام من الناس عن جادّة سلفهم
الصالح من الصحابة والتابعين، فأقاموا لهم قواعد وتراتيب، بل ومفاهيم وتصورات
محدثة لم يأت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يرحل للرفيق الأعلى حتى
أكمل الله به الدين وأتمّ به النعمة، وكان قد أكّد مرارًا على خطورة الإحداث في
دين الله وحذّر مخالفته سنته بزيادة او نقص، لأن جوهر البدع تبديل الدين إمّا جملة
وإما شيئًا، فعن عائشَة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ
مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" أخرجاه، وفي لفظ: "مَنْ عَمِلَ
عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ". (1) أي مردود على
صاحبه، فالدين دين جماعة لا شذوذ عنها بالمحدثات، قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ
بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(الأنعام: من الآية153). قال مجاهد: "السُّبُل: البدع
والشبهات".
ومذهب
السلف هو شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم المُتلقّى من الوحي المعصوم كتابًا
وسنّة، ومذهبهم هو عين وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه قد علم أن الناس
سيختلفون من بعده فأرشدهم إلى خير سبيل وأزكى نهج وأقوم طريقة وهي السنة
الرّساليّة التي مشى عليها السلف الصالح، فعن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله
عنه قال: وَعَظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وَجِلَتْ منها القلوب،
وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنّها موعظة مودّع فأوصنا، قال: "أوصيكم
بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد حبشي، وإنّه من يعش منكم فسيرى
اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها
بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة". (2)
والتمسّك
بالسّنة خيرٌ كلّه، وصحّة المعتقد رافعة للدرجة عند الله تعالى، فأول خطوة في
القبول سلامة التصوّر واستقامة العلم. والضلال كل الضلال في اعتقاد ما يخالف
اعتقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالدين من عند الله أبيض نقيًّا
صافيًا واضحًا لا غبش فيه ولا خفاء ولا شك ولا غموض. قال ابن عباس رضي الله
عنهما في قول الله تبارك وتعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم): "أخبر الله نبيّه
صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة
أبدًا، وقد أتمّه الله عزّ ذكره فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيه الله فلا يسخطه
أبدًا".(3)
قال
ابن القيم رحمه الله: "أهل السنة إن قعدت بهم أعمالهم قامت بهم عقائدهم، وأهل
البدع إذا قامت بهم أعمالهم قعدت بهم عقائدهم". وقال: "وهذه النعمة
المطلقة هي التي يُفرح بها في الحقيقة، والفرح بها مما يحبّه الله ويرضاه، وهو لا
يحبّ الفرحين، قال الله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما
يجمعون)، وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله ورحمته الإسلام والسنّة. وعلى حسب
حياة القلب يكون فرحه بهما، وكلما كان أرسخ فيهما كان قبله أشدّ فرحًا، حتى إن
القلب إذا باشر روح السنة ليرقص فرحًا أحزن ما يكون الناس.
فإن
السنة حصن الله الحصين الذي من دخله كان من الآمنين، وبابه الأعظم الذي من دخله
كان إليه من الواصلين، تقوم بأهلها وإن قعدت بهم أعمالهم، ويسعى نورها بين أيديهم
إذا طفئت لأهل البدع والنفاق أنوارهم، وأهل السنة هم المبيضَّةُ وجوههم إذا اسودّت
وجوه أهل البدعة. قال تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) قال ابن عباس:
"تبيضّ وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسودّ وجوه أهل البدعة والتفرّق".
وهي الحياة والنور اللذان بهما سعادة العبد وهداه وفوزه، قال تعالى: (أومن كان
ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج
منها).
فصاحب
السنة حيُّ القلب مستنيره، وصاحب البدعة ميت القلب مظلمُه، وقد ذكر الله سبحانه
هذين الأصلين في كتابه في غير موضع، وجعلهما صفة أهل الايمان، وجعل ضدهما صفة من
خرج عن الإيمان. فإن القلب الحيّ المستنير هو الذي عقل عن الله وفهم عنه وأذعن
وانقاد لتوحيده ومتابعة ما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم وآله. والقلب الميت
المظلم الذي لم يعقل عن الله ولا انقاد لما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولهذا يصف سبحانه هذا الضرب من الناس بأنهم أموات غير أحياء، وبأنهم في الظلمات لا
يخرجون منها، ولهذا كانت الظلمة مستولية عليهم في جميع جهاتهم، فقلوبهم مظلمة ترى
الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وأعمالهم مظلمة، وأقوالهم مظلمة،
وأحوالهم كلها مظلمة، وقبورهم ممتلئة عليهم ظلمة، وإذا قسمت الأنوار دون الجسر
للعبور عليه بقوا في الظلمات، ومدخلهم في النار مظلم.
وهذه
الظلمة هي التي خُلق فيها الخلق أولًا، فمن أراد الله سبحانه وتعالى به السعادة
أخرجه منها إلى النور، ومن أراد به الشقاوة تركه فيها، كما روى الإمام أحمد وابن
حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره،
فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جفّ القلم على علم
الله". (4) (5)
وكان
النبي يسأل الله تعالى أن يجعل له نورًا في قلبه وسمعه وبصره وشعره وبشَره ولحمه
وعظامه ودمه ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وخلفه وأمامه، وأن يجعل ذاته
نورًا، فطلب النور لذاته ولأبعاضه ولحواسه الظاهرة والباطنة ولجهاته الست.
وقال
أبي بن كعب رضي الله عنه" "المؤمن مدخله من نور ومخرجه من نور وقوله نور
وعمله نور". وهذا النور بحسب قوته وضعفه، كما يمشي الرجل بالسراج المضيء في
الليلة الظلماء، فهو يرى أهل الظلمة في ظلامهم وهم لا يرونه، كالبصير الذي يمشي
بين العميان.
والخارجون
عن طاعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ومتابعتهم يتقلبون في عشر ظلمات: ظلمة
الطبع، وظلمة الجهل، وظلمة الهوى، وظلمة القول، وظلمة العمل، وظلمة المدخل، وظلمة
المخرج، وظلمة القبر، وظلمة القيامة، وظلمة دار القرار. فالظلمة لازمة لهم في
دورهم الثلاثة!
وأتباع
الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يتقلّبون في عشرة أنوار، ولهذه الأمة من النور ما
ليس لأمة غيرها، ولنبيها صلى الله عليه وسلم من النور ما ليس لنبي غيره.
والله
سبحانه وتعالى سمّى نفسه نورًا وجعل كتابه نورًا ورسوله نورًا ودينه نورًا، واحتجب
عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورًا يتلألأ، قال الله تعالى: (الله نور
السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب
دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم يمسسه
نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء
عليم). وقد فسر قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض) بكونه منوُّر السموات
والأرض، وهادي أهل السموات والأرض، فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض، وهذا إنما هو
فعله، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائمٌ به، ومنه اشتقّ له اسم النور الذي هو
أحد الأسماء الحسنى.
وفي
صحيح مسلم (6) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن
ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل
عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من
خلقه".
بارك الله لي ولكم..
.............
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على
توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه
ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله،
واعتصموا بحبله المتين.
قال
شيخ الإسلام: "مذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا
حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد، فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم، ومن خالف
ذلك كان مبتدعًا عند أهل السنة والجماعة، فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة،
ومتنازعون في إجماع من بعدهم". (7)
وقال
الأوزاعي: "العلم ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان غير ذلك
فليس بعلم". وكان السلف يقولون: العلماء ثلاثة: عالم بالله، عالم بأمر
الله: يخشى الله، ويعرف الله، ويعرف أحكام الله. وعالم بالله وليس عالم بأمر الله،
يخشى الله لكن لا يعلم الحلال والحرام والأحكام. وعالم بأمر الله وليس عالم بالله،
أي: يعرف الأحكام والفقه، لكن لا يخشى الله.
عباد
الرحمن؛ إنّ من علامات صاحب العلم النافع: قبول الحق والانقياد له. وليس
العلم بكثرة الرواية، ولا بكثرة المقال، ولكنه نور يُقذف في القلب يفهم به العبد
الحق، ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد. قال
ابن مسعود رضي الله عنه: "إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه، وسيأتي
بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه". فالسلف أقل الناس كلامًا وتوسعًا في
العلوم، لكن علمهم علم نافع في قلوبهم، ويعبّرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه
من ذلك. وهذا هو الفقه والعلم النافع، فأفضل العلوم في تفسير القرآن ومعاني الحديث
والكلام في الحلال والحرام ما كان مأثورًا عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن
ينتهي إلى أئمة الإسلام المشهورين المقتدَى بهم.
وما
أحسن قول أبي حنيفة رحمه الله وقد سئل عن علقمة والأسود أيهما أفضل؟ فقال:
"واللَه ما نحن بأهل أن نذكرهم، فكيف نفضّل بينهم!" وكان الإمام أحمد
رحمه اللَه يقول عن معروف الكرخي: "معه أصل العلم؛ خشية اللَه". فأصل
العلم باللَه الذي يوجب خشيته ومحبته والقرب منه والأنس به والشوق إليه. وقال
بعضهم: من خشي اللَهَ فهو عالم، ومن عصاه فهو جاهل. وكلامهم في هذا المعنى كثير
جدًّا. قال ابن مسعود رضي الله عنه: "كفى بخشية اللَه علمًا، وكفى بالاغترار
باللَه جهلًا". (8)
اللهم
علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما يا عليم.
اللهم
صل على محمد...
..............
1. البخاري
(3/241) مسلم (5/132)
2. حديث
ثابت مشهور، رواه أحمد (4/126) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وقال: حديث حسن
صحيح. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2735) والنواجذ: الأنياب، وقيل:
الأضراس. والمراد الحض على شدّة الاستمساك بالسنة.
3. تفسير
الطبري (9 / 518) (11080)
4. أحمد
(2/176) (6644) والحاكم ( 1 / 30 ) وقال: صحيح. ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في
الصحيحة (1076)
5. ودل
ربط جفاف القلم على علم الله تعالى أن المكتوب في اللوح المحفوظ لا يتغير أبدًا،
ولا يدخله نسخ.
6. مسلم
(179)
7. ابن
ماجه ( 43 ) والحاكم ( 1 / 96 ) وأحمد ( 4 / 126 ) وصححه الألباني في السلسلة
الصحيحة
(2 / 648)
8. فوائد من فضل علم السلف على الخلف لا بن رجب،
عن موقع الكلم الطيب، بتصرف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق