الرِّضا بالله ربًّا وإلهًا (2)
الحمد لله إقرارا بوحدانيته، والشكر له
على سوابغ نعمته، اختص بها أهل الصدق والإيمان بصدق معاملته، ومن على العاصي بقبول
توبته، ومد للمسلم عملا صالحا بوصيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المفضل على جميع بريته. صلى الله
وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى
يوم الدين. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن الراضي
بالله تعالى هو أسعد الناس في الدنيا والآخرة، وأطيبهم عيشًا وأهناهم بالًا
وأسعدهم حالًا.
عباد
الرحمن؛ لما كانت المحبة التامة ميل القلب بكليته إلى المحبوب؛ كان ذلك الميل حاملًا
على طاعته وتعظيمه، وكلما كان الميل أقوى كانت الطاعة أتمّ والتعظيم أوفر، وهذا
الميل يلازم الإيمان، بل هو روح الإيمان ولُبُّه، فأيّ شيء يكون أعلى من أمر يتضمن
أن يكون الله سبحانه أحب الأشياء إلى العبد وأولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء
بالطاعة.
وبهذا
يجد العبد حلاوة الإيمان كما في الصحيح عنه أنه قال: "ثلاثٌ من كنّ
فيه وجد حلاوة الإيمان؛ أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، ومن كان يحب
المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما
يكره أن يُلقى في النار". (1) فعلّق ذوق الإيمان بالرضا بالله
ربًّا، وعلّق وجود حلاوته بما هو موقوف عليه ولا يتمّ إلا به، وهو كونه سبحانه
أحبّ الأشياء إلى العبد هو ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولما
كان هذا الحبّ التام والإخلاص الذي هو ثمرته أعلى من مجرد الرضا بربوبيته سبحانه؛
كانت ثمرته أعلى وهي وجد حلاوة الإيمان، وثمرة الرضا ذوق طعم الإيمان، فهذا وجد
حلاوة، وذلك ذوق طعم، والله المستعان.
وإنما
ترتب هذا وهذا على الرضا به وحده ربًّا والبراءة من عبودية ما سواه وميل القلب
بكليته إليه وانجذاب قوى المحب كلها إليه، ورضاه عن ربه تابع لهذا الرضا به، فمن
رضي بالله ربًّا رضيه الله له عبدًا، ومن رضي عنه في عطائه ومنعه وبلائه وعافيته
لم ينل بذلك درجة رضا الرب عنه إن لم يرض به ربًّا وبنبيّه رسولًا وبالإسلام
دينًا، فإن العبد قد يرضى عن الله ربه فيما أعطاه وفيما منعه، ولكن لا يرضى به
وحده معبودًا وإلهًا، ولهذا إنّما ضمن رضا العبد يوم القيامة لمن رضيَ به ربًّا
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قالَ إذا أصبَحَ وإِذَا أمسى:
رَضِينَا باللهِ رَبًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمُحَمَّدٍ رسولا، كانَ حَقًّا على
اللهِ أنْ يُرْضِيَهُ يومَ القِيَامَةِ». (2)
وقال
الله تعالى: (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين
فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) وقال تعالى في آخر سورة
المجادلة: (ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا
عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) وقال في آخر سورة لم يكن:
(خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه).
فتضمّنت
هذه الآيات جزاءهم على صدقهم وإيمانهم وأعمالهم الصالحة ومجاهدة أعدائه وعدم
ولايتهم؛ بأن رضي الله عنهم فأرضاهم فرضوا عنه، وإنما حصل لهم هذا بعد الرضا به
ربًّا وبمحمد نبيًّا وبالإسلام دينًا". (3)
حسبي من الحب أنِّي ... لما تُحبُّ أحِبُّ
ومن
أراد الغنى فليرض عن قسمة ربّه له مهما تصرّفت به الأحوال، وكم من عاقبة حميدة
اجتلبها بلاء شاقّ، وإنّ العبد إذا اتّخذ اللهَ ربًّا له ومعبودًا لا شريك له؛
فإنّ ربّه يشكره ويغنيه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «من يأخذ عنّي هؤلاء الكلمات، فيعمل بهن، أو يُعلّم من يعمل
بهن». فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله. فأخذ بيدي فعدّ خمسًا،
وقال: «اتق المحارم تكن أعبدَ الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى
الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا
تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب». (4)
وإنّ
الرضا بالله ربًّا يقتضي التسليم لأمره، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين (5) وكان ظئرًا (6) لإبراهيم
عليه السلام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبّله وشمّه. ثم دخلنا
عليه بعد ذلك- وإبراهيم يجود بنفسه- فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
تذرفان. فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله. فقال: «يا
ابن عوف إنّها رحمة». ثم أتبعها بأخرى. فقال صلى الله عليه وسلم: «إن
العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. وإنا بفراقك يا إبراهيم
لمحزونون». (7)
وليس الذي يجري من العين
ماؤُها ... ولكنّها روحٌ تذوب فتقطرُ
والرضا
بالله تعالى حقيقته تسليمُ مطمئنٍّ له ساكن إليه واثق به مستسلم له فرح به مهما
تصرّفت أحواله، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "القلب الصحيح: هو الذي همُّه
كله في الله، وحبُّه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته
له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابِّه،
والخلوة به اَثرُ عنده من الخلطة؛ إلا حيث تكون الخلطة أحبَّ إليه وأرضى له،
قُرّةُ عينه به، وطمأنينته وسكونه إليه، فهو كما وجد من نفسه التفاتًا إلى غيره
تلا عليها: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إلى رَبِّكِ
راضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ [الفجر ٢٧، ٢٨]، فهو يُردِّد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من
ربه يوم لقائه؛ فينصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية، فتصير
العبودية صفة وذوقًا لا تكلّفًا، فيأتي بها تودُّدًا وتحببًا وتقربًا، كما يأتي
المحب المتيَّم في محبة محبوبه بخدمته وقضاء أشغاله.
فكلما
عَرَضَ له أمر من ربه أو نهْي أحسَّ من قلبه ناطقًا ينطق: لبيْكَ وسَعْديْك، إني
سامع مطيع ممتثل، ولك عليّ المِنّة في ذلك، والحمد فيه عائد إليك.
وإذا
أصابه قَدَر وجد من قلبه ناطقًا يقول: أنا عبدك ومسكينك وفقيرك، وأنا عبدك الفقير
العاجز الضعيف المسكين، وأنت ربي العزيز الرحيم، لا صبر لي إن لم تُصبِّرني، ولا
قوة لي إن لم تحَمِلنْي وتُقَوِّني، لا ملجأ لي منك إلا إليك، ولا مستعان لي إلا
بك، ولا انصرافَ لي عن بابك، ولا مذهب لي عنك.
فينطرح
بمجموعه بين يديه، ويعتمد بكلِّيَّته عليه، فإن أصابه بما يكره قال: رحمة
أُهدِيَتْ إليّ، ودواء نافع من طبيب مشفق، وإن صُرِفَ عنه ما يحب قال: شرٌّ صُرف
عني:
وكَمْ رُمْتُ أمْرًا خِرْتَ ليِ في انصِرافِهِ … وما زِلتَ بي مِنِّي
أبَرَّ وأرْحَما
فكل ما
مسّه به من السراء والضراء اهتدى بها طريقًا إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه
عليه، كما قيل:
ما مَسّنِي قدَرٌ بِكُرْهٍ أوْ رِضًا … إلّا اهْتَدَيْتُ بِهِ إليكَ
طَرِيقا
أمْضِ القَضاءَ على الرِّضا مِنِّي بِهِ … إنِّي وجَدْتُكَ في
البَلاءِ رَفِيقا
فلله
هاتيك القلوبُ وما انطوت عليه من الضمائر، وماذا أُودِعَتْهُ من الكنوز والذخائر!
ولله طِيبُ أسرارها، ولا سيما يوم تُبْلىَ السرائر!
سَيَبْدُو لهًا طِيبٌ ونُورٌ وبَهْجَةٌ … وحُسْنُ ثَناءٍ يَوْمَ
تُبْلىَ السَّرائرُ
تالله
لقد رُفع لها عَلَمٌ عظيم فشمَّرتْ إليه، واستبان لها صراط مستقيم فاستقامت عليه،
ودعاها ما دون مطلوبها الأعلى؛ فلم تستجب له، واختارته على ما سواه وآثرت ما
لديه". (8)
قال
سبحانه وتعالى: "وما تقرّب إلى عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه،
وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أُحبّه، فإذا أحببته؛ كنتُ سمعه الذي يسمع
به، وبصره الذي يبصر به". (9)
اللهم
نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.
بارك الله لي ولكم..
......
1. البخاري
1/10 ( 16 ) ومسلم 1/48 ( 43 ) ( 67 )
2. أحمد
(18967) (4/337) من حديث أنس، وفيه سابق بن ناجية لم يوثقه غير ابن حبان. وقال
محققو المسند: صحيح لغيره. وجود سنده النووي في الأذكار، وله شاهد من حديث أبي
سعيد الخدري عند أحمد (11102) وهو حديث صحيح.
3. مدارج
السالكين (2 / 172-242) مختصرًا.
4. أحمد
في المسند (2/ 310)، والترمذي (2305) واللفظ له وحسنه الألباني. وقال محقق جامع
الأصول (11/ 687): حديث حسن.
5. القين:
الحداد.
6. الظئر:
المرضعة ولد غيرها واللفظ له. وزوجها ظئر لذلك الرضيع.
7. البخاري،
الفتح 3 (1303) واللفظ له، ومسلم (2315)
8. إغاثة
اللهفان (١/١٢٢)
9. البخاري 8/131(6502)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق