آدابُ الرّضا بالله تعالى
الحمد لله ولي من اتقاه، من اعتمد عليه كفاه، ومن لاذ به وقاه. أحمده
سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله وحبيبه وخليله ومصطفاه، صلى الله وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن دعا
بدعوته واهتدى بهداه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن للرضا
بالله آدابٌ على المؤمن الاجتهاد لتكميلها، فالرضا بالله تعالى بحرٌ جميل لا
تُدرَكُ سواحله، وعلى قدر تحقيق الآداب والشروط وامتثال الأصول ومراعاة حسن
الأخلاق مع الخالق وخلقه يكون تحصيل أطرافه والتمكّن من أهدابه، والآداب راجعة
لحفظ القلب واللسان والجوارح وحراستها من حظ الشيطان، وبالله وحده التوفيق.
فمن
آداب الرضا بالله يا عباد الله: حفظ اللسان عما لا يليق بالراضين بالملك العلام
وتدبيره حتى في أدقّ الأمور، فحفظ اللسان من أصول حفظ الدين، فعن سهل بن سعد رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يضمنُ لي ما
بين لحييه وما بين رجليه؛ أضمن له الجنة". (1) وقد
يتساهل المرء في كليمات لا يحسب لها حسابًا بينا هي تنزله
من علياء الراضين السابقين لساحِ المُخلّطين، قال تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به
علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا )، وقال تعالى: { ما يلفظ من
قول إلا لديه رقيب عتيد }. قال النووي رحمه الله تعالى: "اعلم أنه
ينبغي لكل مكلّف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى
استوى الكلام وتركه في المصلحة؛ فالسنة الإمساك عنه، لأنّه قد ينجرّ الكلام المباح
إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء". (2) وعن
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت". (3) وتأمّل حديث
معاذ وكيف ربط حفظ الدين العظيم كله بحفظ جارحة اللسان، فعن معاذ رضي الله عنه
قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدُني من النار. قال: "لقد
سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسّره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تشرك به
شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت"، ثم
قال: "ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصوم جُنَّةٌ، والصدقة تُطفئ
الخطيئة كما يطفئ الماءُ النارَ، وصلاة الرجل من جوف الليل". ثم
تلا: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا
تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون }. ثم قال: "ألا
أخبرك برأس الأمر، وعمودِه، وذِرْوَةُ سنامه؟" (4) قلت: بلى يا رسول
الله، قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه
الجهاد". ثم قال: "ألا أخبرك بِمِلَاكِ ذلك كله!" (5)
قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: "كُفَّ عليك هذا". قلت:
يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمّك! وهل
يكبّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد (6) ألسنتهم؟". (7)
عباد
الرحمن؛ من حرس قلبه حرس لسانه، ومن رضي بربه لم يقل عنه وعن تدبيره إلا خيرًا،
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "الجاهل يشكو الله الى الناس، وهذا غاية
الجهل بالمشكوّ والمشكوّ اليه، فإنّه لو عرف ربه لما شكاه، ولو عرف الناس لما شكا
إليهم. ورأى بعض السلف رجلًا يشكو إلى رجل فاقته وضرورته فقال: يا هذا؛ والله ما
زدت على أن شكوت من يرحمك! وفي ذلك قيل:
وإذا شكوتَ إلى ابن آدم إنّما ... تشكو الرحيمَ إلى الّذي لا يرحمُ
والعالم
بالله إنّما يشكو إلى الله وحده، والعالم حقّا من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا
من الناس، فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه، فهو ناظرٌ إلى قوله تعالى: (وما
أصابكم من مصيبة فما كسبت أيديكم)، وقوله: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك)، وقوله:
(أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم).
فالمراتب ثلاثة: أخسّها أن تشكو الله إلى خلقه، وأعلاها أن تشكو نفسك إليه،
وأوسطها أن تشكو خلقه إليه". (8)
بارك الله لي ولكم..
.............
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على
توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه
ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله،
واعلموا أن من آداب الرضا السماحة واليسر في المال أخذًا أو خزنًا أو إعطاءً اطمئنانًا
من القلب بربه، وثقة به، ورضا بتدبيره، ومن بركات السماحة الدخول تحت دعوة النبي
صلى الله عليه وسلم لمن هذا وصفه، فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا
اقتضى". (9)
وإن من
أسباب البركة في الرزق عدم التدقيق في النفقة والصرف وحساب الصدقة اتكالًا على
الله وحسن ظن به – مالم تكن ريبة-، وهذا إنما يكون لمن عظُم توكّله على الله
تعالى، أما من كان دون ذلك فلا بأس من مراعاة ريع تجارته أو راتبه وتقسيمه
مقدَّمًا بحسب حاجاته ونفقاته وصدقاته، فتدبير المعيشة أمر مهم، حتى لا يقع في خلل
من جهة قوت عياله ونحو ذلك، فلا حرج في التدبير والتنظيم لماله، وقد قالوا:
"الكَمَالُ فِي ثَلَاثَةٍ: العِفَّةُ فِي الدِّينِ، والصَّبْرُ عَلَى
النَّوَائِبِ، وحُسْنُ التَّدْبِيرِ فِي الْمَعِيشَة". وَقِيلَ لِحكيم:
فُلَانٌ غَنِيٌّ. فقَال: "لا أَعرِفُ ذَلِكَ مَا لَم أَعرِف تَدبِيرَهُ فِي
مَالِهِ". (10)
إنما
المقصود ترك زيادة الحرص وشدة التدقيق في النفقات، فالعبد يأخذ بالأسباب بدون
تشدّد فيها وتعلّق بها، مع الاتّكال على مسبب الأسباب سبحانه، وقد روى البخاري
ومسلم (11) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ
إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ،
فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ". قال ابن الجوزي رحمه الله: "كالَت عائشة الطعام
ناظرة إلى مقتضى العادة، غير متلمّحة في تلك الحالة منحة البركة، فرُدّت إلى مقتضى
العادة ، كما رُدّت زمزم إلى عادة البئار حين جمعت هاجر ماءها". (12) وقال
الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (13): "وحديث عائشة محمول على أنها كالَته
للاختبار، فلذلك دخله النقص، وهو شبيه بقول أبي رافع لما قال له النبي صلى الله
عليه وسلم في الثالثة: "ناوِلني الذراع"، قال: وهل
للشاة إلا ذراعان؟ فقال: "لو لم تقل هذا؛ لناولْتني ما دمتُ أطلب
منك". فخرج من شؤم المعارضة انتزاع البركة.. ولا تنزع البركة من
المكيل بمجرد الكيل ما لم ينضم إليه أمر آخر كالمعارضة والاختبار، والله
أعلم". وقال أيضًا: "والذي يظهر أنه كان من الخصوصية لعائشة ببركة النبي
صلى الله عليه وسلم، وقد وقع مثل ذلك في حديث جابر، ووقع مثل ذلك في مزود أبي
هريرة قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرات فقلت: ادع لي فيهن بالبركة،
قال: "فقبض، ثم دعا، ثم قال: خذهنّ، فاجعلهنّ في مِزْوَدٍ، فإذا أردت
أن تأخذ منهن فأدخل يدك فخذ، ولا تنثر بهن نثرًا"، فحملت من ذلك كذا
وكذا وسقًا (14) في سبيل الله، وكنا نأكل ونُطعِم، وكان المزود معلّقًا بحقوي لا
يفارقه، فلما قتل عثمان انقطع. وفي رواية: "فأدخل يدك فخذ ولا تكفئ
فيكفأ عليك"، ونحوه ما وقع في عُكَّةِ المرأة وهو ما أخرجه مسلم (15)
أنّ أم مالك كانت تُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم في عكّة لها سمنًا، فيأتيها
بنوها فيسألون الأدم، (16) فتعمد إلى العكّة فتجد فيها سمنًا، فما زال يقيم لها
أدم بيتها حتى عصرته. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو
تركتِها ما زال قائمًا".
وبالجملة؛
فالتدبير والاقتصاد حسن، من غير زيادة تنطّع أو تشدّد أو تعلّق زائد للقلب
بالأسباب، بل عليه أن يجعل مدار الأمر على فضل الله وبركته التي قد تخالف حساباته
وتوقعاته، وعليه أن يعلّق قلبه بربه فهو رازقه ووليّه، وأن يكون بما عند الله أوثق
ممّا في يده. فينبغي ألّا يشتدّ حرص المرء على التدقيق فيما أعده للنفقة والصدقة
ونحو ذلك، ولا يمنع ما أحبّ الله إنفاقه، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله
عنهما قالت: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «لا
تُوكي فيُوكي عليك»، رواه البخاري (17) وفي رواية له: «لا تحصي
فيحصي الله عليك»، وفي رواية له أيضًا: «لا توعي فيوعي الله
عليك، ارضخي ما استطعتِ».
ربنا
آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم
صل على محمد..
..................
1- البخاري
8/125 (6474)
2- رياض
الصالحين (2 / 175)
3- البخاري
8/125 (6475) ومسلم 1/49 (47) (74)
4- ذروة
سنامه: سنام الناقة: معروف، وذروته أعلاه، والمراد: أعلى موضع في الإسلام وأشرفه.
ومنه: ذِروة الجبل: أي أعلاه، والذروة بكسر الذال المعجمة وتأتي بضمّها أيضًا.
5- بملاك
ذلك: ملاك الأمر: قوامه، وما يتمّ به، بفتح الميم وكسرها.
6- الحصائد:
جمع حصيدة، وهي ما يحصد من الزرع، وهذا من التشبيه البليغ جدًّا، إذ شبّه صلى الله
عليه وسلم اللسان وما يَقتطِعُ به من القول بحدّ المِنجَل وما يقطع به من النبات،
إن خيرًا فخير، أو شرًّا فشرّ، (وما ربّك بظلام للعبيد).
7- أحمد
(22016) وقال محققوه: صحيح بطرقه وشواهده، والترمذي (2616) وقال: حديث حسن صحيح،
وابن ماجه (3973) وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (5136)
8- الفوائد
(1 / 88)
9- البخاري 3/75 (2076)
10-
أدب الدنيا والدين، للماوردي
(329)
11-
البخاري (3097) ومسلم (2973)
12-
كشف المشكل (1210)
13-
فتح الباري (4 / 346)
14-
الوَسق: بفتح الواو وكسرها،
والفتح أشهر. وهو مكيلة معلومة، وقيل: هو حمل بعير، وجمعه أوساق.
15-
مسلم (2280)
16-
وهي جمع إدام.
17-
البخاري (١٤٣٣)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق