إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 2 يونيو 2022

شروطُ الرِّضا بالله تعالى (2)

 

شروطُ الرِّضا بالله تعالى (2)

 

الحمد لله الذي نوّر بالقرآن القلوب، وأنزله في أوجزِ لفظ وأعجزِ أسلوب، فأعيت بلاغته البلغاء، وأعجزت حكمته الحكماء. أحمده -سبحانه- وهو أهل الحمد والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله المصطفى، ونبيه المرتضى، معلم الحكمة، وهادي الأمة، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار، وصحبه الأخيار، ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن الله تعالى هو الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، والمظهر لكل شيء، والمالك لكل شيء، وهو الذي يخلق ما يشاء ويختار، وليس للعبد أن يختار عليه، وليس لأحد معه اختيار، ولا يُشرك في حكمه أحدًا، والعبد لم يكن شيئًا مذكورًا، فهو سبحانه الذي اختار وجودَه، واختار أن يكون كما قدّرَه له وقضاه من عافية وبلاء وغنى وفقر وعز وذل ونباهة وخمول، فكما تفرّد سبحانه بالخلق تفرد بالاختيار والتدبير، وليس للعبد شيء من ذلك، فإن الأمر كله لله، وقد قال تعالى لنبيه: (ليس لك من الأمر شيء) فإذا تيقّن العبد أن الأمر كله لله، وليس له من الأمر قليل ولا كثير؛ لم يكن له معوَّلٌ بعد ذلك غير الرضا بمواقع الأقدار، وما يَجري به من ربه الاختيار.

 عباد الرحمن؛ على العبد أن يعلم أن رضا الله عن العبد أكبر من الجنة وما فيها، لأن الرضا صفة الله والجنة خلقه، قال الله تعالى: (ورضوان من الله أكبر) بعد قوله : (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم). وهذا الرضا جزاء على رضاهم عنه في الدنيا، ولما كان هذا الجزاء أفضل الجزاء كان سببه أفضل الأعمال.

 وعليه أن يعلم أن العبد إذا رضي به وعنه في جميع الحالات لم يتخيّر عليه المسائل، وأغناه رضاه بما يقسمه له ويقدره ويفعله به عن ذلك، وجعل ذكره في محل سؤاله، بل يكون من سؤاله له الإعانة على ذكره وبلوغ رضاه، فهذا يُعطَى أفضل ما يعطاه سائل، كما جاء في الحديث: "من شغله ذكرى عن مسألتي؛ أعطيتُه أفضلَ ما أعطي السائلين".(1) فإن السائلين سألوه فأعطاهم الفضل الذي سألوه، والراضون رضوا عنه فأعطاهم رضاه عنهم. ولا يمنع الرضا سؤاله أسباب الرضا، بل أصحابه ملحّون في سؤاله ذلك.

وعليه أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يندب إلى أعلى المقامات، فإن عجز العبد عنه حطّه إلى المقام الوسط، كما قال: "اعبد الله كأنك تراه".  (2) فهذا مقام المراقبة الجامع لمقامات الإسلام والإيمان والإحسان، ثم قال: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، فحطّه عند العجز عن المقام عن المقام الأول إلى المقام الثاني وهو العلم باطلاع الله عليه ورؤيته له ومشاهدته لعبده في الملأ والخلوة، وكذا الحديث الآخر: "إن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا". (3) فرفعه إلى أعلى المقامات، ثم ردّه إلى أوسطها إن لم يستطع الأعلى، فالأول: مقام الإحسان، والذي حطّه إليه: مقام الإيمان، وليس دون ذلك إلا مقام الخسران.

وعليه أن يعلم أنّ الرضا يفتح باب حسن الخلق مع الله تعالى ومع الناس، فإن حسن الخلق من الرضا، وسوء الخلق من السخط، وحسن الخلق يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وسوء الخلق يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.

 وعليه أن يعلم أن الرضا يثمر سرور القلب بالمقدور في جميع الأمور، وطيب النفس وسكونها في كل حال، وطمأنينة القلب عند كل مفزع مهلع من أمور الدنيا، وبرد القناعة، واغتباط العبد بقسمه من ربه، وفرحه بقيام مولاه عليه، واستسلامه لمولاه في كل شيء، ورضاه منه بما يجريه عليه، وتسليمه له الأحكام والقضايا، واعتقاد حسن تدبيره وكمال حكمته، ويذهب عنه شكوى ربه إلى غيره وتبرمه بأقضيته.

 ولهذا سمّى بعض العلماء الرضا: "حسن الخلق مع الله" (4) فإنه يوجب ترك الاعتراض عليه في ملكه، وحذف فضول الكلام التي تقدح في حسن خلقه، فلا يقول: ما أحوج الناس إلى مطر، ولا يقول: هذا يوم شديد الحر أو شديد البرد، ولا يقول: الفقر بلاء والعيال همّ وغمّ، ولا يُسمّي شيئًا قضاه الله وقدّره باسم مذموم إذا لم يذمه الله سبحانه وتعالى، فإنّ هذا كله ينافى رضاه.

 وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "أصبحتُ ومالي سرور إلّا في مواقع القدر". وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "الفقر والغنى مطيّتان، ما أبالي أيهما ركبت، إن كان الفقر فإن فيه الصبر، وإن كان الغنى فإن فيه البذل وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما أبالي على أي حال أصبحت وأمسيت من شدّة أو رخاء". وقيل: "أكثر الناس همًّا بالدنيا أكثرهم همًّا في الآخرة، وأقلّهم همًّا بالدنيا أقلّهم همًّا في الآخرة". فالإيمان بالقدر والرضا به يُذهب عن العبد الهمّ والغمّ والحزن.

وعليه أن يعلم أن أفضل الأحوال الرغبة في الله ولوازمها، وذلك لا يتمّ إلا باليقين والرضا عن الله. ولهذا قال سهل: "حظ الخلق من اليقين على قدر حظهم من الرضا، وحظّهم من الرضا على قدر رغبتهم في الله".

 وعليه أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله الرضا بالقضاء، كما في المسند والسنن: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرّة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برْد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، وأسألك الشوق إلى لقائك، (5) في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين". (6) فسأله الرضا بعد القضاء؛ لأنه حينئذ تبين حقيقة الرضا، وأما الرضا قبله فإنما هو عزم على أنه يرضى إذا أصابه، وإنما يتحقق الرضا بعده.

بارك الله لي ولكم..

.............

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الرضا بالقدر يخلّص العبد من أن يُرضي الناس بسخط الله، وأن يذمّهم على ما لم يؤته الله، وأن يحمدهم على ما هو عين فضل الله، فيكون ظالمًا لهم في الأوّل وهو رضاهم وذمّهم، مشركًا بهم في الثاني وهو حمدهم، فإذا رضي بالقضاء تخلّص من ذمّهم وحمدهم، فخلّصه الرضا من ذلك كله. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من ضعف اليقين: أن تُرضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمّهم على ما لم يؤتك الله. إن رزق الله لا يجرّه حرص حريص، ولا يردّه كره كاره. وإن الله بحكمته جعل الرَّوح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهمّ والحزن في الشكّ والسخط". (7) وعليه أن يعلم أن الرضا يفرّغ قلب العبد ويقلّل همّه وغمّه، فيتفرّغ لعبادة ربه بقلب خفيف من أثقال الدنيا وهمومها وغمومها.

وعليه أن يعلم أنه إذا لم يرض بالقدر وقع في لوم المقادير إما بقالبه وإما بقلبه وحاله، ولوم المقادير لومٌ لمُقدِّرِها، وكذلك يقع في لوم الخلق، واللهُ والناسُ يلومونه، فلا يزال لائمًا ملومًا، وهذا مناف للعبودية. قال أنس رضي الله عنه: خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلتَه: "لم فعلتَه"؟ ولا لشيء لم أفعله: "ألا فعلته"؟ ولا قال لي لشيء كان: "ليته لم يكن"، ولا لشيء لم يكن: "ليته كان". وكان بعض أهله إذا لامني يقول: "دعوه، فلو قُضي شيء لكان". (8) وقوله: "لو قضى شيء لكان"، يتناول أمرين، أحدهما: مالم يوجد من مراد العبد، والثاني: ما وجد مما يكرهه، وهو يتناول فوات المحبوب وحصول المكروه، فلو قُضي الأول لكان، ولو قضي خلاف الآخر لكان، فإذا استوت الحالتان بالنسبة إلى القضاء؛ فعبودية العبد أن يستوي عنده الحالتان بالنسبة إلى رضاه. وهذا موجب العبودية ومقتضاها.

 وعليه أن يعلم أن المحبة والإخلاص والإنابة لا تقوم إلا على ساق الرضا، فالمحب راض عن حبيبه في كل حاله، وقد كان عمران بن حصين رضى الله عنه استسقى بطنه فبقي ملقى على ظهره مدّة طويلة لا يقوم ولا يقعد، وقد نقب له في سريره موضع لحاجته، فدخل عليه مُطَرّفُ بن عبد الله الشِّخِّير فجعل يبكي لِمَا رأى من حاله! فقال له عمران: لم تبكي؟ فقال: لأنّي أراك على هذه الحال الفظيعة، فقال: لا تبك، فإنّ أحبَّه إليّ أحبّه إليه!(9)

 ولما قدم سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه إلى مكة وقد كفّ بصره، جعل الناس يُهرعون إليه ليدعو لهم، فجعل يدعو لهم، قال عبد الله بن السائب: "فأتيتُه وأنا غلام فتعرّفتُ إليه فعرفني، فقلت: يا عم؛ أنت تدعو للناس فيُشفون، فلو دعوت لنفسك لردّ الله عليك بصرك، فتبسّم ثم قال: يا بني؛ قضاءُ الله أحبُّ إليَّ من بصري!" (10) فلا إله إلا الله، ما أعظم دينهم وأجود تحقيقهم! رضوان الله عليهم.

 وعليه أن يعلم أن أعمال الجوارح تُضاعف إلى حد معلوم محسوب، وأما أعمال القلوب فلا ينتهي تضعيفها. وذلك لأن أعمال الجوارح لها حدّ تنتهي إليه وتقف عنده، فيكون جزاؤها بحسب قدرها، وأما أعمال القلوب فهي دائمة متصلة، وإن توارى شهود العبد لها. وهذا يا عباد الله مع حسن المعتقد له شأن عظيم عند الله تعالى فعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ليس من عبد على سبيل وسنة ذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسّه النار، وليس من عبد على سبيل وسنة ذكر الرحمن فاقشعرّ جلدُه من خشية الله إلا كان مثله مثل شجرة يبس ورقها، فبينما هي كذلك إذ أصابتها الريح فتحاتّ عنها ورقها، إلا تحاتّت عنه ذنوبه كما تحاتّ عن هذه الشجرة ورقها، وإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة". وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "يا حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم! ولَمثقال ذرة من برّ مع تقوى ويقين، أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغترّين".

اللهم صل على محمد...

..........

1-                       البخاري في خلق أفعال العباد (69) وفي التاريخ أيضًا، والبزار في المسند، والبيهقي في الشعب، ونقل السيوطي في اللآلئ المصنوعة (2 / 288) تحسين الحافظ ابن حجر للحديث في أماليه. وقد ليّنه في فتح الباري (134/11)

2-                        البخاري (1/19) مسلم (1/30)

3-                        الترمذي (2516) وأحمد (4/287) وصححه أحمد شاكر، والأرناؤوط (2803) وقال: "حديث صحيح، وهذا الحديث رواه أحمد عن شيخه أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ بثلاثة أسانيد، الأخير منها متصل، والأول والثاني فيهما انقطاع". وصححه القرطبي في التفسير (8/335) وقال ابن رجب في الجامع (1/459): حسن جيد. وقال ابن تيمية في التوسل (52): "حديث معروف مشهور".

4-                       وهذا الوصف الجميل للرضا في الغاية من نفاسة العلم وجودة الفقه وحسن الأدب مع الله تعالى.

5-                       أي أسألك شوقًا إليك لِذات الشوق والمحبة والرجاء، لا تخلّصًا من مضرّة ولا هربًا من فتنة، والله أعلم.

6-                       أحمد (4/264) والنسائي (3/54) وصححه الألباني.

7-                       شعب الإيمان (1/176) والحلية (3/122) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2009)

8-                        أحمد (13034) قال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وهو في مصنف عبد الرزاق (17946)

9-                        وهذا توحيد عظيم وإيمان هائل له رضي الله عنه، وهو الذي كانت تسلّم عليه الملائكة حتى اكتوى فتركت سلامه، فلمّا ترك الكيَّ عادت إليه بالسلام، عليها وعليه السلام.

10-                                       جامع العلوم والحكم (1 / 369)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق